العقلية المؤامراتية
«إذن هل يوم نظرية المؤامرة مجردُ اجتماعٍ بريءٍ لأشخاصٍ متشابهِي التفكير، أم شيءٌ أفظع وأشدُّ غموضًا من ذلك بكثير؟» كان الارتياب يتصاعد على أحدِ منتديات الإنترنت التابعة لإحدى القنوات التليفزيونية الفضائية البريطانية الغامضة والتي توقَّف نشاطها حاليًّا — قناة «كونتروفيرشال تي في»، القناة ٢٠٠. وقال مستخدمٌ آخر: «كلما فكرتُ في هذا الأمر، أشعر بمزيد من عدم الارتياح.» وتساءل مُعلِّق يُطلق على نفسه «أنجريهيد»: «هل من الممكن أن يكون المؤتمر الوشيك في لندن خطوةً صامتة نحوَ وضعِ أسسٍ للإقصاء المستقبلي ثم الاضطهاد لأصحاب نظريات المؤامرة من خلال نظام الدولة؟»
المؤتمر الذي كانوا يتحدثون بشأنه كان يتضمن سلسلةً من الأحاديث عن الإيمان بنظريات المؤامرة، يُلقيها لفيفٌ من الأكاديميين وكنت واحدًا من بينهم. لكنه قبل بدء المؤتمر، استرعى انتباهَ منظِّم الحدث التدقيقُ الذي كانت تحظى به أجندتُنا. وبروح الانفتاح والشمولية، وجَّه دعوةً. فقد أشار بإرسالِ متحدثٍ يُمثِّل وجهة النظر الأخرى. وقد حضر إيان آر كرين. ووفقًا لموقعه الإلكتروني، فإن كرين «مسئول تنفيذي سابق في مجال النفط، وهو يُحاضر حاليًّا وله مؤلفاته، كما تُذاع له أحاديثُ حول الشبكات الجيوسياسية التي تُحاك في الوقت الراهن، مع تركيزه الخاصِّ على الهيمنة الأمريكية وأجندة النظام العالمي الجديد للسيطرة على موارد العالم.»
الجمهور المعتاد لمثل هذه النوعية من الفعاليات يضمُّ في الأساس باحثين وَديعين لديهم اهتمامٌ بالعلوم الاجتماعية. لكنه بفضل الجدل الذي كان دائرًا على المنتدى المذكور، ومشاركة إيان، كان من بين الحضور مجموعةٌ من متابعي قناة «كونتروفيرشال تي في» الذين كانوا يعتقدون أننا جميعًا أبواقٌ حكومية. وكان التوترُ واضحًا. كنتُ المتحدثَ الأول في هذا اليوم، ويمكنني أن أضيفَ قائلًا إنني كنت حينذاك طالبًا في مرحلةٍ مبكرة من الدراسات العليا للحصول على درجة الدكتوراه، وكنت بريءَ الملامح حيويَّ المظهر. كانت تلك أولَ تجرِبة لي في الخطابة. ونظرًا إلى شعوري بأنني أواجه موقفًا لم أتهيَّأ له تمامًا، خطرت ببالي فكرةٌ حسبتُها جيدةً بأن أستهلَّ كلامي بشيء طريف. قلت إنه من اللطيف أن أرى المتحدثين الآخرين؛ إذ لم نجتمع في قاعة معًا منذ مؤتمر بيلدربيرج. لكن فكرتي لم تُفلح كثيرًا.
يتعين عليَّ أن أقول إن وجود إيان وتنوُّع الرؤى بين الوفود كان عاملًا مهمًّا في خروج المؤتمر بشكل جيد. فقد كان هناك جدلٌ حيوي بين المتحدثين وأفرادٍ من الجمهور خلال المؤتمر، وكان حديث إيان الذي تمحورَ حول كيف أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت عمليةً داخلية مدبَّرة، بمثابة وجهة النظر المُعارضة لأحاديثِ الآخرين. ثم حانت اللحظة التي استرعَت انتباهي بشدة — ككثيرٍ من أكثر اللحظات إثارةً في الحياة — في المشرب بعد ذلك. فقد تحدثت مع أحد أفراد الجمهور الذين كانوا على يقينٍ من أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت عمليةً داخلية مدبَّرة. لكن اتضح لي، أنه لم يكن مُغرمًا كثيرًا بإيان آر كرين. سألته إذا كانت الحكومة تقف بالفعل وراء أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولماذا يُسمح لإيان بأن يتجولَّ في كل مكانٍ مخبِرًا هذا وذاك؛ ولماذا لا يُخرِسه المتآمرون وينتهي الأمر؟ نظر إليَّ ومال نحوي. قال إنه من الوارد جدًّا أن يكون إيان آر كرين يعمل لصالح الحكومة، محاولًا تجريدَ أصحابِ نظريات المؤامرة من المصداقية عن طريق إظهارهم بمظهر الحمقى.
هذه كانت مفاجأةً بالنِّسبة إليَّ. لم أشعر بالصدمة من أن زملائي الأكاديميين وأنا كنا موضعَ شك في أن نكون عملاءَ مدعومين من الحكومة لترويجِ معلوماتٍ مضلِّلة. كنا نقول في الأساس إنه ربما ليس هناك تسترٌ، وبرغم كل ذلك، هذا ما يُفترض أن أقوله كشخص يُمثل جزءًا من التستُّر المزعوم. لكن فكرةَ أن يكون شخصٌ ما يزعم أنه يسعى لفضحِ تستُّرٍ ما جزءًا من التستُّر الذي يسعى لفضحه تُمثِّل مستوًى آخر مختلفًا تمامًا من المراوغة.
كانت تلك هي المرةَ الأولى التي أصادف فيها هذا النوع من نظريةِ ما وراء المؤامرة. لكنه اتضح لي أن هذه فكرةٌ شائعة للغاية بين أصحاب نظريات المؤامرة المخلصين. في كتابه «إفشاءات: التواصل مع الكائنات الفضائية والخداع البشري»، يعتقد جاك فالي اختصاصيُّ علم الفيزياء الفلكية وعلم الأجسام الطائرة المجهولة الهوية أن الكثير من المزاعم الخاصة بمشاهدات للأجسام الطائرة المجهولة الهوية وعمليات الاختطاف الخارجية هي جزءٌ من حملة التدليل الممنهجة التي تهدفُ إلى تقويض مصداقية الباحثين الجادِّين (أمثال فالي نفسه بطبيعة الحال) في مجال الأجسام الطائرة المجهولة الهُوية. فالمنطق يقول إن التخويف أو الترغيب أو القتل أو غير ذلك من وسائل إسكاتِ كلِّ صاحبِ نظريةِ مؤامرة يصطدم بالحقيقةِ غيرِ المعقولة؛ قد يكون مرهقًا ومكلِّفًا للغاية. ربما يكون من الأسهل تجريدُ الحركات المؤامراتية من مصداقيتها من داخلها، عن طريقِ نشرِ نظرياتٍ أكثرَ تعقيدًا وسخفًا وهزلًا، وأبعدَ ما تكون عن المعقولية؛ ومن ثَم تهيئة مناخ يُنظر فيه إلى أصحاب نظرية المؤامرة دومًا بأنهم مجردُ أشخاصٍ غريبي الأطوار لا يُلتفَت إلى كلامهم الفارغ. وكما يقول فالي، لا يمكنك أن تُوقف قطارًا مسرعًا بمجرَّد الوقوف أمامه. ربما تكون الوسيلة الفُضلى أن تصعد على متنه وتَزيد من سرعته إلى أن يفقدَ السيطرة ويخرج عن القضبان.
