الروايات الرَّسمية
لطالما كان ديفيد أيك مستغرِقًا في أحلام اليقظة. فيذكر أنه في المدرسة، كان المعلمون يُخبرونه بالتوقُّف عن الاستغراق في أحلام اليقظة، وكان يُفكِّر في نفسه قائلًا: «حسنًا، أحبُّ أحلام اليقظة أكثرَ من حبي الاستماعَ إليكم؛ لذا سوف أذهب وأستغرق في تلك الأحلام.» ترك أيك المدرسة في سنِّ الخامسة عشرة ليتخِذَ مسارًا مهنيًّا في مجال كرة القدم. وعندما أجبره التهابُ المفاصل المؤلم على التقاعد في سنِّ ٢١ عامًا، تحوَّل إلى الصِّحافة. وبحلول ثمانينيَّات القرن العشرين، كان أيك قد أصبح اسمًا مشهورًا في مجال البرامج الرياضية لدى هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي». لكن بالرغم من نجاحه، اعترف أيك في سيرته الذاتية التي نُشرت عام ١٩٩٣، بأنه كان يشعر باستياءٍ متزايد من حياته. كان يشعر بأن حياته يجب أن تكون أعظمَ مما هي عليه. أخذ هذا الشعور يُراوده عندما بدأ في تلقِّي رسائلَ روحانيةٍ تُخبره بأن العالَم يحكمه سرًّا جنسٌ شريرٌ من الزواحف المتداخلة الأبعاد.
إليك قصة الواقع حسبما جرى على لسان ديفيد أيك.
في وقتٍ ما، عاشت البشرية عصرًا ذهبيًّا. كان ذلك العصر يسوده الانسجامُ والسعادة والهناء. فقد عاش أسلافُنا القدامى مترابطِين معًا ومع الكون. فلم تكن هناك حروبٌ أو مجاعات أو تلوُّث؛ ومن ثَم كان ثمَّة توافق بين الجميع. ثم تداعى ذلك السِّلم. إذ بدأت قوةٌ خبيثة سرِّية تُلقي بظلالٍ مظلمة على البشرية. وكانت ثَمة مؤامرة.
فعلى مدار الآلاف من الأعوام حتى الآن، كان المتآمرون يُنفِّذون سرًّا نظامَ تحكُّمٍ متقنًا ومعقَّدًا، صُمِّم خِصِّيصى لقطع اتصالنا الطبيعي بالكون وإسقاطنا باستمرارٍ في شرَك حالةٍ من الخوف والحيرة لا ينتهيان. والعالم الحديث هو قِبلة مكائدهم الخفية. فوسائل الإعلام والمنظومة التعليمية والعلم والسياسة والطبُّ الغربي جميعها أدواتٌ لتلك المؤامرة، وهي تُستخدَم للسيطرة على العقول وإخضاعنا. وكل شيء يحدث في العالم — كل حرب وركود وكارثة طبيعية وهجوم إرهابي — صنيعة مكائد سرِّية يحوكها رجالٌ ذَوو سُترات داكنة في قاعات إدارية يملؤها الدخان. ويستدرك أيك أن هذا مجردُ الحافة الخارجية للحفرة الغائرة. فهؤلاء الطغاة الأرضيُّون هم مجردُ دُمًى في أيدي عدوٍّ أكثرَ خبثًا بكثير.
فوفقًا لأيك، فإن مَن يحوك هذه المؤامرة الشنيعة في واقع الأمر هم جنسٌ مِن كائنات فضائية زاحفة متداخلةِ الأبعاد يُطلق عليها الأركون. ويقول إن المؤامرة تتجاوز حواسَّنا الخمس. فمخلوقات الأركون تقتاتُ على الطاقة البشرية مثل مصَّاصي الدماء. فهي تعشق الخوف والكراهية، وتحصد أكثرَ عواطفنا كآبة وظلمةً من خلال إيقاعنا المستمر في شرَكِ سجن واقع افتراضي. ويوضح أيك أن الكون ليس سِوى صورة ثلاثية الأبعاد، وأن مخلوقات الأركون قد هاجمت نسيجَ الكون ذاته. فعن طريق السيطرة على إدراكنا للواقع، بمقدور تلك المخلوقات التلاعب بأفكارنا، مُبقيةً علينا في شَرَك تأثيرها نُعاني حالةً دائمة من الحيرة والخوف، بحيث نصبح عبيدًا بلا وعيٍ لأسيادٍ غير مرئيين.
تبدو الأشياء كئيبة. فنحن في قبضة تلك المخلوقات الشريرة. والبشرية على حافة العبودية التامة. اللعبة انتهت، وقد أُعلن فوزُ تلك الزواحف.
