أريد أن أصدُق
الثامن من يونيو ٢٠١٣. إنه يوم دافئٌ في بداية فصل الصيف. وأنا في إحدى ساحات واتفورد، التي لا تبعُد سِوى مسافة قصيرة يقطعها القطارُ شمالَ لندن. وفي هذه الساحة، يحتشد ٢٠٠٠ شخصٍ معي، وهذا ضِعف العدد الذي خطَّط له المنظِّمون. في هذه اللحظة تحديدًا، حوالي الساعة السادسة والنصف مساءً، يقف شخص متحذلق من ولاية تكساس على منصةٍ صغيرة أمام الحشد، يصيح في مكبرِ الصوت. كان يقود الألفَي شخصٍ في ترديد هتافٍ موجَّهٍ إلى فندقٍ يبعُد نحوَ ميل أعلى تلة وتُواري الأشجارُ نصفه تقريبًا: «نعلم أنكم قتَلة! نعلم أنكم قتلة! نعلم أنكم قتلة!»
•••
في كل عام، تُوجَّه الدعوة إلى أكثر من ١٠٠ من الأشخاص الأكثر ثَراءً وتأثيرًا على ظهر الكوكب لحضور اجتماعٍ سري، يناقشون فيه مصيرَ العالم. لستُ مازحًا. وهذه الفعالية يُطلق عليها بيلدربيرج، وقد سُمِّيت تشريفًا لأول فندق استضاف الوفد المرموق في عام ١٩٥٤، فندق دي بيلدربيرج في أوستربيك في هولندا. (وقد اتضح أن المجموعة تلتقي دائمًا في فندقٍ من فئة خمسة نجوم مزوَّدٍ بمرافقَ لممارسة رياضة الجولف.) من البداية، كانت اجتماعاتُ بيلدربيرج محاطةً بالسرية. فلا يُسمح بحضور الصحفيين أو المراسلين. والغموض يكتنف أغلب الأمور التي تخص تلك الاجتماعات بدءًا من أسماء السادةِ الحضور، ووصولًا إلى موضوعات النقاش.
وَفقًا لأحد مواقع بيلدربيرج الإلكترونية الرسمية (حسنًا، لقد أصبحت أقلَّ سرية نوعًا ما هذه الأيام)؛ فإن المؤتمر لا يَزيد عن كونه «منتدًى لمناقشاتٍ غير رسمية عن القضايا الكبرى التي يُواجهها العالم.» ليس هناك شيءٌ خبيث أو آثم في الأمر.
لكنه وفقًا لبعض النقاد، فإن المجتمعين في بيلدربيرج لا يتناقَشون فحسب. إنهم يُقرِّرون أيضًا. هم يُقرِّرون توقيت حدوث الركود القادم، والهجمة الإرهابية القادمة، والحرب القادمة، ويُبْرمون اتفاقياتٍ سرِّية ويَحيكون خططًا غيرَ مشروعة ويوجِّهوننا نحو حكمٍ عالمي ظالم؛ ذاك النظام العالمي الجديد المخيف. لسنوات، ظلَّت مجموعةٌ صغيرة من المؤامراتيين المتحمسين تترصَّد لمؤتمرات بيلدربيرج. فقد ظلوا يتعقَّبون المجتمعين في بيلدربيرج حول العالم، لمعرفة توقيتِ اجتماعهم القادم ومكانه، ومحاولة التسلل وتوثيق اجتماعاتهم، والسعي لزيادة الوعي بالمكائد الخبيثة التي ينسجها المجتمِعون في بيلدربيرج.
وبالفعل ازداد الوعيُ كما أرادوا. ففي عام ٢٠١٣، احتشد نقَّاد بيلدربيرج ذَوو العقلية المؤامراتية في هذه الساحة بواتفورد، وهي ساحةٌ مُتاخمة للفندق — فندق جروف الراقي، والمنتجع الترفيهي، وملاعب الجولف — الذي يستضيف المؤتمرَ كلَّ عام. وقد أطلقوا على احتشادهم هذا «مهرجان بيلدربيرج الهامشي»: احتفال واحتجاج ضد الحكامِ السريِّين للعالم. ومن بين أبرزِ أسماءِ الاتجاه المؤامراتي الذين حضَروا المهرجان: ديفيد أيك، ولوك رودوفسكي (مؤسس مجموعةِ «نحن التغيير» (وي آر تشينج) المنبثقةِ عن حركةِ حقيقة أحداث الحادي عشر من سبتمبر)، وألكس جونز (الشخص المتحمِّس الذي كان يَصيح في مكبِّر الصوت بهتاف «نعلم أنكم قتَلة!»)، وفي خيمة الجهة المنظمة، كانت هناك قُمصانٌ للبيع تحمل شعار «ذهبتُ إلى بيلدربيرج عام ٢٠١٣، ولم أحصل على شيء سوى هذا النظام العالميِّ الجديد القذر.»
وخلال دردشتي مع مرتادي المهرجان بين المحاضرات، كانت ثَمة قضيةٌ واحدة يتفق عليها الجميعُ على نحوٍ غريب. فقد قالوا إن المجتمعين في بيلدربيرج يُبيِّتون شرًّا. لكن عندما كانوا يأتون على ذكرِ التفاصيل، لم أكن أجدُ منهم سوى مزاعمَ تُصيبني بالدُّوار. كانت الخُطة، حسب زعمهم، تشمل كل شيء بدءًا من اغتيال جون كينيدي وروبرت كينيدي وأبراهام لينكولن، وصولًا إلى الاحترار العالمي واللقاحات والتلوُّث والمواد المضافة للأغذية وسحب الكيمتريل، واستغلال الأطفال والموت الأسود والأسرة الملكية البريطانية. والأعجب أن المؤامراتية لم تكن الأيديولوجيةَ الوحيدة المعروضة. فبينما كنت أنتظرُ في طابورٍ من أجل التفتيش الأمني، تحدثتُ مع أحد ممارسي السحر الأبيض. وكان بداخل الساحة منتسِبون لحركة «هاري كريشنا» الهندوسية وراقصون بالأطواق، ومعالجون بطاقة الريكي، ومدخِّنو حشيش ودوائرُ طبل جماعية وعازفو جيتار، ورجل يرتدي زيَّ المنتمين إلى منظَّمة «جيداي» الرهبانية، وآخر يحمل دُميةً خشبية ويتكلم من بطنه، وثالثٌ يرتدي أذنين مدببتَين مُستعارتين (أوضح لي قائلًا: «أُرافق مجموعة من الحوريات.») وبجانب خيمة الصحافة، كان هناك زوجان في منتصف العمر يَبيعان زجاجاتٍ من الفِضة والذهب. وعلى مَقرُبة منهما، كانت هناك مجموعةٌ من المتأملين يجلسون القُرفُصاءَ في دائرة كبيرة، يَنهَلون من المشاعر التي تنبثق حسبما يعتقدون من هرمٍ نُحاسي كان موضوعًا وسط الدائرة.
لقد فُوجئت بهذا المزيج من الأيديولوجيات في مهرجان بيلدربيرج الهامشي. لم أكن أتوقَّع أن أجدَ هذا الانسجام الكبير بين روحانية العصر الجديد الميتافيزيقية والمزاعم الأكثرِ واقعيةً عن الجشع البشري والفساد والخداع. لكن اتضح لي أن بوتقةَ انصهار الأفكار في مهرجان بيلدربيرج الهامشي تكشفُ الكثيرَ عن العقلية المؤامراتية. فقد رأينا بالفعل أن تصديق إحدى نظريات المؤامرة يعني في الغالب تصديقَ نظرياتٍ أخرى؛ لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد. فالمؤامراتية مجردُ نتيجةٍ واحدة محتملة لرؤية عالمية أوسع نطاقًا بكثير.
عقول ساذجة
طبقًا لإحدى طرق التفكير، فإن السبب وراء تصديق الناس لنظريات المؤامرة بسيط؛ أو بالأحرى هو البساطةُ عينُها. أوضحت المؤرِّخة كاثرين أولمستيد هذا الأمر بإيجاز عندما قالت: «نظريات المؤامرة طرقٌ سهلة لحكي قصص معقدة.» كذلك أوضح بينجامين سيجل، وهو أحد باحثي بروتوكولات حكماء صِهْيَون، أنه من خلال نظريات المؤامرة، «هذه الوصفة البسيطة تُقدم حلًّا قاطعًا لأخطر وأعقد مشكلات وجودية تواجهها أيُّ أمة من الأمم.» وقال مايكل بيليج: «نظريات المؤامرة بسيطة في جوهرها؛ فالأحداث ليس لها أسبابٌ متعددة وعنصر الصدفة يُحذَف من التاريخ. وكل الأحداث تُختزل في قراراتٍ متعمَّدة اتخذها المتآمرون.» بالمثل، يصف دانييل بايبس نظرياتِ المؤامرة بأنها تبسيطٌ للواقع؛ إذ يقول: «هذا الكمُّ الهائل من مُثيري المتاعب يصبحون قوةً عدائية واحدة.» بعبارة أخرى: تجعل الأمور المبهمة واضحةً والأمور المعقدةَ قابلةً للفهم. فهي تُعطي تفسيرًا واحدًا لهذا الواقع الملتبس والغامض والفوضوي بزعمها أن جهةً ما متورطةٌ فيما يحدث.