بل إن هناك حتى نظريةَ مؤامرة لِرَواج مصطلح نظرية المؤامرة نفسِه. فحسبما يقول لانس ديهافن-سميث، فإن الحقيقة القائلة بأن المصطلح جاء ليقترن بالتفكير المختل «كانت شيئًا مخطَّطًا له ومدبَّرًا من جانب الحكومة نفسها.» وعلى وجه التحديد، بدأ عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الترويج سرًّا للمصطلح في ستينيَّات القرن العشرين «كحملةٍ تُدار من وراء الكواليس ضد نقَّاد لجنة وارين»؛ طريقة مختصرة لوصف الشخص الذي يزعم هذا بأنه مجنون. ووفقًا لبوب بلاسكيافيتش، الذي يُدرِّس مقرَّرًا عن نظريات المؤامرة بجامعة ويسكونسن أو كلير، بدأت هذه الفكرة في أواخر تسعينيَّات القرن العشرين، ومنذ ذلك الحين اكتسبت زخمًا. وفي كتابه الذي صدر عام ٢٠١٣ تحت اسم «نظرية المؤامرة في أمريكا»، يتحسَّر ديهافن-سميث قائلًا: «حملة وكالة الاستخبارات المركزية لترويج مصطلح نظرية المؤامرة وجعل الاعتقاد في المؤامرات هدفًا للسخرية والخصومة، تُعد للأسف أكثرَ مبادرات الدعاية نجاحًا في جميع الأوقات.» (وذلك بالرغم من أن ديهافن-سميث يعترف في الجملة التالية مباشرةً أن الناس يتشكَّكون في رواية القاتل الوحيد أكثرَ من تصديقها، وهو ما يبدو، على الأقل من وجهة نظري، أنه يُقلل بدرجةٍ ما أو بأخرى من نجاح الحملة المُغرضة المزعومة.)
كل هذا يُسلِّط الضوء على واحدة من السمات المحورية للعقلية المؤامراتية. فالمؤامراتية عدسة يمكن رؤية العالم من خلالها، وهي قادرة على تشويهِ كل شيء في مجال رؤيتها. فكل شيء — حتى ولو كان مؤتمرًا أكاديميًّا بسيطًا — يمكن أن يصبح جزءًا من المؤامرة، ويمكن أن يكون كل شخص متورطًا فيها، سواءٌ كان ينشر نظريات المؤامرة أو يكشف زيفها. بطبيعة الحال، ليس كلُّ مَن يُصدِّق نظريات المؤامرة يسقط في قاع هذا الجحر الفكري الغائر. غير أنه، كما سنرى، العقلية المؤامراتية تدفع خبراء المؤامرة على تلطيخ كل شيء في أغلب الأحيان باللون ذاته؛ حتى عندما يكون هذا معناه الاعتقاد بأن كل شيء تذكره الصحف مؤامرة، أو تصديق قصص ملفَّقة عن مشروبات الطاقة أو الانسياق وراء نظرياتٍ يُعارض بعضُها بعضًا في الوقت ذاتِه.
هاشتاج العِلم الزائف
في ١٤ ديسمبر ٢٠١٢، قرَّر آدم لانزا، وهو شابٌّ مضطرب شُخِّصت حالته بأنه يُعاني متلازمةَ أسبرجر واضطرابَ الوسواس القهري، أن يقتل عددًا من الناس رميًا بالرصاص. وقتل والدته في منزلهم في نيوتاون، بولاية كونيتيكت، ثم اتَّجه بسيارته إلى مدرسة ساندي هوك للتعليم الأساسي؛ حيث أطلق الرصاص على ستةٍ بالغين و٢٠ طفلًا وأرداهم قتلى. وعندما وصلت الشرطة، أطلق لانزا الرصاصَ على نفسه.
استغرق الأمرُ من المحققِين أيامًا كي يجمعوا تفاصيلَ ما حدث ويُطلِعوا الجمهورَ على ما توصَّلوا إليه من معلومات. لكنه في الساعات التي أعقبت المأساة، كان الارتباك سيدَ الموقف. فقد تنافست وسائلُ الإعلام الإخبارية على إذاعة الأخبار الحصرية، ما أدَّى إلى نشر شائعات غير مؤكدة عن هوية الشخص أو الأشخاص المسئولين عما جرى ودوافعهم، ثم بعد ذلك بدقائق أو ساعات تراجعت تلك الوسائل الإعلامية عن المزاعم التي أذاعتها عندما أُعلنت نتائج التحقيقات. وعلى مدار اليوم، أُذيع خطأً أن ثمَّة قاتلًا ثانيًا تورَّط فيما حدث، وهو رجل قيل إنه يرتدي زيًّا عسكريًّا؛ وإن القاتل كان أبًا لطفلٍ في المدرسة؛ وإن والدة القاتل كانت معلِّمة في المدرسةِ ذاتِها. والأسوأ من ذلك، أنه اتُّهم لبضع ساعاتٍ، شقيق القاتل الفعلي، ويُدعى رايان لانزا، خطأً بأنه الجاني في حين أنه في حقيقة الأمر كان مستقلًّا حافلةً من مكتبه في منهاتن إلى منزله الجديد في نيوجيرسي؛ حيث دافعَ عن براءته بغضب وهياج شديد عبر موقع «فيسبوك».
ومع ذلك، حتى في ساعات الفزع التي أعقبت إطلاقَ النار مباشرة، لم يكن يشعر بعض الناس بأن ثمَّة حاجةً إلى مزيدٍ من التفسير لما جرى. فقد عرَفوا بالفعل مَن يقف وراء عملية إطلاق النار: الحكومة الأمريكية هي التي دبَّرت ما جرى. وسرعان ما غمرت المقالاتُ والتعليقات مواقعَ نظريات المؤامرة الإلكترونية؛ حيث زُعم أن القاتل (أو عددًا من القتَلة، على الأرجح) كان شخصًا ساذَجًا استغلَّته الحكومة تحت تأثير غسيل الدماغ. وزعم أصحاب نظريات المؤامرة أن آباء الأطفال القتلى المفجوعين كانوا أشخاصًا يؤدون دَورًا قد رُسم لهم، وأن الرئيس أوباما كان يتظاهر بالبكاء خلال مؤتمر صحفي. وقد اعتبر البعض تراجع وسائل الإعلام عن المعلومات غير الصحيحة دليلًا على التستُّر. وأرسل أحد أصحاب نظريات المؤامرة رسالةً إلى والد آدم لانزا، مؤكدًا له أن ابنه قد جرى تخديرُه بواسطة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وأُجبر على ارتكاب أفعاله تلك بهدف كسبِ الدعم لقانون الرقابة على الأسلحة.
عندما تُعرَض الأحداث على الشاشات، فإن فرصة المحققين الهواة لاستخراجِ أدلةٍ على وجود مؤامرة تكون أكبر. في ١٥ أبريل ٢٠١٣، انفجرت عبوتان ناسفتان بالقرب من خط النهاية لماراثون بوسطن. قُتل ثلاثة أشخاص، وجُرح أكثر من ٢٠٠ آخرين. وخلال ساعة، كتب ألكس جونز أحد أصحاب نظريات المؤامرة المحترفين، على حسابه عبر موقع «تويتر»: «انفطرت قلوبنا على الجرحى والقتلى … لكن ما حدث تفوحُ رائحته لتبلغ عَنان السماء #العلَم الزائف.» وفي عصر اليومِ نفسِه، خلال مؤتمر صحفي متلفز، سأل أحدُ زملاء جونز ويُدعى دان بيدوندي حاكمَ ولاية ماساشوستس ديفال باتريك ما إذا كان ما حدث «هجومًا داخليًّا آخَر لانتزاع حرياتنا المدنية وتعزيزِ الأمن الداخلي من خلال تشديد القبضة الأمنية علينا في الشوارع.» كانت إجابة باتريك القاطعة: «لا، السؤال التالي.»
على شبكة الإنترنت، أخذ آلافٌ من الناس يفحصون الصور التليفزيونية والفيديوهات الإخبارية وصور وفيديوهات الهواة وروايات شهود العيان من مسرح الانفجارات، باحثين عن أيِّ مظاهر غريبة قد تسترعي انتباهَهم. وظهر في إحدى الصور التي جرى تداولها على نطاق واسع — كانت قد التُقطت في اللحظة التي انفجرت فيها العبوتان الناسفتان — رجلٌ كان يسير مسرعًا على ما يبدو فوق سطح أحد الأبنية القريبة، ما أثار الظنونَ بأن الرجل كان له علاقةٌ بالانفجارات. وظهر في صورة أخرى رجلان غامضان يرتدي كلٌّ منهما قبعةً ويحمل حقيبة على ظهره، وزُعم أنهما تابعان للجيش وأنهما كان يُديران الهجوم سرًّا. وأظهرَت صورة ثالثةٌ التشابهَ بين أحد الجرحى وجندي فقدَ كِلا ساقَيه في أفغانستان قبل الحادث بعامين، وقد جرى تداول هذه الصورة باعتبارها دليلًا على أن التفجير كان مدبَّرًا، وأن الضحايا كانوا يُمثِّلون فحسب. وقد كتب فيليب بامب، على موقع «واير» أنه بدءًا من الساعة ١٠:٣٠ مساء اليوم الذي وقع فيه التفجير — أي بعد ثماني ساعات من الانفجارات — كانت عملياتُ البحث على محرك البحث «جوجل» عن عبارة «العلَم الزائف لماراثون بوسطن» أكثرَ من ٨٥ ألف عملية.
