كنتُ أعلم ذلك
يصف ستيف ريجان المشهدَ: ضبابٌ كثيف كان يُغطي الأراضيَ الإنجليزية الجَرْداء. كان ذلك في منتصف تسعينيَّات القرن العشرين، وكان حينها ستيف يعمل رقيبًا في الطيران لدى سلاح الجوِّ الملكي. كان متمركزًا في معسكر بارنهام، وهو منطقةُ تدريبٍ في أرضٍ جدباء على حافة إحدى الغابات التي تبعُد بضعةَ أميال من بلدة ثيتفورد الصغيرة. في تلك الليلة كانت مُناوبة ستيف في الحراسة؛ وهي نوبةٌ مدَّتها ١٢ ساعةً يقضيها جالسًا في غرفةِ حراسة صغيرة، ولا يكون برفقته شيءٌ سِوى تلفازٍ صغير وغلاية.
كان معسكر بارنهام ذا سمعةٍ تبعث على الرهبة. فقد صُنِعَت فيه قنابلُ غاز الخردل خلال الحرب العالمية الثانية، ثم أُعيد استخدامه لتخزينِ القنابل النووية خلال الحرب الباردة. كانت مكبَّات القنابل قد أُوقف تشغيلها منذ وقتٍ طويل؛ وسُوِّرت المباني القديمة المتهالكة ثم تداعَت في نهاية الأمر. يقول ستيف إن المشهد كان أشبهَ بموقعِ تصويرِ فيلم من أفلام الرعب. ثم كانت الحقيقة القائلة بأن المعسكر يقع مباشرةً وسطَ مثلثِ ثيتفورد المزعوم؛ ردَّ إيست أنجليا على مثلث برمودا. كان المثلثُ مَرتعًا لمشاهدات الأجسام الطائرة المجهولة حينَذاك. وكثيرًا ما أشار الشهود إلى معسكر بارنهام باعتباره مصدرَ نشاطٍ غريب.
حدَّق ستيف من نافذةِ غرفةِ الحراسة في جدارٍ ضبابي بلا معالم، ولم يستطِع تمييزَ بوابةِ أمن المعسكر إلا بصعوبةٍ بالِغة. لقد أخبرني أنه بالرغم من الساعات الطويلة والظروف القاسية، كان هناك تنافسٌ بين ضباط المعسكر على نوبة الحراسة الليلية؛ لأنها تكون بلا أحداث. فالمعسكر كان مكانًا صغيرًا هادئًا ولا يُحيط به شيء. لا شيءَ يحدُث على الإطلاق. لكن في هذه الليلة، حدث شيءٌ ما. كان ستيف على وشكِ أن يُصبح الشريرَ في نظرية مؤامرة شخصٍ آخر.
بدأ الأمر بأضواءٍ زرقاءَ وامضةٍ ظهرَت خارجةً من الضباب. وأصدر جهازُ الاتصال الداخلي ضوضاءَ، وأعلن الحارس الذي يقف عند البوابة قائلًا: «حضرت مجموعةٌ من ضباط الشرطة.» دخل ضابطُ وضابطةُ شرطة إلى غرفة الحراسة في حين انتظر الباقون في سياراتهم. لا يستطيع ستيف أن يتذكَّر اسمَيهما الآن؛ لذا لِنُطلقْ عليهما مولدر وسكالي، تكريمًا لعميلِ مكتبِ التحقيقات الفيدرالي الذي يتعقَّب المؤامرات وشريكتِه الأكثرِ تشككًا من مسلسل «إكس فايلز».
أوضح مولدر قائلًا: «لدينا حادثة.» وتابع: «تلقينا عددًا من التقارير من مصادرَ مختلفةٍ الليلةَ أن جسمًا طائرًا مجهولًا انطلق من معسكر بارنهام، وحلَّق فوق ثيتفورد، ثم عاود الهبوط في معسكر بارنهام. نريد أن نُحقِّق في الأمر.» وكان ردُّ ستيف ردًّا إنجليزيًّا نمَطيًّا: «هل ترغب في تناول فنجان من الشاي؟»
كان الأمر سيستغرقُ بعضَ الوقت كي يَصدُرَ تصريحٌ بدخول منطقة التدريب — حتى بالنِّسبة لرجال الشرطة — لذا احتسى الثلاثة الشاي وانتظروا، وتبادَلوا أطراف الحديث. كان ستيف لديه انطباعٌ بأن سكالي لم تكن مقتنعةً كثيرًا بقصة الجسم الطائر المجهول، لكن نظرًا إلى كونها مُستجِدَّة؛ تعيَّن عليها أن تُساير الأمر. يتذكَّر ستيف أنه عندما سأل الضابطَين عن ماهية الأجسام الطائرة المجهولة من وجهةِ نظرهما، بدا عليها الارتباكُ. قالت وعيناها تدوران في محجرَيهما: «كائنات فضائية، كما تعلم.» ومن جانبه، بدا أن مولدر يعتقد أن ثمَّة مؤامرةً في الأمر منذ البداية. (هل فهمت لماذا اخترتُ هذَين الاسمَين تحديدًا؟) قال متأملًا: «كلُّ ما أقوله هو أنه هناك الكثيرُ جدًّا من الحوادث التي تقع في هذا المكان والتي لا يمكن أن نعتبرها مجرد مصادفة. نحن نريد أن نعرف إذا ما كنتم تختبرون شيئًا سرِّيًّا.» قال ستيف مازحًا: «إذا كنا نفعل، فلن أُخبرك بالتأكيد؛ فهذا هو تعريف الشيء السرِّي.» وسرعان ما أدركَ خطأه: أصبح مولدر أكثرَ قناعةً بأن ستيف كان يتستَّر على أسرارِ بارنهام الشريرة.
وفي نهاية المطاف، مُنح الضابطان التصريحَ بالدخول إلى منطقة التدريب. واستقلَّ الثلاثة سيارةَ «لاند روفر» تخصُّ ستيف الذي قادها عبر التضاريس الوَعْرة ببطء في حين كان مولدر وسكالي يُحملقان بيأسٍ في الضباب. كان ستيف يعلم أنَّ ما يفعلانه لا طائلَ من ورائه: «حتى وإن كنا نُخفي مركبةً هوائية هنا في اللحظة الراهنة، فلن تعثرا عليها، أليس كذلك؟» لكنَّ الضابطَين أصرَّا على الاستمرار. كانت عينا مولدر مثبتتَين على مكبَّات القنابل القديمة، لكن لم يكن ممكنًا أن يذهب بهما ستيف إلى هناك. فالضباب جعل اجتيازَ المسارات البدائية أمرًا خطيرًا، كما كان يتعذَّر دخولُ المباني لما تبقى بها من تلوث، علاوةً على أنهم لن يستطيعوا رؤيةَ أيِّ شيء بسبب الضباب في جميع الأحوال. وأصبح ستيف على قناعةٍ تامة أنه في كل مرة يقول فيها لمولدر إنه لا يُخفي شيئًا، كان الأخيرُ يزداد قناعةً بأن ستيف يُخفي شيئًا. عرض ستيف عليهما بأن يستخرجَ لهما تصريحًا بزيارة المكان في اليوم التالي عندما يكون الضبابُ قد زال؛ فبمقدورهما حينها تفتيشُ المكان بأكمله باصطحاب الكلاب إن أرادا؛ على حدِّ قوله. لكن مولدر أحسَّ بشيء من الخديعة. فقد اعتقد على ما يبدو أن ستيف كان يُحاول تأجيل التفتيش عن عمد، وأن الأدلة ربما تكون قد أُخرِجت من المكان ونُقلت إلى مكانٍ آخر بحلول اليوم التالي، وأن الضباب نفسه ربما يكون مصطنعًا بطريقةٍ ما أو بأخرى لإخفاء الحقيقة.
وفي نهاية المطاف، التقَوا مصادفةً بمجموعةٍ من المجندين الذين كانوا يتدرَّبون في الموقع. سأل ستيف المدربَ عما كانوا يفعلونه. قال المدربُ إن الضباب عطَّل كل شيء رغم أنهم كانوا قد جرَّبوا تقنيةً نارية في وقتٍ سابق؛ حيث أشعلوا شعلاتٍ ضوئية وأشياءَ من هذا القبيل. واستنادًا إلى حدسه، سأل ستيف ما إذا كان بإمكانهم إشعالُ واحدة أخرى، مثلما فعَلوا من قبل. فأحضر المدرب مشعلًا مظليًّا وأطلقه في الهواء. واختفى في الضباب. وفي غضون لحظات، سُمعت فرقعةٌ من بعيد، وظهرت كُرة كبيرةٌ من ضوء برتقالي اللون، متدلِّيةٌ من السماء، ومتموجة بصورةٍ غريبةٍ عبرَ طبقات الضباب. ثم بدأ الضوء يتحرَّك. يقول ستيف إنه لا بد أن يكون قد اصطدم بتيار هوائي في مكانٍ مرتفع عن الأرض. فأولًا، انجرف بعيدًا جدًّا عن المعسكر نحو بلدة ثيتفورد. ثم أخذ تيارٌ هوائي آخرُ يُقلِّبه لِيَجلبه في النهاية نحو المعسكر. وهبط على مهلٍ ليستقرَّ من جديد داخل حدود المعسكر. لقد فعل المشعلُ الشيءَ نفسَه تمامًا الذي أشارت التقاريرُ إلى أن أجسامًا طائرةً مجهولة قد فعلَته. يقول ستيف، نظر كلٌّ منهما إلى الآخر في صمتٍ تام.