ومن ثَم يُعتقد أن نظريات المؤامرة تروق في الأساس للأشخاص الذين يفتقرون إلى الرغبة في الإصغاء إلى تفسيراتٍ أكثرَ تعقيدًا. وجهة النظر هذه تعود إلى بداية نظرية المؤامرة الحديثة. ففي ردَّة فعل على نظرية مؤامرة المتنورين لأوجستين دي بارويل بشأنِ الثورة الفرنسية، زعمَ الناقد جون-جوزيف مونييه بوضوح: «لقد استُعيض عن الأسباب المعقَّدة للغاية بأسبابٍ بسيطة، تتناسبُ مع قدراتِ أكثرِ العقول سطحيةً وتراخيًا.» رأى سيجل نجاح نظريات المؤامرة الخاصة بالمتنوِّرين ومعاداة السامية بالمنظور نفسِه. فقد قال: «هذه الفلسفة التاريخية الساذَجة إلى الحدِّ الذي يُثير السخرية تُخاطب عقول السذَّج من الناس؛ لأنها لا تدفعهم إلى إعمالِ ملَكاتهم النقدية.»
يميل المرء دائمًا إلى رفض الأشخاص الذين يختلف معهم معتبرًا إياهم أدنى منه مِن الناحية الفكرية، لكن هل هذا صحيح؟ كان مونييه قد ألمحَ للمرة الأولى إلى أن نظريات المؤامرة لا تنطلي إلا على السُّذَّج، ولم يختبر اختصاصيُّو علم الاجتماع هذه الفرضيةَ إلا في عام ١٩٩٩، أي بعد قرنَين من تلميحه ذاك. فقد أعطى فريقٌ من علماء النفس تحت إشراف مارينا أبالاكينا-باب الطلابَ مجموعةً من الاستبيانات أُعِدَّت من أجل تقييم طريقتهم في التفكير. تَقيس هذه الاستبيانات ثلاثَ سِمات: الحاجة إلى المعرفة (إلى أي مدًى تستمتع بالألغاز وحل المشكلات وغيرها من التحديات الذهنية)؛ وتحمُّل الغموض (إلى أي مدًى تشعر بالارتياح حيالَ المواقف اللايقينية)؛ والتعقيد العزوي (إلى أي مدًى أنت على استعداد لتقبُّل تفسيراتٍ معقَّدة دقيقة لسلوك الناس). وانسجامًا مع القوالبِ النمطية السائدة، تنبَّأ الباحثون بأنه كلما ازداد اقتناعُ الطلاب بنظريات المؤامرة، تضاءلت الدرجاتُ التي يُحرزونها فيما يتصل بكل سمة من السمات الثلاث، أي زادت الطريقةُ التي يفكر بها المرء سذاجةً وتراخيًا وجمودًا. لكن على النقيض من التوقعات، أنه ليس هناك علاقةٌ بين هذا وذاك على الإطلاق.
وفي دراسةٍ أحدثَ من تلك، قاس عالِما النفسِ باتريك ليمان وماركو سينيريلا سِمةً مشابهة، الحاجة إلى الإغلاق المعرفي (الرغبة في الاستقرار سريعًا على تفسيرٍ لشيءٍ ما؛ ومن ثَم وقف الحاجةِ إلى مزيد من الجهد الذهني). ومن جديد، لم يكن هناك فارقٌ بين مؤيدي نظريات المؤامرة ومعارضيها.
وبتأمُّل الموقف، ليس من المستغرَب إلى هذا الحدِّ ألا يصمد القالب النمطي. فمن نواحٍ عدة، نظريات المؤامرة أكثرُ تعقيدًا من البديل عنها. يُشير دانييل بايبس إلى أنه في حينِ أن نظرياتِ المؤامرةِ بسيطةٌ من منظورٍ معيَّن، «يجد أصحاب نظريات المؤامرة، في الوقت ذاتِه، سلواهم في التعقيد.» فالتفسيرات المعقَّدة والتفصيلية لا تُخيفهم. ففي العالم المؤامراتي، القاعدة المنطقية المعروفة باسم «نصل أوكام» — التي تنصُّ على أن أبسطَ تفسير هو الأقربُ إلى الصواب — مُعطلة. وأفضل نظريات المؤامرة هي أكثرها تعقيدًا وتشابكًا. وبالنِّسبة إلى أكثر المؤامراتيِّين إخلاصًا لتوجُّههم، لا يكون التفسيرُ الأبسط صحيحًا مطلقًا. فثَمة طبقةٌ أخرى دائمًا من القُوى غيرِ المرئية والدوافع المخبوءة التي تحتاج إلى كشفها.
ويبدو الأمرُ كما لو أن الأشخاص الذين يُعتبرون نظريات المؤامرة تفسيراتٍ ساذجةً متسرعة — يُفضلها مَن لا يُبالون ولا يريدون أن يُرهقوا أنفسهم بالتفكير — سرعان ما ينساقون هم أنفسُهم وراء تفسيرٍ ساذَج. فالمعلومات ببساطة لا تُقدِّم دعمًا كبيرًا للفكرة القائلة بأن أصحاب نظريات المؤامرة أدنى مرتبةٍ في قدرتهم على التفكير من المتشككين في المؤامرات. في واقعِ الأمر، تُشير الأبحاث الحديثة إلى أنه إذا أدخَلْنا أصحاب نظريات المؤامرة في منافسةٍ مع هؤلاء المتشكِّكين، يكون أصحاب نظريات المؤامرة أكثرَ مغامرةً من الناحية الفكرية بطريقةٍ ما أو بأخرى؛ ومن ثَم ليس من المنطقي وصفهم بأنهم بُلداء كما يَشيع عنهم.
عقول منفتحة
الانفتاح إحدى السِّمات الخمس الجوهرية التي تُلخِّص شخصيةَ الفرد حسبما يرى علماء نفس الشخصية. (السمات الأربع الأخرى هي: يقظة الضمير، والانبساطية، والمقبولية، والعصابية.) بعض الدراسات توصلَت إلى أنه كلما زادت درجة المرء على مقياس الانفتاح، زادت احتماليةُ تصديقه نظريات المؤامرة. لكن العلاقة كانت محدودة، وأخفق عددٌ من الدراسات الأخرى في رَصدِها مرةً أخرى. لذا، لم تُحسم بعدُ مسألةُ ما إذا كان التفكير المؤامراتي مرتبطًا بالانفتاح عمومًا، وإذا كان ثَمة علاقة، فالأرجح أنها علاقةٌ محدودة. (أنا على يقينٍ من أنك ستتغاضى عن هذا الوضعِ اللايقيني والمحبِط.)
لكنْ هناك عددٌ من العناصر المختلفة للانفتاح. فهو يتضمَّن كون المرء خِصب الخيال ومغامرًا وواعيًا على المستوى العاطفي ومحبًّا للاستطلاع على المستوى الفكري ومُقدرًا للفنون والآداب. لست بحاجةٍ إلى أن تفيَ بجميع هذه المعايير كي تُصبح درجتُك مرتفعةً على المقياس العامِّ للانفتاح. فربما تعشقُ السفر إلى بلدان أخرى، لكن لا يستهويك الشعر. على أي حال، ليس هناك شيءٌ من هذه العناصر له علاقةٌ كبيرة، فيما يبدو، بتصديق نظريات المؤامرة. فالأرجح أن نظريات المؤامرة ترتبط بخصِّيصةٍ أخيرة من خصائص الانفتاح: الميل إلى رفض التفكير السائد، وتبنِّي ما هو غيرُ تقليدي. مصدرُ هذه الرؤية الكاشفة دراساتٌ تبحث نوعياتِ الأشياء الأخرى التي يميل أصحابُ نظريات المؤامرة إلى تصديقها. وقد ظهر توجُّه متَّسق. فكلما زاد اقتناعُ المرء بنظريات المؤامرة، زادت احتمالية قَبوله لمجموعةٍ كاملة من مزاعمَ غيرِ تقليدية.