وتحظى الأحداثُ التي تقع في أماكنَ أخرى من العالم بقدْرٍ مشابهٍ من التدقيق. ففي حوالي الساعة الثانية من عصر يوم ٢٢ مايو ٢٠١٣، هاجم رجلان جنديًّا بريطانيًّا يُدعى لي ريجبي وأرْدَياه قتيلًا في أحد شوارع وولويتش، إحدى ضواحي لندن، في محاولةٍ لقطع رأسه بمنجل على مرأًى من المارَّة المذعورين. وعلى شبكة الإنترنت، فحص المعلِّقون أصحابُ العقلية المؤامراتية صورًا وفيديوهات من مسرح الجريمة، مُسلِّطين الضوءَ على وجودِ أشياءَ غريبةٍ ظاهرةٍ مثل ما اعتبَروه عدم وجود كمية كافية من الدم. وبالمثل، في صبيحة ٧ يناير ٢٠١٥، أطلق مسلحان النارَ على مكتب باريس للصحيفة الفرنسية الهزلية «شارلي إيبدو»، ما أدَّى إلى مقتل ١١ شخصًا وجرح ١١ آخرين. وبينما كان المسلحان يفران هاربَين من مسرح الجريمة، توقَّف أحدهما ليُطلق الرصاص على أحد ضباط الشرطة ليُصيبه في الرأس؛ حيث استلقى على الأرض متوسِّلًا الإبقاءَ على حياته. وعندما ظهر فيديو الإعدام الصادم، الذي صوَّره أحد شهود العيان من مبنًى قريب، شكا بعضُ أصحاب نظريات المؤامرة مجددًا من عدم كفاية الدماء في مسرح الجريمة. وقد كتب أحد المعلقين على الفيديو قائلًا: «الروايات الرسمية مشكوكٌ فيها؛ لأن القوة دائمًا ما تحتاط لنفسها، يبدو هذا مثالًا جيدًا — سواءٌ كان ما يُظهِره شيئًا غيرَ مؤذٍ نسبيًّا أو خبيثًا — لتذكيرنا بهذه الحقيقة.»
حتى الطقس قد يكون جزءًا من المؤامرة. يظل إعصار كاترينا الذي ضرب الجزء الجنوبي الشرقي من الولايات المتحدة في أغسطس ٢٠٠٥، أحدَ أسوأ الكوارث الطبيعية التي حدثت في أمريكا. وفقًا للتقديرات، فإن أكثر من ١٨٠٠ شخص لَقُوا حتفهم، وبلغت كُلفة الدمار ما يُقارب ٨١ مليار دولار أمريكي. وكانت أكثر المناطق تضررًا بالإعصار هي نيو أورليانز حيث انفجرَت السدود لتغمر المياهُ المدينةَ. وقد انطلقت نظريات المؤامرة عن إعصار كاترينا دون إبطاء، وهي لا تزال رائجة. فالبعض يزعم أن السدود دُمِّرت عمدًا في محاولةٍ للاستغلال التجاري أو التطهير العرقي؛ في حين زعم البعض الآخر أن الإعصار كان من تدبير حكومة بوش باستخدام تقنية عسكرية سرية بالغة التأثير للتلاعب بالطقس.
•••
لا أقول إن التفكير المؤامراتي نتاجُ العصر الرقمي. فكلٌّ من وسائل الإعلام بوجهٍ عامٍّ ومنتقديها يسعَون جاهدين لإشباع الطلب المتصارع على الحقيقة والرغبة في الوصول إلى إجاباتٍ سريعة. كلُّ ما هنالك أن شبكة الإنترنت جعلت تداول المعلومات أسهلَ وأسرع من أيِّ وقتٍ مضى، حتى أثناء تكشُّف الأحداث شيئًا فشيئًا. فخلال دقائقَ من وقوع حدثٍ ما يهزُّ الشبكات الإخبارية، يمكن لأي شخص لديه اتصالٌ بشبكة الإنترنت أن يبدأ في الإدلاء بدلوِه كيف أن ما جرى دليلٌ على نوعٍ ما من المؤامرة أو التستُّر. وكما أشار عالم النفس مايك وود، فإن شبكة الإنترنت والأخبار التي لا تنقطع على مدار الساعة تُوفِّران مادةً خِصبة تستغلها نظريات المؤامرة إذ يقول: «نظرًا إلى هذا الكمِّ الهائل، تزداد احتمالاتُ وجود تناقضات وشذوذات يمكن اقتناصها واستغلالها كأدلةٍ ضدَّ الرواية السائدة للحدث.» وتتيح شبكة الإنترنت، من ناحية أخرى، إمكانيةَ دحض نظريات المؤامرة سريعًا بمجرد ظهورها.
الفكرة أن إطلاق النار في مدرسة ساندي هوك وتفجير بوسطن وهجمات وولويتش وشارلي إيبدو وإعصار كاترينا هي مجردُ بضعة أمثلة حديثة نسبيًّا من بين عددٍ لا ينتهي من الأحداث التي تُمثِّل وقودًا لخيالات أصحاب نظريات المؤامرة. فبدءًا من التفجيرات وعمليات إطلاق النار مرورًا بكوارث الطائرات واختفائها، والصراعات الدولية وصولًا إلى نوباتِ تفشِّي الأمراض، قلما تجد حدثًا في الأخبار لا يُثير على الأقل موجةً قصيرةَ الأمد من نظريات المؤامرة.
الحقيقة القائلة بأن بعض الناس يُسارعون في استنتاج نظريات مؤامرة أو الاقتناعِ بها، حتى في الدقائق الفوضوية التي تعقبُ الحدث، عندما يصعب الوصولُ إلى تفسيرٍ فوري لما جرى، تُلمِّح إلى أن ضلوع التفكير المؤامراتي في الأمر أكثرُ من التقييم الحيادي للأدلة. ففيما يخص أحداث على غرار اغتيال جون كينيدي، والهبوط على سطح القمر، أو حتى هجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ فقد مرَّت السنون، وجُمعت المعلومات؛ ومن ثَم يمكن للأشخاص الذين يدعمون نظريات المؤامرة أن يزعموا بمعقولية أنهم قد درَسوا الأدلة. لكن في خضمِّ حالة الارتباك التي تعقب أي حدث — كما هي الحال عندما تكون وسائلُ الإعلام غيرَ متيقِّنة من عدد المسلحين الذين فتحوا النار على الأطفال العُزَّل في مدرسة ساندي هوك، أو غيرَ متأكدة من هُوية الجاني في حالةِ تفجير بوسطن — يكون من الصعب الوصولُ إلى استنتاجاتٍ سريعة نظرًا إلى قلة الأدلة، ويمكن أن تتغير الرواية سريعًا بمجرد ظهور معلومات جديدة. في مثل هذه المواقف، لا يمكن أن يكون زعمُ أي شخص ليس لديه معلومات خاصة أن هناك مؤامرةً، قائمًا على دراسة واعية للأدلة. فالأمر أشبهُ بما لو أن النظريات جرى فبركتُها سلفًا. تقول إيما جين وكريس فلمينج: «هذه استنتاجات تترصَّد لأيِّ حقائقَ داعمة.»
مؤامرة واحدة في صور شتَّى
التلميح الثاني إلى أن المؤامراتية لا تتعلق بالأدلة فحَسْب يتمثَّل في أن الأحداث المتنوعة التي تبدو غيرَ مترابطة والتي تؤدي إلى ظهورِ نظرياتِ مؤامرة نادرًا ما تُفسَّر على أنها نِتاج مؤامراتٍ غيرِ مترابطة خطَّطت لها مجموعاتٌ مستقلة بدوافعَ وأهدافٍ شديدة التفرُّد. وعوضًا عن ذلك، يمتلك أصحاب نظريات المؤامرة براعةً واضحة في حياكة عدد كبير من الأحداث التي تبدو غيرَ مترابطة معًا، لتشكيل نسيج قوي واحد.
