ما معنى نظرية المؤامرة؟
في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، شنَّ مختطفون هجماتهم بالطائرات على برجَي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك ومبنى البنتاجون في العاصمة الأمريكية واشنطن وحقلٍ في بنسلفانيا، ما أودى بحياة ٢٩٩٦ شخصًا. وكان الهجوم قد تم بتخطيطٍ سرِّي من أعضاء تنظيم القاعدة.
أو …
في الحادي عشرَ من سبتمبر ٢٠٠١، شنَّ مختطفون هجماتهم بالطائرات على برجَي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك ومبنى البنتاجون في العاصمة الأمريكية واشنطن وحقلٍ في بنسلفانيا، ما أودى بحياة ٢٩٩٦ شخصًا. وكان الهجوم قد تم بتخطيطٍ سريٍّ من أعضاء الحكومة الأمريكية.
يبدو أن الجميع يعرفون ما تَعنيه نظرية المؤامرة. فهذه العبارة كثيرًا ما تُصادفنا في المواقع الإخبارية العامة ومُنتديات شبكة الإنترنت المغمورة على حدٍّ سواء؛ كثيرًا ما يتفوَّه بها الساسة والمثقَّفون، وتُزين عناوينَ الكتب والأفلام والعروض التليفزيونية؛ كما أنها تُلحَق بتفسيرات بديلة لكل شيء تقريبًا. ومن السهل أن أُعدِّد لك الأمثلة. فالهبوط على سطح القمر كان خُدعة، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية هي المتورطة في قتل كينيدي، والأميرة ديانا قُتلت، والماسونيون ضالعون في أشياءَ سيِّئة، والنظام العالمي الجديد آخذٌ في الهيمنة على العالم.
لكن مجرَّد سرد نظريات المؤامرة لا يُفسِّر المقصود بنظرية المؤامرة. تأمَّل هاتين الروايتين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر. كلتاهما تُقدِّمان تفسيرًا لشيء واحدٍ حدثَ في العالم. وكلتاهما تُفسِّرانه بأنه وقعَ نتيجة مؤامرة. وهذان الزَّعمان، من الناحية النظرية، متماثلان تقريبًا. الاختلاف الوحيد يتمثَّل في الجهة التي يُدَّعى تآمرُها. ومع ذلك فإن روايةً واحدة منهما هي التي يُشار إليها على نطاقٍ واسعٍ بأنها نظريةُ مؤامرة. فما السبب؟ وما الاختلاف؟ وهل يوجد اختلاف؟
عند البحث عن تعريفٍ، فإن اللجوء إلى القواميس هو نقطة بداية جيدة. أضاف قاموس أكسفورد الإنجليزي مصطلحَ نظرية المؤامرة في عام ١٩٩٧: «النظرية التي تُفسِّر وقوع حدث معيَّن أو حدوث ظاهرةٍ ما بأنه ناتجٌ عن مؤامرة بين أطراف ذات مصلحة.» ويقدم قاموس ميريام وبستر الجامعي (الطبعة الحادية عشرة) تفسيرًا مشابهًا، غير أنه يُضيف إيماءة غامضة تُفيد بأنَّ المتورطين قد يكونون ذَوي نفوذ: «نظريةٌ تُفسِّر حدثًا ما أو مجموعةً من الظروف بأنها ناشئةٌ عن خطةٍ سريَّة يضعها متآمرون ذَوو نفوذ في كثير من الأحيان.»
ووفقًا لهذه التعريفات الحرفية، فإنَّ نظرية المؤامرة هي في الأساس نظريةٌ تتعلَّق بتخطيط المؤامرات. لكن عندما ينعَت الناسُ شيئًا ما بأنه نظريةُ مؤامرة، فإنهم لا يتحدَّثون عادةً عن أيِّ مؤامرة قديمة وحَسْب. فبرغم كل شيء، المؤامرات كثيرة للغاية. بدءًا من الجانحِين عن القانون الذين يُخطِّطون لسرقةِ البنوك وصولًا إلى مسئولي الشركات الذين يُخطِّطون لتضليل عملائهم، ومن تهريبِ المخدرات والرِّشوة إلى الانقلابات وعمليات الخطف والاغتيال والهجمات الإرهابية، فإن كثيرًا من الأشياء التي تحدث في العالم هي نتيجةُ مؤامرة بين أطرافٍ ذات مصلحة أو خططٍ سرِّية يُدبِّرها متآمرون أقوياء. وليس هناك من شيء جدير بأن يُذكر فيما يخصُّ وضع نظريات لوجود مؤامرات كهذه. فتعريفنا ينبغي أن يعكس الكيفية التي يستخدم بها الناسُ المصطلحَ فعليًّا، وفي المحادثات العادية، ليست كلُّ نظرية عن مؤامرةٍ ما تصلحُ أن يُطلَق عليها نظرية مؤامرة. فالمصطلح أكبرُ من مجموع أجزائه.
من بين الاعتراضاتِ الشائعة على دراسة نظريات المؤامرة باعتبارها ظاهرةً نفسية أن كل نظرية مُتفردة؛ فالنظريات تتنوَّع بشدةٍ في الأشكال والأحجام، ومن غير المنطقي أن نحشدها جميعًا في سلةٍ واحدة. ففي حين أن تأمُّلَ كلِّ زعمٍ استنادًا إلى أسانيده الثبوتية المتفردة هو الطريقة الوحيدة دون شكٍّ لتحديدِ ما إذا كانت نظريةٌ ما صحيحةً أو لا، فإن هذا الأمر لا يَعْنينا في هذا المقام. فنحن غيرُ مهتمين بنظريات المؤامرة باعتبارها فرضيات تجريبية، ولكن باعتبارها أفكارًا يُصدِّقها الناس أو لا يُصدِّقونها حسبما يقتضي الحال. والحقيقة أنه — برغم جميع اختلافاتها الظاهرة — لو نظرنا تحتَ السطح، وتحديدًا إلى المنطق والبِنْية والافتراضات التي تُشكِّل أساسًا لتلك المزاعم، تبدو نظرياتُ المؤامرة متماثلة.
ليس هناك تعريفٌ جامع مانع. فجميع تعريفات الأفكار المعقَّدة يصعب تحديدها تحديدًا دقيقًا لو فكَّرتَ فيها وقتًا طويلًا بما فيه الكفاية. وقد رُبطت صعوبةُ تعريف مصطلح نظرية المؤامرة بمحاولة تعريف الإباحية؛ وهي مهمة اشتهَرت بأنها أجبرت بوتر ستيوارت، قاضيَ المحكمة الأمريكية العليا على أن يستنتجَ قائلًا: «أُدرك المقصود بها عندما أراها.» لكن حتى إذا كان يصعب علينا التوصُّلُ إلى تعريفٍ محدَّد ووجيز ومقبول بوجهٍ عام لنظرية المؤامرة، يُمكننا أن نضع تعريفًا مناسبًا ومفيدًا بما فيه الكفاية. تحدَّث ريتشارد هوفستاتر، الباحث المرموق في مجال المؤامراتية، عن نظريات المؤامرة باعتبارها «أسلوبًا» للتفسير. ومثلما قد يتحدَّث مؤرِّخ فني عن التصاميم والتصورات التي تُشكِّل مجتمعةً الأسلوبَ الباروكي أو يتحدَّث ناقدٌ موسيقي عن الفوارق الدقيقة بين نوعَين من موسيقى الرقص الإلكترونية وهما «دَبستيب» و«جرايم» فإن مهمتنا في تمييزِ نظريات المؤامرة عن النظريات القديمة العادية التي تتعلَّق بالمؤامرات هي أن نُحدِّد بعضًا من أهمِّ الموضوعات الاستعارية والأفكار والتعبيرات المجازية التي تُشكِّل مجتمعةً الأسلوبَ المؤامراتي.
أسئلةٌ تبحث عن إجاباتٍ
ليس هناك أفضلُ من أن نبدأ بالسؤال الذي يُسبِّب الجانبَ الأكبر من الخصومة بين أصحاب نظريات المؤامرة ومنتقديهم: هل نظريات المؤامرة خاطئةٌ ببساطة؟ لا شك أن المصطلح له دلالات غير مُستحسَنة، على الأقل في أوساط المفكرين والمثقفين. يقول نعوم تشومسكي: «لو كنتَ في مشربٍ في أحدِ الأحياء الشعبية، وقلتَ شيئًا لم يرُقْ للناس فإنهم سيضربونك أو يسبُّونك. أمَّا لو كنت في نادٍ جامعي أو في مكتب تحريري؛ حيث تكون أكثر تهذيبًا، فثمة مجموعة من العبارات التي يمكن استخدامها، وهي المكافئ الفكري لهذا السِّباب ونوبات الغضب. إحدى تلك العبارات هي «نظرية المؤامرة».»