لكنَّ هذا المصيرَ ليس حتميًّا بالضرورة. فثمة بصيصُ أمل. فمخلوقات الأركون لديها نقطةُ ضعف قاتلة. فهي مضطرَّة إلى العمل في الظلام سرًّا. وعندما تُكشَف خُططها، على حد قول أيك، ينكسر سحرها ويتلاشى تأثيرها، ويتداعى نظام سيطرتها بسهولة. وثَمة تغييرٌ أصبح شائعًا. فالمزيد والمزيد من الناس أصبَحوا متفتِّحي العقول ويقظين وبدَءوا في التحرُّر من قيودِ تلك المخلوقات وأتباعها البشريين. وإذا ثابَرْنا على ذلك، فستنهزم مخلوقات الأركون، وتنقشع ظلالها الكئيبة. ثم يُولَد فجر جديد. فالبشرية ستلتحمُ معًا من جديد وستستعيدُ وعيها الكامل، كما ستستردُّ مكانها الصحيح في هذا الكون.
الآن، إذا لم تكن مؤمنًا بالفعل بما يقوله ديفيد أيك، قد تبدو هذه الأفكار مزاعمَ شديدةَ الجموح، على أدنى تقدير (لم أذكر حتى ما يتعلَّق بحلقات كوكب زحل التي يراها أيك قرون استشعار راديوية، وحديثه عن القمر الأجوف). يقول لورين كولينز في كتابه «العثور على الحقائق في عصر التزييف المعلوماتي» إن ديفيد أيك ومخلوقاته الزاحفة «أصبحت الرمز الذي يُعبِّر عن أكثر الأفكار شرودًا وجموحًا»؛ أو بعبارة أخرى: أبرز مثال على نظريات المؤامرة المجنونة التي لا يُمكن أن يُصدِّقها أصحابُ العقول السوية. لكن الحقيقة أن أفكار أيك لا تَروق لأصحاب الفكر الجامح فحَسْب. فلديه متابعون مخلصون. فمُنتداه على شبكة الإنترنت واحد من أكثرِ المواقع المؤامراتية من حيث عددُ الزيارات، وقد نشر أكثر من اثني عشر كتابًا يُفصِّل فيها أفكارَه، ويُهلل آلافُ المعجبين لمحاضراته الطويلة في أماكنِ التجمعات الكبيرة مثل ساحة ويمبلي في لندن.
لماذا ينجذب إذن هذا العددُ الهائل من الناس لنظريات أيك المعقَّدة والفضفاضة هذه؟ عندما كنتُ لا أعلم شيئًا عن أيك سوى أنه يعتقد أن العالم يخضعُ لتأثير مكيدة تُدبرها مخلوقاتٌ زاحفة لها طموحاتٌ سياسية، رفضتُ أنا أيضًا أفكاره هذه باعتبارها أكثرَ الأفكار جُموحًا. لكن عندما تبدأ في معرفة رؤية أيك للعالم — وسيكولوجيات رواية القصص — يتضح لك جانبٌ آخر. قلت هذه قصةُ الواقع من وجهة نظر أيك؛ والحقيقة أن نظرياتِ ديفيد أيك ليست أكثرَ غرابةً من بعض أكثرِ القصص نجاحًا وتأثيرًا التي نعرفها ونعشقها.
ذات مرة …
أقدَمُ قصةٍ كُتبت على الإطلاق — أو بالأحرى أقدمُ قصةٍ عُثر عليها — هي «ملحمة جلجامش». فيُعتقد أن أجزاءً من هذه القصة رُويت منذ ٥٠٠٠ سنة. وفي النهاية، في وقتٍ ما في القرن السابع قبل الميلاد تقريبًا، جُمِعت القصيدة ودُوِّنَت على ١٢ لوحًا من الصلصال، وأُودِعَت في مكتبة الملك الآشوري أشور بانيبال في نِيْنَوى. ولم يمرَّ وقتٌ طويل حتى اندلعَت الحرب بين الإمبراطورية الآشورية والبابليِّين. وانهارَت الحضارة الآشورية وسُوِّيت نِيْنَوى بالأرض ودُفنت الألواح تحت رمال الصحراء على مدار أكثرَ من ٣٠٠٠ سنة تقريبًا. وبعد ذلك، وتحديدًا في عام ١٨٤٩، تمكَّن عالِم الآثار الإنجليزيُّ أوستين هنري لايارد من الكشف عن بقايا المدينة القديمة والألواح التي طواها النسيانُ. وقد استغرق فكُّ شفرة الأبجدية المسمارية عَقدَين من الزمان. وعندما تُرجمت القصيدة القديمة في نهاية المطاف، أسَرَت ألباب الجمهور الفيكتوري.