ففيما يتعلق بعملية إطلاق النار في مدرسة ساندي هوك، تزعم كثيرٌ من النظريات أن تلك العملية لم تكون سِوى الحدثِ الأخير ضمن سلسلةٍ من العمليات المدبَّرة داخليًّا التي تشمل عمليات إطلاق النار على مدرسة كولومباين الثانوية وجامعة فيرجينيا للتقنية وسينما في أورورا بكولورادو ومعبد سيخ في ويسكونسن وأحد مراكز التسوق في أوريجون، وهلم جرًّا. ويقولون إن كل هذه الأحداث المفزعة جزءٌ من المهمة ذاتها: مكيدةٌ من تدبير عملاء الحكومة السريين بهدف إلغاءِ حقِّ امتلاك الأسلحة الذي أقرَّه التعديلُ الثاني. (وبهذه الطريقة، لن يكون الشعب قادرًا على مقاومةِ تطبيق النظام العالمي الجديد حينما يحين أوانه.) بل قد تمتدُّ الروابط المؤامراتية بين الأحداث لتشملَ استخدام نفس اللاعبين في شنِّ فظائعَ مختلفة؛ يوضح مايك وود قائلًا: «العديد من فيديوهات موقع «يوتيوب» تزعم أنها تُظهر أشخاصًا في موقع تفجير ماراثون بوسطن يُشبهون على نحوٍ غامض أشخاصًا آخرينَ تورطوا في إطلاق النار في مدرسة ساندي هوك، ما يدعم أكثرَ الفكرة القائلة بأن كِلا الحادثَين كان نِتاجَ خدعة استُعين فيها بنفس الأشخاص.»
وبحسب بعض الأشخاص الذين يعتقدون أن إعصار كاترينا كان جزءًا من مؤامرة إبادة جماعية، فإن عواصفَ أخرى شديدةَ التدمير وأمواج تسونامي عاتية وزلازلَ بالغة القوة هي أيضًا، في نظرهم، جزءٌ من تلك المؤامرة. وهم يزعمون أن مصدرَ كلِّ ظاهرة طبيعية خارجة عن المألوف، بدءًا من الزلازل المدمِّرة وصولًا إلى المعدلاتِ غيرِ المعتادة لهطول لمطر، هو برنامجُ أبحاث الشفق النشط عالي التردد؛ وهو مرفق بحثي عسكري أمريكي (تقرَّر إيقافه مؤخرًا) تستخدمه الحكومة للتلاعب بالعواصف وافتعال الزلازل دون التفكير في العواقب، حسب اعتقادهم.
هذه الرغبة الملحَّة في تفسيرِ كلِّ شيء تقريبًا يحدث في العالم كجزء صغير من خدعةٍ أكبر بكثير يتغلغل في ثنايا التفكير المؤامراتي. قضى جوناثان كاي، وهو مراسلٌ لصحيفة «ناشونال بوست» الكندية، بعض الوقت في التحاور مع أصحاب نظريات المؤامرة فيما يخصُّ أحداث الحادي عشرَ من سبتمبر، وذلك خلال تأليفه كتاب «وسط مناصري حركة الحقيقة»، وقد وجد أن الحديث عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر سيقود حتمًا إلى نظرياتِ مؤامرةٍ أخرى؛ وكثيرًا ما يصل الأمر إلى الحديث عن هُوية المتورِّط في قتل جون كينيدي. كتب كاي يقول: «استهِلَّ حديثًا مع أحد أنصار حركة حقيقة أحداث الحادي عشر من سبتمبر بشرط أن يكون في منتصفِ العمر، وأؤكد لك أنك ستجدُه صاحبَ نظرية مؤامرة فيما يتعلَّق بمقتل جون كينيدي.» وقد لمستُ الاتجاهَ ذاته عند حديثي في مهرجان بيلدربيرج الذي يُقام على هامش مؤتمر بيلدربيرج إلى مجموعة من الناس الذين يُفسِّرون كل شيء، بدءًا من الاحترار العالمي وصولًا إلى الطاعون الأسود، على أنه مكائدُ خبيثة. (سوف نعرف المزيد عن مهرجان بيلدربيرج في الفصل السادس.) ولعل أوضح مثال يأتينا من ديفيد أيك. اشتهَر عن أيك إلقاءُ محاضراتٍ طويلةٍ غيرِ مكتوبة مدتها ١٠ ساعات، على أسماع جموع غفيرة؛ حيث يُفسر خلالها التجرِبةَ الإنسانية برُمَّتها على أنها جزء من مؤامرةٍ متداخلةِ الأبعاد. يقول أيك خلال محاضرةٍ ألقاها عام ٢٠١٤ في ساحة ويمبلي في لندن: «يقول الناس إنني أرى مؤامراتٍ في كل مكان؛ وهذا غير صحيح. فأنا أرى مؤامرةً واحدة تتَّخذ صورًا شتَّى.»
•••
الناس، باختصار، لا يقتنعون في الأغلب بنظريةِ مؤامرةٍ واحدة فحسب. وبدلًا من ذلك، فإن الشخص الذي يعتقد أن مؤامرةً ما تقف وراء حدثٍ ما يعتقد على الأرجح أن التفسير الأمثل للكثير من الأحداث الأخرى أنها وقعت نتيجةً لخططٍ ومكائدَ وعملياتِ تستُّر مماثلة. وبالمنطق ذاته، فإن الشخص الذي يُشكك في نظرية مؤامرة معينة يُشكك على الأرجح في الكثير من نظريات المؤامرة الأخرى.
هذا قد لا يكون شيئًا مستغرَبًا. فقد وجدنا أنفسنا جميعًا نُجادل شخصًا يبدو أنه يعتقد أن كل شيء يحدث في العالم هو دليلٌ على مؤامرة. لكن ينبغي أن يُثير هذا استغرابَنا. فالسؤال حول ما إذا كان إطلاقُ النار الجنونيُّ في فرنسا كان مخطَّطًا له من قِبل عملاء حكوميِّين لا صلة له، كما هو ظاهرٌ، باحتمالية أن تكون الأميرة البريطانية قد اغتيلت على يد الأسرة الحاكمة، وهو بدوره لا صلةَ له بمسألة ما إذا كانت الحكومة الأمريكية تمتلك تقنية سرية للتلاعب بالطقس، وهو ما ليس له صلةٌ بمسألةِ ما إذا كان مقطع الفيديو الذي يعرض قفزة البشرية العملاقة لنيل أرمسترونج قد صُوِّر على سطح القمر أو في أحد الاستديوهات السينمائية الأرضيَّة. ويُفترض من الباحثِ غيرِ المتحيِّز أن يُخصِّص لكل زعم درجةً مختلفة من المعقولية. لكن هذا، فيما يبدو، ليس الحال. فقد شهدنا مؤشراتٍ لهذا الاتجاه في الاندفاع التلقائي نحو تصنيف الأحداث الجارية كجزءٍ من مؤامرة، والميل نحو رؤية كل مؤامرة على أنها مجردُ عنصرٍ من مؤامرةٍ أكبر. لكن من المهم أن نتأكد من عدم تحيزنا، بانتقاء عددٍ من الأمثلةِ غيرِ الدالة. فنحن بحاجةٍ إلى دعم الملاحظات الروائية ببياناتٍ واقعية.
