ما الضرر؟
قبل الساعة الحادية عشرة من صبيحة يوم سبتٍ مُشمسٍ، وذلك في يونيو ١٩٢٢، اتجهَ فالتر راتينو، وزير الخارجية الألماني، من منزله على أطراف برلين إلى وزارة الخارجية في قلب المدينة. كعادته، عندما كان يجد أن الطقس جميلٌ، كان يركب سيارته المكشوفة. وبعد مُضيِّ بضع دقائق، بينما كان سائقه يشق طريقه وسط طريق كونيسجالي الذي تصطف الأشجار على جانبيه، برزت فجأة سيارةٌ ذات لون رمادي داكن من طريقٍ جانبي ووقفت أمامهم بحيث لا تسمح لسيارة راتينو بالمرور. أطل شابَّان يرتديان معطفين جلديَّين طويلين من السيارة. أطلق أحدهما خمس رصاصات أصابت راتينو من بندقية رشاشة، في حينِ قذف الآخر قنبلة يدوية. فرَّ الرجل الثالث، الذي كان يقود السيارة، بالقاتلين مُسرعًا، في حينِ عصف الانفجار بسيارة راتينو. ظل راتينو ينزف حتى الموت في مسرح الجريمة.
جرى تعقُّب القاتلين طيلةَ ثلاثة أسابيع لاحقة، حتى أُلقي القبضُ عليهم. كان الشخص الذي أطلَق الرصاص طالبًا يبلغ من العمر ثلاثةً وعشرين عامًا يُدعى إرفين كيرن، وقد لقي حتفه عندما أطلقت الشرطة عليه الرصاصَ أثناء تبادل إطلاق النار. أما هيرمان فيشر، أحدُ المتورطين في الجريمة الذي ألقى القنبلة اليدوية، فقد آثرَ الانتحارَ على الاعتقال. وبحلول ذلك الوقت، كان السائق الهارب، الذي يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا ويُدعى إرنست تيشو، قد أُلقي القبض عليه. وسرعان ما حُوكم تيشو كمتورِّط في عملية الاغتيال، وعلى منصة الشهود، أدلى بادعاءٍ مذهل. لقد قال إن السبب وراء إقدامه هو وزميلَيه المتواطئين على اغتيال راتينو هو أن الأخير كان من حكماء بروتوكولات صهيون.
كان راتينو قد عُيِّن وزيرًا للخارجية قبل اغتياله بستةِ أشهر فقط. كانت ثَمة حالةٌ من السخط على حكومة فايمار الجديدة الهشة حينذاك، لكن راتينو لم يكن سببًا للانشقاق السياسي فحسب، بل كان يهوديًّا أيضًا. وسرعان ما أصبح هدفًا للنقد اللاذع والسِّباب المعادي للسامية والتهديد بالقتل. لكن الشائعات التي انطلقَت من تورطه في المؤامرة العالمية اليهودية، نشأت من جملةٍ واحدة في أحد المقالات التي كان قد كتبها قبلَ ذلك بأعوام. كتب راتينو يقول: «ثلاثمائة رجلٍ، كلٌّ منهم يعرف الآخرَ، يُوجِّهون المصائر الاقتصادية للقارة ويبحثون عن خلفائهم بين أتباعهم.» كان ينتقدُ الممارسات التِّجاريةَ الأوليجاركية التي كانت شائعةً حينذاك. ولكن بالنِّسبة لبعض ناشري البروتوكولات الألمان، عندما قال راتينو، ثلاثمائة رجلٍ، كان يقصد اليهود في واقع الأمر. فقد قالوا إن ذلك لم يكن اتهامًا للممارسات التجارية المُريبة، بل كان إشارةً ضِمنية إلى حكماء صهيون المُهابين. والأكثر من ذلك أنهم زعَموا أن الطريقة الوحيدة التي يتأتَّى بها لراتينو معرفةُ العدد المحدد لحكماء صهيون هو أن يكون واحدًا منهم. ومن ثَم كان السبب وراء ضرورة قتل راتينو، كما أوضح تيشو في محاكمته، أنه «اعترف بنفسه وتباهى بأنه كان أحدَ حكماء صهيون الثلاثمائة، الذين كان هدفهم أن يفرض اليهودُ نفوذهم وهيمنتهم على العالم بأسره.»
لم يكن راتينو الضحيةَ الأولى لكُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون». فخلال العقدَين اللذَين أعقبا نشر الكُتيب، كان قد أشعل بالفعل نيران المذابح الشنيعة المدبَّرة في روسيا التي قُتل فيها آلاف اليهود بطريقة وحشية. لكن إعدام راتينو على أيدي قوميِّين ألمانٍ مسلحين كان نذيرًا بالأسوأ القادم.
المعضلة اليهودية
بعد أن أصبح أدولف هتلر مستشارَ ألمانيا في عام ١٩٣٣، أنشأ نُصبًا تذكاريًّا لقاتلي راتينو عند المقبرة التي دُفنا فيها، وكان النُّصب حجرًا ضخمًا يحمل نقشًا يُثني على الشخصَين المتورطَين في عملية الاغتيال واصفًا إياهما ﺑ «طليعة المُقاتلين» من أجل القضية النازيَّة. وفي أحد المراسم التي أُقيمت عند مقبرتهما، تخليدًا لذكراهما، أغدقَ القادة النازيون عليهما مدحًا. فقد أثنى إرنست روم، قائد كتيبة العاصفة، وهي الجناح شبهُ العسكري للحزب النازي، على «العمل المجيد» الذي أنجزه القاتلان. وقد أكَّد هينريش هيملر أنه «لولا صنيعُ هذين الرجلين، لأصبحت ألمانيا اليوم ترزح تحت نِير النظام البَلْشفي.» وفي الوقت ذاته، أقدم طلاب الجامعة في جميع أنحاء ألمانيا، بمساعدةٍ من أفراد قوات العاصفة ذَوي القمصان البُنية، على حرق كمٍّ هائل من الكتب كان من بينها مؤلفاتُ راتينو التي التهَمَتها ألسنةُ اللهب. في ميدان أوبرنبلاتس في مدينة برلين، احتشد ٤٠ ألفَ شخص كي يستمعوا إلى وزير الدعاية يوزِف جوبلز وهو يُعلن قائلًا: «نشهد اليومَ نهاية حِقبة المذهب الفكري اليهودي المتطرف.»
أما هتلر فقد ضمَّن حرفيًّا سيرتَه الذاتية أوراقَ اعتماده المعادية للسامية. ففي عام ١٩٢١، تباهى هتلر، في سيرةٍ ذاتية أُرسلت إلى جهةٍ غيرِ معلومة، قائلًا: «أعتقد أنني أنحدرُ من أسرة كوزموبوليتانية؛ لقد حوَّلَتني مدرسة الواقع المؤلم إلى معادٍ للسامية في عامٍ واحدٍ على أكثر تقدير.» وفي كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون»، «سمع هتلر نداء روح العشيرة واستجاب له بكل كِيانه»، حسبما ذكر المؤرخ نورمان كون. وقد ظهرت الترجمةُ الألمانية الأولى في عام ١٩٢٠، عندما كان هتلر في مستهلِّ حياته المهنية في مجال السياسة. فقد بدأ يستشهد بالكُتيب في خطبِه بدايةً من عام ١٩٢١؛ وهو العام نفسُه الذي كُشف فيه عن زيف البروتوكولات. ويُشير كون أنه في تلك السنوات المبكرة، احتفظ هتلر بصورةٍ كبيرة لهنري فورد — أشهر أمريكي مناصرٍ لما جاء في الكُتيب — بجانب مكتبه، وكان يقول عنه «الأمريكي البطل هنري فورد.»
إعلان هتلر عام ١٩٢٤ الذي يحمل عنوان «كفاحي» يتناول باستفاضةٍ واقعَ المؤامرة اليهودية، ويُثني بسخاءٍ على كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون». كتب هتلر يقول: «لقد أوضح كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون» بتفردٍ وبما لا يدعُ مجالًا للشك إلى أي مدًى يستند الوجود الكامل لهذا الشعب على كذبة مُستمرة.» ورفض المزاعم التي تصف تلك البروتوكولات بالزيف، معتبرًا تلك المزاعمَ مجرَّد دعاية يهودية؛ وهو ما اعتبره دليلًا، في واقع الأمر، على صحةِ ما وردَ بالكُتيب من معلومات برغم كل شيء. وترديدًا لكلام هنري فورد والكثيرين من المثقفين غيره حينذاك، زعم هتلر أن «أفضل نقدٍ ينطبق عليهم هو الواقع. فمن يتأمَّل التطور التاريخي خلال المائة سنةٍ الأخيرة، من منظور هذا الكتاب، سيفهم على الفور ضجيج الصحافة اليهودية.» وتابع قائلًا: «لا يُهم كثيرًا ماهيةُ العقل اليهودي الذي هو مصدر تلك الإفشاءات، المهم في الأمر هو أنها تكشف على نحوٍ مرعب وبما لا يدع مجالًا للشك طبيعةَ الشعب اليهودي ونشاطه، وتفضح ارتباطه الداخلي وأهدافه النهائية.» وبمجرد أن أصبح الشعب الألماني على درايةٍ كافية بالأسرار التي كشف عنها كتابه، اختتم هتلر قائلًا: «التهديد اليهودي يُمكن اعتباره قد اندحر بالفعل.»