وفقًا لستيف، اقتنعت سكالي بأن مصدرَ مشاهدات الأجسام الطائرة المجهولة قد تحدَّد، لكن مولدر لم يقتنع مطلقًا. فقد اعتقد على ما يبدو أن تَجرِبةَ المشعل، كانت سهلةً أكثرَ من اللازم. وربما لم تكن هي الشيءَ ذاته الذي رآه الأشخاصُ شهودُ الأجسام الطائرة المجهولة. وربما تكون قد أُعدَّت سلفًا. وربما ستيف كان لا يزال يُخفي شيئًا ما. وربما كان يتعذَّر الوصولُ إلى الإجابات المخبوءة بعيدًا في مكبِّ القنابل القديم الذي كان يتعذَّر دخوله وكان يحجبه الضباب.
•••
اللقاء الذي حدث بين ستيف ريجان واثنين من أفراد إدارة شرطة ثيتفورد يُسلِّط الضوء على حقيقةٍ حياتيَّة مألوفة، لكنها جديرةٌ بالملاحظة. يمكن أن ينظر شخصان إلى مجموعة الحقائق ذاتِها ويتوصَّلا إلى نتيجتَين مختلفتين تمامَ الاختلاف. فبمجرد أن يكون لدينا تخمينٌ بشأنِ شيءٍ ما — سواءٌ كان نظريةَ مؤامرةٍ عن أجسام طائرة مجهولة غامضة، أو شعورًا إزاءَ نوعِ صندوقِ الفضلات الذي تُفضِّله قطتُنا — يصبح لدينا ميلٌ عميقُ الجذور إلى إثباتِ صحةِ تخميننا. صحيحٌ أنه يروقُ لنا الاعتقاد أن أفكارنا تستند إلى دراسةٍ جيدةٍ لأفضل الأدلة المتاحة؛ فأولًا نكتشف الحقائق، ثم نتوصَّل إلى نتيجةٍ منطقية. لكن الواقع أن أدمغتنا تعمل على نحوٍ معاكسٍ لذلك في كثيرٍ من الأحيان. فالنتيجة تأتي أولًا، ثم تبحث أدمغتُنا عن الأدلة وتُشكِّلها بحيث تنسجم مع ما تُصدِّقه بالفعل. وكل هذا يحدث خلف الكواليس، تاركًا إيانا في غِمار اعتقادٍ واهمٍ أننا راجعنا الأدلة بجدِّية ووصلنا إلى النتيجة الوحيدة المعقولة. هذا الميل يُطلق عليه التحيُّز التأكيدي، وهو يُؤثِّر في تفكيرنا بثلاث طرق متمايزة.
ابحث وسوف تجد
التحيُّز التأكيدي ينشط بمجردِ أن تطرأَ فكرةٌ ما على أذهاننا. فعندما نبدأ في البحث عن أدلةٍ لاختبارِ مدى صحةِ تخمينٍ ما، لا تتعامل أدمغتُنا مع جميعِ الأدلة المحتملة على نحوٍ متكافئ. ونستخدم بدلًا من ذلك ما يُطلِق عليه علماءُ النفس استراتيجيةَ الاختبار الإيجابي: نحن نبحث عن الشيء الذي نتوقَّع العثورَ عليه.
في ستينيَّات القرن العشرين، ابتكر بيتر واسون لعبةً تُوضِّح هذه الاستراتيجيةَ البحثية المختلَّة بشكلٍ عملي. تخيَّل أنك ضمن العينةِ المشاركةِ في دراسةٍ كهذه. وأخبرك واسون قائلًا: «لقد ابتكرتُ قاعدةً بسيطة لبناء متسلسلات من ثلاثة أرقام. سوف أعطيك المفتاح: «٢–٤–٦» تتوافق مع القاعدة. مهمَّتك أن تستنتجَ القاعدةَ عن طريق التوصُّل إلى متتابعاتٍ أخرى من ثلاثة أرقام. ومقابل كلِّ متسلسلةٍ تتوصَّل إليها، سوف أخبرك بما إذا كانت تلك المتسلسلةُ تتوافقُ مع القاعدة أم لا. وعندما تتأكد أن لديك الحلَّ، يُمكنك أن تتوقَّف عن التجريب وتُخبِرَني ما القاعدة في اعتقادك.»
أيُّ متسلسلةٍ ستُجرِّبها أولًا؟ إذا كنتَ مثل أغلبِ المشاركين في دراسة واسون، فإن أولَ تخميناتك قد يكون شيئًا من قبيل «القاعدة هي أرقامٌ زوجية تزداد بمقدار اثنين كل مرة.» ومِن ثم يُمكنك أن تقول مثلًا: «٦–٨–١٠».
يُخبرك واسون قائلًا: «نعم، هذه المتسلسلة تتوافقُ مع القاعدة.»
تقول في نفسك قائلًا: «حسنًا!» ثم تُجرِّب «١٤–١٦–١٨».
يقول واسون: «نعم.»
فتقول في نفسك: «أها!» ثم تُكوِّن مزيدًا من المتسلسلات: «١٠–١٢–١٤؛ ٤٦–٤٨–٥٠؛ ١٨٤–١٨٦–١٨٨».
يُجيبك واسون قائلًا: «نعم، نعم، ونعم.»
عند هذه المرحلة، تكون قد تأكدتَ تمامًا من أنك توصلتَ إلى القاعدة. فتُعلن على طريقة شيرلوك هولمز: «الأمرُ بسيطٌ عزيزي واسون. القاعدة هي أرقام زوجية تزداد بمقدار اثنَين كلَّ مرة.»
ثم تأتي المفاجأة. يردُّ عليك واسون قائلًا: «كلا، هذه ليست القاعدةَ.»
تُتمتم قائلًا: «كيف ذلك؟» ثم تُتابع: «لديَّ ما يكفي من الأدلة!»
في حقيقة الأمر، القاعدة ببساطةٍ هي أيُّ ثلاثةِ أرقامٍ متزايدة. قلَّة قليلة من الأشخاص هم مَن يُخمِّنون القاعدةَ مباشرةً، لكن ليس هذا هو المثيرَ في اللعبة. الشيء المثير هو ما تكشفه عن استراتيجيتنا الحَدْسية في اختبار تخميناتنا. فنحن نشرَع في جمعِ الأدلةِ عن طريقِ تجريبِ متسلسلات الأرقام التي تنسجمُ مع قاعدتنا المتوهَّمة. وحيث إن القاعدة الحقيقية في هذه الحالة شديدةُ التعميم (فربما تكون أيَّ أرقام تصاعدية)، فإن تخميناتنا تَلقى جميعها تقييمًا إيجابيًّا، مثلما توقعنا؛ وهذا هو السبب في تسمية الاستراتيجيةِ استراتيجيةَ الاختبار الإيجابي. فمع كل تقييم ﺑ «نعم»، تتعزَّز ثقتنا، ونشعر كما لو أننا نقترب أكثرَ من الحقيقة. لكن ثقتنا في غير محلِّها. ففكرةُ محاولة أن نُبرهن على خطأِ القاعدة عن طريقِ اختبارِ متسلسلةٍ لا نتوقَّع أن تتوافقَ معها (شيء من قبيل «٢-٣–٥» أو «٨–١٣–٢١») لا تطرأ على أذهاننا بشكلٍ تلقائي. فاستراتيجية الاختبار السلبي هذه يُمكن أن تكون أكثرَ إفادةً لنا؛ فالتقييم ﺑ «لا» قد يكون دليلًا قويًّا على أننا اكتشفنا شيئًا ما، أما التقييم ﺑ «نعم» فسوف يُعيدنا إلى التجريب من جديد. لكن عندما تُترَك لنا حرية التصرُّف، سيجمع أغلبنا تقييمات ﺑ «نعم» واحدًا تِلو الآخر بدلًا من أن يبحث عن تقييم واحد ﺑ «لا». ونتيجةً لذلك، يمكن أن يُصبح التخمينُ التكهنيُّ اعتقادًا راسخًا وواثقًا، بصرفِ النظر عما إذا كان هذا التخمينُ مبرَّرًا أوْ لا.