فيما يتعلَّق بقياسِ مدى الاعتقاد بنظريات المؤامرة، لا يسأل علماء النفس الناسَ ببساطة ما إذا كانوا يعتقدون أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر مثلًا مؤامرةٌ داخلية أو لا. هذه نقطة مهمة، لأننا لسنا مهتمين فحسب بعقولِ أكثرِ أصحاب نظريات المؤامرة التزامًا، بل نحن مهتمُّون أيضًا بالكيفية التي يُشكِّل بها الجميعُ أفكارهم ومعتقداتهم. ففي حين أن هناك بعضَ الناس بالتأكيد على قناعةٍ تامة بأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت مؤامرةً داخلية — وبعض الناس على قناعةٍ بأنها لم تكن كذلك — فإن أغلب وجهات نظر الناس تنحصرُ في المنطقة الرمادية بين الرفضِ التامِّ والقبول التام. فلعله يعتريك شكٌّ طفيف بأنها كانت مؤامرة؛ أو ربما تكون متأكدًا تمامًا من أنها لم تكن مؤامرة؛ أو ربما لم تحسم أمرَك بهذا الشأن بعد. بعبارةٍ أخرى الاعتقاد ليس مسألةَ نعم أو لا؛ بل له نطاقٌ متدرِّج. ونريد أن نرصد هذا النوع من التباين؛ لذا فإننا لا نكتفي فقط بقياس الاعتقادِ الصِّرف أو عدم الاعتقاد الصرف. كما أننا لن نقيس الاعتقاد بنظرية مؤامرة واحدة فحسب. فحتى نتبيَّن ما إذا كان هناك نمط للطريقة التي يُقيِّم بها الناس النظريات المختلفة، نحن بحاجةٍ إلى أن نسأل عن مجموعةٍ منها.
قد يبدو هذا معقَّدًا من الناحية النظرية، لكنه في الواقع العملي، شيء مباشر للغاية. تخيَّل (أو ربما يكون من الأفضل أن تكتب على ورقة) الأعداد من ١ إلى ٧، في صفٍّ، من اليسار إلى اليمين. الرقم ١ يعني أنك مقتنع تمامًا بأن أحداث الحادي عشرَ من سبتمبر لم تكن مؤامرةً داخلية دبَّرَتها الحكومة الأمريكية، والرقم ٧ معناه أنك على قناعة تامةٍ بأنه كان مؤامرةً داخلية، والرقم ٤ في الوسط معناه أنك متردِّد بين كلا التفسيرَين، ولم تحسم أمرَك. والأرقام الواقعة في الوسط تُمثِّل درجاتٍ متفاوتةً من الشك أو اليقين. أيَّ رقم ستختار؟ الآن تخيَّل صفًّا آخرَ مماثلًا من الأعداد أسفل الصف الأول. لنقل إن هذا الصف يتعلَّق باغتيال جون كينيدي؛ الرقم ١ يعني أنك مقتنعٌ تمامًا بأنَّ لي هارفي أوزوالد قد ارتكب جريمةَ الاغتيال وحده، والرقم ٧ يدل على أنك مقتنعٌ تمامًا بأنه لم يفعلها، وهكذا. الآن تخيَّل مقياسًا آخرَ أسفل هذا الصف، وهو مقياسٌ يتعلَّق بالهبوط على سطح القمر، ثم تخيَّل مقياسًا رابعًا يتعلَّق بالفكرة القائلة بأن مجموعةً سرِّية صغيرة تتحكم سرًّا في أحداث العالم، ومقاييس أخرى لأي نظرياتِ مؤامرة قد تخطر ببالك.
هل ثَمة نمطٌ في الأعداد التي تضع دائرةً حولها؟ ليس هناك سببٌ يفسِّر عدمَ توزع إجاباتك بطول المقياس. صحيحٌ أن ذلك قد يكون عليه الحالُ بالنِّسبة إلى البعض. لكن عندما نطلب من أعدادٍ كبيرة من الناس استيفاء مقاييسَ كهذه، نجد أن إجاباتهم في أغلب الأحيان، تُشكِّل خطًّا مستقيمًا تقريبًا أسفل الصفحة. فإذا قيَّمتَ إيمانك بنظرية مؤامرة أحداث الحادي عشر من سبتمبر برقم ٣، فالأرجح أنك ستُقيِّم جميعَ النظريات الأخرى بهذا الرقم أو برقمٍ قريب منه. فالشخص الذي يميل إلى إعطاء نظرية مؤامرة الهبوط على سطح القمر تقييمًا مقداره ٥ أو ٦، سوف يختار على الأرجح أرقامًا مشابهةً عندما يُطلب منه تقييمُ أحداث الحادي عشر من سبتمبر واغتيال جون كينيدي والنظام العالمي الجديد وغير ذلك من النظريات الأخرى التي يؤمن بها إيمانًا متوسطًا. وبتعبيرٍ متخصِّص أكثر، ثمَّة ارتباط بين الإيمان بنظريةِ مؤامرةٍ ما والإيمان بنظريات المؤامرة الأخرى؛ حتى عندما لا يكون هناك رابط منطقي ظاهر بين النظريات.
وباستثناءات نادرة، توصَّلت جميع الدراسات تقريبًا التي فحصَت العلاقات بين مستويات التصديق لنظريات مؤامرةٍ مختلفة إلى هذه الأنواع من الارتباطات. فالأمريكيون الذين يعتقدون أن حكومتهم تُخفي مخلوقاتٍ غريبةً في المنطقة ٥١ يُرجَّح أنهم يعتقدون أن اللقاحات غيرُ آمنة. واللندنيون الذين يعتقدون أن ثَمة مؤامرةً تقف وراء تفجيرات ٧ يوليو ٢٠٠٥، على مترو الأنفاق في لندن، يعتقدون على الأرجح أن اغتيالَ مارتن لوثر كينج الابن حدثَ نتيجةَ مؤامرةٍ دبَّرتها الحكومة الأمريكية. والنمساويون الذين يعتقدون أن ثمة مؤامرةً تقف وراء جريمةٍ معروفة وهي اختطاف ناتاشا كامبوش يعتقدون على الأرجح أن الإيدز من صُنع الحكومة الأمريكية. والألمان الذين يعتقدون أن عمليات هبوطِ بعثة أبوللو على سطح القمر كانت مفبرَكة يعتقدون على الأرجح أن النظام العالميَّ الجديد يسعى للهيمنة. وزائرو منتديات علم المناخ الذين يعتقدون أن تغيُّر المناخ مجرد خدعة يعتقدون على الأرجح أن الأميرة ديانا اغتِيلَت على يد الأسرة الملكية في بريطانيا.
لكن لعل أبرزَ مظاهر هذه القوة التنبؤية تتجلَّى في الحقيقة القائلة بأن بعضَ الناس قد يصدِّقون حتى نظرية مؤامرة حاكها علماء النفس من وحي خيالهم. ففي دراسةٍ أُجريت في النمسا، اختلق فريقٌ من الباحثين تحت قيادة فيرين سوامي نظريةً حول مشروب الطاقة الشهير «ريدبول». زعمت النظرية أن هذا المشروب يحتوي على موادَّ محظورةٍ قانونًا (مُستخلَصة من خصيتي الثور) يجعل الناس يرغبون في شرب المزيد من المنتج، والأكثر إزعاجًا من ذلك، أنه أدَّى إلى نمو أجنحةٍ بدائية لدى فئران التجارِب (ومن ثَم ظهر شعار «ريدبول يمنحك أجنحة»). وقد أشارت النظرية إلى أن المشروب وصل إلى الأسواق لأن مبتكِرَه دفع أموالًا لمفتشي الأغذية. لم يكن ريدبول اختيارًا عشوائيًّا؛ فقد اختير كأساس لنظرية المؤامرة لتُناسبه بشكل خاص مع النمساويين المشاركين في الدراسة. فقد ابتكر هذا المشروبَ رجلٌ نمساوي، والشركة الأم لعلامته التجارية هي واحدة من أكثرِ الشركات النمساوية نجاحًا على مرِّ العقود القليلة الماضية. وقد أوضح الباحثون أن المزاعم التي تقول إن نجاح هذا المشروب يستند إلى مؤامرةٍ ينبغي أن يوفِّر أساسًا جيدًا لتشكيل نظرية مؤامرة. وكما هو متوقَّع، قال بعض المشاركين في تقييمهم للمشروب إن تلك المزاعمَ وَجيهة. وكما هو متوقَّع أيضًا، كان الأشخاص الذين اقتنعوا بنظريات المؤامرة تلك الملفَّقة تمامًا، هم نفسَ الأشخاص الذين كانوا على قناعةٍ بأن جون كينيدي قد قُتل بسبب مؤامرة، وأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت مؤامرةً داخلية، وأن النظام العالمي الجديد يُحاول الهيمنة على العالم، وهكذا. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الأشخاص الذين شكَّكوا في نظريات المؤامرة الراسخة تلك، شككوا على الأرجح في نظرية المؤامرة الجديدة أيضًا.