كثيرٌ من الصحفيين — أو على الأقل، محرِّري عناوينهم الرئيسية — يروق لهم وصفُ نظريات المؤامرة بالوهم الغني عن البيان، ويحكمون استنادًا إلى معدلِ تَكرار اقتران مصطلح نظرية المؤامرة بصفاتٍ مثل «مجنونة» و«سخيفة» و«مختلَقة» في العناوين الرئيسية المثيرة لمؤلِّفين أكثرَ خجلًا في مواقفَ أخرى. الساسةُ أيضًا يستخدمون المصطلح عندما يرغبون في الإشارة ضمنيًّا إلى أن مزاعمَ لا تروقُ لهم تفتقر إلى أيِّ أساس. وقد أعطى جورج دبليو بوش مثالًا عندما حثَّ الأمريكيِّين قائلًا: «لا تتساهلوا أبدًا مع نظريات المؤامرة الشنيعة حول هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والأكاذيب الخبيثة التي تُحاول أن تُعفيَ الإرهابيِّين أنفسَهم من المسئولية عما اقترفوه.» هل يمكن أن يكون الباحثون أكثرَ تحفُّظًا؟ استنادًا إلى عناوينِ بعض الكتب التي تتناول الإيمان بنظريات المؤامرة، ليس هناك تحفُّظٌ كبير لدى الباحثين. فمثلًا، أطلق ديفيد أرونوفيتش على كتابه الذي يتناول نظريات المؤامرة في القرن العشرين اسم «تاريخ الهراء». وينتقدُها بالمثل فرانسيس وين في عنوان كتابه «كيف غزَت الأفكارُ الفارغة العالمَ» في حين وضع العنوان الفرعي لكتاب داميان طومسون «المعرفة المُضلِّلة» نظرياتِ المؤامرة جنبًا إلى جنب مع «الطب الخرافي والعِلم الزائف والتاريخ المختلق».
وماذا عن المُتهَمين بأنهم أصحاب نظرية مؤامرة؟ أقرَّ مايكل بارينتي قائلًا: «بالتأكيد، هناك بالفعل نظريات مؤامرة خرقاء.» وذلك في كتابه «حقائق قذرة»، لكنه يرى أن فكرة وجود مؤامرة وراء اغتيال جون إف كينيدي حقيقةٌ لا نزاعَ فيها؛ ومن ثَم فهي لا تندرج ضمن قائمة «الأوهام الغريبة». وبالمثل قدَّم الصحفيُّ البريطاني روبرت فيسك إخلاء مسئولية في مقالةِ رأيٍ نُشرت عام ٢٠٠٧ في صحيفة «إندبندنت» فيما يتصل بموضوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر. كتب يقول: «لستُ صاحبَ نظرية مؤامرة. لا شأن لي بالهراء، لا شأن لي بالمكائد.» وذلك بعد تَكراره مباشرةً للأكاذيب الكلاسيكية لحركةِ حقيقةِ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مثل الإنكار الواضح لانهيار المبنى السابع في مركز التجارة العالمي. يوضِّح عالمُ النفس جوفان بايفورد في كتابه «نظريات المؤامرة: مقدمة نقدية» أن بارينتي وفيسك لا يُنكران نظرياتِ المؤامرة باعتبارها زيفًا، وإنما يَصرفان اللومَ إلى الآخرين. ويتابع قائلًا إن نظريات المؤامرة يُفترض ألا تُصدَّق، لكن هذه ليست واحدةً منها. وفيما يبدو أن أناسًا آخَرين يُصدِّقون نظريات المؤامرة.
ويبدو أن الجميع تقريبًا يتفقون على أنه يجب التمييز. نظريات المؤامرة زيف؛ فزعمٌ صحيح بوجود مؤامرة لا يعني في واقع الأمر نظريةَ مؤامرةٍ على الإطلاق. هل هذا معناه أن نمضيَ قُدمًا ونضعَ تعريفًا لنظرية المؤامرة بأنها زعمٌ كاذب بحدوث مؤامرة؟ يعتقد بعضُ الباحثين ذلك. ووفقًا لتعريف المؤرخ دانييل بايبس، «نظرية المؤامرة هي الخوف من مؤامرةٍ لا وجودَ لها.» ويعترف أن بعضَ المؤامراتِ حقيقيةٌ، لكن نظريات المؤامرة «لا وجود لها إلا في مخيلةِ أصحابها.» وجهة النظر هذه ذاتُها تبنَّاها كاس سَنستاين وأدريان فيرميول، اختصاصيا العلوم السياسية، رغم التعبير عنها بلغةٍ أكاديميةٍ أكثرَ تحفظًا؛ حيث اقترحا قصْرَ دراستهما لنظريات المؤامرة على المزاعمِ الواضحةِ الزيف، مستبعِدَين بذلك تلك النظريات «التي هي صحيحةٌ أو لم يثبت صحتُها بعد.»
المشكلة في سلوك مثل هذا المسلك هو أنه يتعامل مع الفارقِ بين الحقيقةِ والزيف، والواقعِ والوهم باعتباره مسألةً غيرَ معقَّدة تمامًا؛ مسألة يتم فيها الرجوع إلى الحقائق والاستناد إليها، أو حتى إعمال «فَهْم حَدْسي للكيفية التي تحدثُ بها الأشياء.» حسبما يرى ديفيد أرونوفيتش. لكن الحَدْس يقود الناس إلى نتائجَ مختلفةٍ للغاية بقدْر اختلافهم. فنظرية المؤامرة لدى شخصٍ ما هي حقيقةٌ مؤامراتية لدى آخر. وأي محاولة لرسم خطٍّ واضح بين المؤامرات الحقيقية والزائفة مصيرُها جدلٌ أبدي بشأن ماهية الأدلة القاطعة وهُوية الخبراء الحقيقيين، ومسألةِ ما إذا كان يمكن الوثوق بهم أو لا. هذه جميعها أسئلةٌ جيدة، لكن حسَب تعريفنا، مجرد الزعم بأن نظريات المؤامرة هُراء لا يفيدنا كثيرًا.
الأهم من ذلك، فإن الركون إلى تحديدِ ما إذا كان زعمٌ مُختصمٌ فيه صحيحًا أو زائفًا يُعوِزُه سِمةٌ أساسية من سمات الطريقة المؤامراتية. أوضحت كاثرين أولمستيد هذا الأمر جليًّا عندما كتبَت تقول: «نظرية المؤامرة هي مقترَح عن مؤامرة قد تكون حقيقيةً أو غيرَ حقيقية؛ فلم يثبت صحتها بعد.» للوهلة الأولى، قد يُثير هذا ببساطةٍ المزيدَ من الجدال فيما يبدو حول عبارة «يثبت صحَّتها.» بالنِّسبة إلى المصدِّقين، قد تكون نظريةٌ ما حقيقيةً بما لا يدَع مجالًا للشك، وبالنِّسبة إلى المتشكِّكين، ربما تكون زائفةً دون ريب. لكن هذه ليست المشكلة. لا أقول إن نظريات المؤامرة غيرُ مؤكَّدة لأنها تفتقر إلى الأدلة الكافية. بل إنني أرى ما هو أعمقُ من ذلك. نظريات المؤامرة غيرُ مؤكدة عن عمدٍ.
تأمَّل مثلًا تفسيرين محتملَين لفضيحة ووترجيت. ثمَّة روايةٌ تقول إن لجنة إعادة انتخاب نيكسون تآمرت للتجسُّس على خصومه السياسيِّين، وبعد ذلك تورَّط نيكسون نفسُه في المؤامرة لإخفاء الحقيقة. فبالرغم من ادعاء مؤامرة لتقويض الديمقراطية وصلَت إلى المكتب البيضاوي، لا يُطلق أحدٌ على هذه نظرية مؤامرة. لماذا؟ لأن الأمر يتعلَّق بمؤامرة انتهت وتمَّ التعامل معها. فقد أُلقي القبض على أعوان نيكسون وهم يقتحمون فندقَ ووترجيت، وكُشفت الأدلة على التستُّر، واستقال نيكسون في نهاية الأمر من الرئاسة. باختصار، افتُضِح الأمر.
وَفقًا لروايةٍ أخرى، وهي روايةٌ طرَحها جاري آلن، الذي اشترك في تأليف الكتاب الكلاسيكي «لا أحدَ يجرؤ على تسميتها مؤامرةً»، لم يكن نيكسون يقف وراءَ مؤامرة ووترجيت على الإطلاق. بل كانت خُطَّة مدبَّرة. فوفقًا لآلن، حِيكت الفضيحة بعنايةٍ من أجلِ تنحية نيكسون عن البيت الأبيض كجزءٍ من مؤامرةٍ أكبر، بل أكثر خبثًا، شملت نلسون روكفلر وهنري كيسنجر ومجلسَ العلاقات الخارجية والنظام العالميَّ الجديد القادم. الآن أصبح لدينا نظريةُ مؤامرة. وهي مدبَّرة بحيث لا تثبت صحتها. حتى وإن اقتنعتَ بأنها حقيقية، تُخبرنا النظرية نفسُها أن التستُّر مستمر. فكيسنجر لم يعترف بالحقيقة، والناس لا يعرفون بعدُ حقيقةَ ما جرى، والحقيقة لم يُكشف النقابُ عنها تمامًا حتى الآن.