تلك هي الطريقةُ التي ينشط بها التحيُّزُ التأكيدي. مجردُ إيجاد الأدلة التي تبدو أنها تنسجمُ مع مفاهيمنا المسبقة لا يعني دائمًا أننا على صواب، لكن إذا لم نبحث عن صحةِ الأدلة التي تُفيد بخطئنا، فلن يكون لدينا ما يُبرِّر تشكُّكَنا في أفكارنا.
فنحن لا نعتمدُ فحَسْب على استراتيجيةِ الاختبار الإيجابي في ألعاب التخمين النفسيَّة. وإنما تحكم تلك الاستراتيجيةُ حياتنا. وليس من سبيلِ المصادفة أن المغرَمين بالقطط يقرَءون مجلةَ «كات فانسي»، وعشاق الكلاب يقرءون مجلة «مودرن دوج». (وبالنِّسبة إلى مَن يلتمسون الخبرةَ الشديدةَ التخصص في تربية الكلاب، فثَمة دورياتٌ تُلبي أدقَّ اهتمامات عشاق الكلاب، مثل دورية «ذا ريتريفر» ودورية «جاست لابز».) ومصادر الأخبار التي نقرؤها والروابط التي ننقرُها على شبكة الإنترنت والأشخاص الذين نحيط بهم أنفسَنا على شبكة الإنترنت وعلى أرض الواقع، كلُّ هذا ينسجمُ في أغلب الأحيان مع ما نعتقده بالفعل. فنحن نبني حصنًا من المعلومات الإيجابية حول معتقداتنا وأفكارنا، ونادرًا ما نخرج من هذا الحصن أو حتى نُطلُّ من إحدى نوافذِه.
في إحدى الدراسات التي تُسلِّط الضوءَ على ذلك، أعطى اختصاصيَّا العلوم السياسية تشارلز تابر وميلتون لودج المشاركين مجموعةً مختارةً من المقالات كي يقرَءوها، وهذه المقالات إما تؤيِّد وإما تُعارض فرضَ قوانينَ أكثرَ صرامةً لتنظيمِ تداول الأسلحة النارية. فكانت هناك مقالاتٌ من تأليف الاتحاد القومي للأسلحة (إن آر إيه) والحزب الجمهوري ومقالات من الحزب الديمقراطي ومنظمة «مواطنون ضد البنادق» (التي وُصِفت للمشاركين في الدراسة بأنها جماعةٌ مقيمةٌ في ماريلاند مكرَّسة للتصدي لمبيعات البنادق في الولايات المتحدة. في واقع الأمر، اختلق الباحثون هذه المنظمةَ، على غِرار الجماعات المتنوعة التي تُنادي بالرقابة الصارمة على السلاح). وكان لدى المشاركين الحريةُ في قراءة المقالات التي يرغبون فيها، لكنَّ الباحثين طلبوا منهم أن ينظروا إلى طرَفَي الجدلِ كِلَيهما، مع «تنحية مشاعركم جانبًا»، و«تأمُّل الجدل بإنصاف» و«التزامِ الموضوعية بقدْر الإمكان.» لكن هذا لم يكن ذا جدوى إلى حدٍّ كبير. فالأشخاص الذين يُؤيدون تداول السلاح مالوا في الأغلب إلى قراءة المقالات المؤيِّدة لتداول السلاح. أما الأشخاص الذين عارضوا تداول السلاح فقد اختاروا قراءة المقالات التي تُناهض تداول السلاح.
•••
وفيما يتعلَّق بنظريات المؤامرة، فإن الموقفَ لا يختلفُ عن ذلك. صحيحٌ أن العالم مكانٌ مكتظٌّ. فلا حصرَ لكمِّ المعلومات الموجودة فيه. لكن كما رأينا، تنتقي أدمغتنا بعنايةٍ المعلوماتِ التي نبحث عنها؛ إذ تُفضِّل استراتيجية الاختبار الإيجابي. وإذا ما بدأت في البحثِ عن أدلةٍ حتى على أكثرِ نظريات المؤامرة استبعادًا، فلن تجد صعوبةً في العثور عليها.
وقد سلَّط المؤرخُ روب ماكدوجال الضوءَ على هذه النقطة بصورةٍ طريفة. فقد توصَّل ماكدوجال إلى لعبةٍ أطلَق عليها «الأسلوب البارانوي» (وجاءت هذه التسميةُ تكريمًا لمقالة ريتشارد هوفستاتر الشهيرة، التي تحدَّثنا عنها في فصلٍ سابقٍ من هذا الكتاب). ويُمكنك أن تلعب هذه اللعبةَ بالمنزل. أولًا: اجمع عددًا من الأصدقاء، واطلب من كلٍّ منهم أن يختارَ شخصيةً تاريخية شهيرة؛ لهم حريةُ اختيارِ أيِّ شخصيةٍ يريدون. فالهدف من اللعبة هو العثورُ على أدلةٍ تُفيد بأن الشخصية التي يختارها كلٌّ منهم كانت جزءًا سريًّا من «مؤامرة مصَّاصي الدماء التي ظلت تتحكَّم في العالم من خلف الكواليس لمئات السنين.» وعلى حد علمي، ليست هناك مؤامرةٌ كهذه، إنما هي من تأليف ماكدوجال. لكن هذا لم يمنع الناسَ من البحثِ عن أدلةٍ بأيِّ طريقةٍ كانت. ففي المرة الأولى التي لعبها مع زملائه من المؤرِّخين، يقول إنهم سارعوا بادِّعاء أن هنري فورد حرَّض على الثورة الصناعية على أملِ أن يُغطيَ دخانُ المصانع قرصَ الشمس، وأن توماس إديسون اخترع المصباحَ الكهربائيَّ كي يجعل الناسَ يعتادون على العيش في الظلام. (يشير ماكدوجال إلى أن الناس أصبح لديهم هوَس ﺑ «قواعد» مصَّاصي الدماء، مثل تجنُّب ضوء الشمس. واليوم هو يلعب هذه اللعبة بمتآمرين من خارجِ الأرض بدلًا من مصاصي الدماء؛ حيث إنه «لدينا عددٌ أقلُّ من التصورات المسبقة عن ماهية الكائنات الفضائية وما ترمي مؤامرةُ الكائنات الفضائية إلى تحقيقه».)
يُطلِق ماكدوجال على مسألةِ العثور على أدلةٍ لمؤامرةٍ لا وجودَ لها في السجلات التاريخية الواقعية «الاستسقاط التاريخي»؛ «فالناس مبتكِرون، وهم يُجيدون البحثَ عن الأنماط، والتاريخ مليءٌ بالمعلومات التي يمكن أن يجعلوها ذات معنًى وأهمية.» ويمكن أن يكون وهمُ وجودِ مؤامرة مقنعًا إلى حدٍّ غريب. يقول ماكدوجال: «هذا الوهم يكون بمثابةِ شعورٍ قوي، بل وحتى خارق عندما تبدو الحقائق المتنافرة منسجمة معًا.» ويُتابع: «تبدأ الأدلة في الاصطفاف بمحاذاة الفكرة الوهمية التي توصَّلت إليها لتوِّك، وتنساق مباشرةً نحو التصديق.»
وليس أصحابُ نظريات المؤامرة المحترفون هم مَن يميلون وحدَهم إلى رؤيةِ ما يبحثون عنه. فكما تُظهِر لعبةُ الأرقام التي ابتكرها واسون — فضلًا عن اشتراكاتنا بالمجلات، وتاريخ تصفُّحنا للمواقع، ومُتابعينا على «تويتر» — لا يستطيع أغلب الناس منعَ أنفسهم من البحث لا شعوريًّا عن معلوماتٍ تنسجم مع تخميناتهم. فعندما تطرأ على ذهننا فكرةٌ ما، كأنَّ مصباحًا يُضيء فوق رءوسنا، فنبدأ في البحث عن أدلةٍ في المكان الذي يسطع فيه الضوءُ بشدة أكثرَ من غيره، مثل الثَّمِل الذي يبحث عن مفاتيحه أسفلَ أحدِ أعمدة الإنارة: «هل فقدت مفاتيحك هنا؟ لا، لكن الضوء أفضلُ بكثيرٍ هنا!»
لكن هذه ليست سوى خطوةٍ واحدة. فبرغم كل شيء، عندما يتعلَّق الأمر بقضايا من أيِّ نوع، عادةً ما تكون الأدلةُ أشياءَ من مختلِف الأشكال. ويمكن أن تبذل أدمغتنا قصارى جهدها لعزلِ أفكارنا في فقاعةٍ واقية من الأدلة الإيجابية، لكن العالَم اعتاد على إشهار وجهات النظر الأخرى في وجوهنا. قد تُفكِّر في نفسك قائلًا إن هذا قد يُؤدي إلى انفجار فقاعة أفكارنا. فمصادفةُ معلوماتٍ تتحدَّى أفكارنا قد يجبرنا على تغيير رأينا، أو على الأقل يُقلِّل من ثقتنا. لكنَّ عنصرًا آخرَ من عناصر التحيُّز التأكيديِّ يأتي لنجدتنا.