وبعد انقضاء أقلَّ من عشر سنوات، كان النازيون قد هيمَنوا على ألمانيا، وسرعان ما أضافوا كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون» إلى المناهج الدراسية القومية. وقد أهابت إحدى نُسخ الحزب النازي الرسمية التي نُشرت في عام ١٩٣٣، بالقارئ أنه «واجبٌ على كل ألماني أن يدرس التعهدَ المرعب الذي قطعه حكماءُ صهيون على أنفسهم، وأن يُقارنها ببؤسِ شعبنا الذي لا حدود له، ثم يستخلص ما يلزم من نتائج.»
وخلال صعوده إلى السلطة والحكم كفيورر (وتعني بالعربية الزعيم)، أعلنها هتلر واضحةً مرارًا وتَكرارًا أنه «كي تستعيد ألمانيا الحرية والقوة … فإن أول شيء يتعين فعلُه هو إنقاذها من اليهود الذين يُدمرون البلاد.» وكان يُشير باستمرارٍ إلى الشعب اليهودي بعباراتٍ شنيعة وتحقيرية، على غِرار وصفهم بأنهم خُرَّاج أو فطرٌ أو وباء فئراني أو عَدْوى يجب استئصالها لسلامة الأمة. وعلى مدار ثلاثينيَّات القرن العشرين، أخذ النازيون يُجردون المواطنين اليهودَ من حقوقهم على نحوٍ متصاعد. وقد أصبح اليهود في ألمانيا «مجرد جانحين عن القانون» في وطنهم، على حدِّ وصف المؤرخ روبرت ويستريتش.
غير أنه برغم كل حديثه عن اليهود باعتبارهم آفةً وبكتيريا، لم يعتبرهم هتلر نوعًا أدنى من البشر ينبغي تهميشُه وطرده. فقد ألهمَته المؤامرة الشيطانية الكبرى التي انطوى عليها كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون»، الاعتقاد بأن الشعب اليهودي خَصم قوي، والمقابل الميتافيزيقي للجنس الآري. فقد قيل إنه سأل أحد المقرَّبين منه: «ألم يسترعِ انتباهك كيف أن اليهوديَّ يُمثِّل المُقابلَ التامَّ للألماني في كل جانب، ومع ذلك يجمع بينهما قرابةُ الدم. ثَمة مجموعتان مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا، لكن شتان بينهما.» فبالنِّسبة إلى هتلر، كانت المعركة بين اليهود والجنس الآريِّ لا يُمكن أن تنتهيَ إلا بصراع مروعٍ. فقد قال: «في واقع الأمر، إنها معركة من أجل مصير العالم!»
خلال حياتي، كنت نبوئيًّا دائمًا، وعادةً ما كان الآخرون يسخرون من ذلك. وخلال فترة كفاحي من أجل السلطة، كان الجنس اليهودي في المقام الأول هم أول مَن استقبلوا نبوءاتي بالضحك عندما قلت إنني سأتولَّى زَعامة البلاد؛ ومن ثَم زَعامة الأمة بأكملها، ثم سأمضي بعد ذلك في تسوية المعضلة اليهودية بين أشياء أخرى سأفعلها. كان ضحكهم صاخبًا، لكنني أعتقد أنهم لن يستمرُّوا في الضحك طويلًا. فاليوم، سأكون نبوئيًّا من جديد: لو نجح الخبراء الماليُّون الدوليون من اليهود داخلَ وخارج أوروبا في جرِّ الأمم من جديد إلى حرب عالمية، فإنه لن يترتب على ذلك هيمنةُ البلشفية على العالم؛ ومن ثَم انتصار اليهود، بل ستكون النتيجة إبادةَ الجنس اليهودي في أوروبا.
وقد تحققَت نبوءته. فبعد مُضي ثمانية أشهر، غزا هتلر بولندا، مُشعلًا بذلك شرارةَ الحرب العالمية الثانية.
وخلال الحرب، جرى حشدُ ملايين اليهود الأوروبيِّين بطريقة ممنهجة، وأُرسلوا إلى غرف الغاز، ومع ذلك ظل هتلر والمروجون النازيون يصفون الحرب بأنها حربٌ شنَّها يهود العالم على ألمانيا. وحتى عندما وضعت الحرب أوزارها، وتداعَت برلين من حوله، أصرَّ هتلر على أنه غيرُ مَلومٍ على ما حدث. فقد زعم في بيانه السياسي الأخير، الذي صدر في صبيحة يوم ٢٩ أبريل ١٩٤٥: «غير صحيح أنني، أنا أو أي شخص آخر في ألمانيا، أردنا الحرب في عام ١٩٣٩.» وتابع قائلًا: «لم تشتعل نيران الحرب إلا برغبةٍ وتحريضٍ من جانب ساسةٍ دوليِّين ينحدرون من أصول يهودية، أو كانوا يعملون لصالح اليهود.» وفي الجملة الأخيرة من بيانه، التي حملت كلماته الأخيرة إلى الأجيال القادمة من بعده، حرَّض هتلر خُلفاءه على الاستمرار في محاربة المؤامرة اليهودية. فقد قال: «قبل كل شيء، أُحمِّل زعماء الأمة ومَن دونهم مسئوليةَ الامتثال الشديد لقوانين الجنس [الآري] والمعارضة الضارية للمُفسدين العالميِّين الذين يبثُّون سمومهم في جميع الشعوب، ألا وهم يهود العالم.»
بحلول الوقت الذي انتحر فيه هتلر في اليوم التالي، كان قد قتل ستة ملايين يهودي — ثلثي يهود أوروبا — سعيًا وراء حلِّه الأخير للمشكلة اليهودية.
بدءًا من خطاباته السياسية الأولى وصولًا إلى آخرِ ما سُجل من كلماته، كان إيمان هتلر بالمؤامرة اليهودية الأسطورية، المُتجسِّدة في بروتوكولات حكماء صهيون، هو الركيزةَ الأساسية التي استندَت عليها رؤيته للعالم وأفعاله. كتب نورمان كون يقول إن «التلفيق المنافيَ للعقل» الذي يُحاك علانيةً من أجل أن «يُخاطب جميع قُوى التدمير والتجبُّر الكامنة لدى الجنس البشري» لم يكن سوى «تصريحٍ بالإبادة الجماعية.»
تصريح بالقتل
حجم الدمار الذي خلَّفَه الرايخ الثالثُ تحت قيادة هتلر لا مثيلَ له، لكن هذه لم تكن المرةَ الوحيدة التي أدَّت فيها مؤامرةٌ وهمية إلى تلك البشاعات. فهناك أندرس بريفيك، النرويجي الذي قتل ٧٧ شخصًا في عام ٢٠١١، بينهم الكثيرون من المراهقين الذين كانوا يحضرون معسكرًا صيفيًّا سياسيًّا. فوفقًا لبيانٍ مؤلَّفٍ من ١٥٠٠ صفحة كان قد رفعه على شبكة الإنترنت قبل شنِّ هجومه بوقتٍ قصير، كان بريفيك يتوهَّم أن ثمَّة مؤامرةً إسلامية متواصلة لتدمير الحضارة الغربية. وهناك أيضًا تامرلان تسارنييف، مُفجِّر ماراثون بوسطن. وفقًا لسالي جيكوبز مراسلة صحيفة «بوسطن جلوب»، توهَّم تسارنييف أن الحكومة الأمريكية كانت تتآمرُ ضد مواطنيها، وأعطى مالكة عقاره نسخةً من كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون»، مُخبرًا إياها بأنه «كتاب جيد.» هناك أيضًا جاريد لوفنر، الذي فتح النار على عضوة الكونجرس جابرييل جيفوردز، وحشدٍ من الناس كانت تتحدَّث إليهم في يناير ٢٠١١، ما أصاب جيفوردز بجروحٍ بالغةٍ وأدَّى إلى مصرع ستة من الحضور. ووفقًا لفيديو نشره لوفنر على «يوتيوب»، كان يعتقد وهمًا أن «الحكومة تُسيطر على العقول وتغسل أدمغةَ الناس عن طريق التحكم في قواعد اللغة.» كذلك هناك جيمس وينيكر فون برون، وهو عُنصري أبيض قتَل حارسًا رميًا بالرصاص في متحف الهولوكوست التذكاري الأمريكي في واشنطن، وذلك في يونيو ٢٠٠٩. ووفقًا لمذكرة عُثر عليها في سيارته، ظن برون واهمًا أن «المحرقة كذبة. أوباما صناعة يهودية. أوباما يفعل ما يُمليه عليه أسيادُه اليهود. لقد استولى اليهود على الأموال الأمريكية. كما أنهم يُسيطرون على وسائل الإعلام.»