يمكننا أن نلحظَ الثنائية نفسَها في روايتَينا المتنافستَين لأحداث الحادي عشرَ من سبتمبر. فوفقًا للرؤية القائلة بأن تنظيم القاعدة هو مَن يقفُ وراءها، انتهت المؤامرة، وتقريبًا أصبحنا نعرفُ جميع الأشياء التي تتعلق بها؛ ليس أقلَّها أن أسامة بن لادن نسَب ما جرى لنفسه. لكنه وَفقًا للنظرية التي ترى أن الأحداث وقعَت بتدبيرٍ داخلي، فإن الذين يقفون وراء تلك الأحداث لا يزالون منهمِكين في التخطيط لإخفاء الحقيقة المذهلة. قد تكون النظرية حقيقية أو غيرَ حقيقية؛ وفي كِلتا الحالتَين، فإنَّ دعم النظرية معناه الاعتقادُ بأن المؤامرة لم تُكشَف تفاصيلها بعد. والشيء نفسُه ينطبق على أيِّ نظرية مؤامرة أخرى يمكن أن تخطرَ ببالك. فالفعل ربما يكون قد وقع، لكنَّ المقترفين له لم يعترفوا بعدُ أو لم يُلقَ القبض عليهم. ولا يزال الناس لا يعلمون الحقيقة، ولم يُفتضح الأمر بعد.
أوضح الباحثُ مارك فينستر أن نظريات المؤامرة لا تهدف إلى مجردِ وصف شيء قد حدَث، لكنها تزعم أنها تكشف مكائدَ خفيةً على أملِ إقناع الناس الذين لا يزالون يغفلون عن الحقيقة المزعومة. فهي تأتي مصحوبةً باعترافٍ ضِمني بأن الحقيقةَ المطلَقة لا يمكن الوصولُ إليها، وأنها مخبوءةٌ عن الأنظارِ وأننا يُمكن أن نلمحها، لكن لا يُمكننا أن نضع أيديَنا عليها. ومن ثَم فإن المؤامرة تظلُّ عصيةً على الكشف إلى الأبد، لكن الأدلة القاطعة بعيدةُ المنال؛ أو بعبارةٍ أخرى الأدلة الحاسمة التي ستوقظ الجمهور وتقلب الموازين في نهاية الأمر، لم تُكتشف بعد. وسواءٌ تبيَّنت صحة هذه النظريات أو عدم صحتها، ستظلُّ في أعماقها أسئلةً تبحث عن إجابات.
لا شيء على النحو الذي يبدو عليه
تزعم أغلبُ نظريات المؤامرة المتعلِّقة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر أن الهجمات كانت عمليةً من عمليات «العلَم الزائف». هذا المصطلح يشير في الأساس إلى السفن التي ترفع حرفيًّا عَلَمًا بخلاف علَمِها الحقيقي، لأغراض القرصنة أو الحرب. وقد اتسع نطاقُ هذا المصطلح بحيث أصبح يشمل الآن أيَّ أمثلة أو حالات يُنظم فيها بلدٌ هجومًا ضدَّ مواطنيه على أن يبدوَ الأمر لعموم الناس وكأنَّ طرَفًا آخر قد ارتكبه، كذريعةٍ من أجل تحقيق هدف شنيع مثل تمرير قوانين متشددة أو الخوض في حروب.
وكسابقةٍ على الرغبةِ المزعومةِ لدى الحكومة الأمريكية لتدبيرِ هجماتٍ ضدَّ مواطنيها، قد يُشير المرء إلى عملية «نورثوودز». كانت الخُطة التي وضعها قادةُ الجيش في أوائل ستينيَّات القرن العشرين هي أن يُرتِّبَ عملاءُ تابعون للحكومة الأمريكية أعمالًا إرهابيةً ضد الجيش الأمريكي وأهدافٍ مدَنية ثم يُلصِقوها بالحكومة الكوبية. جاء في إحدى الوثائق: «بمقدورنا أن ننسفَ سفينةً أمريكية في خليج جوانتانامو ونتهمَ كوبا. ومن ثَم فإن قوائم الضحايا في الصحف الأمريكية قد تُثير موجةً مفيدة من الاستياء الشعبي.» ومن بين الأفكار الأخرى إغراقُ سفينة تنقل لاجئين كوبيِّين قادمين، وشن هجمات إرهابية في فلوريدا والعاصمة واشنطن. لكنه، لحسنِ الحظ، حتى القادة العسكريُّون اضطُروا إلى خططٍ كهذه بأوامرَ من رؤسائهم، وقد رفضت إدارة كينيدي في الحال تنفيذ العملية.
لكنه وفقًا لأصحاب نظريات المؤامرة، فإن الإدارات الأخرى تبيَّن أنها أكثرُ إذعانًا للأمر. فوفقًا لهذه النظريات، فإنه فيما يتعلق بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ما تبدو أنَّها أحداثٌ من تدبير تنظيم القاعدة كانت عملًا داخليًّا مدبَّرًا، أو بعبارة أخرى: هجومًا ذاتيًّا. ففي السنوات التي أعقَبَت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كانت الصيحات الزاعمة بأن ما يجري عملٌ داخلي مدبَّر تتعقب كلَّ عملية إطلاق نيران جماعي وكل هجوم إرهابي تقريبًا. لكن النهج الجديد الذي تسيرُ عليه نظريات العمل الداخلي المدبَّر جاء نِتاجًا لعادات قديمة. فالعنصر الحاسم الثاني من عناصر النهج المؤامراتي يتمثَّل في الفكرة القائلة بأننا لا نبقى على جهلٍ بأمرٍ ما فحَسْب، بل نُخدَع كذلك. فوفقًا لنظريات المؤامرة، فإن المظاهرَ في هذا العالم مُضلِّلة، ولا شيء على النحو الذي يبدو عليه.
هذه السِّمة تُصبح أكثرَ جلاءً عندما تتعرَّض نظريات المؤامرة للروايات الرسمية. فيُقال لنا إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد شُنَّت بواسطة ١٩ مختطِفًا تابعًا لتنظيم القاعدة، الذين اقترفوا جريمتهم بِناءً على خططٍ وضعها أسامة بن لادن، وكان السبب الرئيس في نجاحهم عدمَ الكفاءة والبيروقراطية والتنافسات التافهة بين الوكالات المسئولة عن الأمن. وقد انهار البرجان التوءمان والمبنى السابع في مركز التجارة العالمي نتيجةً لتدميرِ بِنيته والنيران التي اشتعلَت فيه. هذه الرواية العامة تستند إلى العديد من التحقيقات الموسعة، التي جمعَت آراء الآلاف من الخبراء من مختلِف التخصصات والانتماءات، والتي عكفَ المزيدُ من الباحثين المستقلِّين على التقصِّي بشأنها والتحقُّق منها واستيضاحها وتوسيع نطاقها.
لكنه بالنِّسبة إلى نظريات المؤامرة، فإن جورج دبليو بوش أو مَن يتولَّى زِمام الأمور في حقيقة الأمر اختلق هذه الرواية. وعندما يعترض أصحابُ نظريات المؤامرة على الروايات الرسمية أو التفسيرات التي تُقِرُّها الحكومة، فهم يشيرون ضمنيًّا إلى أنَّ الفَهم العام للحدث ليس أكثرَ من مجردِ تفسيرٍ واحدٍ محتمل، جرى تحضيره من قِبَل سلطة أعلنَت من جانبها عنه. والأسوأ من ذلك، كثيرًا ما يُعتقد أن هذا التفسير قُدِّم من قِبَل الأشخاص ذاتِهم الذين يقفون وراء المؤامرة المزعومة. فهو ليس مجردَ رواية مغلوطة، بل اختلاقٌ متعمَّد. فأصحاب نظريات المؤامرة يرَون أن الرواية الرسمية هي ما تريد السلطات منا أن نُصدِّقه.
بطبيعة الحال، لا يتعينُ علينا تصديقُ الروايات الرسمية دون تحفُّظ. فكلٌّ من تقرير لجنة وارين بشأن اغتيال جون كينيدي وتقريرِ لجنة أحداث الحادي عشر من سبتمبر يتضمَّنان خللًا وقصورًا. لكن هذا ليس معناه أن كِلا التقريرين لا فائدة منه مطلقًا. أفضل تفسير هو التفسير الذي يكون مدعومًا بمصادرَ متعددةٍ ومستقلة تُشير إلى نتيجة واحدة. وتصوير أحد التفسيرات على أنه الرواية الرسمية معناه أنه يُمكن إنكاره على نطاقٍ واسع، حتى وإن كان يعكس فعليًّا خلاصة الآراء الكاشفة التي أدلى بها عددٌ هائل من الناس الذين لديهم انتماءات وأجندات مختلفة، والتي تصل جميعها إلى استنتاجٍ واحد متَّسق. (وقد أُضيف أنه أحيانًا يُستخدَم مصطلح «نظرية المؤامرة» لرفضِ آراءٍ مزعجةٍ دون الالتفات كثيرًا للأدلة.)