هذا يعتمد على الطريقة التي تنظر بها إلى الأمر
ما هو رأيك في الأسلحة النووية؟ أو بعبارةٍ أدقَّ، هل أنت مؤيِّد للرَّدع النووي؛ احتفاظ الحكومة بمخزونٍ من الأسلحة النووية لاستخدامه ضدَّ أعدائنا إذا ما حاولوا مهاجمتنا بالأسلحة النووية؟ يقول المؤيدون إن هذا يجعل العالمَ أكثرَ أمنًا بالنِّسبةِ إلى الجميع؛ فلن يُطلِق أحدٌ القذيفة النووية الأولى؛ لأن هذا ببساطة سيُدمره هو الآخر بلا ريب. ويقول المعارضون إننا يجب أن نُخلِّص العالمَ من الأسلحة النووية، وإن الردع النووي لا يَزيد المشكلةَ إلا تفاقمًا واستمرارًا. فما هو موقفك؟
الآن تأمَّلْ هذا. في الساعة الثالثة من فجر اليوم التاسع من نوفمبر عام ١٩٧٩، بدا أن الحربَ الباردة على وشك الاحتدام. فقد أيقظَت مكالمةٌ هاتفية مريعةٌ مستشارَ الأمن القومي الأمريكي زبجنيو بريجينسكي من نومه. أُبلغ الرجل بأن الاتحاد السوفييتي شنَّ هجومًا نوويًّا شاملًا ضد الولايات المتحدة. وقد أظهرَت أنظمة الإنذار المبكر ٢٥٠٠ قنبلةً نووية في طريقها إلى الأراضي الأمريكية. وهُرِعت مراكزُ القيادة والتحكُّم النووي عبر البلاد لاتخاذ الإجراءات المناسبة. كان الثأر سيُصبح خاطفًا وسريعًا. فقد حُمِّلت الطائرات بالقنابل النووية وأقلعَت في السماء. وجهَّز مسئولو القذائفِ في المستودعات الأرضية مفاتيحَ الإطلاق. ثم، عندما كان بريجينسكي على وشك تحذير الرئيس من هجومٍ نوويٍّ وشيك، تلقَّى اتصالًا آخرَ: لقد كان الإنذارُ كاذبًا. فبرنامجٌ تجريبي كان يُحاكي هجومَ الاتحاد السوفييتي كان قد أرسلَ بطريقةٍ ما بياناتِ هجوم زائفٍ إلى شاشات الإنذار المنتظم كما لو كان ذاك الهجوم حقيقيًّا. إذن كان المتسبب في الذعر هو خللًا حاسوبيًّا. وهكذا نُزع فتيل الأزمة.
ما رأيك في الردع النووي بعد أن قرأت هذا؟ هل أصبحت أكثرَ قلَقًا بشأن أمنِنا أو أقلَّ قلقًا؟ فمن جهة، حدث خللٌ في النظام وجعلنا على شفا كارثةٍ مروِّعة؛ فربما الأسلحة النووية مسئوليةٌ أكثرُ من كونها أصلًا من الأصول. ومن ناحية أخرى، تم اتخاذ التدابير الاحترازية ورُصِد الخطأ قبل حدوث أيِّ ضرر؛ فربما كانت مخاطر الخلل في عمل النظام ضئيلة مقارنةً بترك أنفسنا عُزْلًا بلا أسلحة. ما يمكن أن نستنتجه بناءً على حدثٍ كهذا ليس مسألةً موضوعيةً بسيطة. لكن برغم التفسيرات الممكِنة المختلفة، ليس من الصعب التنبؤُ بالكيفية التي ستكون عليها ردَّة فعلِ أيِّ شخص. أوضح عالمُ النفس سكوت بلوس أن كلَّ ما تحتاج إلى معرفته هو الكيفية التي شعر بها شخصٌ ما حيالَ الأسلحة النووية بدايةً.
صمَّم بلوس مجموعةً ذكية من الدراسات لمعرفةِ الكيفية التي يُجري بها الناسُ تحديثًا لأفكارهم بعد معرفتهم بكوارثَ نوويةٍ وشيكة. وقد وجد أن الأشخاص الذين بدَءوا على طرَفَي النقيض أيديولوجيًّا رأَوا الحدث نفسه بطريقةٍ مختلفةٍ للغاية. فالأشخاص الذين عارَضوا الأسلحة النووية مالوا إلى رؤيةِ الخللِ دليلًا على «ضعف النظام»، في حين أن الأشخاص الذين يُؤيدون الأسلحة النووية «مالوا إلى رؤية الأعطال اختباراتٍ ناجحةً لتدابيرِ النظام الاحترازية.» ونتيجةً لذلك، يشعر المؤيدون للأسلحة النووية بأمانٍ أكثرَ عند معرفتهم بكارثةٍ وشيكة، في حين أن منتقدي الأسلحة النووية شعروا بأنهم أكثرُ ضَعفًا. وكلما زادت قوة الاعتقاد المسبق لدى الشخص، أصبح تفسيرُه أكثرَ انحرافًا. وعندما اختبر بلوس الطلابَ الجامعيِّين الذين لم يكن لديهم سوى تفضيلٍ ضعيف بطريقةٍ ما أو بأخرى، كانوا أكثرَ تردُّدًا بشأن الأعطال. وعندما قارنَ مجموعةٌ من طلاب القوات الجوية (الذين كانوا يُؤيِّدون بقوة الردع النووي) ومجموعة من المؤيِّدين للسِّلم (الذين كانوا يُعارضون بشدة الأسلحةَ النووية)، كان التحيُّزُ أقوى بكثير.
وهذا الاتجاه أو الميل ليس حَكْرًا على الأشخاص العاديِّين الذين يجلسون في مختبرات علماء النفس. كان مصدرُ إلهام دراسة بلوس تحقيقًا حكوميًّا حقيقيًّا جرى في عام ١٩٨١ بشأنِ أعطالِ أجهزة الإنذار النووي (كان الكثير منها متوفِّرًا خلال الحرب الباردة). وقد رأى أحد أعضاء اللجنة، وهو فرانك هورتون عضوُ الكونجرس عن ولاية نيويورك، سببًا يدعو إلى القلق الشديد؛ إذ قال: «إنذارات القذائف الكاذبة الأخيرة تُمثِّل تهديدًا شديدًا من وجهة نظري لأمننا القومي.» أما الجنرال جيمس في هارتينجر فقد زعم أنه يشعر بالاطمئنان؛ حيث قال: «لقد أصبح لديَّ ثقةٌ أكبرُ بالنظام الآن؛ لأنه ثبَت أننا قادرون على التعامل مع مثل هذا الخلل.» جديرٌ بالذكر أن هورتون كان قد عارض الأسلحة النووية خلال حياته المهنية كسياسي. أما هارتينجر فقد كان القائدَ الأعلى لقيادةِ دفاع الفضاء الجوي الأمريكي الشمالي (نوراد)، وهو الوكالة المسئولة عن مراقبة السماء لرصدِ أيِّ هجوم وشيك.
هذا ما يُطلِق عليه علماءُ النفس الاستيعاب المتحيِّز: نحن نفسِّر الأحداث الغامضة في ضوءِ ما نُصدِّقه بالفعل. فكِّر في استجابة وسائل الإعلام الحتمية لإطلاق نارٍ جماعي. بالنِّسبة إلى المثقفين الذين أيَّدوا بالفعل فرضَ قوانينَ أكثرَ صرامةً على السلاح، تُعد حوادث إطلاق النار الجماعي أدلةً واضحة على أنه يجب أن يكون حصول الناس على السلاح أكثرَ صعوبة. وبالنِّسبة إلى المثقفين الذين أيَّدوا بالفعل الحق في حمل السلاح، تُثبت حوادثُ إطلاق النار الجماعي أنه يجب أن يحصل المزيدُ من الناس على السلاح. (يقول وين لابيير، أحدُ قادة الاتحاد القومي للأسلحة: «الشيء الوحيد الذي يمكن أن يمنع شخصًا سيئًا يحمل سلاحًا هو شخص جيد يحمل سلاحًا.») حتى الأحداث العادية نسبيًّا يمكن أن تُحفِّز الاستيعابَ المتحيز. فيمكن أن يُشاهِد طرَفان سياسيان متعارضان السجالَ نفسَه ويخرج كلٌّ منهما على قناعةٍ بأن حجَّته هي الأقوى. وبالنِّسبة إلى محبِّي كرة القدم، مسألةُ ما إذا كان الحكم شخصًا محترفًا ثاقبَ النظر أو شخصًا أخرقَ يفتقر إلى الكفاءة، تتوقَّف على أي فريقٍ حُكم له بضربة جزاء. ويمكن أن يُشاهِد مشجعو فريق «شيكاغو بيرز» وفريق «جرين باي باكرز» المباراةَ نفسَها، لكن عندما يُصدر الحَكم قرارًا مثارَ شكٍّ، تجد كلَّ طرَف من المشجعين في عالم مختلفٍ.