هناك أيضًا تيموثي مكفاي، أحدُ محاربي الجيش الأمريكي القدامى، الذي كان مضطربًا نفسيًّا. ففي صبيحة ١٩ أبريل ١٩٩٥، أوقف مكفاي سيارته المُستأجرة أمام مبنى ألفريد بي موراه الفيدراليِّ في مدينة أوكلاهوما. وفي حقيبة السيارة، كان قد وضع خمسة آلاف رطلٍ من المتفجرات التي أعدها بالمنزل. أشعل مكفاي الفتيل وفرَّ هاربًا. أدَّى الانفجار الهائل إلى تحويل ثلث المبنى المكون من تسعة طوابق إلى ركام، وإصابة مئات الأشخاص وقتل ١٦٨ من بينهم ١٩ طفلًا. (فإضافةً إلى مكاتب ١٤ وكالة فيدرالية، كان الطابق الثاني بالمبنى يضمُّ مركزَ رعاية نهارية.)
وعندما أُلقي القبض عليه في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، كان مكفاي يرتدي قميصًا عليه صورة أبراهام لينكولن، وأسفل منها، العبارة اللاتينية التي كان يصيح بها جون ويلكس بوث عند سحبه الزناد كي يغتال لينكولن، وهي «الموت دائمًا للطغاة». ووَفْق الصحفي لو ميشيل ودان هربربيك، الذي استضاف مكفاي في حوار مُطوَّل بينما كان ينتظر حكم الإعدام، كان مكفاي قد أصبح قلقًا على نحوٍ متزايد على الحكومة الفيدرالية والنظام العالمي الجديد منذ أن ترك الجيش. لقد انجرف نحو الحركة الوطنية المعروفة باسم «باتريوت»؛ حيث سمع شائعاتٍ تُفيد بأن الحكومة «كانت تُخطط لهجوم كبير على مسلَّحي وأفراد مجتمع الباتريوت في ربيع عام ١٩٩٥.» وكان يتعين فعلُ شيء، على حد اعتقاده. وعن هذا، قال الكاتب جور فيدال، فإن مكفاي «أعلن الحرب على الحكومة التي كان يشعر بأنها أعلنت الحرب على مُجتمعِه.»
لقد قال إن أحد الأسباب وراء التداعي المستمر لثقة مكفاي في الحكومة الفيدرالية تلك الحوادث التي وقعَت مثل حصار واكو في تكساس. وكان يوم ١٩ أبريل — تاريخ تفجير أوكلاهوما — هو الذِّكرى الثانية للنهاية العنيفة للحصار؛ حيث كان توهَّم مكتب التحقيقات الفيدرالي أن طائفةً دينية تُدعى «الفرع الداوودي» (برانش ديفيديانز) كانت تُجمِّع أسلحةً غيرَ قانونية وتعتدي على الأطفال؛ ومن ثَم فقد شنَّ غارة على الطريقة العسكرية على المُجمع. وقد اندلع حريقٌ، مُخلِّفًا ستةً وسبعين قتيلًا من أعضاء الجماعة، من بينهم خمسةٌ وعشرون طفلًا. لم يكن الإرهابيون وحدهم هم مَن يحملون برءوسهم أوهامًا خطيرة.
•••
ما الذي يَعنينا في كل هذا؟ حوادث كهذه مُحبطة دون جدال ويستحيل تجاهلُها، لكن هل هي تُمثِّل القاعدة أو الاستثناء؟ هل منطق أصحاب المؤامرة في التفكير مرتبطٌ جوهريًّا بالعنف والتدمير؟
في عام ٢٠١٠، أجرى جامي بارتليت وكارل ميلر، وهما باحثان في مؤسسة بحثية تُدعى «ديموس»، مسحًا للمؤلفات والبيانات والدعايات التي تخصُّ ما يَزيد على خمسين جماعة متشددة، بحيث شمل مسحهما جميع الأطياف من أقصى اليمين وأقصى اليسار، ومن الجماعات والطوائف الدينية الراديكالية، وصولًا إلى المحاربين الإيكولوجيِّين والفوضويين. شكَّلت نظرياتُ المؤامرة عنصرًا أساسيًّا في الكثير من أفكار ومعتقدات الجماعات. وقد توصَّل الباحثون إلى نتيجةٍ مفادها أن نظريات المؤامرة، في بعض الأحيان، تدفع المتشدِّدين في اتجاهٍ أكثرَ تشددًا وأكثر خطورة على الأرجح عن طريق «الإشارة إلى قوًى تتجاوز نطاق سيطرتنا، أو الإشارة إلى عدوٍّ لكراهيته، أو الفصل الحاد بين المنتمين للجماعة وغير المنتمين لها، وأحيانًا، إضفاء صفة الشرعية على العنف.» لكن الأمر لم يكن واضح المعالم تمامًا. فقد توصَّل أيضًا بارتليت وميلر إلى أن الكثير من الجماعات تُصدِّق نظريات المؤامرة دون اللجوء إلى العنف (على غِرار حركةِ حقيقة أحداث الحادي عشرَ من سبتمبر) ولم تُصدق الكثير من الجماعات المتشددة العنيفة نظريات المؤامرة فيما يبدو (على غرار الجيش الجمهوري الأيرلندي الحقيقي، وهو قوة قومية شِبهُ عسكرية).
هذا كافٍ فيما يخصُّ الجماعاتِ المتشددةَ المنظمة. ماذا عن الأشخاص العاديِّين. في عام ٢٠١٢، طلب جو أوسينسكي وجوزيف بيرانت من ١٢٠٠ أمريكي أن يُجيبوا عن استطلاع رأيٍ صُمِّم من أجل معرفةِ ما إذا كان الأشخاص الذين يُصدِّقون نظريات المؤامرة لديهم ميول ربما تدفعهم إلى العنف. كانت النتائج متضاربةً بالمثل. فمن المفارقة أنه كلما زاد تصديقُ أحدهم نظريات المؤامرة، زادت احتماليةُ تحبيذه لقوانينِ رقابة على الأسلحة أقلَّ صرامة، وقَبولُه لعبارات على غِرار «يكون العنف أحيانًا طريقةً مقبولة للتعبير عن الاختلاف مع الحكومة»، و«العنف كطريقةٍ مقبولة لمنع الجماعات السياسية المتطرفة في بلدنا من إلحاق الضرر.» ولكن الشيء المطمئن أكثر أن أغلبية الناس — حتى بين أكثرِ أصحاب نظريات المؤامرة حَميَّة — قالوا إنهم يُعارضون استخدام العنف السياسي.
إذن فيما يخصُّ حَلْقة الوصل بين نظريات المؤامرة والتطرف العنيف، ثمَّة بعض الاحتمالات المقلقة، إلى جانبِ عددٍ قليل جدًّا من الجوانب اليقينية. فليس هناك جدالٌ في أن بعضًا من نظريات المؤامرة، في ظل ظروفٍ معينة، تصبح لديها القدرةُ على دفع أشخاص معيَّنين إلى ارتكابِ فظائع، لا سيما — كما أوضح الصحفي تشيب بيرليت — عندما يعتمدون على تحاملات أو أحكام مسبقة قائمة بالفعل، ويلجَئون إلى شيطنةِ أعدائهم الضعفاء أو استخدامهم ككِباش فداء، زاعمين أنه يتعيَّن اتخاذُ إجراء عاجل. ومع ذلك، من السابق لأوانه (فضلًا عن انطواء الأمر على شيءٍ من جنون الاضطهاد) أن نتصوَّر أن هناك جحافلَ من أصحاب نظريات المؤامرة الناقمين يترصدون لنا. فتصديق نظريات المؤامرة لا يؤدي بالضرورة إلى العنف. بل على النقيض من ذلك، معظم أصحاب نظريات المؤامرة يقولون إن العنف السياسي ليس تكتيكًا مقبولًا، وأغلب مَن يقولون إنه مقبولٌ لن يتصرفوا أبدًا بناءً على آرائهم تلك. يوضح أوسينسكي وبيرانت أنه «لو فُرض أن واحدًا بالمائة من السكان أيَّدوا بشدةٍ هذا التوجُّهَ بقوةٍ تكفي لاتخاذهم إجراءً عنيفًا، لملأَت الدماء الشوارع يوميًّا.»