إحدى أكثرِ الدراسات شموليةً حتى وقتِنا الحاليِّ أجراها فريقٌ من علماء النفس تحت إشراف إميليو لوباتو. فقد عرَض لوباتو وزملاؤه على الطلاب الجامعيِّين عددًا كبيرًا من المزاعم التي تُمثِّل ثلاثَ نوعيات مختلِفة من الغرابة: نظريات المؤامرة والعِلم الزائف والقُوى الخارقة للطبيعة. وقد قيَّم الطلابُ إلى أيِّ مدًى هم يُصدِّقون كل زعم من تلك المزاعم، وقد جرى حسابُ مجموع إجاباتهم لإعداد درجاتٍ ثلاثٍ منفصِلة. واتضح أن جميع الدرجات الثلاث كانت مرتبطةً بعضها ببعض. فكلما زادت درجةٌ ما، زادت الدرجتان الأُخرَيان في الأغلب. فالأشخاص الذين اقتنَعوا بفكرة العِلم الزائف القائلة بأن معالجة الداءِ بالداء يُمكن أن يشفيَ أمراضًا خطيرة مالوا إلى تصديق الزعم القائل بأن القُوى النفسيةَ الخارقة للطبيعة حقيقيةٌ، وأن اغتيال كينيدي كان مؤامرة. بالمثل، أحد الذين اعتقدوا أن ألفيس لا يزال على قيد الحياة مال إلى الاعتقاد بأنَّ الأشباح حقيقية، وأننا لا نستخدم سِوى ١٠٪ من أدمغتنا. لكن إذا تشكَّك أحدُهم في نظريات المؤامرة، فإنه كان يميل إلى التشكُّك في العِلم الزائف والقُوى الخارقة للطبيعة كذلك.
بل إن دراساتٍ أخرى كشفَت المزيد عن هذه الأفكار الغريبة. فأولًا، يميل أصحابُ نظريات المؤامرة إلى التصديق النِّسبي للخرافات. فكلما زاد تأييدُ المرء لنظريات المؤامرة، مال إلى الارتياب حيالَ القطط السوداء والمرايا المكسورة والسَّير تحت سُلَّم خشبي. وثانيًا، مال هؤلاء إلى الاعتقاد بأن ثَمة شيئًا من الحقيقة في أساطيرَ شائعةٍ على غِرار الأسطورة القديمة عن استيقاظ رجال الأعمال في أحواض استحمام مليئة بالثلج وقد فقَدوا كُلْياتهم. وأصحاب نظريات المؤامرة لا يميلون إلى قَبول العِلم الزائف مثل التنجيم والطبِّ البديل فحسب، بل إنهم يَميلون أيضًا إلى رفض العلم السائد ومنتجاته كاللقاحات والأغذية المعدلة جينيًّا. ويُقدِّم العديد من الدراسات بياناتٍ لدعمٍ اكتشافي غير المتوقَّع في مهرجان بيلدربيرج الهامشي: الشخص الذي يُصدِّق نظريات المؤامرة يميل إلى تصديق روحانية العصر الجديد التي تشمل كلَّ الأفكار الميتافيزيقية مثل مفهوم كارما الهندوسي وتناسخ الأرواح والإسقاط النَّجْمي والاستشفاء بالطاقة، والفكرة القائلة بأن الكون بأكمله نوعٌ ما من كلٍّ حيٍّ غيرِ مُجزَّأ.
لا أقول إن كلَّ مَن يُخبرك بأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت مؤامرةً داخلية سيؤمن حتمًا بوجود الأشباح أو بالبِلَّورات الشافية أو بالرجال الخضر الصغار. بوضوح أقول، هذه علاقاتٌ إحصائية؛ أو بعبارةٍ أخرى درجات من الاحتمال. فبطبيعة الحال هناك أشخاصٌ يُصدِّقون نظريات المؤامرة، لكنهم لا يؤمنون بتاتًا بالقُوى الخارقة للطبيعة كما أن هناك مَن يؤيدون روحانية العصر الجديد، لكن لا يهتمون بالأنظمة العالمية الجديدة. لكن بوجهٍ عام، كلما زاد انفتاح الفرد على نظام معتقداتٍ وأفكارٍ غيرِ تقليدي، زادت احتمالية انفتاحه على أنظمةِ غيره.
الحقيقة هناك
للأمانة أقولُ إن بعضَ الارتباطات بين المعتقدات الانتقائية ليست مستغرَبةً للغاية. فبرغم كلِّ شيء، تصديق أن الحكومة تتستَّر على وجودِ رجالٍ خضرٍ صغار، يتطلب منك الإيمان بوجود الرجال الخضر الصغار في الأساس. ومن المنطقيِّ أن تُصدِّق أن الاستشفاء بالطاقة يُجدي نفعًا إذا كنت تعتقد أن الشركات الصيدلانية الكبرى مهتمةٌ بمحاربته. وفي مثل هذه الحالات، تُؤدي التداخلات الأيديولوجية دورَها. لكن بعض الارتباطات يصعب شرحها قليلًا. فليس هناك سببٌ بديهي يقف وراءَ ميل الشخص الذي يعتقد أن وكالات الاستخبارات المركزية الأمريكية قتلت كينيدي إلى قَبول الزعم القائل بأن هناك أشباحًا أو قُوًى نفسية أكثر من ميل الشخص الذي يعتقد أن لي هارفي أوزوالد قد قتله. كما لا يوجد سببٌ جيد يُفسر وجود أي ارتباط بين تصديق الشخص أن الطَّرْق على الخشب يجلب له الحظَّ، ورأيه بشأن العلم الذي يقف وراء تغيُّر المناخ.
والحقيقة القائلة بأن منظوماتِ الأفكار والمعتقدات غير التقليدية التي لا يوجد ترابطٌ بينها على ما يبدو تظهر غالبًا في الدوائرِ نفسِها ليست كشفًا جديدًا مذهلًا. فبالعودة إلى الوراء وتحديدًا في سبعينيَّات القرن العشرين، كتب كولين كامبيل، اختصاصيُّ علم الاجتماع عن «العالَم السرِّي» الفكريِّ للمجتمع؛ حيث تزدهرُ وتختلط شتَّى الأفكار الغريبة والرائعة. وأطلق على هذا العالَم «البيئة الطائفية». قد يتبادرُ إلى الذهن عند قراءة هذا المصطلح زعماءُ الطوائف المؤثرين وهم يُحرضون الضعفاءَ من الناس على تسليم كلِّ مدَّخَراتهم (أو حياتهم). لكن هذه الأنواع من البيئات العقائدية، حسبما رأى كامبيل، ليست سِوى الجزءِ الظاهر من الجبل الجليدي؛ التجليات الأكثر اتضاحًا لطريقة تفكيرٍ أوسعَ نطاقًا بكثيرٍ وأكثر ضبابيةً وأشدَّ تغلغلًا. والبيئة الطائفية، وَفقًا لكامبيل، هي سِمة دائمة الوجود لكل مجتمع. فحيثما وُجدت مُعتقَدات تقليدية، وُجد أشخاصٌ ينساقون وراء ما هو غير تقليدي.
ويستشهد كامبيل، على سبيل المثال، بقائمةٍ طويلة من المعتقدات والأفكار الجمعية: «العلم غيرُ التقليدي، الدِّين القائم على الأفكار الغريبة والهرطقة، الطب المنحرف … العوالم الخفيَّة والسحرية، وعوالم الروحانية والظواهر النفسية، وعوالم الغموض والفكر الجديد، وعوالم المخلوقات الغريبة والحضارات المفقودة، وعوالم الاستشفاء بالإيمان والاستشفاء الذاتي.» وقد نُضيف إلى كل هذا مزاعمَ تتعلَّق بعلمِ التنجيم وعلمِ الأعداد وعلم النفس الغيبي والتاريخ المُعدَّل، وقصةِ الخلق والتنبُّؤات الغيبية وتجارِب الاقتراب من الموت والأنظمة الغذائية الخارقة. وبالرغم من أن هذه التشكيلةَ من المعتقدات والأفكار الغريبة والشاذة، قد تبدو ظاهريًّا متنوعةً على نحوٍ لا ينتهي (ومتناقضة أحيانًا)، فإن ثمَّة سِمةً رئيسة تجمع بينها، وهي أن الجماعات ذاتَ النفوذ والتأثير في الذَّوق والسياسة ترفضها كما تُعارضها الاتجاهات والمذاهب التقليدية، ومن ثَم تُصبح إلى حدٍّ بعيد معزولةً فكريًّا عن المجتمع.