الاستيعاب المتحيز ينشط كذلك عندما نُواجَه بأدلةٍ معقَّدةٍ ومتناقضةٍ عن موضوعٍ ما، لدينا وجهةُ نظرٍ بشأنه. ففي عام ١٩٧٩، بحثَ فريق من علماء النفس بجامعة ستانفورد آراءَ الطلاب حول ما إذا كان الحُكم بالإعدام يردعُ القتَلة المحتملين ويمنعهم من ارتكاب جرائهم. فقد قرأ الطلاب دراستَين علميتين، إحداهما تُشير إلى أنه يوجد تأثيرٌ رادع، والأخرى تُشير إلى عدم وجود تأثيرٍ رادع. في الواقع، كانت كلتا الدراستين مختلَقتَين؛ فالباحثون ببساطة اختلقوا التفاصيلَ بحيث يُمكنهم التحكمُ بعنايةٍ في جودة الأدلة التي رآها الناس لكلِّ طرفٍ. وقد نزع الطلابُ إلى التدقيق في الدراسة التي كانت تُناقض تصوراتهم المسبقة واستبعادها، في الوقتِ نفسِه الذي قبلوا فيه دون نقدٍ الدراسةَ التي كانت تتوافق مع تصوراتهم المسبقة؛ حتى بالرغم من أن كلتا الدراستَين كانت عُرضةً للنقد على نحوٍ متكافئ.
وقد ركَّزَت دراساتٌ أحدثُ على تحيزات الناس بشأن المثليَّة الجنسية، والآراء المتعلِّقة بالتمييز الإيجابي، والسياسات الضريبية، والإجهاض، وقوانين التحكُّم في السلاح، والتدخين السلبي، بل وحتى الإيمان بالقُوى الروحانية. وفي كلِّ حالةٍ، تشير النتائجُ إلى شيءٍ لا شك أنك لاحظتَه في الحياة العادية: فيما يتعلَّق بالقضايا الجدلية، يميل الناسُ إلى اعتبارِ الأدلةِ أو الحججِ التي تنسجمُ مع تصوراتهم المسبقة أكثرَ قوة وإقناعًا من الأدلة التي تتعارض مع أفكارهم ومعتقداتهم. ونتيجةً لذلك، فإن كِلا طرَفَيِ الخلاف الأيديولوجي يعتقد أن أفكاره قائمةٌ على أفضلِ الأدلة المتاحة، ومن النادر أن يشعر شخصٌ ما بالحاجة إلى تغييرِ وجهة نظره.
في عام ١٩٩٥، أجرى عالمُ النفس جون مكهوسكي دراسةً أخرى عن الاستيعاب المتحيز، لكنَّ الموضوع الذي أثار اهتمامه لم يكن الأسلحةَ النووية أو عقوبة الإعدام. فقد أراد مكهوسكي أن يعرف رأيَ الناس في اغتيال جون كينيدي. فقد سأل في البداية ٢٥٠ طالبًا جامعيًّا عن الشخص أو الجهة التي يعتقدون أنها متورطة في مقتل كينيدي: هل كان لي هارفي أوزوالد وحدَه، أم كانت عملية الاغتيال مؤامرة؟ بعد ذلك، عرض على الطلاب مجموعةً من الحجج التي تدعم كلَّ طرَف. فمثلًا، كانت هناك الحقيقة القائلة بأن الكثير من شهود العيان اعتقدوا أنهم سَمِعوا طلقاتٍ ناريةً صادرةً من التلَّة المعشوشبة؛ قال بعض الخبراء إن أوزوالد لم يكن لديه الوقتُ لإطلاق كل هذه الطلقات، وأن «نظرية الرصاصة الواحدة» لا يمكن أن تُفسر كلَّ هذه الجروح التي أصابت كينيدي وحاكم ولاية تكساس كونالي؛ فقد ارتدَّ رأسُ كينيدي إلى الوراء وإلى اليسار عندما أصابته الرَّصاصة، ما يُشير إلى أن طلقاتٍ أصابته من الأمام؛ وقد توصَّلت لجنةُ التحقيق في الاغتيالات في عام ١٩٧٩ إلى أن هناك أدلةً على وجود مؤامرة. ويبدو أن حُججَ وجود مؤامرة قوية. لكن الحجج القائلة بأن أوزوالد هو المتورِّط وحدَه في عملية الاغتيال قوية أيضًا: كان أوزوالد لديه الحافزُ القويُّ لقتل كينيدي؛ فقد رآه شهودٌ في مستودَعِ كتبِ مدرسةِ تكساس وقتَ إطلاق النار، وهو مالكُ البندقية التي استُخدمت في قتل كينيدي، وبصماتُ أصابعه كانت على البندقية، والوكرُ الذي هيَّأه لنفسه في مستودع الكتب، وتُظهِر إعاداتُ تمثيل الجريمة أن «نظرية الرصاصة الواحدة» قادرةٌ على تفسير جميع الجروح، وأن أوزوالد كان قادرًا على إطلاق جميع الطلقات في الوقت المحدَّد.
فأيَّ طرَفٍ تُصدِّق؟ اختيار الأدلة كان مصمَّمًا بعناية ليكون مزيجًا متنوعًا، بحيث لا يوصلُ إلى نتائجَ حاسمة. لكن هذا لم يؤثِّر في ثقة الناس بأفكارهم وتصوراتهم المسبقة. ومن ثَم فمن غير المستغرَب أن كِلا الفريقين شعر بأنه كان على صوابٍ طَوال الوقت. فالأشخاص الذين كانوا يعتقدون أنه كانت هناك مؤامرةٌ وجدوا الأدلةَ التي تؤيد المؤامرةَ أكثرَ إقناعًا من الأدلة التي تُؤيد وجود قاتل واحد، والعكس صحيح. وفي النهاية، غادر الكثيرُ من الطلاب مختبرَ مكهوسكي وهم يشعرون بثقةٍ في أنهم كانوا يعرفون قاتلَ كينيدي أكبرَ من ثقتهم المبدئية وقتَ دخولهم المختبر.
عندما نُواجَه بأدلةٍ كثيرةٍ متنوِّعة ومتضاربة، يعمل الاستيعابُ المتحيز على استبعاد أيِّ شيء لا ينسجم مع أفكارنا وتصوراتنا المسبقة، مخلفًا وراءه الاعتقادَ الواهم بأن الحقيقةَ واضحةٌ وضوحَ الشمس (وأن هذا ينسجم تمامًا مع ما عرَفناه طوال الوقت). لكنَّ أسئلةً عما إذا كانت القيود التي تُفرض على حيازة السلاح والردع النووي وعقوبة الإعدام صحيحة أو خاطئة ليس لها إجاباتٌ واضحة؛ فهي قضايا أخلاقية مرَدُّها إلى اختلاف القيم. ثم هناك أسئلة، على غِرار «مَن قتل كينيدي؟» لها إجابةٌ بالفعل، لكن الأدلة تبقى مَثار جدلٍ (على الأقل بدرجةٍ ما).
ماذا يحدث عندما تكون هناك إجابةٌ واضحة؟ ماذا لو علمنا علمَ اليقين أن شخصًا ما وصَلَته معلوماتٌ خاطئة ببساطة، وأننا نستطيع أن نُقدِّم معلوماتٍ حاسمةً يمكن أن تُعيده إلى صوابه؟ هل من المؤكَّد أن الناس سيغيِّرون وجهة نظرهم حينها؟
التشكُّك في الأمور المحسومة
نال باراك أوباما، الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة نصيبَه من الشائعات المضلِّلة. وقد شكَّكَت بعضُ الشائعات الأولى في هُويته الحقيقية، واستمرت تلك الشائعات مدَّةً طويلة: هل وُلد في هاواي، كما يُزعم، أم كان ميلاده الحقيقيُّ في كينيا؟ بالنِّسبة إلى الأشخاص الذين شكَّكوا في أصول أوباما، ليست هذه مسألةً هيِّنة. فهم زعَموا أنه إذا لم يكن أوباما مواطنًا أمريكيًّا وُلد على التراب الأمريكي، فربما لا يكون مؤهلًا لأن يشغَل منصب الرئيس، وإنما يكون محتالًا.