بإيجاز، نقول إن تفاصيل النظريات لا تُهم كثيرًا فيما يبدو. فإذا كنتَ تعرف موقفَ شخصٍ ما من نظرية مؤامرة معينة، فيمكنك أن تتنبَّأ بمواقفه من نظريات المؤامرة الأخرى بدرجةٍ معقولة من التأكد، حتى عندما لا يكون هناك أيُّ ارتباط ظاهر بين النظريات وبعضها.
ميتٌ وحيٌّ
لماذا يعني اقتناعُك بنظرية مؤامرة قَبولَك على الأرجح بجميع النظريات الأخرى (أو، على الجانب الآخر، تشكيكك في إحدى نظريات المؤامرة، معناه رفضُك للنظريات الأخرى)؟ إحدى الإجابات المحتملة التي طرَحها اختصاصيُّ علم الاجتماع تيد جورتزيل، هو أن العقلية المؤامراتية تعمل وفقًا للمنطق المتزعزع القائل بأنه إذا كانت إحدى نظريات المؤامرة صحيحةً، فمن الممكن أن تُؤخذ كدليلٍ على صحةِ نظريات المؤامرة الأخرى. فإذا كنت تظن أن عملاءَ الحكومة الأمريكية قد تورَّطوا في اغتيال جون كينيدي، فالأرجح أنهم تورَّطوا كذلك في شيءٍ مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وإذا كانت السلطات هاجمت مُواطنيها في هجمة إرهابية خادعة، فما الذي يوقفها عن تسميمنا سرًّا بإضافة المواد الكيميائية إلى الماء وإضافةِ السموم إلى اللقاحات؟ وإذا لم تجد غَضاضة في الكذب على مواطنيها بشأن صحتهم وسلامتهم، فلماذا لا تختلقُ الهبوط على سطح القمر وتتستَّر على وجود مخلوقات غريبة؟ وإذا كانت هناك مجموعةٌ صغيرة من المخطِّطين الخارجين عن القانون يستطيعون أن يُفلتوا من العقاب رغم كلِّ ما اقترفوه، فربما هناك مجموعةٌ سريةٌ ما من النخب تُخطِّط لكل شيء يحدث في العالم. وهكذا دوالَيك. فنظريات المؤامرة، تُشكِّل شبكة أبدية من المعتقدات؛ لأنها جميعًا يدعم بعضُها بعضًا. وإذا لم تكن على استعداد لاتخاذ الخطوة الأولى في تصديقِ نظريةٍ ما، فإن بقية النظريات تبدو غيرَ وجيهة بالمثل. لكن بمجرد اقتناعِك بنظريةٍ ما، فإن هذا يفتح البابَ لجميع النظريات الأخرى.
من الناحية النظرية، إقناعُ أحدِ الأشخاص بأن نظريةَ مؤامرةٍ ما صحيحةٌ لا بد أنه يجعله أكثرَ انفتاحًا على نظرياتٍ أخرى من الواضح أنها غيرُ ذات صلةٍ بتلك النظرية. فمثلًا، تخيَّل أنني أخبرك بأن ثمَّة أسبابًا تدعو إلى الشك بشأن حادث السيارة الذي قُتِلت فيه الأميرة ديانا. من المعلوم أن الحكومة البريطانية لم تكن راضيةً عن علاقتها بدودي الفايد، وهو مسلمٌ مصري، ولا عن انخراطها المتزايد في السياسة. فقبل وفاتها بثلاثة أيام فقط، نُقل عنها أنها وصفَت الحكومة بأنها «ميئوس منها». وكان الساسة ينادون بمعاقبتها، حيث جرَت على ألسنتهم تعليقاتٌ قاسية، على غرارِ «ما هذه المرأة التي تُقحم نفسها في السياسة، لماذا لا تنشغل برعاية أطفالها؟» كما وصَفوها بأنها شخص خطير لا يُمكن السيطرة عليه. واستنادًا إلى كل هذا، كان من المنطقي تمامًا أن يتساءل الكثيرون عما إذا كان موتُها حادثًا مأساويًّا فحسب، أو شيئًا أعظمَ من ذلك.
كان هذا، على الأقل، هو ما أخبر به عالِما النفس دانييل جولي وكارين دوجلاس نصف المشاركين في دراسة ٢٠١٤. وقد قرأ النصف الآخر مجموعةً مشابهة من المزاعم، لكنها على العكس كانت تميل إلى معارضة نظرية المؤامرة: «من المعلوم أن شعبية الأميرة ديانا جعلَت بعض أعضاء الحكومة يشعرون بحالةٍ من عدم الارتياح. لكن ليس هناك دليلٌ على الإطلاق يُشير إلى أن الحكومة البريطانية تورَّطَت في قتلها … كان موتها مجردَ حادث مأساوي.» فمن غير المستغرَب أن الأشخاص الذين قرَءوا النسخة المؤيدة لوقوع مؤامرة صرَّحوا بأنهم يعتقدون بقوةٍ أن حادث السيارة الذي لقيت فيه الأميرة ديانا حتْفَها كان اغتيالًا. والأكثر إثارة من ذلك أنهم كانوا أكثرَ انفتاحًا كذلك على نظريات المؤامرة بوجه عام، مثل الفكرة القائلة بأن الحكومة اعتادت توريطَ نفسها في مكائدَ وخططٍ سرية دولية. وكما هو متوقَّع، فإن عرض نظرية المؤامرة ضدَّ ديانا كنظريةٍ وجيهة فتحَ الباب فيما يبدو أمام الاعتقاد بأن الخطط وعمليات التستر الأخرى شائعةُ الحدوث.
•••
المنطق الأبدي الداعم الذي وضَّحه تيد جورتزيل قد يكون جانبًا من العقلية المؤامراتية، لكنه لا يُمثِّل الروايةَ بأكملها. فالأشياء تبدو أكثرَ إثارةً للاهتمام، كما تبين مفارقة عجيبة تتعلق بأسامة بن لادن.
بعد هجمات الحادي عشرَ من سبتمبر بوقتٍ قصير، أثار الرئيس بوش فكرةَ الغرب الأمريكي القديم؛ حيث تعهَّد بإحضار أسامة بن لادن «حيًّا أو ميتًا». وسرعان ما جرى البحث عن الرجل في كل مكانٍ بالعالم. وقد تمكَّن بن لادن من تجنُّب القبض عليه قرابةَ عَقد من الزمان، حتى أرشد البحثُ عنه في نهاية المطاف إلى مجمَّعٍ سكَني في أبوت آباد في باكستان. وفي الساعات الأولى من ٢ مايو ٢٠١١، شنَّت فرقةٌ من القوات الأمريكية الخاصة هجومًا بمروحياتِ شبحٍ على المجمَّع، بأوامر من الرئيس أوباما. وأعلن الرئيسُ لاحقًا أن الفِرقة «تمكَّنت من قتْل أسامة بن لادن بعد تبادلٍ لإطلاق النار.»
لكن هل قتَلوه فعلًا؟ ماذا لو أن بن لادن مات، في واقع الأمر، لأسبابٍ طبيعية قبل ذلك بعَقد من الزمان؟ فبرغم كلِّ شيء، من المعلوم على نطاقٍ واسع أنه كان يُعاني مجموعةً من الأمراض، بدءًا من قدمٍ مصابة وصولًا إلى داء السُّكري. والأهم من ذلك، يعتقد بعض الناس أن بن لادن ربما كان يُعاني متلازمةَ مارفان. والأشخاص الذين يعانون متلازمةَ مارفان غالبًا ما يكونون طِوالَ القامة ونحفاءَ الجسم كما تكون أصابعُ أيديهم رفيعةً وطويلة، ويكون عمودهم الفقري منحنيًا تمامًا مثل بن لادن. كما تتسبَّب هذه المتلازمة في حدوث مشكلات في صمام القلب يُمكن أن تؤديَ إلى قتْل مَن يعانون منه دون سابقِ إنذار. ووفقًا لأصحاب نظريات المؤامرة، فإن هذا ما قتَل بن لادن في واقع الأمر. وقد حدث هذا في أواخر عام ٢٠٠١ أو أوائل عام ٢٠٠٢، بعد شهور فقط من هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وقد تستَّر المجتمع الاستخباراتي الأمريكي على موته، مُبقيًا على شبحه حيًّا في وعي الناس على مدار سنين كإرهابي مروعٍ لتبرير الحرب على الإرهاب. وطيلة هذه الفترة، حفظوا سرًّا جثة بن لادن، بحيث تكون جاهزة لإظهارها في اللحظة المناسبة.