بطلُ هذه القصة هو الملك القويُّ والحكيم الذي كان يحكم مدينة الوركاء والذي كان يُدعى جلجامش. وتبدأ إحدى مغامراته بشرٍّ هائل كان يُلقي بظلاله على مملكته التي كانت تنعم بالسلم فيما سبَق. مصدر تلك المشكلات عملاق متوحش، يُدعى خومبابا، كان له، وفقًا لكثيرٍ من الأوصاف، وجهُ أسدٍ وقرونُ ثور ومخالبُ نَسْر وجسدٌ مغطًّى بحراشيفَ شوكية. ويتلقى جلجامش تحذيرًا من أحد أصدقائه الذي يقول: «إنه مخلوق يُروع البشرية. فزئير خومبابا فيضانٌ هائج، وفمُه موت محقَّق وأنفاسه نيران مستعرة.» ويقطع جلجامش المغوارُ نصف العالم سفرًا لمواجهة خومبابا في مخبئه تحت الأرض، ثم يعقب ذلك معركةٌ حاسمة. قوة خومبابا تتجاوز بكثير قوة جلجامش. ولا يبدو أنَّ ثمَّة أملًا في النصر. ولكن عندما يوشك البطلُ على الهزيمة، يستحضر عملًا خارقًا، ويسحق الوحش. ويعود السِّلم إلى مملكة الوركاء من جديد.
«ملحمة جلجامش» قصةٌ جيدة؛ في الواقع هي جيدة لدرجةِ أن الناس أخَذوا يُعيدون تأليفها لا شعوريًّا على مدار آلاف السنين. تأمَّلْ مثلًا قصة «بيوولف» التي ألَّفها الشعراء في إنجلترا إبَّان العصور الوسطى، في وقتٍ ما بين القرنَين الثامن والعاشر. بطل هذه القصة هو محاربٌ قوي وحكيم يُدعى بيوولف. وتبدأ المغامرة بشرٍّ هائل يُلقي بظلاله على مجتمع هِيروت الذي كان يَنعم بالسِّلم فيما مضى. ومصدر المشكلات جريندل، وهو عملاق وحشي ذو عينَين تستعران نارًا ومخالبَ قاتلةٍ وفكَّين قويَّين وجسدٍ مغطًّى بحراشيف لا يمكن اختراقها. وبعد مُضيِّ الليالي، ليلةً تِلو أخرى، يبث جريندل الخوفَ والفزع بين سكان هِيروت، منتزعًا الرجالَ من فُرُشهم ليمزِّق إياهم إربًا. ويسافر بيوولف عبر أنحاء أوروبا لمواجهة جريندل. لكن يتضح أن جريندل مجرَّد مقدمة لعدوٍّ أكثرَ ترويعًا، وهو أمُّه الأكثر وحشية. ويُغامر البطل ويدخل إلى مخبئها تحتَ الماء، ويعقب ذلك معركةٌ حاسمة. الوحش أكثرُ قوةً بكثير من بيوولف. ويبدو أنه لا أملَ في النصر. ولكن بعدما يُفقد الأمل على ما يبدو، يستحضر بيوولف قوةً خارقة، ساحقًا الوحشَ بسيفٍ صنعَته أيدي العمالقة. ويُرفرف السلام من جديد على هِيروت.
وُلدت قصَّتا بيوولف وجلجامش، كلٌّ منهما مستقلة تمامًا عن الأخرى، من رَحِم ثقافتَين شديدتَي التباعد، ويفصل بين القصتين آلافُ السنين، غير أن ثمَّة أوجُهَ تشابهٍ بينهما تُثير الاهتمام. فاليوم دُور السينما المكيفة الهواء والأفلام الباهظة التكلفة تختلفُ اختلافًا شاسعًا عن الأروقة البدائية المفتوحة ومجالس الشعراء الغنائيِّين في الماضي، ومع ذلك ما زلنا نتأثر كثيرًا بالقصص التي تُروى عن أبطالٍ شُجعان يُحاربون أشرارًا مروِّعين. تأمَّل مثلًا فيلم «جوز» (الفك المفترس) لستيفن سبيلبرج. تبدأ سمكةُ قرش مخيفةٌ في قضِّ مضاجع بلدةٍ واقعة بالقرب من البحر. ويُغامر رئيس الشرطة برودي، وهو بطلُ الفيلم، منطلقًا إلى البحر لمواجهة سمكة القرش. يبدو النصر غيرَ أكيد، إلى أن يذبح برودي سمكةَ القرش، في عملٍ مغوارٍ شديد البراعة. وتأمَّل أيضًا فيلم «ستار وورز» (حرب النجوم)، الذي يُهدِّد فيه دارث فيدر المجرة بأكملها، إلى أن يُدمر لوك سكاي ووكر نجم الموت الخاص بفيدر مستخدمًا «القوة الميتافيزيقية» لإيجاد نقطةِ ضعفه. أو تأمل أيًّا من أفلام جيمس بوند. تجد أن عدوًّا شريرًا يُهدِّد أمن العالم الغربي. ويُغامر بوند منطلقًا نحو مخبأِ العدو الشرير. ويكاد يقع بوند في قبضته. ثم يُصبح النصر حليف بوند في النهاية.