لكنَّ معارَضةَ تفسيرٍ رسمي ليست شرطًا أساسيًّا. فنظريات المؤامرة يمكن أن تنطلقَ في أعقابِ حدثٍ ما على الفور، حتى قبل أن يُعلن عن الرواية الرسمية. وأحيانًا تكون نظرية المؤامرة هي ذاتُها الروايةَ الرسمية. يوضح جيسي ووكر في كتابه «الولايات المتحدة وجنون الارتياب»، أن أمريكا تأسسَت على شكوكٍ مؤامراتية. فإعلان الاستقلال يسرد بشكلٍ جاد «سيلًا من الانتهاكات والاغتصابات» عانته المستعمرات، وأدَّى إلى «خُطة» لترسيخ «الطغيان المطلَق على هذه الولايات».
وعدم استساغةِ الروايات الرسمية هو مجردُ أحد أعراض المنطق الأعمق للنهج المؤامراتي. يوضح مايك وود وكارين دوجلاس أن نظريات المؤامرة تعمل على أساس الافتراض بأن «هناك عالَمين؛ أحدهما حقيقي وغير مرئي (في أغلبه)، والآخر وهمٌ خفي وماكر يهدف إلى التستُّر على الحقيقة.» ونتيجةً لذلك، فإن نظريات المؤامرة بطبيعتها تسير عكس التيار. فهي تَقْلب الاعتقاد السائد رأسًا على عقب. فنظريات المؤامرة ترى أن الإجابة البديهية الواضحة لا تكون صحيحةً أبدًا في هذا العالم، وأن ما خفيَ أعظم. فالحوادث مدبَّرةٌ والديمقراطية زائفة وجميع الوجوه أقنعةٌ وجميع الأعلام كاذبة. وبالنِّسبة إلى نظريات المؤامرة المتطرفة، يُلقي النَّهْج المؤامراتي بظلالٍ من الشكوك على كل شيء تقريبًا، حتى فَهْمنا الأساسي للواقع. فالحقيقة تُصبح خيالًا والخيال يصير حقيقة: فالجامعات هي التي تُزود الدولة بالأكاذيب في حين أن المكائد المؤامراتية في الأفلام السينمائية والكتب هي بَرْمجة تنبؤية صُمِّمت من أجل إعدادنا على المستوى اللاشعوري للنظام العالمي الجديد القادم.
كتب دانييل بايبس يقول: «صاحب نظرية المؤامرة البارع يُحوِّل الأَسوَد إلى أبيض، والأبيض إلى أسود. وليس هناك أحدٌ أكثرُ براعة من ديفيد أيك.» يستجدي أيك قرَّاءَ كتابه «دليل ديفيد أيك للمؤامرة الدولية» (مقتبسًا من كلام ممارِس الطب البديل مايكل إلنر). فيقول: «فقط تأمَّل حالنا، كل شيء يسير إلى الوراء، كل شيء انقلب رأسًا على عقب. الأطباء يُدمِّرون الصحة، والمحامون يُدمِّرون العدالة، والجامعات تُدمِّر المعرفة، والحكومات تُدمِّر الحرية، ووسائل الإعلام الكبرى تُدمِّر المعلومات، والأديان تدمِّر الروحانية.»
كل شيء تحت السيطرة
يُعد الهجوم الذي شنَّه ١٩ عضوًا من أعضاء تنظيم القاعدة الشبابِ باختطاف طائرات تِجارية واستخدامها في تدميرِ معالِمَ أمريكية أكثرَ الهجمات الإرهابية التي وقعت في أمريكا دمويةً، وقد شكَّل أحداثًا حول العالم لسنواتٍ تلَت. ومع ذلك، كما أن الهجمات لم تَسِر وَفق الخطة الموضوعة تمامًا، حدث الشيء نفسُه مع المؤامرة.
أقلعت رحلة الخطوط الجوية الأمريكية رقم ٩٣ من مطار نيوارك ليبيرتي في الساعة ٨:٤٢ صباحًا، بعد موعد مغادرتها المحدَّد ﺑ ٤٠ دقيقة. كانت الطائرة الوحيدة المخطوفة التي تأخَّرت على نحوٍ ملحوظ. وبعد مضيِّ خمسٍ وأربعين دقيقة، اندفع المختطِفون الأربعة الذين كانوا على متن الطائرة نحو مقصورة القيادة، وقتلوا ضابطَين ومُضيفة، ثم اتجهوا بالطائرة نحو العاصمة واشنطن. كانت الخطة الموضوعة هي التوجُّهَ بالطائرة نحو البيت الأبيض أو مبنى الكابيتول. وبعد مضيِّ دقائق، وتحديدًا في الساعة ٩:٣٢ صباحًا، سمع أحدُ مسئولي المراقبة الجوية في كليفلاند رسالةً صوتية من مقصورة القيادة تقول: «السيدات والسادة: الكابتن يتحدَّث إليكم، يُرجى منكم البقاءُ في مقاعدكم. هناك قنبلة على متن الطائرة. لذا يُرجى الجلوس في أماكنكم.» اعتقد المختطف على ما يبدو أنه كان يتحدَّث إلى ركاب الطائرة وليس إدارة المراقبة الجوية. وبحلول ذلك الوقت، كانت الطائرات قد اصطدمت بالفعل ببرجَي مركز التجارة العالمي. وبدأ الركاب والطاقم على متن الرحلة ٩٣ في الاتصال بالناس على الأرض من هواتفهم المحمولة والهواتف الجوية على متن الطائرة، وسرعان ما عَلِموا أن أمريكا تتعرَّض لهجوم. وقد أدركت مجموعةٌ من الركاب أن المختطِفين كانوا في مهمة انتحارية، ومن ثَم قرروا المقاومة. كان آخر شيء أخبر به أحدُ الركاب زوجته قبل أن ينقطع الصوت: «لا تقلقي، سنفعل شيئًا ما حيالَ ذلك.» وبعد دقائق من ذلك، سقطت الطائرة لتتحطم في حقلٍ فارغٍ في بنسلفانيا.
على الجانب الآخر، لا ترى نظرياتُ المؤامرة أن ذلك كان خطأً في تنفيذ الخطة؛ بل ترى أن كل شيء كان يجري بالضبط وفقًا للخطة الموضوعة. فهي ترى أن الطائرة يونايتد ٩٣ لم تتحطَّم على الإطلاق. فموقع التحطُّم في شانكسفيل كان مُعَدًّا سلفًا بحيث يبدو كموقع تحطم طائرة. والمكالمات الهاتفية التي أجراها بعض ركاب الطائرة بذَويهم كانت ملفَّقة. وهبطت الطائرة في مطار كليفلاند هوبكينز حيث أُخذ الركاب إلى مرفق بحثي قريب يتبع وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، ولم يُسمع عنهم شيءٌ بعد ذلك. والأكثر من ذلك، كانت الحكومة الأمريكية تُدير بعناية كلَّ تفصيلةٍ مما حدث في ١١ سبتمبر. وكلَّ ما وصفه تقرير لجنة أحداث الحادي عشر من سبتمبر بأنه إخفاقات «التخيل والسياسة والإمكانات والإدارة» لم يكن، في واقع الأمر، سوى جزءٍ من مكيدة مدبَّرة بحرصٍ شديد.
العالم مكانٌ معقَّد بأجزاء كثيرة متفاعلة. وكما يُظهر لنا مصيرُ الرحلة ٩٣، فضلًا عن المؤامرات التي أخفقَت مثل فضيحة ووترجيت أو فضيحة إيران كونترا، من الصعب تشكيل مؤامرةٍ جيدة، والأصعب من ذلك هو منعُ أيِّ شخص من إفسادها أو إفشاء سرِّها. وهذا لن يمنع الناس من المحاولة، لكنه حتى عندما تسير الأمور وَفْق الخطة المرسومة، كثيرًا ما تحدث عواقبُ غيرُ مقصودة يتعذَّر التنبؤ بها. وكقاعدة عامة، تختلفُ النتائج المتحققة عن النتائج المستهدفة.
وفقًا لنظريات المؤامرة، تبدو الأشياء في هذا العالم أبسطَ بكثير. يقول دانييل بايبس إن أصحاب نظريات المؤامرة، لديهم فيما يبدو «إيمان مذهل بقدرات أعدائهم.» فعلى أقلِّ تقدير، أصحاب نظريات المؤامرة يقترحون أنه عندما يُحرِّك المتآمرون الأحداث، تصبح لديهم القدرةُ على التنبؤ بما ستصير إليه الأمور ببصيرةٍ وفطنة ظاهرتَين. فالمتآمرون على ما يبدو يكون لديهم الاستعداد والقدرة على التضافر سويًّا كفريقٍ في انصياعٍ تامٍّ للمؤامرة، كما لو كانوا عضوًا واحدًا وليس مجموعة من الناس، كلٌّ منهم لديه طموحاته وخوالجه وأُسره وهواياته.