وأعمال العنف والإرهاب المأساوية التي تتصدَّر عناوينَ الصحف تستحوذ على اهتمامنا دون شك. لكن العواقب المحتملة لتصديق نظريات المؤامرة ليست دراماتيكيةً على نحوٍ يجعلها تُثير قلقًا. فآثارها تكون خفيةً في بعض الأحيان.
خيارات مُميتة
ستيفاني ماسنجر مؤلِّفةٌ أسترالية لكتب تربوية للأطفال تنشرها على نفقتها الشخصية، ومن بينها «لا تتنمَّر على بيلي» و«زيارة سارة لمعالجٍ بالمداواة الطبيعية». في عام ٢٠١٢، نشرت ماسنجر كتابًا، ذكرَت عنه المواد الترويجية أنه «يصحب الأطفال في رحلةٍ يتعلَّمون خلالها كيف أن التطعيمات غيرُ مُجدية ويعرفون أنه لا داعيَ لأن يخافوا من أمراض الطفولة، مثل الحصبة والجُديري المائي.» وتوضح النبذة الموجودة على الغلاف الخلفي للكتاب كيف أننا أصبحنا هدفًا لرسائل تحثُّنا على الخوف من الأمراض ومن الناس الذين لديهم «مصلحة أكيدة» في بيع «لقاحٍ أو دواءٍ ما».
في عام ١٩٦٢، عندما قضت الحصبةُ على حياة أوليفيا، لم يكن يتوفَّر حينها لقاحٌ. وكان الجميع تقريبًا يُصابون بالحصبة في مرحلةٍ ما من طفولتهم. كان الغالبية يتعافَون دون أي ضررٍ مُستديم، لكن المرض كان يفتك بقرابة ١٠٠ طفلٍ في المملكة المتحدة وأكثر من ٤٠٠ في أمريكا كلَّ عام، وكان يُودَع بسببه عشراتُ الآلاف غيرُهم في المستشفيات، ويؤدي إلى إصابة البعض بالعمى وآخَرين بالتلف الدماغي. وعندما أُجيز استخدام لقاح في الولايات المتحدة بعد انقضاء عامٍ، أي في عام ١٩٦٣، هبط عدد الأشخاص الذين أُصيبوا بالحصبة بنسبة ٩٨٪. وقد اختتم دال كلامه قائلًا: «أعتقد أن الآباء الذين يرفضون الآن تطعيمَ أطفالهم يُعرِّضون حياتهم للخطر.»
لحسن الحظ، لدينا الآن لقاحٌ لا يقي من الحصبة فحسب، بل يوفِّر الوقايةَ كذلك من التهاب الغدة النكفية والحصبة الألمانية: التطعيم الثلاثي ضد الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية. وفق تقديراتِ منظمة الصحة العالمية، أنقذ التطعيمُ ضد الحصبة في المدَّة ما بين عامَي ٢٠٠٠ و٢٠١٣، أكثرَ من ١٥ مليون شخصٍ حول العالم. لكن، لسوء الحظ، منذ أواخر تسعينيَّات القرن العشرين، كان التطعيم الثلاثي ضد الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية مثارَ جدلٍ محتدم وخوفٍ شديد، يستند إلى فكرٍ مؤامراتي خفي في كثير من الأحيان.
•••
بدأت المشكلة مع التطعيم الثلاثي في المملكة المتحدة. فعندما طُرح اللقاح للمرة الأولى عام ١٩٨٨، حقَّق نجاحًا على الفور. ففي العام الأول، أخذ التطعيمَ مليونُ طفل. وخلال الأعوام العشرة التالية، ظلَّت نسبة تناول اللقاح أكثرَ من ٩٠٪. ثم في عام ١٩٩٨، نشر طبيبٌ يُدعى أندرو ويكفيلد، بالتعاون مع فريق من الزملاء، دراسةً أثارت الجدل. في تلك الدراسة، التي نشرتها دوريةٌ طبية رائدة هي «ذا لانسيت»، زعم ويكفيلد وزملاؤه أنهم اكتشفوا فيروس الحصبة في أمعاء عددٍ من أطفال التوحُّد. وتكهنت الدراسة بأن التطعيم الثلاثي ربما لعب دورًا في إصابة الأطفال بالتوحد، لكنها أوضحت أن النتائج غيرُ كافية لإثبات تلك العلاقة. ورغم ذلك، نقل ويكفيلد هذه النتائج مباشرةً إلى وسائل الإعلام. ففي مؤتمر صحفي عُقد قبل نشر الدراسة بيومٍ واحد — وقد رفض العديد من الباحثين المشاركين في الدراسة الحضور — زعم ويكفيلد أن الخطر الذي يُشكِّله التطعيم الثلاثي هائلٌ بحيث يتعيَّن سحبُ اللقاح على الفور، كما يتعيَّن أن تُعطى جرعاتٌ مُستقلة لكلٍّ من الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية؛ بحيث يفصل كلًّا منها عن الأخرى عامٌ بدلًا من ذلك. (جديرٌ بالذكر أن ويكفيلد نفسَه، لم يُعارض التطعيم مطلقًا؛ في الواقع، كان يُصر على أن اللقاحات جزءٌ لا غِنَى عنه في الرعاية الصحية؛ كلُّ ما هنالك أنه واصل زعمه أن التطعيم الثلاثي له علاقة بالتوحُّد.)
من المعلوم أن الآباء القلقين يتأثَّرون بوسائل الإعلام، وليس هناك دليلٌ أفضل على ذلك من الفزع الذي أعقب إعلانَ ويكفيلد المزعج. كان الاهتمام بالخبر بسيطًا في البداية. ففي عام ١٩٩٨، وهو العام الذي عُقد فيه مؤتمر ويكفيلد الصحفي، نقل عدد من وكالات الأنباء ادِّعاءه، وبدأت معدلات أخذ اللقاح في التراجع على نحوٍ طفيف. لكنه بحلول عام ٢٠٠١، بدأ الخبر ينتشر ويؤثِّر. فعلى مدار عدة سنوات، حَظِيَت الفكرة القائلة بأن التطعيم الثلاثي يؤدي إلى الإصابة بالتوحُّد بتغطيةٍ إعلامية في وسائل الإعلام البريطانية أكثرَ من أي خبرٍ عِلمي آخر. وعندما بلغت التغطيةُ المثيرة للهلع ذِروتَها في المدة ما بين عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٣، تراجعت معدلات تناول اللقاح لتصل إلى ٨٠٪. وفي بعض المناطق من البلاد، لا سيما في جهات من لندن، انخفضت معدلاتُ التطعيم بشدة.
وقد أدَّى تراجعُ معدلات التطعيم إلى نوباتِ تفشٍّ للأمراض التي يقي منها اللقاح. وقد ظهرَت نوبة التفشِّي الأولى في دبلن عام ٢٠٠٠؛ حيث كانت معدلات التطعيم أقلَّ بالفعل من معدلاته في لندن. وقد أُبلغ عن قرابة ١٦٠٠ حالة إصابة بالحصبة. وأُدخِل أكثر من ١٠٠ طفل المُستشفيات بسبب مضاعفات خطيرة، وتُوفِّي ثلاثة منهم. وقد تُوفِّي صبيٌّ يبلغ من العمر ١٣ عامًا في إنجلترا وذلك في عام ٢٠٠٦، ليصبح بذلك أولَ شخص يموت بسبب الحصبة في إنجلترا منذ عام ١٩٩٤. وفي عام ٢٠٠٨، أُعلنت الحصبة وباءً في المملكة المتحدة للمرة الأولى خلال ١٤ عامًا. وفي عام ٢٠١٢، ظهر أكثرُ من ٢٠٠٠ حالة إصابة بالحصبة في إنجلترا وويلز؛ التأثير الأكبر طال أطفالًا ومراهقين كان آباؤهم قد رفَضوا التطعيم الثلاثي قبل ذلك بسنوات. وفي عام ٢٠١٣، ظهرت نوبةُ تفشٍّ أخرى في ويلز؛ حيث أُصيب أكثر من ١٠٠٠ شخص، أُودع المستشفى على أثرها ٨٨ شخصًا وتُوفِّي بسببها رجلٌ يبلغ من العمر ٢٥ عامًا.