وقد لُخِّصت خصائصُ البيئة الطائفية بطريقةٍ مُحكمة في التعويذة التي تقول «الحقيقة هناك» والتي وردَت في مسلسل «ذا إكس فايلز». فثَمة إجاباتٌ عن أسئلة الحياة الكبرى، لكنك لن تجدَها في الأماكن التي تُوجِّهك إليها الجماعاتُ صاحبةُ النفوذ في المجتمع والمذاهب التقليدية، بل يجب أن تتعقَّبها بنفسك. (والمعنى الثاني ينطبق بالمِثل على البيئة الطائفية: الحقيقة هناك؛ إنها أغربُ مما يُمكنك أن تتخيَّل.) فيرى كامبيل أن المكُرِّسين أنفسَهم للبيئة العقائدية التي نتحدَّث عنها يتَّحِدون في سعيهم الذاتي وراء التنوير. وبالنِّسبة إلى المتحمِّسين بحقٍ، فإن الرحلة أهمُّ من الوجهة. فثَمة طرقٌ كثيرة تقود إلى الحقيقة، وليس هناك داعٍ إلى الكفِّ عن البحث لمجردِ أنك وجدتَ نبعًا من ينابيع الحكمة الغامضة. فلماذا تضعُ البيضَ كلَّه في سلة واحدة؟ ويوضح كامبيل أن هذا هو سببُ أن الأفكارَ غيرَ التقليدية، التي هي غيرُ مترابطة في سياقاتٍ أخرى، كثيرًا ما تكون متحدةً ويسير بعضُها بموازاةِ بعض. فمثلًا يقول كامبيل: «الزائرون من الفضاء الخارجي ثبَت أنهم مخلوقاتٌ روحانية، والوسطاء الروحانيون يُؤكدون أن هناك حياةً على الكواكب الأخرى.»
لم يذكر كامبيل نظرياتِ المؤامرة، لكن استنادًا إلى الروابط التي رأيناها لتونا، يُمكننا أن نقول إن نظريات المؤامرات تنسجمُ تمامًا على ما يبدو مع هذه البيئة الطائفية. وكما تُشير نيكولي ناتراس، فإنَّ إطلالةً خاطفة على عالم نظريات المؤامرة تكشف لنا عن «شبكةٍ منظَّمة من النشطاء الذين لا يكتفون — من خلال مواقعهم الإلكترونيةِ ومؤتمراتهم وأبحاثهم وكتبهم وأفلامهم الوثائقية وعلاقاتهم الاجتماعية — بتشكيل أيديولوجيةٍ مُنافسة للعلم فحسب، بل يُشكِّلون أيضًا عالَمًا اجتماعيًّا بديلًا متكاملَ الأركان له أبطالُه وقيمه ومعتقداته ومُمارساته.» وعالم المؤامرة كثيرًا ما يتَصارع مع الأيديولوجياتِ غيرِ التقليدية الأخرى، مثلما يزعم ديفيد أيك أنه يتلقَّى رسائلَ روحانية عن طبيعة الواقع، أو مثلما يُعلن ألكس جونز عن منتجاتٍ صحيةٍ بديلة مثل «فيتامين «ب-١٢» فائقِ التطور بتركيبةِ سرِّ حياة الحروب المعلوماتية».
والأكثر من ذلك، يتطلب المنطق المؤامراتي، أكثرَ من أي أيديولوجية غيرِ تقليدية أخرى، أن يغوصَ المؤمنون به أكثرَ في البيئة الطائفية. فإذا كانت المصادرُ السائدة للمعلومات هي جزءًا من المؤامرة، فإن حقيقة رفضِ فكرةٍ ما من جانب العلماء أو الأكاديميِّين أو وسائل الإعلام يُمكن اعتبارُه دليلًا على صحة تلك الفكرة. وتُحوِّل نظريات المؤامرة، في واقع الأمر، البيئةَ الطائفية إلى المصدر الوحيد للمعرفة الموثوق بها.
التجرؤ على المعرفة!
استنادًا إلى ميزة النظر من مستوًى فكريٍّ علوي، من السهولة أن ننظرَ بازدراءٍ إلى البيئة الطائفية التي أشار إليها كامبيل باعتبارها منطقةً فكرية غامضة غريبة، يكون فيها كلُّ شيءٍ مقبولًا. فنجد الصحفيَّ فرانسيس وين ينتحب في كتابه الذي بعنوان «كيف غزَت الأفكار الفارغة العالم»؛ لأن أصحاب نظريات المؤامرة ومَن على شاكلتهم من اللامنطقيين «هجروا قيمَ التنوير». وفي كتابه «وسط مناصري حركة الحقيقة»، يرى جوناثان كاي أنَّ مناصري حركة حقيقة أحداث الحادي عشر من سبتمبر هم أعداءُ التنوير، ويشعر بالقلق من أن تكون نهاية عصر المنطق على أيديهم. ويُمثل وين وكاي وجهة نظرٍ شائعةٍ للغاية بين المتشكِّكين في نظريات المؤامرة وغيرها من الأفكارِ غيرِ التقليدية، التي تصِمُ الأشخاص الذين يُناهضون المعتقداتِ السائدةَ بأنهم معاتيهُ متخلفون فكريًّا. تقول إيما جين وكريس فلمينج إن هذه الرؤية للبيئة الطائفية «تُصوِّر المؤامراتيِّين ومَن على شاكلتهم من أصحاب الأفكار الفارغة بأنهم المكافئُ الفكري لأصحاب الحِمْية الغذائية الفاشلين؛ ففي حين أن المفكرين الكبارَ في عصر المنطق يسعَوْن جاهدين لإصلاح التفكيرِ المختلِّ والمترهل لدى المجتمَع، يُطلق عموم الناس العِنان لأنفسِهم وشهواتهم.» لكن قبل أن نُبالغ في الثناء على أنفسنا، هيا نستكشف إلى أيِّ مدًى انسلخَت البيئة الطائفية عن مُثُل التنوير، في حقيقة الأمر.
استهلَّ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت حركةَ التنوير بكتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» عام ١٦٤١؛ حيث اعتزم فيه نبذَ جميع المعتقدات والأفكار التقليدية، والتشكُّك في كل شيء أمكَنه التشكُّكُ فيه، وإعادةُ تشكيل فهمه للعالم من الصِّفر، دون الوثوق بشيءٍ سِوى بقدراته وملَكاته النقدية. وبعد مرور نصفِ قرنٍ من ذلك الحين، كتب الفيلسوف البريطاني جون لوك يقول: «من المؤكد أننا سنُحرز تقدُّمًا أكبرَ في اكتشاف المعرفة العقلانية والتأملية إذا استفدنا من أفكارنا لا أفكار الآخرين في العثور عليها؛ وذلك لأنني أعتقدُ أننا قد نتطلع عقلانيًّا إلى أن نرى بأعينِ الآخَرين كما نُدرك بفَهم الآخرين.» وبعد قرنٍ من ذلك الوقت، عندما دُعي الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط إلى الإجابة عن السؤال التالي: «ما هو التنوير؟» أجاب، مُستخدمًا عبارةً أشبهَ بشعارٍ: «التجرُّؤ على المعرفة!»
وقد تلحظُ أنه ليس هناك من بين التطلعات الفكرية السامية لمفكِّري التنوير ما يختلف اختلافًا جذريًّا عن السِّمات المُحدِّدة للبيئة الطائفية التي أشار إليها كامبيل، التي وصفها ﺑ «شن هجوم على الأفكار التقليدية» و«الدفاع عن حرية الفرد في المعتقَد والممارسة». وأحيانًا يكون التشابهُ مثيرًا للاستغراب جدًّا. فبعد حثِّه القراءَ على استجماع شجاعتهم من أجل استخدام فَهمِهم الذاتي، بدأ كانط في السخرية من التكاسل الفكري وجبن «القطيع» غير المفكِّر الذين يتمرَّغون في جهلٍ فرَضوه على أنفسهم بوثوقهم فيما قرَءوه في الكتب والسماح للآخرين بالتفكير نيابةً عنهم؛ وكل هذا قبلَ قرونٍ من رَواج عبارة «استيقظ أيها الأبله!» التي تتردَّد على ألسِنة أصحاب نظريات المؤامرة. تقول جين وفلمينج: «التفكير المؤامراتي أبعدُ عن أن يُمثِّل انسلاخًا عن العقلانية، وهو يتَّسم بالاتساق على نحوٍ يدعو إلى الحيرة.» مع مُثُل التنويريِّين.
•••
فالبيئة الطائفية ليست أرضَ عجائبَ غريبةَ الأطوار ومناهضةً للعلم يُعطَّل فيها المنطق بالكلية. فبرغم كل شيء، ليس هناك الكثيرُ من الناس الذين يرفضون النهجَ القائم على الأدلة في التعامل مع الواقع بشكلٍ كامل. حتى ديفيد أيك نفسه، الذي كثيرًا ما يُذكِّر جمهورَه بأن العلماء جزءٌ من مؤامرة شريرة، يستشهد بالدراسات العِلمية عندما يرى أنها تنسجم مع ما يَطْرحه من أفكار.