ويرى أصحاب نظريات المؤامرة، في أكثر حالاتهم تطرفًا، أن المتآمرين لديهم القدرةُ على فعلِ كلِّ شيء تقريبًا. رصد ريتشارد هوفستاتر هذا العنصر من عناصر النهج المؤامراتي. فقد كتب يقول: «على العكس من بقيتنا، لا يسقط العدو في شَرَكِ الآلية الضخمة للتاريخ، وهو نفسه ضحيةٌ لماضيه ورغباته وجوانب قصوره.» ويُتابع قائلًا إنه على النقيض من ذلك «هو يُصمِّم ويصنع آلية التاريخ بنفسه، أو يحاول تحويل المسار الطبيعي للتاريخ، في واقع الأمر.» كثيرًا ما يُقال إن المؤامرة تفرض سيطرةً تامة على مصدرٍ ما فعَّال للسلطة؛ فهي تتحكَّم في وسائل الإعلام والاقتصاد والعلم؛ وهي تتلاعب بالانتخابات وتنال من دوائنا وغذائنا. والمؤامرة مسئولة عن جميع عِلل العالم. فهي «تصنع الأزمات، وتدفع المودِعين إلى سحبِ أموالهم من البنوك، وتُسبِّب الركود، وتفتعل الكوارث، ثم تستمتع وتنتفع من البؤس» الذي تتسبَّب فيه. واختتم هوفستاتر كلامه بقوله إن هذا تفسيرٌ شخصي جدًّا للتاريخ، وإن «الأحداث الحاسمة لا تُؤخذ كجزء من مسار التاريخ، ولكن كعواقبَ لإرادةِ شخصٍ ما.»
لكن هناك نقطة ينبغي الانتباهُ لها. فالمتآمرون يتمتَّعون بكفاءة بالغة؛ باستثناء ما قد يعتريهم من زللٍ بسيط من آنٍ لآخَر. وكما الحال مع الكثير من نظريات المؤامرة، فإن الفكرة القائلة بأن الرحلة يونايتد ٩٣ هبطت بأمانٍ في كليفلاند أفرزها تقرير إخباري مغلوط، وتكرَّرَت بتعجُّلٍ في خضمِّ الارتباك الدائر، ثم سُحبت سريعًا عندما رُصد الخطأ. لكن بالنِّسبة إلى نظرية المؤامرة، كان التقريرُ صحيحًا على طول الخط، وسحبه كان دليلًا على التستُّر. زلَّاتٌ مُريبةٌ كهذه هي أساس الكثير من نظريات المؤامرة. فلو كانت المؤامرة محبوكة تمامًا، برغم كل شيء، ولو لم يُفلت من أيدي المتآمرين دليلٌ واحد أبدًا، لما علم أحد قطُّ بما يصنع المتآمرون. أوضح لورين كولينز هذه الفكرة بجِلاء عندما قال إن المؤامرة دائمًا ما تكون على ما يبدو «على قدر من الكفاءة والقوة والتأثير على النحو الذي أراده صاحبُ نظرية المؤامرة.»
الشر يكمن في جميع الأشياء
أخبر البروفسير ديفيد راي جريفين الجماهير خلال جولة عام ٢٠٠٥ للترويج لكتابه «بيرل هاربر الجديد: أسئلة مقلقة عن إدارة بوش وأحداث ١١ سبتمبر» الذي جذب قاعدةً عريضة من القراء، وأخبر جماهيره قائلًا: «من الممكن فعليًّا أن تعرف شيئًا مهمًّا جدًّا لا يدَع مجالًا للشك. كان تدمير مركز التجارة العالمي عملًا داخليًّا، أداره إرهابيون محليون.» واختتم جريفين قائلًا: «رفاهية جمهوريتنا وربما حتى بقاءُ حضارتنا يعتمدان على فضح حقيقة ما جرى في ١١ سبتمبر.» قُوبل كلامه بعاصفةٍ من التصفيق الحار.
البروفسير جريفين هو الوجه الأكاديمي والصوت الهادئ لحركة حقيقة أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ألكس جونز، وهو رجل من ولاية تكساس ذو صوت غليظ له عرضٌ إذاعي يومي يبثه العديد من المحطات الإذاعية المحلية، يُضيف مزيدًا من الجرأة لما يحدث. فقد أمسك جونز بمكبرٍ للصوت في احتشاد المناصرين لحركة حقيقة أحداث الحادي عشر من سبتمبر وسط شيكاغو، وأخبر المارة بأن «الحكومة تُنفِّذ هجماتٍ إرهابيةً كذريعة لتحويل أمريكا إلى دولة بوليسية. لماذا؟ كي تأسِرَنا، كي تجعلنا رقيقًا سياسيِّين، كي تستخدمنا كمحركٍ لإمبراطورية عالمية، كي تغزوَ الكوكب. السيدات والسادة، ١١ سبتمبر مؤامرة داخلية.»
التهويل المُروع نهجٌ اعتاد عليه جونز وجريفين. فالمزاعم المهيجة للمشاعر هي عنصرٌ محوري من عناصر النهج المؤامراتي، بدءًا من فِرية الدم المعادي للسامية وصولًا إلى نظريات المؤامرة الأولى كاملةِ الأركان التي ظهرت في أعقاب الثورة الفرنسية. جون روبينسون هو مؤلِّف إحدى الأطروحات المناهضة للمتنورين التي أشرنا إليها في الفصل الأول (وكان استخدامه المتحرِّر للحروف الكبيرة من أجل إيصال مدى عِظم إفشاءاته إرهاصًا لإساءة استخدام مفتاح الحروف الكبيرة بعد مرور قرونٍ من جانب معلِّقي الإنترنت الغاضبين)، كتب يقول: «تشكَّلت جمعيةٌ من أجلِ غرضٍ صريح وواضح، وهو اقتلاع جميع المؤسسات الدينية والإطاحة بجميع حكومات أوروبا الحاليَّة.»
ويمكن أن تكون المؤامرة شيئًا ضروريًّا ومحمودًا. فالناس يتآمرون لإقامة حفلات مُفاجئة لأصدقائهم. والوكالات الاستخباراتية تتآمرُ لحماية الأمن القومي (على الأقل نظريًّا). وبرغم ذلك، فالمؤامرات القاسية والمدمرة شائعة، بدءًا من المكائد التي يُدبِّرها أحد الأزواج لقتل زوجته من أجل صرفِ بوليصة التأمين على الحياة، وصولًا إلى الأعمال الإرهابية الشنيعة. وأحيانًا يتطلب الأمرُ السرِّيةَ وذلك يرجع تحديدًا إلى كون الفعل المُتستَّرِ عليه مشبوهًا من الناحية الأخلاقية. لكن حتى هذه الأنواع من المكائد غالبًا ما تكون محدودة في الطموح والنطاق. تلخِّص إيما جين وكريس فلمينج، الباحثان المختصان في المؤامرات نوعَ النشاط المؤامراتي الذي نعرفه. فيقولان: «حسب علمنا، نحن لا نعيش في عالمٍ تعتمل فيه مؤامرة قوية أو اثنتان، لكننا نعيش في عالمٍ تعتمل فيه ملايينُ المؤامرات الصغيرة — وربما بعض المؤامرات المتوسطة — التي لا تهدأ أبدًا.» ويُضيفان أن أغلب المؤامرات الحقيقية «مبتذلة وتافهة ولا تستحق التنظير بشأنها.»
والنهج المؤامراتي ليس لديه وقتٌ لمثل هذه التفاهات. فنظريات المؤامرة تتَّسم عمومًا بنوعية متآمرين أكثرَ مكرًا وطموحًا. وعلى أقل تقدير، يُقال إن المتآمرين لديهم سِمةٌ بارزة من سمات مكيافيللي. فهم «لديهم غنيمةٌ تستحق التدليس من أجلها، ولديهم الإرادة والقدرة على الحصول عليها مهما كلَّفهم الأمر.» على حد قول جو أوسينسكي وجوزيف بيرانت. فأصحاب نظرية المؤامرة لديهم لازمةٌ تتردَّد كثيرًا وهي: مَن المستفيد؟ فأي شخص يرون أنه يستفيدُ من موقفٍ ما يُعد تلقائيًّا في نظرهم مشتبهًا به. وإمعانًا في المكيدة، كثيرًا ما يظهر أن الأوغاد هم الأفراد أو المؤسسات التي نتوقَّع منها عادةً أن تتصرف بما هو في الصالح العام، على غرار الزعماء الذين تولَّوا مناصبَهم بانتخابات ديمقراطية، ومقدمي خدمات الرعاية الصحية، ووسائل الإعلام. وفي كثير من الأحيان، فإن تسويغ نظريات المؤامرة قد يؤدِّي إلى تبرير الإطاحة بحكومات بأكملها، وحلِّ مؤسسات وصناعات برمَّتِها والملاحقة الجنائية لها، وإعادة كتابة التاريخ.