وفي عام ٢٠٠٤، تبيَّن أن كل الجدل الدائر حول تسبُّب التطعيم الثلاثي في التوحُّد كان قائمًا على كذبة. فقد كشف المحقِّق الصحفي براين دير أدلةً تُفيد بأنه قبل بدء ويكفيلد دراسته البحثية، كان قد شارك في طلب الحصول على براءة اختراع لبديلٍ زُعم أنه أكثرُ أمانًا من لقاح التطعيم الثلاثي. كما أنه كان قد حصل أيضًا على مبلغ مالي في حدود نصف مليون جنيه من شركة محاماةٍ متخصصة في مجال الضرر الشخصي من أجل إجراء الدراسة البحثية، وكانت شركة المحاماة ذاتها قد أحالت إلى ويكفيلد آباءً اعتقدوا أن أطفالهم قد أُضيروا بسبب اللقاح، بحيث يُمكنه الاستعانة بهؤلاء الأطفال في دراسته. لكن عدم إعلان ويكفيلد عن تعارض المصالح كان أقلَّ إساءةٍ فعلَها. فقد اكتشف دير أن الدراسة التي تضمنَت إخضاع الأطفال الذين يُعانون تأخُّرًا في النمو لإجراءات طبية جراحية، لم تكن قد حصلت على إجازة أخلاقية. وأخيرًا، اتضح أن ويكفيلد ربما يكون قد تلاعب بعناصرَ من التاريخ المرَضي للأطفال بما ينسجم مع نظرية التوحُّد الناتج عن التطعيم الثلاثي، وقد أشار أحد زملاء ويكفيلد في العمل إلى أن الأخير قد نقل، رغم علمه، نتائجَ اختباراتٍ غير صحيحة. وفي نهاية المطاف، سُحبت الدراسة، كما سُحبت رخصةُ ممارسة الطب في المملكة المتحدة من ويكفيلد.
أرى أنه من العدل أن نقول إن هذا كلَّه أمرٌ سيِّئ، لكن لا يتعيَّن علينا بالضرورة أن نرفض الافتراض القائل بأن التطعيم الثلاثي يتسبَّب بدرجةٍ ما أو بأخرى في التوحُّد على أساسِ سلوك ويكفيلد وحده. فمنذ أن نُشرت دراسته، اكتشفت عشَرات الدراسات الكبيرة المستقلة التي أُجريت بشكلٍ جيد وشملَت مئات الآلاف من الأطفال في أنحاء قاراتٍ عديدة أنه ليس هناك علاقةٌ من أي نوعٍ بين لقاح التطعيم الثلاثي والتوحُّد. وقد أوضح بول أوفيت، طبيب الأطفال واختصاصي علم المناعة، أننا ما زلنا لا ندري على سبيل اليقين ما هي بالضبط العواملُ التي تُسبِّب التوحد، لكننا يُمكننا أن نقول حاليًّا بقدر كبير من التأكد إن اللقاحات يُمكن شطبها من قائمة العوامل المُشتبَه بها.
وبالرغم من نزعِ الثقة من دراسة ويكفيلد تمامًا، وبالرغم من وجاهة الأدلة المعارضة لمزاعِمه، لا تزال هناك مخاوفُ من التطعيم الثلاثي في بريطانيا وغيرها من دول العالم. فلم يستغرق الأمرُ وقتًا طويلًا حتى عبَر الفزعُ من التطعيم الثلاثي المحيطَ الأطلسي، حيث تبنَّى مشاهيرُ أمثال جيني مكارثي وصديقها جيم كاري قضية مناهضة التطعيم. وبمرور الوقت، تطورت المزاعم وأفرزَت مخاوفَ أخرى. وكان من بين الشواغل في الولايات المتحدة وجودُ مادة حافظة معتمِدة على الزئبق، وهي مادة ثيمْيروسال، في لقاحات متنوعة، وقد اعتبر بعضُ النشطاء المناهضين للقاح هذه المادةَ المسئولة عن زيادة شيوع التوحد. (أظهرت الدراسات أن هذا الزعم خطأٌ كذلك.) بالنِّسبة إلى الكثيرين من الآباء القلقين، فقد ألقى الجدلُ بظلالٍ من الشكِّ والرِّيبة على الجدول الزمني للقاح بكامله. فوفقًا لدراسة أُجريت عام ٢٠٠٩، رفض أكثرُ من واحدٍ بين كل ١٠ آباء أمريكيين لقاحًا واحدًا على الأقل أُوصي به لطفلهم، وضِعف عدد الآباء اختاروا تأجيل جرعاتٍ معينة، تاركين طفلَهم بلا حماية وقتًا أطول.
ويظل ويكفيلد رمزًا استقطابيًّا، أو بعبارة أخرى: بطلًا في نظر البعض ومحتالًا خطيرًا في نظرِ آخَرين. وقد وصفت مقالةٌ حديثة كُتبت في أعقاب نوبة تفشٍّ للحصبة بدأت في ديزني لاند في ولاية كاليفورنيا في ديسمبر ٢٠١٤، ويكفيلد بأنه «رائد الحركة المناهضة للقاحات». ومع ذلك، فإن المخاوف التي لا سندَ لها تسبق أندرو ويكفيلد. في الواقع، لم تكن هذه المرة الأولى التي يذهب فيها طبيبٌ بريطاني إلى وسائل الإعلام بمزاعمَ مُختلَقة حول أضرارٍ ترتبط باللقاحات. فقد وقع حادثٌ مشابهٌ وشديد الغرابة قبل ويكفيلد ببضعة عقود.
•••
نوبات السُّعال التي لا يُمكن السيطرة عليها هي أكثر أعراض السعال الديكي شيوعًا. فبسبب الضيقِ الذي يحدث في الحلق، فإن المشقة التي يجدها المرء ليأخذ نفَسًا ينجم عنها في بعض الأحيان صوتٌ عالٍ يُشبه صياح الديكة، وهذا هو السبب وراء تسميته بهذا الاسم. ويمكن أن يكون السعال شديدًا بما يكفي لإحداث نزيفٍ في مُقلتَي العينين، وكسرٍ في الضلوع والفتوق. وفي الحالات الحادة، يمكن أن يستمرَّ السعال مدةً تصل إلى أربعة أشهر، مؤديًا في بعض الأحيان إلى سوء التغذية وفقدان البصر أو حاسة السمع أو تلف الدماغ. لكن السعال الديكي أشدُّ خطرًا على الأطفال. فالأطفال لا يصدر عنهم صوتُ الصياح، وبدلًا من ذلك، يعجزون عن التنفس، وأحيانًا يزرقُّ لونُهم ويموتون في هدوء. وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية، فإن ٢٠٠ ألف شخص تقريبًا يموتون كلَّ عام بسبب السعال الديكي في أنحاء العالم، وأغلب هؤلاء من الأطفال الصغار في الدول النامية.
ولحسن الحظ، فإن لدينا لقاحًا لا يحمي من السعال الديكي فحسب، بل يحمي أيضًا من الدفتيريا والتيتانوس؛ وهو اللقاح الثلاثي البكتيري (دي بي تي). لكن، للأسف الشديد، في سبعينيَّات وثمانينيات القرن العشرين، أصبح هذا اللقاح مثارَ جدلٍ محتدم وخوفٍ شديد، استند جانبٌ كبيرٌ منهما على نظريات المؤامرة.
ففي عام ١٩٧٣، قدَّم طبيب بريطاني يُدعى جون ويلسون عرضًا في مؤتمر أكاديمي زعم فيه أن مكوِّن السعال الديكي في اللقاح الثلاثي البكتيري كان يُسبِّب نوبات صرعٍ وتلف دماغي لدى الأطفال. استندت الدراسة البحثية إلى عدد صغير من الأطفال، وقد تبيَّن بعدها أنه حدث خطأٌ في تشخيص حالات الأطفال وأن البعض منهم لم يتلقَّ أصلًا اللقاح الثلاثي البكتيري. وبرغم ذلك، نقل ويلسون نتائجه إلى وسائل الإعلام، وظهر على شاشة التليفزيون وقتَ ذروة المشاهدة في برنامجٍ عرَض صورًا مُفزعة لأطفال مرضى، وزعم أن مئات الأطفال البريطانيين يعانون تلفًا دماغيًّا كلَّ عام نتيجةً للقاح الثلاثي البكتيري. وقد تراجع معدل تناول اللقاح الثلاثي البكتيري من نحو ٨٠٪ في بداية العقد إلى ٣١٪ فقط بحلول عام ١٩٧٨. وقد أعقبت ذلك جائحةُ السعال الديكي خلال عامي ١٩٧٨ و١٩٧٩؛ حيث أُبلغ عن مئات الآلاف من الحالات المصابة بالسعال الديكي في إنجلترا وويلز. ووفق التقديرات، لقي نحوُ ٦٠٠ طفل حتفه في تلك الجائحة.