يسهل أن ينساق المرءُ وراء الاعتقاد بأن الخيال البشري لا حدودَ له. فبدءًا من القصص التي كانت تُروى حول نيران المخيمات وصولًا إلى التدوين الصوتي (بودكاست) الذي يُبَث من السحابة الإلكترونية، ظلَّ البشر يقصُّون بعضُهم على مسامعِ بعضٍ قصصًا على مدار آلاف السنين، مستخدِمين أيَّ وسيلة متاحة. وبوجهٍ عام، استحضرنا عددًا لا يُحصى من الشخصيات الخارقة والمخلوقات الخيالية والأحداث المستحيلة. نظريًّا، هناك أعدادٌ هائلة من القصص بقدرِ ما هناك أعدادٌ هائلة من الرُّواة. ومع ذلك، كما تُوضح هذه النبذات الموجزة، عندما تُختزَل هذه القصص بحيث نصل إلى عناصرها الأساسية، نجد أنه يتعذَّر علينا التمييزُ بينها إلى حدٍّ كبير. وليس هذا بسبب أن رُواة القصص يُعيدون قولبةَ أفكارِهم في تكاسلٍ أو يسرقون عمدًا من بعضِهم البعض. ولكن يبدو أن مخطَّطات قصصٍ معينة قد انطبعت في أذهانهم. كتب كارل يونج عن النماذج الأولية السيكولوجية، واصفًا إياها ﺑ «قيعان الأنهار القديمة التي يتدفَّق عليها تيَّارنا الروحاني تدفقًا طبيعيًّا.» حتى الأطفال الصِّغار في سنِّ الثالثة يفهمون بِنْية القصة. فنحن مجبولون على أن نجد قصصًا معيَّنة مُشبعةً غريزيًّا، ونبتكرَ قصصًا بعَفْوية ونستمع إليها أو نُطالعها بحماسٍ استنادًا إلى الحبكات الدرامية البدائية منذ فجر الإنسانية.
يتفق الباحثون بوجهٍ عام على أن عددَ النماذجِ الأولية للقصص صغيرٌ إلى حدٍّ يُثير الدهشة، رغم أن التقديرات الدقيقةَ متباينة. فوفقًا للمؤلِّف رونالد بي توبياس، هناك ٢٠ حبكةً درامية أساسية. ويختزل كاتبُ السيناريو بليك سنايدر هذا العدد إلى النصف؛ إذ يعتقد أن كل فيلم سينمائي جرى إنتاجُه ينسجم مع نموذجٍ من النماذج العشرة الأساسية. أما الصحفي كريستوفر بوكر فيختزل هذا العددَ أكثر. فقد قضى بوكر ٣٤ عامًا من حياته يفحص عددًا لا حصر له من القصص حول العالم وعبر التاريخ؛ وأثمرت جهوده عن مجلدٍ يحتوي ٧٠٠ صفحة، بعنوان «الحبكات السبع الأساسية». وكما يوحي العنوان، يرى بوكر أن جميع قصص العالم منشؤها تنويعاتٌ على سبع حبكات درامية أساسية. ويتجاوز عالِمُ الأساطير جوزيف كامبيل الجميعَ بزعمه أنه ليس هناك سِوى أسطورةٍ واحدة كبرى، وهي رحلة البطل التي تعتمد عليها كلُّ قصة تقريبًا.
بطبيعة الحال، ليس هناك إجابةٌ محدَّدة وحاسمة. فتصنيف الحبكات الدرامية وتحديد عددها مسألة ذاتية. يعترف توبياس قائلًا: «يمكنك أن تُغلف الحبكة الدرامية بطرق كثيرةٍ شتَّى، والطريقة التي تُغلِّفها بها تقرِّر العددَ الذي ستنتهي إليه.» الفكرة أن موضوعاتٍ معينةً تَبرز مرارًا وتَكرارًا، مستقلةً بعضُها عن بعض، في قصصٍ تُروى حول العالم وعبر التاريخ المسجَّل. وهذه الأفكار لا تُشكِّل فحسب القصص التي نبتكرها؛ ولكنها، كما سنرى، تعكس الطريقة التي نُفسر ونفهم بها في الأساس العالم من حولنا.
واحدة من الحبكات الدرامية الأساسية التي أشار إليها كريستوفر بوكر تُهمنا أكثر من غيرها. وقد أطلق عليها «الانتصار على الوحش». ويوضح بوكر أن كل قصة انتصار على الوحش تسير على النحو التالي. تبدأ القصة بأن ينموَ إلى علم مجتمعٍ ينعم بالسلم أن ثَمة تهديدًا ما. ويُستدعى بطلٌ لمحاربة قُوى الشر. ويواجه البطلُ الشرَّ وجهًا لوجه، وحينها يتضح أن الشر أكثرُ قوةً بكثير من البطل. ويوشك البطل أن يقع في براثن الوحش. لكن الوحش لديه نقطة ضعف مميتة. وعندما يُفقد الأمل تمامًا، يتمكَّن البطل من استغلال نقطة الضعف هذه ويسحق الوحش. وتنقشع الغمامة ويعود السلام من جديدٍ إلى هذا المجتمع.