والبيئة الطائفية تنشأ عندما تتصادمُ الرغبة في الاستقلال الفكري مع واقع الحياة في عالَمٍ متزايدِ التعقيد. وتوضِّح جين وفلمينج أن المفكِّرين التنويريين عاشوا في زمانٍ كانت الحكمة التقليدية فيه تأتيهم بشكلٍ أساسي من الكنيسة، وكانت جميعُ المعرفة الفنية والعلمية والفلسفية لهذا العالم تكمن بيُسرٍ في دائرةِ معارفَ محدودةٍ نسبيًّا في نطاقها. بعبارة أخرى: في القرن السابعَ عشر، كان نبذُ الأفكار التقليدية واعتبارُ نفسك الحكمَ الأمثل على ما هو صحيح؛ هدفًا قابلًا للحياة.
ومنذ ذلك الحينِ، أضحى فَهمُنا العلمي الجمعي للعالَم أكثرَ تعقيدًا وتخصُّصًا بكثير. وأصبحت معرفةُ ما هو صحيحٌ وما هو هُراء مهمةً متزايدةَ الصعوبة بالنِّسبة إلى غير الخبراء. كما أصبحت عبارةُ «تُشير الدراسات» من الأكليشيهات الفارغة. فغالبًا ما يُحتاج إلى دفعِ مقابلٍ مالي للاطلاع على الدراسات العِلمية، وقد يتعذَّر على شخصٍ ليس لديه الخبرةُ المتخصصة اللازمة فَهمُها على أي حال. وقد يتطلب مجرَّدُ فهمِ مُلصقٍ على إحدى الوجبات المُجمدة العادية في متجر البقالة معرفةً على نفس المستوى المعرفيِّ لطلاب الدراسات العليا في الكيمياء والهندسة وعلم الأحياء والتغذية. فاستقلالُنا الفكري يُنتزَع منا أكثرَ وأكثر، ونجد أنفسنا مجبرين على الإذعان للخبراء.
والبيئة الطائفية تسمح لنا بالتشبُّث باستقلالنا الفكري. فهي تُخبرنا بأننا نستطيع أن نكون خبراءَ أيضًا، وأننا غيرُ مضطرِّين إلى الإصغاء لما يُملى علينا، وأنَّ بمقدورنا العثورَ على الإجابات التي نبحث عنها بمجردِ أن نسلك الطرقَ التي قلَّ سالِكوها. استيقظ! الحقيقة هناك! تجرَّأ على المعرفة!
لكننا لا نُصدِّق على وجه العموم أشياءَ لمجرد التسلية بها. فحتى نُصدِّق بحقٍّ شيئًا ما، يجب أن يكون هذا الشيء وجيهًا. فكيف يتأتَّى لأصحاب المعتقدات الطائفية أن يكونوا على هذا القدْر من اليقين بأنَّ رحلتهم خارج المنظومة الفكرية التقليدية قادَتْهم إلى الحقيقة، في الوقت الذي يكون فيه الاتجاه العلمي السائدُ مُضللًا أو خادعًا؟ الأمر لا يتطلب زعيمَ طائفةٍ يتمتَّع بكاريزما كي يُغرِيَنا بالانخراط في البيئة الطائفية؛ فكلُّ ما يتطلبه الأمرُ أحيانًا هو أن يُخبرنا عقلُنا المتفائل للغاية أننا نفهم العالَم أكثرَ بكثير من فهمنا الفعلي له.
«أعتقد أنني أعرف أقلَّ مما كنت أظن!»
تأمَّلِ الدراجة العادية. إنها آلة بسيطةٌ إلى حدٍّ كبير: فهي مكوَّنة من عجلتَين وهيكلٍ ومِقوَدَين ودواسات وجنزير (يُمكننا أن نتجاهل جميعَ التروس والمكونات المعقَّدة، بما يتوافق مع المثال الذي نسوقه). على الأرجح أنه كان لديك في مرحلةٍ ما من حياتك دراجةٌ أو رَكِبتَ واحدةً على الأقل. وإذا كنتَ تعيش في مدينة، فالأرجح أنك تراها كلَّ يوم، مركونةً بجانب أعمدة الإنارة أو تندفع نحوَك عند عبورك الشارعَ. بالتأكيد أنت تعلم معلومةً أو اثنتَين عن الدراجات، أليس كذلك؟
إذن فالتمرين التالي سيكون سهلًا للغاية. فيما يلي رسمٌ تخطيطي بسيط لدراجةٍ ينقصها بعضُ الأجزاء الأساسية. كلُّ ما أريده منك أن تستكملَ الأجزاء الناقصة. ارسم الأجزاء الناقصة من الهيكل والجنزير والدواسات. لا يُهم إن كانت بعضُ خطوطك مهتزَّةً بدرجةٍ ما أو بأخرى. فهذا ليس اختبارًا في موهبة الرسم. يمكنك أن تستكمل التمرين في عقلِك إن لم يكن لديك قلمٌ الآن. كلُّ ما أريده منك أن تُشير إلى المواضع التقريبية التي يجب أن تُركَّب فيها الأجزاء المختلفة الناقصة كي تصبحَ الدراجة صالحةً للعمل.
كيف كان أداؤك؟ عندما قدَّمَت ريبيكا لوسون هذا التحديَ للناس، أخطأ نصفُهم تقريبًا في شيءٍ ما؛ بالرغم من حقيقة أن جميعهم تقريبًا كانوا يعرفون كيف يركبون دراجة، وأن الكثيرين منهم كانوا يمتلكون واحدةً بالفعل في منازلهم. ولم تكن أخطاؤهم أخطاءً تافهة. فقد كانت عُيوبًا في التصميم من شأنها أن تجعل الدراجةَ عديمةَ الفائدة. فالبعض منهم رسَم هيكل الدراجة متصلًا بكلٍّ من العجلتين الأمامية والخلفية، وهو ما يجعل من الصعوبة تحريكَ مِقودَي الدراجة. والبعض الآخر رسَم الدوَّاسات متصلةً بمركزِ كلِّ عجلة، وهو ما يجعل وصولَ قدميك إليها أمرًا صعبًا. أما الخطأ الأكثرُ شيوعًا فكان وضعَ الجنزير في المكان الخاطئ؛ فبعضُ الناس رسَموه كعُقدةٍ بين العجلتَين الأمامية والخلفية، وهو ما من شأنه أن يُعيق حركةَ الدراجة. والإجابة الصحيحة هي أن يبرز الهيكلُ من أسفل المقعد وصولًا إلى موضعٍ بين العجلتَين، ويتصل من هناك بالعجلة الخلفية وبالجزء العلويِّ من الهيكل عن طريق الدواسات، ما يصنع مثلثَين. وتكون الدواسات بين العجلتَين، ويُكوِّن الجنزير حلقةً حول الدواسات والعجلة الخلفية (انظر الصورة في المراجع: الفصل السادس: أريد أن أصدق). هذا البِنْية تسمح للدواسات بإدارة الجنزير ودفع العجلة الخلفية، في حينِ أنها تتركُ العجلة الأمامية لتدور بحرِّية. هل ارتكبتَ أيَّ أخطاء؟ هل كان الأمر أصعبَ مما كنت تظن؟
هذه المهمة البسيطة على نحوٍ خادعٍ تكشف أن الكثير من الناس ينقصهم الفهمُ الأساسيُّ لآليةِ عمل الدراجة. وهي في حدِّ ذاتها ليست كاشفةً إلى هذا الحد. فبمقدورنا أن نخوض معتركَ الحياة دون فَهمِ الجوانبِ الأكثرِ دقةً من تصميم الدراجة. المثير في الأمر أننا لا نُدرك افتقارنا للفهم إلى أن اضطُرِرنا إلى إظهار هذا الفهم عن طريق استكمال الرسم التخطيطي، ووجدنا أنفسَنا نتعثر. وقبل عرض هذا الرسم على المشاركين، كانت لوسون قد سألَتهم إلى أي مدًى هم يحسبون أنهم يفهمون جيدًا الآليةَ الأساسية لعمل الدراجة. وعلى مقياسٍ يتراوح من واحدٍ (أي «أعرف القليل جدًّا أو لا أعرف شيئًا مطلقًا عن آلية عمل الدراجة.») إلى سبعة (أي «لديَّ معرفة تامَّة بآلية عملِ الدراجة.») قيَّم المشاركون أنفسَهم بأربعةٍ أو خمسة، في المتوسط؛ أي كانوا يظنون أن لديهم معرفةً معقولة بالأمر. لكن بالنِّسبة إلى الكثيرين منهم، اتضح أن فهمهم كان وهمًا. فعندما اتضحَت أخطاؤهم على الرسم التخطيطي — أو بعبارة أخرى: عندما وُوجِهوا بجهلهم — تلاشى هذا الوهمُ فجأةً. كانت تجرِبةً مثيرة للدهشة. وقد لخَّص أحد المشاركين الجادين الموقف المؤسف قائلًا: «أعتقد أنني أعرف أقلَّ مما كنتُ أظن.»