وبالرغم من مثالب نظرية ويلسون، وأيضًا العدد المتنامي من الدراسات التي صرَّحَت بأنه لا توجد أدلةٌ على العلاقة المزعومة بين اللقاح الثلاثي البكتيري والتلف الدماغي، وصل الخوف بحلول أوائل الثمانينيات من القرن العشرين إلى أمريكا. وفي فيلم وثائقي عُرض عام ١٩٨٢ تحت اسم «دي بي تي: مقامرة اللقاحات» على شاشة التليفزيون الأمريكي. ومثلما عُرض في البرنامج البريطاني، كان الفيلم مليئًا بالمشاهد المؤثرة لأطفالٍ زُعم أنهم أُضيروا بسبب اللقاح الثلاثي البكتيري. وقد وارَت الحكومةُ أو تجاهلت الضرر وكذلك فعلَت المؤسسة الطبية؛ على حدِّ زعم الفيلم الوثائقي. صحيح أن الفيلم لم يطلب من الآباء بشكلٍ مباشر التوقُّفَ عن تطعيم أطفالهم، لكن الرسالة الضمنية كانت واضحة.
شاهدت إحدى الأمهات وتُدعى باربرا لو فيشر، فيلم «مقامرة اللقاحات»، وأصبحت تعتقد أن ابنها أُضير بسبب اللقاح الثلاثي البكتيري. وقد أسَّست فيشر بالتعاون مع آباءٍ آخَرين اعتقدوا أن أطفالهم أُضيروا بسبب اللقاحات جمعيةً أطلقت على نفسها اسم «الآباء الساخطون معًا». ولا تزال الجمعية قائمةً إلى الآن، لكن تغيَّر اسُمها ليصبح «المركز الوطني للمعلومات حول اللقاحات». وقد عكس التغيير في الاسم حقيقة أن عدم ثقتهم باللقاحات قد اتسعَ نطاقها بما يتجاوز اللقاح الثلاثي البكتيري. وبمرور السنين، شكَّكت جمعية فيشر وجمعياتٌ أخرى مشابهةٌ في أمانِ وفعالية كلِّ لقاحٍ تقريبًا يُتداول استخدامه.
هذا يُعيدنا إلى حيث بدأنا. احتوت طبعة ٢ مايو ١٩٩٨ من دورية «ذا لانسيت» على خطابٍ إلى المحرِّر بقلم باربرا لو فيشر ذاتها. فقد أشارت إلى مقالةٍ نقدية لدراسة أندرو ويكفيلد باعتبارها «ضربة استباقيَّة من قِبَل واضعي سياسات اللقاحات الأمريكيين.» وفي إيماءةٍ إلى الدوافع الشنيعة، كتبت فيشر تقول: «لعله من المفهوم أن مسئولي الصحة يسحبون ثقتهم من الأبحاث السريرية المُستجِدَّة في مجال الآلية البيولوجية للمشكلات الصحية ذات الصلة باللقاحات عندما رفَضوا بتصميمٍ إجراءَ هذا النوع من الأبحاث العلمية الأساسية بأنفسهم.» وقد منح مركز فيشر الوطني للمعلومات حول اللقاحات جائزة «الشجاعة في مجال العلم» في وقت لاحق لأندرو ويكفيلد.
لذا فإن الجائحة الحالية للخوف من التطعيم الثلاثي ما هي بصورة أو بأخرى سوى امتدادٍ للقلق من اللقاحات الذي تفاقم في سبعينيَّات القرن العشرين. في الواقع، أصبح الناس قلقين من أمان اللقاحات ودوافع مُصنعيها وبائعيها منذ اكتشاف أول لقاح على الإطلاق.
الجدل حول لقاح الجُدري
من الأعراض الشائعة لمرض الجُدري الرائحة الكريهة والبثور المؤلمة بشدةٍ والمليئة بالقيح في جميع أجزاء الوجه والجسم. والقرحات التي تنفتح داخل الفم تصبُّ جسيمات فيروسية في الفم والحلق، ما يعني أن المرض مُعدٍ بشدة؛ حيث ينتشر بالسعال والعطس، بل وحتى الكلام. وقد لقي واحدٌ بين كل ثلاثة أشخاص بالِغينَ مصابين بالعدوى حتفهم، وأربعة من بين كل خمسة أطفال. أما الذين نجَوا من المرض فكثيرًا ما أصبحوا مشوَّهين أو، وهو الأسوأ، أُصيب الكثيرون منهم بالعمى وأُجهضت الحوامل وحدث تأخرٌ في نمو الأطفال.
فتك الجدري بأناسٍ أكثرَ من أي مرضٍ آخر على الإطلاق في التاريخ. ففي عام ١٩٦٧، قتل الجدري ما يُقدِّر بمليونَي شخص حول العالم في ذاك العام وحده. وقد شكَّل الفيروس مجرى التاريخ. فقد حدثت انتصاراتٌ وهزائمُ في المعارك والحروب بسبب نوبات تفشي الجدري. وفتك بملوك وحكام. كما ساعد في تمهيد الطريق أمام استعمار الأمريكتَين الشمالية والجنوبية من قِبل المستوطنين الأوروبيين بقتل ملايين السكان الأصليين.
لحسن الحظ أنك لن تُصاب بالجدري. فقد استُؤصل المرض من البرِّية بفضل اكتشافِ أول لقاح في العالم منذ قرنين من الزمان. لكن الممارسات الجديدة في التطعيم أدَّت إلى القلق من اللقاح وإلى حشدِ حركاتٍ مناوِئة للقاحات لا تزال قائمةً حتى يومنا هذا.
لكن هذا الإنجاز لم يبهر الجميع. فسرعان ما ظهر معارضون في بقاعٍ شتَّى للقاح. وكانت الاعتراضات على اللقاح تستند إلى أسسٍ دينية؛ فقد زُعم أن تطعيم المرء نفسَه اعتراضٌ على المشيئة الإلهية. واعترض آخرون استنادًا إلى حججٍ اقتصادية، أو لمجرد تأفُّفِهم من حقيقة أن اللقاح مشتقٌّ من أبقارٍ مريضة، إضافة إلى عدم وثوقهم في الأطباء الذين يُعطون هذا اللقاح. بحلول عام ١٨٠٠، اضطُرَّ جينر إلى الدفاع عن لقاحه من المنتقصين من أهميته، فكتب يقول: «المساعي الواهية من قِبَل قلةٍ قليلة من أجل التحقير من شأن الإجراء الجديد سرعان ما ستُصبح مثارَ ازدراء.» لكن تفاؤله لم يكن في محله.
تعود جذورُ الحركات الأولى المناوئة للقاحات والمُنظمة بحقٍّ إلى قوانين التطعيم الإجباري التي أقرَّها البرلمان البريطاني في خمسينيَّات وستينيَّات القرن التاسع عشر. فالقانون الأول، الذي طُرح في عام ١٨٥٣، هدَّد الآباءَ الذين لم يتناول أطفالُهم اللقاحَ بالغرامات المالية والسجن. وقد حظي القانونُ في البداية بقَبولٍ كبير، ويرجع السبب الرئيس في ذلك إلى جائحةٍ شديدة السوء اكتسحت إنجلترا قبل إصدار القانون بعامٍ، لكن معدلات التطعيم انخفضت من جديد عندما أدرك الناسُ أن القانون لم يُفرض تنفيذُه ببساطة. فأجاز البرلمان قانونًا أكثرَ صرامة في عام ١٨٦٧. وكردةِ فعل على هذَين القانونين، تشكَّلت أولى الحركات المنظمة المناوئة للتطعيم. فقد زعم منتقدو اللقاح أنه عديمُ الجدوى في أفضل الحالات، وأنه تدليسٌ أو سمٌّ في أسوَئها. وبحلول عام ١٩٠٠، ظهر قرابة ٢٠٠ جماعةٍ مناوئة للتطعيم في أنحاء إنجلترا. وأعقبَتها الولايات المتحدة فقد بدأت الجمعيات الأمريكية المناوئة للتطعيم في الظهور على الساحة في سبعينيَّات القرن التاسع عشر.
في عام ١٨٩٨، حقَّق منتقدو اللقاح الإنجليز نصرًا. فقد أذعنت لهم الحكومةُ البريطانية؛ إذ أقرَّت قانونًا سمح للمعارضين الواعين المزعومين أن يختاروا عدم تطعيم أطفالهم. وقد جرى تسهيل الحصول على شهادات الاعتراض في عام ١٩٠٧. ومن ثَم شهدت معدلات التطعيم انخفاضًا، وارتفعت نوباتُ تفشِّي الجدري من جديد في أنحاء إنجلترا. وفي اسكتلندا وأيرلندا المجاروتَين؛ حيث لم تكن الحركات المناوئة للتطعيم اكتسبت القدرَ نفسَه من التأثير بعد، استمر قَبول التطعيم واستمرت معدلات الجدري في الانخفاض.