الآن، دعنا نتخذْ وجهةَ نظر هؤلاء الذين شكَّكوا في أصول أوباما ونفترض أن شواغلهم قائمةٌ على فكرةٍ مغلوطةٍ بريئة. لا بد أن تكون، حينَذاك، مجرد خطأ يسهل تصحيحه. خلال حملته الانتخابية عام ٢٠٠٨، أطلق فريقُ أوباما، موقعًا إلكترونيًّا أسماه «واجِه الافتراءات» (فايت ذا سِميرز) ورُفع على الموقع صورةٌ مختصرة لشهادة ميلاده، تؤكد أنه مواطن أمريكي. ومع ذلك استمرَّت الشائعات. وفي يوليو ٢٠٠٩، أكَّد مدير وزارة الصحة بولاية هاواي في بيان صحفي أن ميلاد أوباما مسجلٌ بالفعل لديهم. لكن الشائعات لم تنحسر. وأخيرًا، نشَر أوباما في أبريل عام ٢٠١١، شهادة ميلاده الكاملة على الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض؛ وهو ما يُعَد دليلًا دامغًا وحاسمًا على أن الشائعات كانت كاذبة. ما الذي يمكن أن يطلبَه المشككون بعد ذلك؟
بعد انقضاءِ عامٍ، تتبَّع آدم برينسكي، أستاذُ العلوم السياسية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عددَ الأشخاص الذين صدَّقوا الشائعات القائلة بأن أوباما لم يُولَد في الولايات المتحدة. في أبريل عام ٢٠١١، وقبل أن ينشر أوباما شهادةَ ميلاده الكاملة بوقت قصير، قال ٤٥٪ من الأمريكيِّين إنه كان لديهم بعضُ الشكوك حول وثائق اعتماده (وذلك بالرغم من الجهود التي كان قد بذلها بالفعل لدحض الشائعات). وبعد أن نشر شهادتَه الكاملة بوقتٍ قصير، تراجع هذا العدد إلى ٣٣٪. في الواقع، فإن عدد الأشخاص الذين يُشكِّكون في حق الرئيس أن يكون رئيسًا لا يزال كبيرًا، استنادًا إلى هذه النِّسبة، لكنَّ الأدلةَ أحدَثَت تأثيرًا على ما يبدو، أليس كذلك؟ للأسف، لم يَدُم هذا التأثير طويلًا. ففي غضونِ شهورٍ قلائل، عاد المشكِّكون من جديد. فبحلول يناير ٢٠١٢، أعرب ٤١٪ من المواطنين عن شكِّهم في كون أوباما مواطنًا أمريكيًّا؛ وهذه النِّسبة أقلُّ بهامش ضئيل عن النِّسبة التي رُصدت قبل أن يُقدِم أوباما على نشر شهادة ميلاده. (وتجدر الإشارة إلى أنه أصبح هناك المزيدُ — ولو بدرجةٍ طفيفة — من المشككين في أصول أوباما بين الجمهوريِّين؛ فقد أعرب ٧٢٪ عن شكوكهم في وثائق أوباما، بعد أن كانت النِّسبة ٧٠٪ قبل أن ينشر شهادته؛ لكننا سنتحدثُ بعد قليل بمزيد من الاستفاضة عن أي طرف من طرَفَي الخلاف السياسي أكثر توجهًا بنظريات المؤامرة.)
وقد تعقَّبتِ المعلوماتُ المضلِّلة أوباما حتى بعد دخوله البيتَ الأبيض. ومن بين القضايا الجدلية المحورية خلال مدة رئاسته الأولى قانونُ الرعاية الصحية الأمريكي الذي عُرف — إعزازًا — أو استخفافًا حسبما تراه — بقانون «أوباما كير». أحد المعارضين الأقوياء لقانون «أوباما كير» كانت سارا بالين، حاكمة ولاية ألاسكا سابقًا. ففي أغسطس عام ٢٠٠٩، أعربت بالين عن مخاوفها من أن يكون قانون «أوباما كير» خطةً سريةً لقتلِ كبار السن. فقد زعمَت في منشورٍ لها على موقع «فيسبوك» أن المرضى سيتعيَّن عليهم «المثول أمام لجنةِ الموتِ التابعةِ لأوباما حتى يُقرِّر البيروقراطيون التابعون له ما إذا كانوا يستحقُّون الحصولَ على الرعاية الطبية أو لا.» وأشارت بالين ضمنيًّا إلى أن الأطباءَ سيقتلون الجدودَ قتلًا رحيمًا، بدلًا من إعطائهم الدواءَ الغاليَ الثمن الذي يُمكن أن يُنقذ حياتهم.
كانت فكرةً مزعجة، وثبَت أن لها جاذبيتَها. فبعد منشور بالين على «فيسبوك» بأسبوع واحد فقط، كان قد سمِع تسعةٌ تقريبًا من أصل ١٠ أمريكيِّين بزعم «لجان الموت»، وقال ثلاثةٌ من أصل ١٠ أمريكيين إنهم صدَّقوا ذلك الزعم. لكن هذا الزعم كان خطأً. فقانون «أوباما كير» لم يذكر أيَّ لجانِ موت بيروقراطية (كما أن بالين لم تستشهد بأي صيغة كهذه لدعم زعمها). ومن جديدٍ، لا بد أن يكون من السهل تصحيحُ المعلومة المغلوطة. وقد بذلت إدارة أوباما جهودًا متواصلةً من أجل تفنيد الشائعة، وقد دُحِضت على نطاقٍ واسع في وسائلِ الإعلام بوجه عام. ومع ذلك ظل التصوُّر الخاطئ عصيًّا على التصحيح بشكلٍ محبِط. فبحلول أغسطس عام ٢٠١٢، زاد عددُ الأشخاص القلقين من لجانِ الموت إلى أربعة تقريبًا من أصل ١٠.
•••
كيف لم يحدث تغييرٌ تقريبًا في عدد الأشخاص الذين كانوا يعتقدون أن أوباما محتالٌ بعد أن نشر الرجلُ شهادة ميلاده للعالم (بل وزاد هذا العدد في بعض الأوساط)؟ كيف صدَّق المزيدُ من الناس أن اللجان قد تكون موجودةً بالفعل، بعد ثلاث سنوات من الجهود الرامية إلى تفنيد خرافة لجان الموت (فضلًا عن عدم ظهور تلك اللِّجان على أرض الواقع)؟ برندن ناين، أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية دارتموث، متخصصٌ في دراسة هذه النوعية من التصورات السياسية الخاطئة. تُشير دراسته البحثية إلى أن تصحيح المعتقداتِ والأفكارِ الخاطئة يمكن أن يكون مهمةً صعبةً على نحوٍ يدعو إلى الدهشة. فأحيانًا، عندما تُوضح لشخصٍ ما الحقائقَ اللازمة لتصحيح مفهومه، يمكن أن يزدادَ هذا الشخص ثقةً في مفهومه الخاطئ. وقد أطلق ناين على هذا مصطلح «التأثير العكسي».
ومن خلال دراساتٍ عديدة، اكتشف ناين وزملاؤه أنه عندما يعرف الناس السببَ وراء كونِ قانون «أوباما كير» لا يستلزم تشكيلَ لجان موتٍ تنوب عن الحكومة، من الممكن أن يُصبحوا أكثرَ يقينًا من أن لجان الموت واقعٌ قادم؛ فعند عرضِ مقطعِ فيديو على الناس يُظهر أوباما وهو يقول إنه مسيحيُّ الديانة يمكن أن يجعلَهم أكثرَ تشككًا في أنه مُسلم يُخفي إسلامه (وتلك شائعة أخرى ظهرَت خلال حملته الرئاسية واستمرَّت وقتًا طويلًا)، وإخبار الناس أن اللقاحات لا تُسبِّب التوحدَ يُمكن أن يجعلهم أقلَّ رغبةً في تطعيم أطفالهم، وتحذير الناس من العواقب الوخيمة المحتمَلة للاحترار العالمي يُمكن أن يجعلَهم أكثرَ مقاومةً للسياسات الرامية إلى الحدِّ من التغيُّر المناخي.
لعل التأثيرَ العكسيَّ هو الإثبات النهائي لقوةِ وتأثيرِ التحيُّز التأكيدي. فحتى عندما لا تكون الحقائقُ قابلةً للدحض، سيجد الناس طريقةً لدحضها.
وإذا كنتَ تسعى لتبريرِ عدمِ صحةِ حقيقةٍ مزعجة، فلا شيء يفوق نظريةَ المؤامرة. فعندما تزعم أنه لا يمكن الوثوقُ بأحد، يُمكن أن تُنكر الحقائقَ الدامغة ببساطة معتبرًا إياها جزءًا من التستُّر. ومن ثَم، عندما نشر الرئيس أوباما شهادةَ ميلاده على شبكة الإنترنت، سارع المشكِّكون المؤامراتيون إلى الزعم بأنها خِدعةٌ من خِدَع برنامج الصور «فوتوشوب». وقد حلَّل المدوِّنون كلَّ بكسلٍ بدقةٍ بالغة، موضحين أن هناك شذوذاتٍ في التصميم والألوان، على حد زعمهم، كما ادعَوا عدم وجود آثارِ طيٍّ في الشهادة بسبب ثَنْيها وإرسالها بالبريد. بل إن أحدهم أشار إلى ما يمكن أن يكون وجهًا باسمًا خفيًّا في توقيع المسئول الذي وقَّع الشهادة؛ زاعمًا أن هذا قد يكون دليلًا تركه المزوِّرُ وراءه دون قصد. (والسبب في كون مزورٍ محترفٍ يترك وراءه أدلةً كهذه يبقى غامضًا.) وبدلًا من إقناع المشككين بخطئهم، أعطتهم شهادةُ أوباما مزيدًا من الذرائع.