•••
وليست آليةُ عمل الدراجات وحدها هي التي نظنُّ أننا نفهمُها أفضلَ مما نحن عليه في حقيقة الأمر. فنحن لدينا ثقةٌ مفرِطة أننا نفهم جميعَ الأشياء على نحوٍ جيد. في سلسلةٍ مكثَّفة من التجارِب، سأل روزنبليت طالبُ الدراسات العليا بجامعة ييل وفرانك كيل المشرفَ على أبحاثه الناس عن مدى جودةِ فهمهم للآلات التي تتراوحُ بين التعقيد والمألوفية، بدءًا من فتَّاحات العلب ومرورًا بالسحَّابات الخاصة بالملابس، ووصولًا إلى طائرات الهليكوبتر. وفي كل حالة، كان أغلبُ الناس يظنُّون في البداية أن لديهم فكرةً تفصيليةً معقولة عن آلية عمل الآلة. ولكن عندما طلب منهم الباحثان أن يكتبوا توضيحًا تفصيليًّا للكيفية التي يمكن أن تفتحَ بها الفتَّاحةُ العلب، أو الكيفيةَ التي تطير بها طائرة الهليكوبتر، لم يَفِ الكثيرون منهم بالمطلوب. فكما كان الحال مع تمرينِ الدراجات الذي أعدَّته لوسون، عبَّر كثيرون من المشاركين في اختبار روزنبليت وكيل عن «دهشتهم الفعلية وإدراكهم لمدى قلةِ ما يعرفونه مقارنةً بما كانوا يظنون.»
ولا يقف الأمرُ عند هذا الحد. فالناس يُبالغون في تقييمهم لِفَهمهم للمسائل الفيزيائية البسيطة، مثل المسار الذي سيأخذُه شيءٌ ساقط، والظواهر الطبيعية الأكثرِ تعقيدًا مثل كيفية حدوث الزلازل ولماذا للمذنَّبات ذيول، أو كيف يتكوَّن قوسُ قزح. ويعتقد الناس أنهم يفهمون القانونَ والاستراتيجيات السياسيةَ أفضلَ مما هم عليه في واقع الأمر. يُشير دان سايمونز وكريس تشابريس في كتاب «الغوريللا الخفية» إلى أن ميل مشروعات على غِرار مشروع الأنفاق «بيج ديج» في بوسطن نحو تخطِّي الميزانية وتجاوز المواعيد النهائية للأعمال، يدلُّ على أن حتى الخبراء أنفسَهم يُبالغون أحيانًا في تقديرِ مدى معرفتهم عندما يُخطِّطون لمشروعٍ معيَّن.
قد نظن أننا نفهم شيئًا ما بتعمُّق، لكن عندما نُوضَع على المحك، يتضح لنا أن ثمة فجواتٍ كثيرةً في فهمنا.
الأشياء التي لا نعرف أننا نجهلها
لماذا نُخطئ كثيرًا في الحكم على عُمق فهمنا؟ فالأمر، على ما يبدو، ليس مجردَ أننا نكذب على أنفسِنا إطراءً لها أو نُحاول الظهور بمظهرٍ مبهر. فإغراءُ الناس بنقودٍ فعلية لتقييمِ فَهمهم أو قدراتهم بأمانةٍ ودقة — حتى عندما يُعطَون مبلغًا كبيرًا مقداره ١٠٠ دولار — لا يُقلل من فرط ثقتهم. كما لا يفي بالغرض إجبارُهم على تبرير تقييمهم لقدراتهم الشخصية لزملائهم ومن ثَم مواجهة احتمالية الظهور بمظهر المتعجرِف أو الأحمق بسبب تقييمٍ مُفرط الثقة.
كما نعلم، ثَمة أشياءُ نُدرك أنها معلومة لدينا؛ أو بعبارة أخرى: أشياءُ نعرف أننا نعرفها. ونعرف أيضًا أن هناك أشياءَ نعرف أننا نجهلُها؛ بمعنى أننا نعرف أن هناك أشياءَ لا نعرفها. لكن هناك أيضًا أشياء مجهولة لا نعرف أننا لا نعلم عنها شيئًا؛ تلك الأشياء التي لا نعرف أننا لا نعرفها … وتلك الفئة الأخيرة من الأشياء هي التي تكون صعبة.
ربما تؤدِّي عباراتُ رامسفيلد إلى نوعٍ من الارتباك لديك (وقد تَلقَّى بعضَ النقد من بعض اللُّغويين المدقِّقين في دقائق اللغة بسبب عباراته هذه)، لكن الفكرة التي يطرحُها مهمة. هيا بنا نتأمَّل كلَّ فئة على حِدَة. الأشياء المعروفة التي نعرف أننا نعرفها سهلة. فمثلًا ما هي عاصمة إنجلترا؟ أعرف الإجابة: إنها لندن. عندما قرأتَ السؤال، وجدتُ كما لو أن عقلي كتبها على محرِّك بحث، فظهرَت الإجابة مباشرة. ثم يأتي دور الأشياء المجهولة التي نعرف أننا لا نعرفها وهي لا تُمثِّل مشكلة كبيرة هي الأخرى. فمثلًا، ما عاصمة ناميبيا؟ لا أعرف. لكنني أعرفُ أنني لا أعرف. ويبدو الحال كما لو أن ضغطة على زرِّ البحث تُظهر صفحةً فارغة برسالةٍ تقول: «لم يُفلح بحثك في إظهارِ أيِّ نتائج.» وجد ليون روزنبليت أنه فيما يتعلَّق بالمعلومات البسيطة مثل عواصم الدول، غالبًا ما لا نُبالغ في تقييمِ معرفتنا. فنحن نكون على علمٍ بالإجابة أو لا؛ وليس لدينا مشكلةٌ في التفريق بين هذا وذاك. ونتعامل مع الأشياء المجهولة التي نعرف أننا لا نعرفها باعتبارها فجوةً بسيطة محدَّدة في معرفتنا بانتظار أن تُملأ. (وبفضل محرِّك بحثٍ فائق السرعة، أستطيع الآن أن أسدَّ هذه الفجوة: عاصمة دولة ناميبيا هي ويندهوك.)
لكن هناك أيضًا الأشياء المجهولة التي لا نعرف أننا لا نعرفُها. وهذه الأشياء أكثرُ مراوَغةً. فهي بقعةٌ معرفية عمياءُ، ويميل عقلُنا إلى مَلءِ البقع العمياء. وقد توصلَت ريبيكا لوسون وليون روزنبليت وغيرهم إلى أن هذه البقعَ العمياء تظهر لدينا لا سيما عندما يتعلق الأمرُ بالظواهر الفيزيائية مثل الزلازل أو الأمور الآلية، مثل الدراجات أو الأنظمة المعقَّدة مثل القانون والسياسة. وأوضح روزنبليت أن المشكلة هي أن أغلبنا لا يشتَغِلون بميكانيكا الدراجات، وليسوا اختصاصيِّين في العلوم السياسية، لكننا جميعًا لدينا معرفة عابرة ببعض الخصائص الظاهرة للدراجات والسياسة. وهذا القدر البسيط من المعرفة الغامضة يُمكن أن يوقِعَنا في متاعب؛ لأن الأمر يتطلَّب شيئًا من الخبرة المتخصصة لمجردِ أن تعرف مقدارَ ما لا تعرفه عن شيءٍ ما. فبدون هذه الخبرة، يمكن أن يكون من الصعب معرفةُ الفارق بين الفهم العميق والفهم الضَّحل.
يوضِّح عالم النفس ديفيد دانينج المسألة بطريقةٍ مباشرة أكثر؛ إذ يقول: «العقل الجاهل ليس وعاءً فارغًا بلا بقع.» فهو مليءٌ بالمعلومات؛ «جميع الخبرات الحياتية والنظريات والحقائق والمؤسسات والاستراتيجيات والخوارزميات والاستدلالات والاستعارات والافتراضات» التي تراكَمَت لدينا على مرِّ السنين. وعندما لا نعلم — وجميعنا يجهل الكثير من الأشياء — يستخدم عقلُنا دون تمييزٍ ما هو متاحٌ لديه من أجل تغطيةِ البقع المعرفية العمياء.