•••
إذن فالقلق من اللقاح كان أحدَ الأعراض الجانبية للَّقاح الأول ذاتِه، ولم تنجلِ الأعراض تمامًا قط. ولعل الشيء اللافتَ بشأن الانزعاج الطويلِ الأمد من اللقاحات هو مدى ضآلة التغيير الذي طال الحجج الجدلية المطروحة على مر القرون. فقد ابتكر منتقدو جينر رسومًا كارتونية منمقة تُصوِّر الأطباء وحوشًا عديمةَ المشاعر، عازمةً على التضحية بالأطفال الأبرياء العديمي الحيلة. وكتب المناوئون للقاحاتِ في القرن الحادي والعشرين منشورات في مدوناتٍ حملت عناوينَ كثيرةً على غرار «الأطباء يريدون نفوذًا من أجل قتل الأطفال الأبرياء.» وزعم نشطاءُ القرن التاسع عشر أن لقاح الجدري احتوى على «سمِّ الأفاعي ودماء وأحشاء وإفرازات الخفافيش والضفادع والجِراء»، ودافعوا عن حقِّهم في أن يبقَوا «أنقياء وغير مُلوَّثين». أما حركة «اللقاحات الخضراء» الحديثة فلم يبلغ بها الحدُّ لتقول إن اللقاحات تحتوي على أحشاء، لكنها لا تزال ترى أن اللقاحات تحتوي على سموم بما يشمل مذيبًا لمنع التجمُّد وطاردًا للحشرات ومُبيدًا للنُّطف. وقد أوضح بول أوفيت أن المخاوفَ الحاليَّة من مسألة أن التطعيم الثلاثي يُسبِّب بطريقةٍ أو بأخرى التوحُّد هي منطقيةٌ بالقدْرِ نفسِه تقريبًا، من الناحية البيولوجية، مثل منطقية الزعم الذي جرى تداوله كثيرًا في أوائل العقد الأول من القرن التاسع عشر، الذي كان ينادي أصحابه بأن لقاح الجدري يؤدي إلى نمو قرون لدى مَن يتلقَّونه، ويجعلهم يسيرون على أربعٍ ويخورون كما تخور الأبقار.
وخلال كل ذلك، ظهرت نظرياتٌ تزعم أن مؤامرةً دولية كبيرة للتهويل من مخاطرِ الأمراض التي تُعالجها تلك اللقاحات، ولإخفاء حقيقة الأعراض الجانبية للقاحات، ولضمانِ تحقيق الشركات الدوائية الكبرى والحكومة أرباحًا. وقد كتب أحدُ النشطاء البريطانيين في القرن التاسع عشر عن الجدري يقول: «هذا الرعب من العدوى مختلَق، يُعززه الأطباء، إن لم يكونوا هم مَن صنعوه من الأساس، كوسيلة لتعزيز أهميتهم وإحكام قبضتهم على الأمة التي لطالما كانت عديمةَ الحيلة وبلا حَراكٍ في قبضتهم.» وبعد انقضاء أكثرَ من قرن، وصفت باربرا لو فيشر لقاح فيروس الورم الحليمي البشري بأنه «أحد أكبر خُطط تحقيق الأرباح المادية في تاريخ الطب.»
في بعض أنحاء العالم، دفعت المخاوف المؤامراتية بشأن اللقاحات إلى تدابيرَ أكثرَ شدةً من مجرَّد اختيار عدم تلقي التطعيمات. ففي أجزاء من باكستان، انتقد الزعماء الدينيون المحليون التطعيمات معتبِرين إياها خطةً أمريكية لإصابة المسلمين بالعقم. ووفقًا لهيئة الإذاعة البريطانية، قُتل أكثر من ٦٠ شخصًا من العاملين في مجال التطعيم ضد شلل الأطفال أو سائقيهم أو حرَّاسهم في باكستان منذ عام ٢٠١٢. (تجدر الإشارة إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عزَّزَت دون قصدٍ من عدم الثقة من خلال تأسيسها برنامجَ تطعيمٍ زائفًا في أبوت آباد في عام ٢٠١١، كجزء من سعيها للتأكد من مكانِ وجودِ أسامة بن لادن عن طريق تكليف موظَّفي اللقاحات سرًّا بأن يجمعوا عينات الحمض النووي من أفراد أسرة أسامة بن لادن. وعندما انكشفت هذه الخطة التي غاب عنها المنطق، وضعَت جميع العاملين في مجال التطعيمات في البلاد موضعَ اشتباه.) وقد حدثت عمليات قتل مشابهة للعاملين في مجال تطعيماتِ شلل الأطفال في نيجيريا. وليس من قبيل الصدفة، أن باكستان ونيجيريا هما اثنان من ثلاثة بلدان فقط على مستوى العالم لا يزال شللُ الأطفال يُشكِّل وباءً مُتوطِّنًا فيها.
•••
بطبيعة الحال، ليس جميع الآباء الذين لديهم أطفالٌ لا يتلقَّون التطعيمات أصحابَ نظريات مؤامرة جامحين. فبعض الأطفال الذين لا يتلقَّون التطعيمات قد لا يزالون صغارًا في السن بدرجةٍ لا تسمح لهم بتناولها. وآخرون لديهم أسبابٌ مرَضية تمنعهم تمامًا من تلقي تلك التطعيمات. وكثير من الآباء الذين لا يلتزمون بالجدول الزمنيِّ الموصى به للتطعيمات يفعلون ذلك، ليس بسبب الخوف من مؤامرة الشركات الدوائية الكبرى، ولكن بسببِ قلةِ ما لديهم من وقتٍ ومالٍ للذَّهاب إلى الطبيب، وبسبب أنهم سقطوا سهوًا من قوائمِ نظام الرعاية الصحية. هؤلاء هم الأطفال الذين يعتمدون على مَناعة القطيع؛ وهي الحماية التي تُكتسَب من مناعةِ معظمِ المحيطين بنا ضدَّ المرض. أما الآباء الذين يؤثِرون عدم تطعيم أطفالهم عن عمدٍ فهُم لا يُعرضون أطفالهم للخطر فحسب، بل يعرضون أطفال الآخرين لذلك أيضًا.
ورغم ذلك، ربما يكون من الخطأ شيطنةُ الآباء الذين يُؤثِرون عدم تلقي أطفالهم اللقاحات. فهؤلاء الآباء يملكون الوعيَ والحنان والاهتمام والنوايا الطيبة ويتمتعون بقدرٍ جيد من التعليم والاطلاع في أغلب الأحيان. وبسبب قلةٍ صغيرة ومفوَّهة في الوقت ذاتِه من المناوئين للقاحات، أصبحت شبكة الإنترنت تعجُّ بالمعلومات المضلِّلة المستندة إلى أفكارٍ مؤامراتية تُحرِّضنا على عدم الوثوق باللقاحات. ومما زاد الطين بِلة، أن وسائل الإعلام كثيرًا ما تُصوِّر الجدل بشيء من التحيُّز وغياب الحيادية. فقد سمع أغلب الآباء بالمزاعم المتعلقة بالتوحُّد واللقاحات، ووفقًا لدراسة حديثة، فإن مجرد القراءة عن نظريات المؤامرة المناوئة للتطعيمات يمكن أن يُقلل من رغبة الآباء في تطعيم أطفالهم. (سوف نتحدَّث بمزيدٍ من التفصيل لما يُسهِّل على الآباء القلقين تصديقَ المزاعم القائلة بأن اللقاحات قد تسبِّب ضررًا، وذلك في الفصل الثامن.)
العِلم واضح: اللقاحات لا تُسبِّب التوحُّد. لكن نظريات المؤامرة تُقوِّض ثقتَنا في العِلم، مطلقةً العِنان للجدل بأن يستمرَّ طويلًا حتى بعد حسمِ جميع الأمور.
محارَبةُ طواحين الهواء
إذن يترتَّب على نظريات المؤامرة حصدٌ لكثير من الأرواح. ففي حالة التطرفِ العنيف، يمكن أن تستغلَّ نظريات المؤامرة أسوأَ ما فينا من تحيُّزات وتحاملات؛ وفي حالة الخوف من اللقاحات، يمكن أن تلعب نظريات المؤامرة على وتر رغبتنا في حماية أحبائنا وأعزِّ مَن نملك. لكن قبل أن نفرَّ هاربين للنجاة بأنفسنا، تجدر الإشارة إلى أن معظم نظريات المؤامرة مصنوعةٌ من مادة أقل إحراقًا. فعندما يعتقد الناس أن اليهود منخرطون في مؤامرةٍ مُروعة، أو أن اللقاحات التي تنقذ الأرواح هي سمٌّ، فالأمرُ يكون مقلقًا. وعندما يعتقدون أن إلفيس لا يزال على قيد الحياة وبصحة جيدة ويعيش في كالامازو بولاية ميشيجان، فالأرجح أن الأمر لا يضطرُّنا إلى التفكير طويلًا بشأنه.