وفي الحالات المتطرفة، تصبح نظريات المؤامرة «التعبيرات الجامعة المانعة لكل أشكال الشر المنظَّم التي تجعل من الفساد السياسي في فضيحة ووترجيت يبدو وكأنه كذبة طائشة تافهة.» على حد قول جين وفلمينج. فنحن لا نتعامل مع مجرمين عاديِّين. فطموحهم الخبيث يتجاوز مجرد المكائد اليومية التي تُولَد من رحم المصلحة الذاتية والتنافس والفساد والقسوة والإجرام. فهؤلاء أوغادٌ يبدو وكأنهم قد خرَجوا من صفحات أحد الكتب المصورة. فهم متَّهَمون بأنهم يتسببون في جميع العلل التي نُعانيها، ويرتكبون جميعَ الأعمال الوحشية المقيتة غير المتصورة على نحوٍ روتيني ويسعَون في نهاية المطاف لتقويض أو تدمير كل شيء نعتزُّ به. فالعالم، في نظر أصحاب نظريات المؤامرة، يعجُّ بالأخطار الجسيمة والمبادئ الأخلاقية المطلقة. فنحن جميعًا في مواجهة الشر المتجسِّد بكل أركانه. كتب بول زاوادزكي، اختصاصيُّ العلوم السياسية، يقول: «يمكن للمرء أن يقول على سبيل المفارقة إن [نظريات المؤامرة] أعادت الشيطان، لكنه في هذه المرة شيطانٌ بشري.» إذا شعرت بأن هذا نوعٌ من المبالغة، فقط أنصِتْ إلى ديفيد راي جريفين، الأكاديمي الهادئ: «لقد استحوذت علينا قوة شيطانية، وأصبح تركيزنا مُنصبًّا للغاية على شهوة الثراء والسيطرة بحيث أضحى كل شيء تقريبًا ممكنًا.»
البحث عن الأشياء الغريبة
لاحظ ريتشارد هوفستاتر «المساعي البطولية» من جانب أصحاب نظريات المؤامرة لتجميعِ أدلةٍ تدعم مصالحهم. ويقول جوفان بايفورد: «لا ينظر أصحاب نظريات المؤامرة إلى أنفسهم باعتبارهم رواةً لقصصٍ مغوية، ولكن يعتبرون أنفسهم باحثين ومحقِّقين.» فثمَّة منظومات كاملة كرَّسَت نفسها لأحداثٍ مثل اغتيال كينيدي وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وغير ذلك من نظريات المؤامرة التي لا تُحصى. ويمتلك أكثرُ المتآمرين التزامًا معرفة تفصيلية ودقيقة بموضوعهم، تفوق بكثير، في أغلب الأحيان، معرفةَ مناهضيهم. فلو جادلت أحدَ أنصارِ حركةِ حقيقةِ أحداثِ الحادي عشر من سبتمبر، فربَّما تبهرك قائمةٌ لا تنتهي من الحقائق والحجج التي تُشير بوضوحٍ في اتجاه المؤامرة باعتبارها التفسيرَ الوحيد. لكن النهج المؤامراتي لا يتعامل مع جميع الأدلة على نحوٍ متكافئ.
في الساعة ٤:٥٤ بتوقيت المنطقة الزمنية الشرقية، ظهيرة يوم ١١ سبتمبر ٢٠٠١، كانت مراسلة هيئة الإذاعة البريطانية في مدينة نيويورك، تقف على مسافة من رُكام البرجَين التوءمين خلفها الذي ينبعث منه الدخان، وقالت إن ناطحة سحاب ثالثةً قد انهارت للتو؛ وكانت تقصد المبنى السابع في مركز التجارة العالمي. المشكلة الوحيدة في تقريرها هي أن المبنى السابع لم يكن قد انهار بعد. في الواقع، كان من الممكن أن نرى في الخلفية، من أعلى كتفِ المراسِلة، جزءًا كبيرًا لا يزال قائمًا. لو كانت هذه نهاية القصة، لكان التقرير الخاطئ قد أصبح في طيِّ النسيان على الأرجح منذ وقت طويل. لكن بعد مضي ٢٦ دقيقة من ذلك، وتحديدًا في الساعة ٥:٢٠؛ وبعد انقضاء خمس دقائق فقط من انقطاع الإرسال لسببٍ غامضٍ بين المراسِلة واستديو هيئة الإذاعة البريطانية في لندن، انهار المبنى.
التقرير السابق لأوانه عن انهيار المبنى السابع هو مثالٌ نموذجي لنوعية الأدلة التي تستند إليها نظريات المؤامرة. وبالنِّسبة إلى الرواية الرسمية، فليس للتقرير أيُّ أهمية حقيقية. فالأمور كانت مُلتبِسة في وسط منهاتن، وكان معلومًا أن المبنى في حالة سيئة، وكان التقرير بشأن انهياره مجردَ خطأ. لكنه وفقًا لبعض نظريات المؤامرة، فإن التقرير يُفيد كثيرًا في فهمنا لهجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ فهو دليل. فأشياء كهذه — تفاصيلُ تبدو غريبةً ولا تستطيع الرواية الرسمية تفسيرها على الفور — بمثابةِ شريانِ حياة لنظريات المؤامرة. وكلُّ شيء تافهٍ غريب يولِّد سلسلةً من الأفكار التي تقود إلى نتيجةٍ مفادُها أن الأمر برمَّته مؤامرة. فوفقًا لنظريات المؤامرة، يُشير التقرير الخاطئ عن المبنى السابع، إلى أن هيئة الإذاعة البريطانية كانت على علمٍ بما سيحدث، وأن المراسِلة استبَقَت النصَّ المكتوب لها؛ إحدى تلك الزلات البسيطة في مؤامرةٍ كانت ستصبح بلا ثغرةٍ لولاها. وإذا كان انهيار المبنى السابع قد خُطِّط له مسبقًا، فهذا يستتبعُ أن يكون قد خُطِّط أيضًا لانهيار البرجين التوءمين، وهو ما يعني أن الكارثة بأكملها دُبِّرت بدقةٍ من بدايتها.
أوضح الفيلسوف براين كيلي قائلًا إنه عن طريقِ استخدام كلِّ شيء غريب وتافه في نسج نظرية جامعة كبيرة، يمكن أن تبدوَ نظريات المؤامرة أقوى من الروايات الرسمية لمجرد تكامُلَ أركانها. فنظريات المؤامرة «دائمًا ما تعطي تفسيرًا يفوق النظريات المنافسة؛ لأنه من خلال ادعاء مؤامرة، يمكن لنظريات المؤامرة أن تُفسِّر كلًّا من بيانات الرواية المتلَقَّاة والبيانات الشاذة التي تعجز النظرية المتلقاة عن تفسيرها.» لكن كيلي يستدرك قائلًا إن هذه الميزة الظاهرية مجردُ وهم. فيمكنك أن تجد أشياءَ غريبة وشاذة في كل مكان إذا اجتهدتَ في بحثك. وفهمنا للأحداث المعقَّدة سينطوي دائمًا على أخطاءٍ وتناقضاتٍ وثغرات. فالتاريخ مشوش والبشر غير معصومين. ويختتم كيلي بقوله: «استنادًا إلى طبيعة فَهمنا للعالم التي يعتريها النقصان، ينبغي أن نتوقَّع أنه حتى أفضل النظريات المحتملة قد تعجز عن تقديم تفسير لجميع البيانات المتاحة.»
هذا ليس معناه أن مثل هذه الأشياء الغريبة عديمةُ القيمة في جوهرها. فكثير من الاكتشافات العلمية والتحسينات تنشأ من اكتشاف بيانات غريبة تعجز عن تفسيرها النماذجُ الحاليَّة. لكن النهج المؤامراتي يُضفي أهميةً بالغة على كل شيء ضئيل غريب، مستخدمًا إياه في إلقاء ظلالٍ من الشك على التفسير السائد بأكمله. لا يمكن أن تُصبح القيمة الحقيقية للشيء الغريب موضعَ تقييمٍ عادل إلا من خلال وضعه في سياق الحقائق التي يبدو أنه يُشكك فيها.
كمثالٍ على هذا، بعض الخبراء المهتمين باغتيال جون كينيدي يُولون أهميةً كبيرة للحقيقة القائلة بأنه في ذلك اليوم، صرَّح بعضُ المارة في حديقة ديلي بلازا في دالاس بأنهم سمعوا أكثر من ثلاث طلقات نارية؛ وهو الأمر الذي إذا ثبَتَت صحته — واستنادًا إلى إطلاق لي هارفي أوزوالد ثلاثَ طلقات نارية حسبما يُفترض — فإنه يمكن أن يُلقيَ بظلالٍ من الشك حول النتائج التي توصَّلت إليها لجنةُ وارين والتي تُفيد بأن أوزوالد عمل بمفرده. وبناءً عليه، تُعطى أدلة شهود العيان هذه أولويةً على الأدلة الأخرى التي تشير إلى وجود مؤامرة. ما لا تُعنى نظريات المؤامرة بذكره (أو تعزوه إلى التستر) هو حقيقة أن خمسةً في المائة فقط من الشهودِ هم مَن صرَّحوا بسماعهم أربع طلقات نارية أو أكثر. وقد سمِع ٨١٪ من الشهود ثلاث طلقات.
الغلَبة في جميع الأحوال
يشتهر إيرل وارين بدوره الشرفي في لجنة وارين، وهي أول لجنةِ تحقيقٍ رسمية في اغتيال كينيدي. ونظرًا إلى جهوده، فقد أصبح وارين شخصيةً محورية في كثير من نظريات المؤامرة التي حِيكَت حول اغتيال كينيدي؛ حيث أُعطي الدور الرئيس في عملية التستُّر الكبيرة. لذا فمِن المفارقة أنه قبل عقدَين من ذلك الوقت، كان وارين مثالًا صارخًا — وذا أهمية كبيرة — للعنصر الأخير من عناصر النهج المؤامراتي الذي سنجعله جزءًا من تعريفنا. فنظريات المؤامرة تتمحورُ حول منطقٍ لا يمكن مهاجمته أو دحضه، وبناءً عليه لا شيء على الإطلاق ينفي المؤامرة؛ حتى الأدلة التي تُثبت العكس.