بالنِّسبة إلى المشاركين في اختبارِ ريبيكا لوسون الذين قيَّموا فهمهم للدراجات بأنه قويٌّ ثم أخطَئوا في استكمال الرسم التخطيطي، هم كانوا لا يعرفون أنهم لا يعرفون. فعندما طلبَت منهم لوسون أن يُقيِّموا فَهمهم، أجْرَوا بحثًا ذهنيًّا، ولم يردَّ المخُّ برسالةٍ فارغة تُشير إلى عدم الوصول إلى نتائج. فعوضًا عن ذلك، رأوا صفحةً ظهرت للوهلة الأولى مليئةً بقدرٍ لا بأس به من المعلومات؛ أسماء الأجزاء المختلفة والذكريات المشوشة عن خصائص دراجاتهم في مرحلة الطفولة وتجارِبهم في ركوب الدراجات، وربما معرفةٌ بالكيفية التي يُمكن بها إصلاح ثَقب في إطارها. وقد خلَطوا بين كل هذه المعرفة الضَّحلة إلى حدٍّ كبير والفهمِ المتعمق بالكيفية التي تعمل بها الأجزاء معًا على أرض الواقع من أجل إدارةِ العجلات. ولم يزُل فهمهم الوهمي مثل السراب إلا عندما اضطُرُّوا إلى فحص الصفحة بمزيدٍ من التدقيق عندما واجهَتْهم عالمةُ النفس المزعجة بأخطائهم في رسمٍ تخطيطي بسيط.
يقول روزنبليت وكيل، إننا نخلط أحيانًا بين رسمٍ تخطيطي هيكلي غيرِ كامل وشعورٍ «زاهٍ أشبهَ بمخطط» لآلية عمل الأشياء. أو يُمكننا أن نُعبر عما قاله كريس تشابريس ودان سايمونز بالقول إننا نعتقد أننا نفهم آليةَ عمل الدراجة في حينِ أن كلَّ ما تفهمه هو كيف تقود دراجةً.
ربما يكون هذا صعبًا إلى حدِّ إرباك عقلك. فبرغم كلِّ شيء، لدينا بقعةٌ عمياء فيما يتعلَّق ببقعنا العمياء المعرفية. لكن ربما تكون قد جرَّبت الشعور بعدم الارتياح عندما انكشفت إحدى بقعك العمياء على نحوٍ غيرِ متوقَّع. فلعلك وجدت نفسك خلالَ دردشتك مع أصدقائك قد انخرطتَ في محاضرةٍ عن موضوعٍ معين تشبَّثتَ برأيك فيه مؤخرًا. ووسط خُطبتك قاطعَك أحدُهم بسؤالٍ بريء على غِرار: ما مدى تأثير سياسات تجارة الانبعاثاتِ على انبعاثات الكربون عالميًّا بالضبط؟ فجأةً تجد نفسَك مرتبكًا. فقد كنت تظن أنك تستند إلى أرضيةٍ معرفية صُلبة، لكنك تكتشف أنَّ فهمك قد فقد الأرضية الصُّلبة وأصبح عديمَ الحيلة عالقًا في الهواء مثل شخصية وايل إي كويوت. فأحيانًا لا نستطيع رؤية الحد الذي ينتهي عنده فَهمُنا إلا عندما يُصبح فهمنا هذا على المحك. إذا لم تكن قد جرَّبت هذا الشعور من قبل، فإما أنك عبقريٌّ أو أنك تتحدَّث دومًا وحَسْب عن الأشياء التي لديك معرفةٌ متخصصة بها، أو ربما تُعاني حالةً سيئة جدًّا من عدم معرفتك أنك لا تعرف.
جامعة جوجل
ما رأيك في تقنية النانو؟ هل لديك معرفةٌ كافية بها ليكون لديك رأيٌ مطَّلع؟ يقول ديفيد دانينج: «قد يظن المرءُ أن الآراء المتعلِّقة بتقنيةٍ شديدةِ التخصص يصعب الحصولُ عليها.» ويُتابع قائلًا: «بالتأكيد، تتطلَّب معرفةُ ما إذا كانت تقنية النانو هي إنجازًا هائلًا للبشرية أو خطوةً نحو التعجيل بفَنائها، معرفةً من نوعٍ ما بعلم المواد والهندسة والبِنْية الصناعية والمشكلات الرقابية والكيمياء العضوية، وعلم السطوح وفيزياء أشباه الموصِّلات، والتصنيع الدقيق والبيولوجيا الجزيئية.» ومع ذلك فإن الآراء المتعلقة بالموضوع أبعدُ ما تكون عن الاقتصار على الأشخاص ذوي الخبرة الفنية في التخصصات ذات الصلة.
في دراسةٍ مَسْحية أُجريت عام ٢٠٠٦، صرَّح أغلب المشاركين بمعرفتهم الضئيلةِ بتقنية النانو أو انعدام معرفتهم بها. فعندما طُلب منهم تقييمُ المخاطر والمزايا التي تمتاز بها تقنية النانو، قال قرابةُ نصفهم إنهم لا يستطيعون الإجابة. فبالنِّسبة إليهم، كانت المزايا والسلبيات المحتملة شيئًا مجهولًا يعرفون أنهم لا يعرفونه. لكن الأمر لم يتطلَّب سِوى القليل من المعلومات لاستثارة وَهْم الفهم. ففي دراسةٍ أخرى، استطاع دان كاهان وزملاؤه أن يَزيدوا من عدد المشاركين الذين لديهم استعداد لتقديم وجهة نظرهم عن مزايا وسلبيات تقنية النانو إلى تسعةٍ من أصل ١٠؛ وذلك فقط من خلال وصفٍ للتقنية مكوَّنٍ من جملتين، ولا ينطوي مطلقًا على أي أحكام.
وللأمانة، كان موقفُ معظم المشاركين محايدًا؛ فبوجهٍ عامٍّ كان المشاركون غيرَ راغبين في الابتعاد عن منتصف المقياس؛ حيث قيَّموا المزايا والمخاطرَ على أنها متكافئة إلى حدٍّ كبير. لكنَّ مزيدًا من المعلومات حسَمَت الأمر. فقد طلب كاهان من مجموعةٍ مختلفةٍ من المشاركين أن يقرَءوا فِقرتَين موجزتين عن تقنية النانو، وكانت إحدى الفقرتين تُوجز بعض المزايا المحتملة في حينِ كانت الأخرى توجز بعضَ المخاطر المحتملة. في الواقع، لم يكن القدْر الضئيلُ من المعلومات الغامضة والمتناقضة كافيًا لتشكيل رأيٍ مطَّلع لدى المشاركين. لكن لم يبدُ الأمر كذلك بالنِّسبة إلى المشاركين الذين قرَءوا الفقرتين. فعددُ الأشخاص الذين لم يكن لديهم استعدادٌ للإدلاء برأيِهم انخفض إلى النصف، من ١١ بالمائة إلى خمسةٍ بالمائة فقط. والأهمُّ من ذلك، شجَّع ذلك المشاركين على التحرُّك بعيدًا عن منتصف المقياس. فبعد قراءتهم الفِقرتين الغامضتين، نزعَ الناس إلى تقديمِ آراءَ أقوى بكثيرٍ بطريقةٍ ما أو بأخرى. فالقليل من المعلومات — حتى وإن كانت غيرَ كافية لتشكيل رأيٍ مطلع — يمكن أن يدفعَنا إلى التشبُّث برأيٍ معيَّن. ووهمُ الفهم الذي يمكن أن يجعل شخصًا ما يميل إلى اتخاذِ موقفٍ بشأن التقنية التي يكاد لا يدري عنها شيئًا يُمكن هو ذاته أن يُغرِيَ بعض الناس نحو البيئة الطائفية التي أشرنا إليها في السابق.
في ١٨ سبتمبر ٢٠٠٧، ظهرَت جيني مكارثي في برنامج «أوبرا وينفري شو» للترويجِ لكتابها «أعلى صوتًا من الكلمات: رحلةُ أمٍّ في علاج التوحُّد». في هذا الكتاب، تصف مكارثي كيف شُخِّصت حالة ولدها إيفان بأنه يُعاني التوحُّدَ، وتُجادل بأن اللقاحات هي السببُ وراء ذلك. تتمتع جيني مكارثي بالكثيرِ من المهارات، فهي تعملُ عارضةَ أزياء وممثِّلة ومؤلفة، لكنها لم تتلقَّ أيَّ تدريب طبِّي رسمي. إذن ما الذي أهَّلَها لتشخيصِ سببِ التوحُّد الذي يُعانيه طفلها؟ أخبرت مكارثي أوبرا قائلةً: «لقد تلقيتُ درجتي العلمية من جامعة جوجل.» عندما شُخِّصت حالة إيفان بأنها توحُّد، قالت: «أول شيء فعلته هو أن استعنتُ بجوجل. كتبتُ كلمة توحُّد على محرك البحث. وبدأت أطَّلِعُ على النتائج.» وعندما قرأَت أوبرا، بدافع الشعور بالواجب، بيانًا من مراكزِ السيطرة على الأمراض والوقاية منها يُفيد بأن أفضل العلم المتاح لا يدعمُ الزعمَ القائلَ بوجود ارتباط بين اللقاحات والتوحُّد، كانت مكارثي قد أعدَّت حُججَها المناهِضة بالفعل. فقد قالت: «علمي اسمه إيفان، وهو في البيت. هذا هو علمي.»