وجدنا هذا النمطَ بالفعل في «ملحمة جلجامش» و«بيوولف» و«جوز» وأفلام جيمس بوند. كما وجَدناها في بداية الفصل، في نظرية المؤامرة الواقعية لديفيد أيك. فنظرية المؤامرة الكبرى لأيك هي قصةٌ كلاسيكية من قصص الانتصار على الوحش؛ فهي تتعقب كلَّ التواءٍ وانعطاف، من العصر الذهبي السِّلمي للبشرية وظلال الشرِّ التي تلوح في الأفق، وصولًا إلى المواجهة النهائية الحاسمة والأمل في عودة السلام. إنها ملحمة درامية مستمرة، ونؤدي فيها جميعًا دورَ البطل. وأيك ليس فريدًا من نوعه. فجميع أنماط الفكر المؤامراتي تستند على النماذج الأوَّلية لانتصار الخير على الشر. سوف نتعمَّق أكثر في سيكولوجية الوحوش بعد قليل، لكن هيا نلقِ نظرةً أولًا على مقومات البطل الخيِّر.
مزايا العيوب
كلنا يحبُّ الفائز. فثمة ظاهرةٌ معروفة لعلماء النفس يُطلق عليها «نشوة المجد المنعكس». وفي دراسةٍ كلاسيكية أُجريت عام ١٩٧٣، لاحظ فريقٌ من الباحثين بقيادة روبرت شالديني أنه عندما فازت إحدى فرقِ كرة القدم الجامعية بمباراة في العطلة الأسبوعية، حضر طلابٌ أكثرُ إلى الجامعة في يوم الإثنين في زي الفريق مقارنةً بعدد مَن حضروا عندما خسر الفريق. والأكثر إثارةً للاهتمام، أنه عندما تحدَّث الطلاب عن المباراة التي خسرها الفريق، كانوا يقولون في أغلب الأحيان أشياءَ من قبيل «لقد خسروا»، في حين كانوا يقولون أشياءَ من قبيل «لقد فزنا» عندما فاز الفريق. وظاهرة «نشوة المجد المنعكس» تُفسِّر الكثير من السلوك الغريب بدءًا من رغبتنا في طفولتنا في مصاحبة الأطفال الرائعين، وصولًا إلى ادِّعاء معرفة المشاهير ورواج السِّلع التجارية الباهظة التكلفة التي تحمل الأسماء التجارية الشهيرة (والسلع المُقلدة الرخيصة). فنحن نُعرف بالصحبة التي نرافقها، وليس هناك الكثيرون من الناس الذين يُحبون أن يُرافقوا الخاسرين. نحن نريد بكل طريقة أن نُرافق الفائزين في الحياة.
لكن إذا كان هناك شخصٌ نُحبه أكثرَ من الفائز الموهوب، فهو الشخص المستضعَف؛ وهو الشخص الذي تجتمع جميع الظروف ضده. وليس هناك مثالٌ أفضل لتوضيح ذلك من قصة العهد القديم عن داود وجالوت. فجالوت كان رجلًا يبلغ من الطول ١٠ أقدام، يرتدي الدروع ويُتقن فن المبارزة بالسيوف، وكان بطل شعب الفلستيين ولم يكن ممكنًا، فيما يبدو، إلحاقُ الهزيمة به. أما داود فكان مراهقًا لديه مِقلاعٌ وحَفنةٌ من الحجارة. ولم تكن هناك فرصٌ لانتصار داود وكان الجميع يعلم ذلك؛ حتى الملك طالوت — الأطولُ قامةً في إسرائيل — أخبره بأنه لا يمكن أن يُحقِّق نصرًا في هذه المعركة. لكن داود لم يتزعزع. فتقدم بثقةٍ نحو ساحة المعركة وأصاب جالوتَ بين عينَيه بحصاة، فقتله في الحال.
داود هو نموذجٌ للمستضعفين. وليس من قبيل المصادفة أنه قد قيل عنه إنه كان الأصغرَ سنًّا بين ثمانيةٍ من الإخوة. وعندما خرجت علينا جيه كي رولينج ببطلها المُستضعف هاري بوتر، ألبسته نظارةً كتذكرة دائمة بضعفه. أما شخصية فرودو باجنز التي ابتكرها جيه آر آر تولكين، فكان أحد أفراد الهوبيت المحبِّين للسلام، وقد وقع في عالمٍ خطير من وحوش الأورك والتنانين. ومن روكي بالبوا إلى «المحرك الصغير الذي يستطيع»؛ فإن بعضَ أكثر الشخصيات المحبوبة التي تتمتع بشعبيةٍ دائمة لا تنقطع هي شخصيات مُستضعفَة، تُجابِه الظروف المعاكسة لها بجُرأة، وتُواجه التحديات التي لا طائل لها بها من خلال الحماس والإصرار.