في ١٩ فبراير ١٩٤٢، وقَّع الرئيس فرانكلين روزفلت الأمرَ التنفيذي رقم ٩٠٦٦ الذي يُخوِّل وزير الحرب بتحديد بعض أجزاء البلاد كمناطقَ عسكرية يجوز أن يُمنع منها جميع الأشخاص. وبرغم صياغته الغامضة، كان الأمر التنفيذي يستهدف مجموعةً محدَّدة من الأشخاص. فقد طُرد أكثر من ١٠٠ ألف شخص ذَوي أصول يابانية — أكثر من نصفهم كانوا مواطنين أمريكيين — من منازلهم وأُرسلوا إلى معسكرات اعتقال. اعتُبر هذا الإجراء الصارم ضروريًّا نظرًا إلى أن الأمر التنفيذي رقم ٩٠٦٦ أوضح أن «الاستكمال الناجح للحرب يتطلب جميعَ أوجه الحماية الممكنة من التجسُّس والتدمير» على الجبهة الداخلية.
إذن ماذا كان الدليل على أن الأشخاص ذوي الأصول اليابانية كانوا يتآمَرون لتقويض الجهود الحربية؟ لم يكن قد وقعت أيُّ أعمال تخريبية خلال الأسابيع الستة التي أعقبت الهجوم الياباني على بيرل هاربر، وكان مكتب التحقيقات الفيدرالي قد توصَّل إلى عدم وجود أدلةٍ على أي تهديدات أمنية. لكنه بالنِّسبة إلى نظريات المؤامرة، فإن عدمَ وجود أدلة معناه أن المؤامرة تسير بفعاليَّة. وكان إيرل وارين، المدعي العام لولاية كاليفورنيا آنذاك، أحد أقوى المدافعين عن الاعتقال. فقد قال وارين في شهادته أمام الكونجرس: «للأسف، كثيرون مِن شعبنا وبعضٌ من مسئولينا يعتقدون أنه نظرًا إلى عدم وجود أيِّ أعمال تخريبية وعدم وجود أي نشاط للطابور الخامس في هذه الدولة منذ بَدْء الحرب، فإن ذلك معناه أنه ليس هناك أحدٌ يُخطِّط ضدنا. لكنني أتبنَّى وجهة النظر القائلة بأن هذا أوضح دليل ينذر بشؤم في موقفنا برمَّته.» أخبر وارين اللجنة بأن كلَّ ما هنالك أن المخربين ينتظرون اللحظةَ المواتية لتوجيه ضربتهم. أوضح وارين: «أعتقد أن تلك محاولةٌ لإشعارنا بحالة زائفة من الأمن.»
أنصار حركة حقيقة أحداث الحادي عشر من سبتمبر لديهم ريبةٌ مشابهة إذ يعتقدون بوجودِ أدلة مفقودة، كما عبَّر عن ذلك المذيعِ الإذاعي تشارلز جويت في لقاءٍ محتدم عام ٢٠٠٦ مع ديفيد كوبيرن، أحد مراسلي مجلة «بوبيولار ميكانيكس» الذي كان يعمل على تأليفِ كتابٍ يدحض نظرياتِ المؤامرة حول الهجمات. اختلف الاثنان حولَ أهمية الأدلة المحجوبة. فقد تساءل جويت في حنقٍ: «اللعنة! لقد مرَّت خمسةُ أعوام. متى سيطَّلع الشعب الأمريكي على الأدلة؟» وبدأ كوبيرن في الرد قائلًا: «أعتقد أن هناك كفايةً من الأدلة المتاحة التي تُفسِّر ما حدث.» لكن جويت قاطعه بقوله: «حسنًا، لسنا مهتمِّين بالأدلة التي عرَفناها، لكننا مهتمون بالأدلة التي لم نعرفها. ما يَعنينا هو الأدلة المحجوبة.»
وإذا كان عدم وجود أدلة دليلًا على المؤامرة، فإنَّ وجود أدلة مُناقضة يمكن أن يكونَ حتى أكثر إدانة. فبالنِّسبة إلى الكثيرين من أنصار حركة حقيقة أحداث الحادي عشرَ من سبتمبر، كانت التحقيقات الرسمية في أفضلِ الأحوال متحيزةً ومنقوصة عن عمدٍ، وفي أسوأ الأحوال، انطوَت على تدليس، في حينِ أن فيديوهات أسامة بن لادن التي اعترف فيها بمسئوليته عن الهجمات كانت مفبرَكة حيث استُخدم شبيهٌ له. ووفقًا للمنطق المؤامراتي، فإن الإنكار المباشر من جانب المتآمرين المتهمين يمكن حتى تفسيره بأنه اعترافٌ ضِمني بالجريمة. فقد أشارت مذكرة من مذكرات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لعام ١٩٦٧ التي تتناول موضوع نظريات مؤامرة اغتيال كينيدي، والتي أُرسلت إلى العملاء الخارجيِّين، أن أي مؤامرة جديرةٍ بهذا الوصف كانت لتُنظِّم عملية الاغتيال بطريقة مختلفةٍ للغاية. («فأوزوالد لم يكن ليُصبح الخيارَ الصحيح للشخص المتآمر لدى أيِّ إنسان عاقل»، مثلًا.) لكن بالنِّسبة إلى لانس ديهافن-سميث، مؤلف كتاب «نظرية المؤامرة في أمريكا»، فإن الحقيقة القائلة بأن عمليةَ الاغتيال بدَت غيرَ متقنة، هي، على النقيض، دليلٌ على أن العملية تمَّت على أيدي أشخاصٍ محترفين. كتب ديهافن-سميث يقول: «عملية الاغتيال كانت تنطوي على جميع سِمات الخبرة الحقيقية، وهي القدرة على استخدام المعرفة الخبيرة والمهارات في الوقت الذي يبدو فيه المرء مجرد هاوٍ.»
بفضل منطق العزل الذاتي هذا، فإن محاولة دحض نظرية المؤامرة أمرٌ مستحيل. فبما أن نظريات المؤامرة غيرُ مُثبتة جوهريًّا، فإن النظرية دائمًا ما تكون في حالةِ اعتمال؛ إذ تكون قادرةً على مواجهةِ أيِّ محاولة لدحضها عن طريق اختلاق التواءات وانعطافات جديدة. فكل محاولة لدحضها ستُفسَّر على أنها محاولةُ تضليلٍ للباحثين عن الحقيقة، في حين أن الإخفاق المتواصل من جانب أصحاب نظريات المؤامرة في إماطة اللثام عن المؤامرة لا يدل إلا على مدى قوة ونفوذ أعدائهم (وسذاجة عموم الناس). ولا تتمتَّع نظريات المؤامرة بحصانةٍ من الدحض فحسب؛ بل هي تزدهر بسببه. فإذا ما بدا الأمر مؤامرة، فهو مؤامرة. وإذا لم يبدُ مؤامرة، فهو بالتأكيد مؤامرة. فالأدلة ضد نظرية المؤامرة تصبح أدلةً على وجود مؤامرة. فهي صائبة في كل الأحوال.
تعريف مناسب
عرَضْنا إذن ستةَ عناصر حاسمة للنهج المؤامراتي. لكن قبل تقييم الموقف والمضيِّ قُدمًا، ثمَّة تحذيرٌ واجب هنا. الوصول إلى قائمةِ مراجعة يُمكن أن يُعطيَ انطباعًا زائفًا بالموضوعية، أو بعبارة أخرى: الشعور بأن بحوزتنا صورةً لملامحِ وجهِ مَن نبحث عنه؛ أو ما يُطلق عليه بيتر نايت الباحث في نظريات المؤامرة نهجَ «كيف تستنتج أنَّ جارك شيوعي». لكن إيما جين وكريس فلمينج يوضِّحان أن «المؤامرات ونظريات المؤامرة تتباينُ بشدة في مدى مصداقيتها ونطاقها وتأثيرها، وهي تُشبه أحيانًا اختبارَ بقع الحبر لرورشاك. فكل محلِّل ينظر إليها ويُفسِّرها بطرق مختلفة.» وتعريف مفهوم غامض مثل نظريات المؤامرة مسألةٌ ذاتية. إذن انظر إلى الخصائص الستِّ التي أوردناها هنا باعتبارها قواعدَ مُجرَّبة لا باعتبارها قوانينَ ثابتة.