وبرغم ذلك، حتى الأفكار التي تبدو أكثرَ براءةً قد يكون لها عواقبُ سيئة. ففي عام ١٩٩٥، أجرى ثلاثة من اختصاصيِّي علم النفس بجامعة ستانفورد تحت إشراف ليزا باتلر حواراتٍ مع الناس قبل مشاهدتهم فيلم «جون إف كينيدي» (جيه إف كيه) للمخرج أوليفر ستون — وهو الفيلم المشحون بالمؤامراتية وقد عُرض في عام ١٩٩١ — وبعد مشاهدتهم الفيلم مباشرة. ومقارنةً بآراء الناس قبل مشاهدة الفيلم، قال الناس بعد مشاهدتهم الفيلم إنهم لن يُصوِّتوا على الأرجح في الانتخابات المقبلة، وإنهم لن يتبرَّعوا أو يتطوعوا لأي حملات سياسية. فمجرد مشاهدتهم الفيلم أفقدهم، على الأقل مؤقتًا، شيئًا من إيمانهم بالمشاركة المجتمعية.
وقد أجرى جو أوسينسكي وجوزيف بيرانت مؤخرًا دراسةً عن الأمريكيِّين بعد الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠١٢ بفترة قصيرة. وتوصَّلا إلى أنه كلما زاد تصديقُ المرء لنظريات المؤامرة، قلَّت احتمالات تصويته في الانتخابات. كما أنه يصبح أقلَّ رغبةً في تعليق لافتات سياسية أو حضور مؤتمرات أو التطوع لصالح أحد المرشحين أو التبرع بالمال أو الترشُّح لمنصبٍ سياسي. (هؤلاء الذين يُصدِّقون نظريات المؤامرة تزداد احتمالية تصديقهم التلاعبَ في نتائج الانتخابات.)
ويوضح أوسينسكي وبيرانت أن هذا الانسحابَ السياسي هو اتجاهٌ مُخيِّب للآمال بشدة؛ نظرًا إلى أنه كلما انسحب المزيد من أصحاب نظريات المؤامرة من المشهد السياسي العام، قلَّت احتمالاتُ توجُّه الساسةِ إليهم. وازدراء الحياة السياسية أبَديٌّ في ذاته، وهذا عارٌ بحقٍّ؛ لأنه ما من شكٍّ في أن أصحاب نظريات المؤامرة يمكن أن يكونوا مبادرين ومنظِّمين ومؤثِّرين. فهذه المزايا يمكن أن يُستفاد منها استفادةً جيدة بكشف الأفعال الشائنة ومقاومتها. لكن منطق العزلة الذاتية الذي تتَّسم به المؤامراتية معناه أن نظريات المؤامرة في أغلب الأحيان تجعلنا ندور في دوائرَ ذهنيةٍ مفرغة؛ تعقبًا لمتآمرين وهميِّين.
ذات مرة كنتُ في نيويورك في الذِّكرى العاشرة لهجمات الحادي عشرَ من سبتمبر. وبينما أتجوَّل في وسط منهاتن، سمعت أسماءَ الأشخاص الذين لَقُوا حتفهم في الهجمات، يتردَّد أصداؤها في الشوارع الهادئة نوعًا ما من الضاحية المالية، يقرؤها الأصدقاء والمحبون بصوتٍ عالٍ عند النُّصب التذكاري الذي اكتمل إنشاؤه حديثًا في المكان الذي كان يقف فيه البرجان التوءمان شامخَين في وقتٍ من الأوقات. لكن بعد عبوري عدة عمارات جهة الشرق، حجب هذا الصوت هتافٌ ينادي أصحابه «١١ سبتمبر، هدمٌ مدبَّرٌ» و«ثلاثة أبنية، وطائرتان». كان عشَراتُ الناس قد احتشَدوا، وكان الكثيرون منهم يرتدون قُمصانًا سوداءَ اللون تحمل شعارًا مكتوبًا عليه «١١ سبتمبر مَكيدةٌ داخلية!» كما كانوا يحملون لافتاتٍ وشعارات ونشراتٍ وأقراصَ فيديو رقميةً يوزِّعونها على المارَّة. أصبح هذا الاحتشادُ حدثًا سنويًّا، كضيفٍ متطفل يُرافق الفعاليات الرسميةَ لذكرى الحادي عشر من سبتمبر كل عام، يصرف شيئًا من الانتباه عن مشاعر الحزن والألم الحقيقيَّين التي لا تزال تكتنف الكثيرَ من قاطني نيويورك.
علاوةً على ذلك، تصرفُ نظريات المؤامرة الانتباهَ عن المشكلات الحقيقية التي وضعَتها الهجمات في دائرة الضوء. ففي حين أن الحكومة الأمريكية لم تُنفِّذ على الأرجح مؤامرةً شريرة كهذه، فإنه لا يُمكن إعفاؤها كليةً من اللوم. فثَمة أشياءُ كان يمكن، بل وكان ينبغي أن تؤدَّى بطريقةٍ مختلفة لتجنب هجماتِ الحادي عشر من سبتمبر. فمثلًا وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كانت على علمٍ بأن اثنَين من المُختطِفِين كانا يعيشان في الولايات المتحدة لشهور قبل الهجمات. وكان سيصبح لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي السلطةُ للتحقيق مع الرجلين لو أنه علم بوجودهما في البلاد. ذكر لورانس رايت في كتابه «البرج الوشيك»، أحد العملاء المكلَّفين بوحدة أسامة بن لادن التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أرسل مرارًا وتَكرارًا رسائل بالبريد الإلكتروني إلى رؤسائه يطلب منهم تصريحًا بتمرير معلوماتٍ بالغةِ الأهمية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي. ولم يردَّ أحدٌ على رسائله.
لم تكن المشكلةُ هي التآمُرَ داخل الحكومة وإنما عدم الكفاءة. فضَعفُ التواصل بين الوكالات، أو بعبارةٍ أخرى عدمُ إيصال المعلومات لمن يحتاجون إليها بشدة، يجعل الجميع عاجزين عن إبصارِ الخطرِ الواضحِ الموجودِ أمام أعينهم. لقد ارتُكبت أخطاء، وعن طريق التنبيهِ إليها، ربما نصبح قادرين على منع تكرار حدوث الأخطاء ذاتها مستقبلًا. ومع ذلك فإن شبكة الوكالات الأمريكية المختصة بالاستخبارات ومكافحة الإرهاب أصبحت الآن أكثرَ تعقيدًا من أي وقتٍ مضى، بمستويات لا تكفُّ عن الزيادة من البيروقراطية والعمالة الزائدة. فالحكومات تجمع كميات هائلة من المعلومات بشأن التهديدات السياسية (فضلًا عن كم المعلومات الذي تجمعه بشأن ملايينِ المدنيين المسالمين)، ومع ذلك، لا يزال الإرهابيُّون يتسللون عبر الشقوق من غير أن ينتبه إليهم أحد. وغالبًا ما لا تحظى هذه القضايا الحقيقية بالقدر الكبير من الاهتمام الذي تحظى به نظرياتُ المؤامرة من قِبَل عموم الناس ووسائل الإعلام.
بالطبع، لا يمكن أن نعزوَ كل شيء إلى عدم الكفاءة. فثمة مؤامرات حقيقية أيضًا. غير أنه من بين مفارقات المؤامراتية أن المخالفات الحقيقية يكشفها دائمًا الوشاةُ والصحفيون والأكاديميون والمسئولون الذين يعملون داخل النظامِ نفسِه الذي يُفترض أن الفساد تغلغل فيه على نحوٍ يتعذَّر إصلاحه. كتب تشيب بيرليت يقول: «أصحاب نظريات المؤامرة محقُّون في جانبٍ. فثمَّة عدمُ تكافؤٍ في السلطة والامتيازات في هذا العالم — بل وتهديداتٌ للعالم نفسه — بحاجةٍ إلى إصلاحٍ.» ومع ذلك، يرى بيرليت أن المؤامراتية ترتكز في أغلب الأحيان على صرف الانتباه عن العملِ الجادِّ في مجال البحث الاستقصائي والتغيير الاجتماعي. ويتابع: «تُسلط نظريات المؤامرة الضوءَ على الكثير من الأسئلة المذهلة، لكنها قلما تُركز على الإجابات المهمَّة.»
تُلون الرؤية العالمية المؤامراتية العالمَ باللونَين الأبيض والأسود؛ صورة كرتونية لأصحاب نظريات المؤامرة الأشاوس وهم يُواجهون المؤامرات الجِسام. لكن الواقع ظلالٌ رمادية. فمن خلال البحث عن كِباش فداءٍ من متآمرين وهميِّين، تصرف نظريات المؤامرة الانتباهَ عن مشكلاتٍ واقعية يمكن حلُّها. فلا يمكنك أن تُحقِّق نصرًا إذا كنت تُحارب مؤامرةً لا وجود لها أصلًا.