ولا تقتصر جاذبية الشخصيات المستضعَفة على الأدب الروائي. فعالِم النفس جوزيف فانديلو متخصصٌ في سيكولوجية المستضعَفين. وقبل شهر من أولمبياد صيف ٢٠٠٤، أعدَّ فانديلو وزملاؤه قائمةً بإجمالي عدد الميداليات التي فاز بها عددٌ من البلدان على مدار تاريخ الألعاب الأولمبية؛ حيث حصدت السويد ٥٠٠ ميدالية تقريبًا، وحصلت بلجيكا على ١٤٠ ميدالية، وحصلَت سلوفينيا على ستِّ ميداليات فقط. بعد ذلك سألوا الطلاب الأمريكيِّين أيُّ بلدٍ يحبون أن يفوز بمسابقة سباحة افتراضية. وعندما خُيِّروا بين بلجيكا والسويد، انحاز أغلب الطلاب إلى البلجيكيِّين الأقلِّ قوة. لكن إغراء المستضعَفين يمكن أن يدفعنا إلى تغيير رأينا. فعندما خُيِّر الطلاب بين بلجيكا وسلوفينيا، أصبح البلجيكيون هم الأكثرَ قوة وأراد معظم المشاركين أن تخسر أمام سلوفينيا الأقل قوة. تشير نيرو بهاريا وزملاؤها إلى أن التغطية التليفزيونية للألعاب الأولمبية غالبًا ما تُسلط الضوء على جوانب الضعف لدى المتنافسين «من الأم العزباء للسبَّاح مايكل فيليبس إلى أبوَيْ شون جونسون اللذَين رهنا منزلهما لدفع أجر دروس الجمباز التي تتلقَّاها ابنتُهما.» وإجمالًا، فإن فانديلو وزملاءه وجدوا أن ثلاثةَ أرباع المشاركين سوف يُساندون المستضعفين في أي مباراة رياضية (على افتراض أنهم ليس لهم مصلحة في فوز فريقٍ على آخر).
هذه القصة ذاتُها التي جعلَتنا نشجِّع لاعبًا رياضيًّا مستضعفًا يمكن أن تُؤثر في الكيفية التي ننفق بها مالنا. فيعلم المسوقون أن تقديم صورةٍ لشركةٍ ما باعتبارها شركةً مُستضعفة تقاوم بجُرأة يمكن أن يُغري المستهلكين بتفضيل منتجها على منتجات الشركات القوية. تشير جيل أفري، وهي محاضِرة في كلية هارفارد للأعمال، إلى أن «شركة صمويل آدمز لصناعة الخمور تُذكرنا إلى أيِّ مدًى هي صغيرة مقارنةً بالشركة العملاقة في المجال أنهايزر بوش؛ بينما تتجنَّب ذكْر إلى أيِّ مدًى هي كبيرة مقارنةً بأغلب صانعي الخمور اليدويِّين.» وبالتأكيد هذه المعلومة صحيحة؛ فقد اعتادت أفري على العمل كمديرٍ للعلامة التِّجارية لدى شركة صمويل آدمز. وبالمثل، تُسارع شركاتٌ مثل أبل وجوجل وهيوليت باكارد على تسليط الضوء على جذورها المتواضعة ونشأتها في ورشة بسيطة، بلا شيء سوى فكرةٍ كبيرةٍ وحماسٍ لجعل تلك الفكرة واقعًا.
يعرف الساسة أن هناك مزايا لأن يُنظَر إليك باعتبارك مستضعفًا أيضًا. ففي دراسةٍ أُجريت عام ٢٠٠٩، أوضح فانديلو أن المرشحين السياسيين غالبًا ما ينزعون إلى التقليل من شأن مزاياهم والإعلان عن عيبهم الظاهر. فقد قال أوباما في المدَّة التي سبقت انتخابات عام ٢٠٠٨: «عندما يكون اسمك باراك أوباما، فأنت دائمًا مستضعَف في السباقات السياسية.» وقد اعتاد استخدامَ التكتيك ذاتِه في المدة التي سبقَت حملة إعادة انتخابه عام ٢٠١٢؛ فعندما سأله أحد المحاورين عما إذا كان المستضعَف حينذاك، لم يتردَّد في أن يقول بحسم من جديد: «بكل تأكيد … لقد اعتدتُ أن أكون مستضعفًا.» وكان ميت رومني الخَصم الجمهوري لباراك أوباما، لديه الفكرة ذاتُها. فقد قال، أثناء تعثُّرِه في الاستفتاءات: «شيء جيد دائمًا أن يُنظر إليك باعتبارك مستضعفًا، وأن تُقاتل بكلِّ ما أُوتيتَ من قوة.» وكان رومني محقًّا؛ فقد وجد فانديلو أن المرشحين السياسيين يَحوزون على إعجابنا أكثر — ولا نراهم أقلَّ كفاءة — عندما يُصنفون بأنهم مستضعَفون. (وذلك على الرغم من أن هذا لم يُفِد رومني في الفوز على الرئيس أوباما.)