وإضافة إلى ذلك، في حين أن بعض نظريات المؤامرة عبارةٌ عن أطروحات مُسهبة وجامعة وتفصيلية ومُستفيضة، فإن البعض الآخر منها يظهر في صورةِ تعبير عن إحساس داخلي، أو بعبارة أخرى: شيء من قبيل تكتيك «أطرح سؤالًا فحسب». فبدلًا من افتراضِ رواية متماسكة، يطرح صاحب نظرية المؤامرة هنا أسئلةً تُثير فيما يبدو مشكلاتٍ تتعلق بالرواية الرسمية — ويكون ذلك مغلفًا دومًا بافتراضٍ ضِمني أن شخصًا ما يكذب — تاركًا مهمةَ فَهْم التفاصيل إلى السامع. هذا التكتيك، وفقًا لعالم النفس مايك وود، اكتسب فيما يبدو رَواجًا مع ظهور شبكة الإنترنت؛ حيث يمكن دحضُ نظريات المؤامرة فور طرحها، ويمكن أن يُفيد الغموض كدرعٍ واقيةٍ من النقد. لكن هذه ليست استراتيجية جديدة. ولا تُستخدم فحسب كآلية دفاعية رخيصة من جانب الأشخاص الذين يفتقرون إلى الجَلَد في الخصومات الفكرية. الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، اشتهَر عنه أنه شكَّل لجنة حول المُتسبِّب في مقتل كينيدي ونشر مقالةً بعنوان «١٦ سؤالًا حول عملية الاغتيال»، ألمحت إلى أن أوزوالد كان مغفَّلًا وأن لجنة وراين كانت متسترة.
يجدر بنا التأكيدُ على أنه ليس هناك خصيصةٌ واحدة — في حد ذاتها — من الخصائص التي تحدَّثنا عنها — تُميز بين حقيقة المؤامرة ووهم المؤامرة. ومجرد انطباق المعايير الستة على زعمٍ ما، ليس معناه أن ذلك الزعم صحيح. تجدر الإشارة أيضًا إلى أن أصحاب نظريات المؤامرة يُواجهون عددًا من المشكلات الفريدة من نوعها. فأولًا، في حين تنحرف نظريات المؤامرة عن المسار الطبيعي الذي يسير العالم فيه على ما يبدو، فإن المؤامرات التي نعرفها فقط هي تلك التي لم تكن جيدة بما يكفي؛ فإما أن تكون قد أُفسِدَت، وإما أن يكون أحدٌ قد أفشى سرَّها، وإما أن تكون قد حققت هدفها ولم يَعُد هناك حاجةٌ إلى سريَّتها. فعندما تكون المؤامرة جيدةً بحق، على حدِّ قول أصحاب نظريات المؤامرة، فإننا ربما نبقى عاجزين عن إثباتها إلى الأبد. وثانيًا، يوضِّح براين كيلي أنه على العكس من العلماء القدامى المملِّين الذين يرتدون معاطفَ لمختبراتهم ويحملون أنابيبَ اختبار، لو أن أصحاب نظريات المؤامرة محقُّون بشأن نظرياتهم، فإنهم ينخرطون في بحثٍ يُحاول شخصٌ آخر بقوة أن يُعرقله: «تخيَّل أن النيوترينوات لا يصعب رصدُها فحسب، بل تسعى جاهدةً لئلا تُرصد!» (علامات التعجب غيرُ معهودة في الأبحاث الأكاديمية، لكنه من غير المعتاد أن يحظى الباحثون بفرصةِ تخيُّل صورة ذهنية لمجموعة من النيوترينوات المراوغة.) وفي ضوء ذلك، تفسير الأدلة التي تنفي حدوثَ مؤامرة على أنها أدلة تُثبت حدوث مؤامرة لا يفتقر بالضرورة إلى العقلانية إلى هذا الحد.
فرفضُ كلِّ زعمٍ بوجودِ مؤامرةٍ دون تروٍّ قد يكون بقدْر الخطأ نفسِه الذي ينطوي عليه القَبولُ بلا تمحيص. فأحيانًا تخدع المظاهر بحقٍّ. فبعض القُوى المؤثِّرة تُحاول أحيانًا حجب الأدلة وتضليلَ الناس. وأحيانًا، تحدث على أرض الواقع مكائدُ خبيثة لا يمكن تصديقها أو تصوُّرها. فعملية «نورثوودز» التي لم يُخطَّط لها بعناية (فضلًا عن عدم قانونيتها ولا أخلاقيتها) تبدو أشبهَ بالمادة التي حيكت منها أكثرُ نظريات المؤامرة غرابة؛ باستثناء حقيقة أنها كانت مدبَّرة في واقع الأمر من قِبَل مسئولين حكوميِّين رفيعي المستوى. (لحسن الحظ، أن مسئولين كبارًا يَعْلونهم منصبًا رفضوا تنفيذ الخطة؛ لكننا سنرى — لاحقًا في الفصل الخامس — مثالًا مزعجًا لخطةٍ غيرِ أخلاقية حققت نجاحًا على أرض الوقع.)
وصفُ شيءٍ ما بأنه نظرية مؤامرة كثيرًا ما يُستخدَم لاستبعادِ زعمٍ ما باعتباره مثيرًا للسخرية. كنت أتمنَّى أن أُقدِّم تعريفًا أقلَّ ازدراءً. وبرغم ذلك، فإن تعريفنا ليس محايدًا بالكامل. فيبدو من العدالة أن نقول إن هناك علاقةً عكسية على الأرجح بين مدى إظهارِ نظريةٍ ما كلَّ خصيصة من خصائصنا الستِّ ومدى معقوليتها. وبعبارة أشمل، كلَّما زادت واقعية الزعم، زادت احتمالاتُ أن يكون صحيحًا.
وفي جميع الأحوال، تُثير نظريات المؤامرة قدْرًا بالغًا من الاهتمام، والسبب في ذلك تحديدًا هو أن نظريات المؤامرة توجد على طولِ مقياسٍ متدرِّج للمعقولية، ولأنه لا يوجد خطٌّ واضح في الرمل يفصل بين حقيقة المؤامرة ووهم المؤامرة. في الواقع، تُعد النظريات الشاملة للخدع المُروعة التي تفتقر إلى أدلةٍ مثيرةٍ — أو بعبارة أخرى: النظريات التي تنسجم على نحوٍ أمثلَ مع تصوُّرنا عن نظرية المؤامرة — هي أقلُّ شيءٍ يتمخَّض عنه النهج المؤامراتي إثارةً للاهتمام. وكما سنعرف من خلال ما تبقَّى من هذا، فإنه حيثما يكون الحاجز بين الفكر التقليدي والفكر المؤامراتي في أكثر حالاته تشوشًا — أو بعبارة أخرى: حيثما تبلغُ صعوبة التمييز بين المعقولية وجنون الارتياب مداها — نكون على استعدادٍ لتعلُّم الكثير والكثير عن آلية عمل عقولنا.
•••
وبوضعِ كلِّ المحاذير في الاعتبار، هيا نُعِدْ وصفَ نظرية المؤامرة بشيء من الإيجاز. نظرية المؤامرة، بمفهومها الأساسي، هي سؤال بحاجةٍ إلى جواب؛ فهي تفترض أنه ما من شيءٍ على حاله الظاهر؛ وتصوِّر المتآمرين بأنهم ذَوو كفاءة منقطعةِ النظير، ويُحرِّكهم كمٌّ هائل من الشرور، ونظرية المؤامرة تقوم على أساس تصيُّد الأشياء الغريبة، وهي غير قابلةٍ للدحض في نهاية المطاف. هذه الخصائص تُفيد كثيرًا في التفريق بين روايتين لأحداثِ الحادي عشر من سبتمبر اللتَين بدأنا بهما هذا الفصل. فحتى بالرغم من أن الزعم القائل بأن المختطفين المنتمين لتنظيم القاعدة تآمروا لشن الهجمات يطرح نظريةً عن مؤامرةٍ ما، فإن هذا الزعم لا ينسجم مع معاييرِ نظرية المؤامرة، في حين أن الزعم القائل بأن الهجمات كانت عمليةً داخلية مدبرة ينسجم مع الوصف تمامًا.
والأهم من ذلك أنه عن طريق معرفة الدوافع التي تقفُ وراء نظريات المؤامرة؛ فقد كشفنا بعضَ الدلائل حول الدوافع المحرِّكة لأصحاب نظريات المؤامرة. فنظرياتُ المؤامرة على هذا النحو؛ لأنها نِتاجٌ لخيال شخصٍ ما، وهي تلقى رواجًا لأنها تنسجمُ مع خيالات الآخرين. وخيالنا — نوع الأفكار التي نجدها جذابة ومعقولة — تقيده سيكولوجيتنا. فحتى تقتنع بزعمٍ يفي ببنود تعريفنا، قد يكون من المفيد مثلًا أن تنفتحَ على جميع مزاعم التآمر غير المُثبتة، إذا كنت معتادًا على رفض الرأي السائد، وإذا كنت تظن أنه لا شيء يحدث عن طريق الصدفة، وإذا كنت تعتزم الدخول في مواجهةٍ مع الشر، وإذا كنت ترغب في تفسير الأشياء الغريبة، وأيضًا إذا كنتَ قادرًا على الاحتفاظ بقناعاتك مهما كانت الأدلة (أو إن غابت الأدلة).
ما نوعية الناس الذين يَميلون للتفكير بهذه الطريقة، وما السبب؟ هذان سؤالان عكف علماءُ النفس على دراستهما، على مدار عقود، بطريقةٍ ما أو بأخرى. والإجابة عن السؤال الأول هي: نحن جميعًا، بدرجةٍ ما أو بأخرى. أما فيما يخص معرفة السبب وراء تفكيرِنا بهذه الطريقة، فالأمر يحتاج إلى مزيد من التوضيح.