ليست جيني مكارثي هي الوحيدة التي تعتقد أنها تعرفُ أفضلَ مِن الطب السائد. الأمر نفسه ينطبق على كريستين ماجيوري وهي سيدةُ أعمال من شيكاغو. ففي عام ١٩٩٢، ثبَتت إيجابيةُ فحص الدم الروتيني، وتبيَّن إصابتها بفيروس نقص المناعة البشرية المكتسب، الذي يُسمَّى بمرض الإيدز. وبالرغم من أنها لم تتلقَّ أيَّ تدريب علمي أو تحصل على أي درجة جامعية، غاصت ماجيوري في المؤلفات الطبية حول مرض الإيدز. وتوصَّلَت إلى نتيجةٍ مفادُها أن الإيدز لا يُسبِّبه فيروس نقص المناعة البشرية المكتسَب، وإنما ينتج من استخدام العقاقير والجنس الشرجي، بل وحتى العقاقير الموصوفة لعلاج مرض الإيدز. وقد أسَّسَت منظمةٌ أطلقت على نفسِها اسم «ألايف آند ويل إيدز أولترنتيفز» لنشر رسالتها. وفي عام ٢٠٠٠، نظَّمت فرقةُ موسيقى الروك «فو فايترز» حفلًا موسيقيًّا خيريًّا بِيعَت جميع تذاكره لصالح منظمة «ألايف آند ويل» في هوليود. أخبرت ماجيوري الجمهور قائلة: «قيل لي إنه لم يتبقَّ من عمري سوى مدَّة تتراوح بين خمسِ وسبع سنوات.» وتابعَت: «الآن بعد مُضيِّ ثماني سنوات، أعيش في صحةٍ مثالية دون أيِّ أدوية للإيدز … والسبب فيما أتمتَّع به من صحةٍ اليومَ هو أنني لم أتَّبع أوامرَ طبيبي. لقد تشكَّكَت فيها. وأحثُّكم جميعًا على التشكك فيما تُخبَرون به بشأن فيروس نقص المناعة البشرية المكتسَب ومرض الإيدز.» عندما حملت ماجيوري، لم تأخذ أيَّ أدوية لمنع انتقال الإيدز إلى أطفالها. وقد ماتت ابنتها إليزا جين بسبب الإيدز عندما بلغَت من العمر ثلاثَ سنوات ونصفًا. وماتت ماجيوري نفسها في ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨، وهي تبلغ من العمر ٥٢ عامًا، بسبب أشكال من العدوى الانتهازية الشائعة لدى الأشخاص الذين لا يُعالَجون من مرض الإيدز.
قليلٌ من العلم
جامعة جوجل يحضرها أعدادٌ هائلة من الناس. فبعد مشاهدةِ عددٍ من فيديوهات «يوتيوب» عن عمليات الهدم المُتحكَّم بها، قد يُغريك اعتبارُ نفسك صاحبَ معرفة كافية في مجال الهندسة الإنشائية لدرجةٍ تجعلك تعتقد أن انهيار بُرجَي مركز التجارة العالمي كان هدمًا مُتحكَّمًا فيه. وقد شاهدنا جميعًا أفلامًا نجد فيها رجلًا أُطلِق عليه الرصاص يُدفَع إلى الخلف بفعل قوةِ الرصاصة؛ من المغري أن نستنتجَ أننا نعرف كلَّ ما نحتاج إلى معرفته عن الفحص الجنائي للأسلحة النارية لنستدلَّ على موقع القاتل الخفي؛ استنادًا إلى حركة رأسِ جون كينيدي إلى الخلف وجْهةَ اليسار. ونعرف أن السماء المظلمة غير الملبَّدة بالغيوم لا بد أن بها نجومًا؛ من المغري أن نعتقدَ أننا نستطيع إثباتَ أن رحلة الهبوط على سطح القمر كانت مزيفة، وذلك ببساطة من خلال الإشارة إلى الغياب الواضح للنجوم في صور سماءِ القمر. معظمنا ليسوا خبراءَ في الهندسة الإنشائية أو الفحصِ الجنائي للأسلحة النارية أو التصوير الفَلكي. لكن عندما نعرف القليلَ من السهل أن ننجرفَ نحو الاعتقاد بأننا نعرف الكثير. فوهمُ الفهم يجعلنا جميعًا خبراءَ على المستوى النظري.
وعندما نُضطرُّ إلى تقدير مدى عُمق معرفتنا غالبًا ما نصطدم بالقاع أسرعَ بكثير مما هو متوقَّع. ولكن في أغلب الأحيان، نخوض غِمارَ حياتنا بالطفو على السطح، غيرَ مدرِكين أبدًا جميع الأشياء التي لا نعرف أننا لا نعرفها. ولم تُطرَح كثيرًا تحدياتٌ أمام أوهامنا. فقلما نُصادف علماء نفس يعطوننا اختباراتٍ على غرار اختبار الدراجة الناقصة، وغالبًا ما يتحلى أصدقاؤنا بأدبٍ جمٍّ يمنعُهم من أن ينتقدونا، كما أننا نُجيد إحاطة أنفسنا في غُرف أصداء فكرية يُعزِّز فيها المحيطون بنا أفكارَنا ومعتقداتنا. بحلول الوقت الذي وُضعت فيه أفكار كريستين ماجيوري وجيني مكارثي وملايين الخبراء النظريين غيرهم على المحك، صار وهمُ الفهم لديهم اعتناقًا وعقيدة راسخةً.
لقد بدَأْنا الفصل بألفَي شخصٍ تجمعوا في ساحة، يُوجِّهون صياحهم إلى فندقٍ بعيدٍ قائلين: «نعلم أنكم قتَلة!» وكل مَن تحدثتُ إليهم كانوا على يقينٍ من أن المشاركين في مؤتمر بيلدربيرج منخرِطون في مؤامرة إجرامية، لكن عندما ألححتُ في طلب تفاصيلَ محددةٍ منهم — ما هي أهداف المشاركين في المؤتمر بالضبط، وكيف ينجحون في مؤامراتهم الكبرى، وما الذي يُمكن فعله حِيالَ ذلك — كانت إجابات الناس شديدةَ التفاوت والتبايُن، وكانت غامضة في كثير من الأحيان إلى حدٍّ محبِط. وقال أحد المحتشدين في ذلك المهرجان: «حسنًا، هذا يكشف الحقيقةَ بصفة أساسية. من البديهي أن تختلفَ الحقيقة باختلاف الناس، لكنني لا أعترف إلا بنسخة واحدةٍ من الحقيقة، وأي نسخ أخرى منها هي ببساطة مجردُ حقائقَ زائفة. كما تعلم، الأمر يحدث على مستوًى أعمقَ من مستوى هؤلاء الأشرارِ هناك، فالأمر يصل إلى …» توقَّف هُنيهة عن الكلام. ثم تابع قائلًا: «لا أجدُ الكلماتِ التي أشرح بها ذلك.»
كتب الشاعر ألكسندر بوب في قصيدته التي تحمل اسمَ «مقالةٌ عن النقد» في عام ١٧٠٩ يقول: «قليلٌ من العلم شيء خطيرٌ للغاية؛ تشبَّعْ بينابيع العلم أو لا تتذوَّقْ ماءه؛ فالجرعات البسيطةُ منه تُسمِّم العقل، والتشبعُ بمائه يمنحنا الحكمة.» أما إيما جين وكريس فلمينج، فيطرحان، بأسلوبٍ أقلَّ شاعرية، ولكن بطريقة أكثرَ برجماتية لربما، أسانيدَ قوية لأهمية أن تتقبَّل حقيقة أنك لا تملك جميعَ الإجابات. «فالاعتراف بأنك تعرف أقلَّ مما تظن، وأنك قد تُصبح أكثرَ جهالةً في الغدِ من جهالتِك اليوم» شيءٌ يجب اعتباره فضيلةً على حدِّ قولهما. «ربما يجب عليك أن تتوقَّف من آنٍ لآخرَ لتقول لنفسك: «ربما ليس لديَّ فكرةٌ مطلقًا عما أتحدَّث فيه.»»