وبالمثل، ظلَّت شائعة «لجان الموت» رائجة بشدة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى المزاعم المؤامراتية بأن إدارة أوباما كانت تُنفذ لجان الموت عبر وسائلَ أكثر تكتُّمًا. وبالنِّسبة إلى المناهضين للقاحات، فعدم وجود أدلة هو دليلٌ في حد ذاته على تسترٍ من جانب شركات الأدوية. وبالنِّسبة إلى منكري التغيُّر المناخي، فإن الإجماع الكاسحَ بين العلماء على أن الأرض تزيد احترارًا يُدحَض بسهولة باعتباره مؤامرةً من جانب العلماء لتضليل الناس.
هناك لازمةٌ شائعة بين أصحاب نظريات المؤامرة وهي أن دليلًا حاسمًا واحدًا فقط على أن نظريةَ المؤامرة خاطئة سيُريح عقولَهم. وفي حين أن هذا قد يكون صحيحًا بالنِّسبة إلى البعض، يضمنُ التأثيرُ العكسيُّ أنه بمجرد أن يترسَّخ الاعتقادُ في عقولنا، فإن هذا الدليلَ الحاسم الوحيد يمكن أن يَزيد، على النقيض، هذا الاعتقاد ترسُّخًا. فالتحيُّز التأكيدي إضافةً إلى النُّزوع إلى التفكير المؤامراتي يُشكِّلان درعًا منيعةً، يمكن أن تحميَ اعتقادًا ما من كل تحدٍّ تقريبًا.
جنون الارتياب الحزبي
يجدر بنا الآن أن نبحث لبعض الوقت سؤالًا كثيرًا ما يطرأ عند الحديث عن نظريات المؤامرة. هل نظرياتُ المؤامرة أكثرُ رَواجًا بين اليسار أو اليمين السياسي، بين الليبراليين أو المحافظين، بين الديمقراطيين أو الجمهوريين؟
إن تخصيصي جانبًا من الحديث لنظريات المؤامرة التي دارت حول الرئيس أوباما قد يُعطي انطباعًا بأن نظرياتِ المؤامرة أكثرُ شيوعًا بين الجمهوريِّين. بالنِّسبة إلى الكثيرين من المثقَّفين المنتمين إلى اليسار، ليس هناك شكٌّ في ذلك. فقد قال جوناثان تشيت، وهو محرِّرٌ بارزٌ سابق لدى مجلة «نيو رببليك» التي تَميل إلى اليسار، إن الحقَّ السياسي «يُسفر عن نوعٍ من التفكير البارانوي الذي لا يُمكن أن تجده لدى اليساريِّين بوجهٍ عام.» وقد أشار آرثر جولدواج، الذي يكتب لموقع «صالون دوت كوم» الإلكتروني التقدمي أنه من الطبيعي أن نظريات المؤامرة «تجد أصداءها بين الجمهوريِّين بوجه عام.»
لكن لا تتعجَّل في الحكم. فإذا استمعت إلى المثقفين اليمينيِّين، فإن المحافظين يتعرَّضون لانتقادٍ جائر لإعرابهم عن حقائقَ بسيطة؛ اليساريون هم مَن تستولي عليهم نظريات المؤامرة الواهمة. فمثلًا، عبَّرت مقالةٌ نُشرت عام ٢٠٠٨ في صحيفة «واشنطن تايمز» ذاتِ الاتجاه المحافظ، عن حزنها الشديد وقالت إنه «في هوليوود الليبرالية، تعبيرك عن التشكُّك بشأن الاحترار العالمي الذي هو مِن صُنع الإنسان يؤدي إلى وصفك بأنك «منكر» بكلِّ ما تحمله الكلمةُ من معانٍ وإيحاءات.» في حين أن «التلميح بأن الحكومة الأمريكية متورِّطة في تدمير برجَي مركز التجارة العالمي وقتل ٣٠٠٠ شخص لا يُثير أيَّ قدْر من الإدانة.»
باختصار، معرفةُ أيُّ طرف من الطرفَين أكثرُ انخراطًا في نظريات المؤامرة أمرٌ يتوقَّف على هُوية الشخص الذي تسأله. يقول جو أوسينسكي وجوزيف بيرانت إن كل طرفٍ يبدو على قناعةٍ بأن الطرَف الآخَر «ينسج نظرياتِ المؤامرة بشكلٍ روتيني وبهذَيانٍ أشبهَ بهذيانِ مَن أصابته الحمى في حينِ أن نظريات المؤامرة التي ينسجها هو نفسُه منطقية وواقعية، إن لم تكن صحيحةً لا تحتاج إلى دليل. ويُتابع الباحثان قائلَين إن الطرف الآخر يُرحِّب بنظريات المؤامرة لتَرُوج بين عموم الناس، وهو ما يُمثل خطورة، في حين أن الطرف المدَّعي يُقصي نظريات المؤامرة حاميًا المجتمعَ من عواقبها.» هل يبدو هذا وضعًا طبيعيًّا ومألوفًا؟ الحقيقة القائلة بأن كلَّ طرَفٍ يرى الطرفَ الآخر أكثرَ نزوعًا إلى التفكير المؤامراتي مثال عمليٌّ آخر على التحيُّز التأكيدي.
فأيًّا كان الطرَفُ الذي تدعمه، قد تندهش عندما تعلم أن الناس عمومًا، سواءٌ على اليسار أو اليمين من الطيفِ السياسيِّ، منخرطون في التفكير المؤامراتي، ولا يختلفون في ذلك بعضُهم عن بعض. فلا يمكنك أن تقول إن المؤامراتية تزداد قوةً كلما ابتعد الشخصُ عن منتصف مقياس التوجُّه السياسي. فالفارق بين الليبراليين والمحافظين ليس له علاقةٌ بمدى نزوعِهم إلى نظريات المؤامرة عمومًا، بل بماهية نظريات المؤامرة المحدَّدة التي يَروق لهم التشبُّثُ بها على الأرجح. جمَع أوسينسكي وبيرانت كمًّا كبيرًا من البيانات عن التفضيلات السياسية لدى الناس، وعن نوعية نظريات المؤامرة التي يقتنعون بها. وقد وجَدوا شيئًا لا يُثير الكثيرَ من الاستغراب على ما يبدو، وهو أن الأشخاص الذين ينتمون إلى اليمين السياسي أكثرُ ميلًا إلى التشكُّك في أن الليبراليين والاشتراكيين يتآمَرون ضدَّهم؛ فمَزاعمُهم المؤامراتية عادةً ما تكون موجَّهة ضد إدارة أوباما، ووسائل الإعلام الليبرالية والنُّخَب التي تعيش في برجٍ عاجي. وأما الأشخاص المنتمون إلى اليسار فهم أكثرُ ميلًا إلى رؤيةِ مؤامرات تُحاك ضدهم من جانب المحافظين والشركات؛ فهم يوجِّهون مزاعمهم المؤامراتية ضدَّ كياناتٍ مثل إدارة بوش وشركة مونسانتو. فالتفكير المؤامراتي نتاجُ شذوذات سيكولوجية راسخة في أدمغتنا جميعًا، ولا علاقة لها بالأيديولوجية السياسية. وفي حينِ أنهم يُلقون بالاتهامات في جميعِ الاتجاهات، ليس هناك ما يُبرِّر الاعتقاد بأن الليبراليين والمحافظين قد يكونون مختلفين من حيث الاستعدادُ للانخراط في التفكير المؤامراتي بوجه عام؛ وتؤكد البيانات أنهم ليسوا كذلك. فعددُ المشكِّكين في هُوية أوباما من اليمين السياسي (أربعة من كل ١٠ تقريبًا) هو نفسُ عدد أنصار حركة حقيقة هجمات الحادي عشر من سبتمبر من اليسار السياسي (أربعة من كل ١٠ تقريبًا).
يمكن أن يُحدِّد الانتماء السياسي لدى المرء ما إذا كان يتشبَّث بفكرةٍ ما في مواجهة أدلةٍ متناقضة أيضًا. فعندما درَس برندن ناين التأثيرَ العكسي في سِياق لجان الموت التي أشارت إليها سارا بالين، وجد أن الأشخاص الذين يؤيِّدون بالين بشدةٍ كانوا أكثرَ مقاومةً للمعلومات التي تدحض الشائعة. والأشخاصُ الأكثرُ إيمانًا بالتيار اليساري كانوا أكثرَ ميلًا بكثيرٍ إلى الاعتراف بخطئهم وتحديثِ أفكارهم ومعتقداتهم. وفي دراسةٍ أخرى، عرض عالمُ النفس جون بولوك على المشاركين قصةَ خبرٍ عن إساءة معاملة السجناء في معسكر جوانتانامو. وفي النهاية، كان هناك تصحيحٌ يفيد بأن إساءة المعاملة لم تحدث في واقع الأمر. راقَ للقراء الجمهوريِّين جعل هذا التصحيح جزءًا من أفكارهم ومعتقداتهم؛ فقد أصبحَت انتقاداتهم للمعاملة الأمريكية للمعتقلين أقلَّ إذا ما قُورنت بانتقاداتهم المبدئية. لكن الديمقراطيين تبنَّوا على ما يبدو الزعم الكاذب الذي يُفيد بتعرض المعتقلين للمعاملة السيئة وتجاهَلوا تمامًا التصحيح الذي يفيد بأن ذلك الزعم ليس صحيحًا؛ إذ زادت حِدَّة انتقادهم للحكومة على إساءة معاملة المعتقلين.