هل قتلوه فعلًا؟ ماذا لو كان أسامة بن لادن، في واقع الأمر، لا يزال على قيد الحياة، وبصحةٍ جيدة؟ فبرغم كل شيء، رفضت الحكومة الأمريكية تقديمَ أدلة ماديةٍ على أنهم قتلوه بالفعل. كل ما أكدوه هو أن الجثمان دُفن في البحر وفقًا للشريعة الإسلامية، وأن عرض صور مروعة لجثمان بن لادن قد يدفع الإرهابيِّين إلى ارتكاب أعمال عنف انتقامًا له. وقد أشار جلين بيك وهو مذيعٌ أمريكي ينخرط في المؤامراتية كثيرًا إلى أن بن لادن ربما يكون قد قُبض عليه حيًّا بالفعل، ويجري استجوابه في غرفةٍ سريةٍ ما بشأن أي خططٍ قد يكون تنظيم القاعدة في مرحلة التجهيز لها. ووفقًا لآخرين، ربما يعتني الأمريكيون حتى بأسامة بن لادن. فقد قالوا إنه كان يُمثِّل شيئًا مهمًّا للولايات المتحدة طيلة الوقت؛ حيث جرى تجنيدُه من جانب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في ثمانينيَّات القرن العشرين عندما اصطفَّت الاستخبارات الأمريكية جنبًا إلى جنب مع الجماعات الجهادية لقتال السوفييت في أفغانستان. حتى الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، اتفق مع هذه النظرية، حيث تكهَّن في مقابلةٍ مع شبكة «إيه بي سي» الأمريكية (في ٢٠١٠، أي قبل عامٍ من الإعلان عن مقتل بن لادن) أن بن لادن لا يزال حيًّا وفي مأمنٍ في العاصمة الأمريكية واشنطن.
إذن لدينا هذه الاحتمالات المختلفة للغاية. فلدينا «الرواية الرسمية» التي تقول إن بن لادن قُتل على أيدي الجيش الأمريكي في ٢ مايو ٢٠١١. كما أن هناك أيضًا نظريتَيْ مؤامرةٍ متعارضتَين؛ فإما أنه مات بالفعل منذ سنوات عند حدوث الهجوم، أو أنه لا يزال على قيد الحياة. والواضح أن نظريتي المؤامرة كِلتَيهما لا يمكن أن تكونا صحيحتَين في الوقت نفسِه. وكما أشار عنوان دراسة بحثية أجراها الباحثان مايك وود وكارين دوجلاس إلى أن بن لادن لا يمكن أن يكون «ميتًا وحيًّا» في الوقت ذاتِه. ومع ذلك فإن دراستهما تشير إلى شيء غريب. فعندما سأل وود ودوجلاس الناس إلى أيِّ مدًى هم يتفقون مع نظريتَي المؤامرة المتعارضتين، وجدا أن الأشخاص الذين يُصدِّقون إحدى النظريتين يظنون على الأرجح أن وجهة النظر المعارضة صحيحة أيضًا. بعبارة أخرى: الأشخاص الذين كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم أن بن لادن مات فعلًا اعتقَدوا على الأرجح أنه لا يزال على قيد الحياة؛ فبعض الناس قبِلوا على ما يبدو الفكرة القائلة بأن بن لادن قد يكون إرهابيًّا من نوعٍ ما على شاكلة قطة شرودينجر، أي حي وميت في الوقت ذاتِه.
وإمكانية قَبول نظريات مؤامرة متعارضة لا تقتصر على الموتِ غيرِ المؤكد لأسامة بن لادن. فقد أجرى وود ودوجلاس دراسةً أخرى عن الإيمان بمجموعةٍ من نظريات المؤامرة المتعلقة بالأميرة ديانا. فمن جديدٍ، عارضَت بعضُ النظريات بعضَها الآخر. فإحدى النظريات زعمت أن الأميرة ديانا تظاهرَت بالموت من أجل الهروب من الأضواء، في حين اقترحَت نظريةٌ أخرى أن موتها حدثَ بتدبيرٍ من المخابرات البريطانية. وكما الحال بالنِّسبة إلى الأشخاص الذين اعتقدوا على ما يبدو أن بن لادن كان ميتًا وحيًّا في الوقت ذاتِه، فإن الأشخاص الذين ظنوا أن الأميرة ديانا تظاهرت بموتها مالوا إلى الاعتقاد بأنها اغتيلت على أيدي عملاء سريِّين. وقد توصَّل فريقٌ آخرُ من الباحثين إلى أنه كلما زاد ميل المرء إلى الاعتقاد بأن الحكومة الأمريكية كانت على علمٍ مسبق بهجمات الحادي عشر من سبتمبر وأن كلَّ ما هنالك أنها سمحَت لتنظيم القاعدة بتنفيذ تلك الهجمات، زادت احتمالية ميله إلى الاعتقاد بأن الحكومة الأمريكية خطَّطَت عن عمدٍ كلَّ شيء. وتشير نيكولي ناتراس إلى أن تابو إيمبيكي، رئيس جنوب أفريقيا خلال الفترة من ١٩٩٩ إلى ٢٠٠٨، زعم أن الإيدز من صنْع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في حينِ أنه كان مقتنعًا فيما يبدو بالفكرة القائلة بأن الفيروس غيرُ مؤذٍ، أو أنه حتى لا وجودَ له من الأساس. ويوضح دانييل بايبس، من خلال تأمُّله للمؤامراتية في الشرق الأوسط، أنه «عندما يحدث توافق بين واشنطن وبغداد، تشكُّ طهران أن هناك مؤامرةً؛ وعندما يتقاتلان، تعتقد طهران أن هناك مؤامرةً أخرى».
لماذا يمكن أن يعتقد بعضُ الناس على ما يبدو أن أسامة بن لادن ميت وحي في الوقت ذاتِه، وأن ديانا تظاهرت بموتها وقُتلت في الوقتِ ذاته، وأن الحكومة الأمريكية قد خطَّطت ولم تُخطِّط في الوقت ذاته لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأن الإيدز سلاحٌ بيولوجي وخرافة في الوقت ذاته، وأن السلام والحرب كلَيهما دليلٌ على المؤامرة؟ كما يوضِّح باحثا دراسة بن لادن، العلاقة الإيجابية بين هذين الاعتقادَين تفتقر بديهيًّا إلى المنطق. صحيح أن الارتباطات بين النظريات المتعارضة لا بد أن تكون سلبية: فكلما صدَّقْتَ نظريةَ مؤامرة معينة أكثر، قلَّت احتمالية تصديقك لشيءٍ ما يتناقض معها. فنظامُ الاعتقاد أحادي الجانب لدى تيد جورتزيل، الذي يكون فيه الوجودُ المزعوم لمؤامرةٍ ما دليلًا لصالح نظريات المؤامرة الأخرى، لا يمكن أن يفسر هذه الارتباطات. فليس هناك منطقٌ في الاعتقاد بأن مقتل بن لادن دليل على أنه لا يزال حيًّا.