تصنيفُ طرَفٍ أو آخرَ في صراع أو منافسة على أنه المستضعف يمكن حتى أن يُشكِّل الكيفية التي ننظر بها إلى صراعٍ دوليٍّ دامٍ. ففي دراسة أُجريت عام ٢٠٠٧، سأل فانديلو الطلاب عن مشاعرهم حيال إسرائيل وفلسطين. وإضافةً إلى إعطاء الطلاب فكرةً موجزة عن تاريخ الصراع بين الدولتَين، أُعطي الطلاب خريطةً للمنطقة لمساعدتهم في اتخاذ قرارهم. رأى نصفهم خريطة المنطقة التي تضم إسرائيل وفلسطين فقط؛ استحوذت إسرائيل على الخريطة بأكملها، بينما لم يشغَل الفلسطينيون سوى قطاعِ غزة والضفة الغربية. أما النصف الآخر؛ فقد رأى خريطةً للشرق الأوسط ككلٍّ، بحيث بدَت إسرائيل قَزمة مقارنةً بالدول المحيطة. والفارق في التأطير هنا، كان له تأثيرٌ كبير. فعندما بدَت فلسطين مستضعفة — فقط فيما يتعلَّق بالنطاق الجغرافي — انحاز أكثرُ من نصف الطلاب بقليلٍ إلى الفلسطينيين. وعندما بدَت إسرائيل هي المستضعَفة، قال أكثرُ من ثلاثة أرباع الطلاب إنهم يدعمون الإسرائيليين.
نحن نرى المستضعفين يبذلون جهودًا أكبرَ ويتمتعون بروح المثابرة والعزيمة والإصرار. فوفقًا لدراسةٍ شملَت مرشَّحين لوظائفَ وهمية، رأينا حتى أن المتقدمين المستضعفين للوظيفة كانوا أكثرَ جاذبية من الناحية الجسمانية مقارنة بالمتقدمين الأقوياء. وحبُّنا للمستضعفين عميقُ الجذور على ما يبدو. ففي دراسةٍ أُجرِيَت عام ٢٠٠٨، أوضح عالِم النفس سكوت أليسون وزملاؤه إلى أيِّ مدًى هذا الحب عميق الجذور. فقد ابتكر الباحثون فيديو رسوم متحركة بسيط مدته ١٥ ثانية، يعرض دائرتَين تتحرَّكان على خطٍّ أفقي به حدبة عند المنتصف تتخذ شكلَ تلَّة. الدائرة ذات اللون الرمادي الفاتح — لنُطلق عليها الدائرة الأقوى — تتحرَّك من اليسار إلى اليمين بإيقاعٍ ثابت. أما الدائرة ذات اللون الرمادي الداكن — لنُطلق عليها الدائرة الأضعف — فهي تتباطأ على ما يبدو عندما تُواجه التلة، كما لو كانت تُناضل من أجل اجتيازها. هذا الفارق الصغير الوحيد كان كافيًا لإثارة التعاطف مع المستضعفين لدى المشاهدين؛ فعندما سُئلوا عن مشاعرهم إزاء كلِّ دائرة، قالوا إنهم أحبوا الدائرة الأضعف أكثرَ بكثير من الدائرة الأقوى.
إجراء تعديلٍ بسيط على الفيديو يحسم الأمر. ففي النسخة المعدَّلة، لا تُناضل الدائرة الأضعف فحسب، لكن الدائرة الأقوى تعوق حركتها كذلك؛ فالدائرة ذات اللون الرمادي الفاتح تتحرَّك بسرعة مرورًا بالدائرةِ ذاتِ اللون الرمادي الداكن، وتصل إلى منتصف التلة، ثم ترتدُّ وتضرب النقطة الأضعف البريئة، دافعةً إياها أسفل التلَّة. هذا الفيديو حصدَ أقوى تفاعلٍ على الإطلاق. فكتب أليسون يقول إن المشاهدين له «غضبوا على ما يبدو عندما شاهدوا الدائرة الأضعف وهي تُضار.» وبعد استكمال الدراسة، أبلغونا أن مثل هذا الفعل العدواني الموجَّه للدائرة الأضعف كان غيرَ لائق تمامًا.