من المثير للاهتمام أن نُشير إلى أن أول الأشخاص الذين شكَّكوا في مكان ميلاد أوباما لم يكونوا جمهوريِّين، على عكس ما قد يكون قد خطر ببالك. فشائعة التشكيك في الميلاد أطلقَها للمرة الأولى في ربيع عام ٢٠٠٨ الديمقراطيون الداعمون لحملةِ هيلاري كلينتون للفوز بمنصب الرئيس. غير أنه بعد أن فاز أوباما بالمنصبِ الرئاسيِّ وانتهت المنافسة مع كلينتون، تخلَّى الديمقراطيون على نحوٍ شبهِ تامٍّ عن الشائعة. ولم تُثَر الشائعة بعد ذلك إلا على ألسنةِ الجمهوريين. ففي كتابه عام ٢٠٠٦ الذي حمل اسم «جُرأة الأمل»، كتب أوباما يقول: «بشكلٍ واضح، لم يَعُد هناك فارقٌ بين تفسيراتِ كلٍّ من اليمين واليسار. فجميعها قصصٌ عن المؤامرة، عن أمريكا التي اختطفَتها عصابة شريرة.» ولم يكن يعلم أوباما كثيرًا إلى أيِّ مدًى ستُثبت السنوات التالية صحةَ ما قاله.
مخلوقاتٌ منطقية
في الفصول القليلة السابقة، تحدَّثنا إلى أيِّ مدًى يمكن أن تُعطينا مجموعةٌ ضئيلة من الشذوذات العقلية والطرق المختصرة الذهنية شعورًا داخليًّا بأن ثمةَ مؤامرة. هذه العمليات تنثر بذورَ التفكير المؤامراتي. ويساعد التحيُّز التأكيديُّ في استنبات هذه البذور. فتفتش أدمغتنا في تلالِ المعلومات المتاحة، بحثًا عن فتاتٍ ينسجم على ما يبدو مع مؤامرةٍ ما، متجاهلًا أو رافضًا بقيةَ المعلومات. ويغلِّف التحيُّزُ التأكيدي تشككًا غامضًا في شرنقةٍ من أدلةٍ تبدو إيجابيةً؛ حيث يمكن أن تزدهر لتصبح نظريةَ مؤامرةٍ يتشبث بها المرء بثقة.
ويجدر بنا أن نُكرِّر أن نظريات المؤامرة ليست وحدَها الخاضعةَ للتحيز التأكيدي. فجميعنا ننخرط في التحيُّز التأكيدي. تذكر أنه في دراسة جون مكهوسكي عن الأفكار المؤامراتية المتعلقة باغتيال كينيدي، جعلت مجموعةٌ غيرُ حاسمةٍ من الأدلة أصحابَ نظريات المؤامرة أكثرَ قناعة بوجود مؤامرة، لكنها جعلت أيضًا أصحاب النظريات القائلة بتورُّط شخص واحد في العملية أكثر قناعةً أن أوزوالد ارتكب الجريمة بمفرده. أو تذكر مأزق ستيف ريجان في بداية هذا الفصل. فبالنِّسبة إلى ضابطِ الشرطة الذي جاء من أجل التقصِّي، متوقعًا وجودَ تستُّر، كانت احتجاجات ستيف، وعدم وجود أدلةٍ وتجربة المشعل الأسهل من اللازم جميعها دلائل على أنه كان مُحقًّا. وبالنِّسبة إلى الضابط التي تشكَّكت في أخبارِ وجود جسمٍ طائر مجهول، أشارت الدلائل نفسُها إلى تفسيرٍ مألوف أكثر. فليس مجرد كونك على صوابٍ يعني أنك لست متحيزًا.
ولكي نكونَ صادقين، نقول إن استراتيجية الاختبار الإيجابي ليست بالضرورة طريقةً سيئة للتحقُّق من مدى صحةِ تخمينٍ ما؛ فبرغم كل شيء، مجرد البحث عن شيء تتوقَّع العثورَ عليه لا يعني أنك ستجده. وبالمثل، غالبًا ما تكون بعضُ المقاومةِ لمعلوماتٍ غيرِ مرحَّب بها فكرةً جيدة. فدائمًا ما نكون عُرضة لمزاعمَ وقائعيةٍ متعارضة، ويمكن أن يكون من الصعب معرفةُ أيٌّ من تلك المزاعم يجدر بنا أن نسمعَه. وإذا ما قيَّمنا بإنصافٍ — أو قبِلنا دون نقد، وهو الأسوأ — كلَّ حقيقة جديدة نُصادفها، فربما يستحوذُ علينا الترددُ وتشلُّ الحيرة حركتنا بسبب حاجتنا الدائمة إلى التشكك في رؤيتنا للعالم بأكمله.
المشكلة هي أن التحيُّز التأكيدي في أسوأِ صوره يمكن أن يُساعد المعتقداتِ والأفكارَ المغلوطة على المكوث في عقولنا لوقتٍ أطولَ بعد انتهاء صلاحيتها. ففي مراجعةٍ للأدبيات أجراها عالمُ النفس ريموند نيكرسون، انتقد التحيُّزَ انتقادًا لاذعًا. فقد أشار إلى أن التحيُّز التأكيدي من بين جميع الشذوذات والنواقص والتحيُّزات يُعد أكثرَ الأشياء خبثًا وضررًا. فبرغم كل شيء، فإن تحيزاتنا الأخرى — التي من بينها على سبيل المثال ربطُ الأجزاء المتناثرة لاستخلاص نتيجة، والتفتيش في النوايا، والبحث عن أسبابٍ لتفسير الأحداث الكبيرة — قد لا تُمثِّل مشكلة كبيرة إذا كنا قد اعتَدْنا على التشكُّك في حدسنا. أما التحيُّز التأكيدي فيعمل على ترسيخ استجابتنا الحدسية دون إعادة النظر فيها. اختتم نيكرسون كلامَه بالقول: «يُضطَرُّ المرء إلى التساؤل عما إذا كان التحيُّزُ في حدِّ ذاته قد يُفسِّر نسبةً لا بأس بها من المنازعات والمناوشات وسوءِ التفاهم الذي يحدث بين الأفراد والجماعات والدول.» فكِّر في آخر مرة اختلفتَ فيها مع شخصٍ ما في الرأي. هل استطعتَ تغيير وجهةَ نظره؟ هل تغيرَت وجهةُ نظرك؟ هل فكرتَ في احتمالية أن يكون التحيُّزُ التأكيدي هو الذي يحثُّ كِلَيكما على التشبث بوجهة نظره؟
لماذا نجد صعوبةً كبيرة في تغيير وجهة نظرنا؟ ليس ذلك بسبب أننا أغبياء. فقد توصَّلَت الدراساتُ إلى أنه لا علاقةَ بين الذكاء وكون المرء عرضةً للتحيز التأكيدي. كما أن ذلك ليس مردُّه إلى أننا نفتقر ببساطةٍ إلى المعلومات الكافية. قد تتوقَّع أن أكبر الاختلافات في وجهات النظر تكون بين الأشخاص الذين لا يعرفون سوى النَّزْر اليسير عن الموضوعِ محلِّ النقاش، لكن الحقيقة أن الأشخاصَ الأكثرَ معرفةً على المستويَين العِلمي والسياسي هم مَن يكونون في أغلب الأحيان أكثرَ تحيزًا عند الخوض في موضوعاتٍ مثلِ حقيقة التغيُّر المُناخي ولجانِ الموت. فمعتقداتنا تأتي في المقدمة: فنحن نختلقُ أسبابًا لها على نحوٍ متواصل. وكونك أكثرَ ذكاءً أو لديك معلوماتٌ أكثر لا يجعلك بالضرورة أقلَّ عرضةً للمعتقدات والأفكار الخاطئة. فأحيانًا يجعلك ذلك أكثرَ قدرةً على تبريرِ حقائقَ غيرِ مستساغة.
وقد أشار بنجامين فرانكلين بتهكُّم إلى أنه «من السهل جدًّا أن نكون مخلوقاتٍ منطقية، حيث إن ذلك يُمكِّننا من إيجادِ سببٍ أو اختلاقه من أجل تفسير كلِّ شيء نميل إلى اعتقاده.»