كُشف عن تفسير هذه المفارقة عن طريق سؤال إضافي آخر ضمَّنه وود ودوجلاس في دراستهما. فقد سألا: إلى أيِّ مدًى توافق على أن الحكومة الأمريكية «تخفي معلومة مهمة أو مدمرة بشأن الهجوم الذي شنَّته على بن لادن؟» هذا الزعم الأكثرُ غموضًا القائل بأن الرواية الرسمية للأحداث لا يمكن ببساطةٍ الوثوق بها لأسبابٍ غيرِ معلومة اتضح أنه مِفتاح إشكالية المعتقدات المتناقضة. فكلما زاد قَبول المرء لفكرةِ أن شيئًا ما يجري التسترُ عليه، زاد استعداده للاقتناع بنظريتَين متناقضتين. وبمجرد أخذ هذا الأمر في الحسبان إحصائيًّا، تتلاشى العلاقة بين النظريتين المتناقضتين. بعبارة أخرى: ليس تصديقُك أن بن لادن قد مات بالفعل هو ما يجعلك تميل إلى تصديقِ أنه لا يزال حيًّا، أو العكس. بل إن تصديقك أن شيئًا مريبًا يحدث هو ما يَزيد من احتمالية قبولك لأي نظريات مؤامرة؛ حتى في حالة نظريتي مؤامرة تُعارض كلٌّ منهما الأخرى.
العقلية المؤامراتية
هذا يأخذنا إلى جوهر العقلية المؤامراتية. فقد رأى جورتزيل أن مقدار تصديقِك لنظرية مؤامرةٍ ما لا تُحدِّده الحقائق فحسب، ولا مجرد مقدار الدعم الذي تُقدِّمه كلُّ نظرية لجميع النظريات الأخرى. بالأحرى، تتحدَّد مشاعرك حيال كلِّ نظرية مؤامرة بالدرجة الكبرى عن طريق مقدار اقتناعك بالمجموعة الأساسية من الافتراضات التي تخدُم جميع الأغراض بشأن طبيعة العالم، على غِرار الفكرة القائلة بأن هناك دائمًا شخصًا ما يتورَّط في الخداع، وأن ما خفي دائمًا كان أعظم، وأننا لا نطَّلع أبدًا على الحقيقة كاملة؛ بعبارة أخرى: يُمكننا أن نقول إن الأمر كلَّه يتوقَّف على مدى قوة تأثير عقليتك المؤامراتية. وفي ضوء هذا، تُشبه المؤامراتية إلى حدٍّ كبير أيَّ سمة شخصية أخرى. فمثلما أن معرفتك لدرجةِ شخصٍ ما على مقياس الانبساطية تُعطيك دليلًا على الكيفية التي سيتصرَّف بها ذلك الشخص في مجموعةٍ من المواقف الاجتماعية، فإن معرفتك بدرجةِ شخصٍ ما على مقياس المؤامراتية يُخبرنا بالطريقة التي يستجيب بها هذا الشخص على الأرجح إزاء نظرياتِ المؤامرة المتنوعة.
وصفُ التفكيرِ المؤامراتي بهذه الطريقة — أي باعتباره نزعةً نفسية — يجعل بعض الناس، لا سيَّما أولئك الذين يُصدِّقون نظريات المؤامرة، يميلون إلى الاعتقاد بأن ذلك نوعٌ من الحماقة. فهم قد يتعلَّلون بالقول: «الأمر لا علاقة له بعلم النفس، فالحقائق واضحةٌ وضوحَ الشمس.» واعتراضهم هذا مفهومٌ تمامًا. فعندما نُصدِّق شيئًا ما، لا يبدو تصديقنا ناتجًا عن أيديولوجيةٍ ما يصعب الإفصاحُ عنها؛ إنما يبدو هذا التصديق صحيحًا ومستقلًّا عن نقائصنا وتفضيلاتنا. ولكن القول بأن هناك أسبابًا نفسيةً تقف وراء تصديق نظريات المؤامرة ليس معناه أنها غيرُ مألوفة في هذا الصدد. فعلى النقيض من ذلك، تُشكل سيكولوجيتنا أغلب، إن لم يكن كل، معتقداتنا وأفكارنا.
وليس هناك أسهلُ من رصد التأثير الأيديولوجي المشوِّش للفكر في مجال السياسة. وكمثالٍ على ذلك، يُشير جو أوسينسكي وجوزيف بيرانت إلى سلسلة مطاعم «جدفاذرز بيتزا». فحتى بدايات عام ٢٠١١، كان المصوِّتون الديمقراطيون والجمهوريون يحبُّون سلسلةَ المطاعم على نحوٍ متكافئ، وفقًا لتقديرات مؤشر «يوجفز براندإندكس». ثم في مايو ٢٠١١، أعلن هيرمان كين الرئيسُ التنفيذي السابق لسلسلة المطاعم هذه، أنه يسعى لترشُّحِه عبر الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الأمريكية. مهام كين كرئيس تنفيذيٍّ قبل ذلك بنحو ١٥ عامًا أصبحت مثار نقاش خلال حملته الانتخابية. ثم، حدث شِقاقٌ مفاجئ بين محبِّي البيتزا الديمقراطيين والجمهوريِّين. وارتفعت تقديرات «جدفاذرز بيتزا» بين الجمهوريين وانخفضَت بين الديمقراطيين.
ربما ننساق وراء الاعتقاد بأن انتماءنا السياسي نتاجُ جميع قراراتنا وأحكامنا الفردية وغير المتحيِّزة بشأن المرشحين والسياسات. غير أنه، في واقع الأمر، يتضح على نحوٍ متزايد أن أيديولوجيتنا لها الأسبقية، وأنها تؤثِّر في تفسيرنا للحقائق. فمن المفترض أن مطاعم «بيتزا جدفاذرز» لم تبدأ في تقديم بيتزا أفضلَ للجمهوريين وأقلَّ جودةً للديمقراطيين. فجودة البيتزا لم تتغيَّر. الشيء الوحيد الذي تغيَّر كان الكيفيةَ التي توافقت بها الشركةُ مع الأيديولوجية السياسية لدى مرتادي مطاعمها.
بالمثل، فيما يتعلَّق بنظرية المؤامرة، يكون من السهل الانسياقُ وراء الاعتقاد بأن تصديقنا أو عدمَ تصديقنا يعتمد على تقييمٍ منصِف للحقائق. لكن الحقيقة هي أن معتقداتنا وأفكارنا تُشكِّلها رؤيةٌ عالمية عامة أكثر مما قد نرغب في الاعتراف به. وكما قلت، المؤامراتية عدسةٌ نرى من خلالها العالَم؛ وجميعنا لديه توصيفٌ مختلِف. فقلة قليلة من الناس هي مَن تقبلُ كل نظريةٍ بسذاجة، وقلةٌ قليلة هي مَن ترفض كلَّ طرح لمؤامرة بثبات. أغلبُنا في موضعٍ ما على منتصف المقياس؛ حيث نتشكَّك بدرجةٍ ما في نظريات المؤامرة المطروحة، ولكن ليس لدينا استعدادٌ لاستبعادها تمامًا.
فَهْم هذه الخصيصة الجوهرية للعقلية المؤامراتية هي خطوتنا الأولى نحو فهمِ سيكولوجية نظريات المؤامرة. فيمكننا أن نبدأ ببحث أسباب ظهور نظريات مؤامرة حول أحداثٍ ما حتى قبل أن تكون هناك روايةٌ رسمية، ولماذا يميل الناس الذين يقتنعون بمؤامرةٍ ما إلى رؤية تلك المؤامرة في أغلب الأحيان على أنها مجردُ جزء من مؤامرة أكبر. كما يمكننا أن نبحث الأسباب التي تقف وراء اقتناعِ بعض الناس بنظريةٍ زائفة أو زعْمَين يُناقض كلٌّ منهما الآخَر. كما يمكننا أن نبحث لماذا قد يبدو نشرُ نظريات المؤامرة مؤامرةً. ولعلنا نستطيع بحْث الأسباب التي تجعل حتى مؤتمرًا أكاديميًّا متواضعًا يبدو إيذانًا بالنظام العالمي الجديد القادم.
لكن هذه مجردُ بدايةِ رحلتنا لِسَبر أغوارِ سيكولوجيةِ نظرياتِ المؤامرة. فبرغم كل شيء، هذا لا يُفسِّر أسباب انخراط بعض الناس في التفكير بالعقلية المؤامراتية أكثرَ من غيرهم، أو أسباب امتلاكنا عقليةً مؤامراتية من الأساس. تلك هي الأسئلة التي ينبغي أن نركزَ عليها في الجزء التالي؛ حيث سنبدأ بالفكرة المتداوَلة كثيرًا: الأشخاص الذين يُصدِّقون نظرياتِ مؤامرةٍ هم مجرد أشخاص يُعانون جنونَ الارتياب.