دائرتا أليسون كشفتا مفتاح لُغز النزوع إلى دور المستضعف الذي يستجلب التعاطف؛ أنت بحاجةٍ إلى أن تكون في ظرفٍ صعب، وهذا الظرف الصعب يجب أن ينطويَ على شيء من اللاعدالة؛ إما نتيجةً لعدم وجودِ مواردَ أو نتيجةً لأفعالٍ خبيثة من جانب خَصم عدواني. عندما نشعر بأن الظرف الصعب الذي يُجابهُه شخصٌ ما فرضه ذاتيًّا على نفسه — أو بعبارة أخرى: عندما يكون لديه جميعُ الموارد اللازمة للنجاح ومع ذلك يفشل — نكره هذا الشخص أكثرَ من كراهيتنا للخاسر العادي. لكن الظرف الصعب الذي ينطوي على شيء من اللاعدالة يستثير مشاعرنا. فنحن نريد أن نرى الأقوياء وهم يُهزَمون، ونريد أن نرى المستضعفين وهم ينتصرون؛ نحن نريد أن نرى المستضعفين الذين يتعرَّضون لظلمٍ وهم ينتصرون. وفيما يتعلق بنظريات المؤامرة، الظرف المجحِف هو المتوقَّع دومًا.
المعركة معركة استئساد
بالعودة إلى أندرو ويكفيلد في الفصل الثاني، نجد أن النتائج التي توصَّل إليها والتي تربط بين التطعيم الثلاثي والتوحُّد قد فُنِّدت، وأن رخصته الطبية قد سُحبت. لكن لم تكن هذه المرةَ الأخيرة التي سمع فيها العالم بويكفيلد. فقد أصبح الرجل في أعين داعميه بطلًا مستضعفًا، يحارب بشجاعة منظومةً فاسدة قوية أرادت تدميره. كتب مؤلِّفو أحد الكتب المناهضة للتطعيم، وهو كتاب بعنوان «جائحة اللقاحات» يقولون: «إذا لم يكن الأمر واضحًا بالنِّسبة إليك حتى الآن، فدعني أصارحك: تغطية سجال اللقاحات/التوحُّد التي تشهدها في وسائل الإعلام ليس سجالًا علميًّا أو استقصاءً جادًّا. إنما هو معركة استئساد، وتلعب شركات الأدوية دورًا قذرًا فيها.»
ففي مواجهة صناعة الدواء الضخمة، التي تدعمها الحكومة وتمتلك رأس مال يبلغ مليارات الدولارات، يُقدَّم ويكفيلد باعتباره شعاعًا من الضوء يُنير الظلام أو بطلًا مستضعفًا مغوارًا يقف بنُبل للذَّود عن الآباء القلقين. وقد كتبَت جيني مكارثي، واصفةً أبحاث ويكفيلد، في صحيفة «هافينجتون بوست» تقول: «لقد فعل الدكتور ويكفيلد شيئًا أتمنَّى أن يفعله جميع الأطباء: لقد أنصتَ إلى الآباء ونقل ما قالوه … منذ متى كان تَكرار كلمات الآباء والتوصيةُ بمزيد من الاستقصاء يُعد جريمةً؟ كما علمت، الإجابة هي أن ذلك يحدث متى شكَّك أيُّ شخص في أمان اللقاحات.» فبالنِّسبة إلى داعميه، نزاهة ويكفيلد هي الظرف المجحِف الذي يُجابهه؛ فهو يُحارب لمجردِ أن لديه شجاعةَ الاهتمام بالأمر. وقد استمر ويكفيلد نفسُه في الدفاع عن موقفه بشأن التوحُّد واللقاحات؛ ليحوز على جائزتين وليس جائزة واحدة من جانب معجَبيه تقديرًا لشجاعته في العلم.
ليس ويكفيلد الوحيد في أن يُصوَّر على أنه مستضعفٌ شجاع يواجه منظومةً فاسدة. فمُنكرو مرض الإيدز يرون بيتر دوزبيرج عالِمًا متمردًا. قدَّم دوزبيرج إسهاماتٍ مهمة في أبحاث السرطان خلال مسيرته المهنية كاختصاصيٍّ في مجال البيولوجيا الجزيئية، بل إنه حتى جرى انتخابه لعضوية الأكاديمية الوطنية للعلوم الرفيعة المستوى. إلا أنه في أواخر ثمانينيَّات القرن العشرين، صرف دوزبيرج اهتمامه إلى مرض الإيدز، مدعيًا أن فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب ليس ضارًّا في حد ذاته. وقال إن مرض الإيدز يُسببه استخدام العقاقير الترفيهية (لا سيما تلك التي يستخدمها مثليُّو الجنس)، أو حتى العلاجات المضادة للفيروسات الرجعية. وتُصوِّر سيرةٌ عن هذا الرجل منشورةٌ على موقع دوزبيرج الإلكتروني على أنه جاليليو العصر الحديث: «نتائج البروفسير دوزبيرج أصبحت شوكةً في حلْق المؤسسة الطبِّية وشركات الأدوية منذ عام ١٩٨٧. لكن بدلًا من الانخراط في سجال علمي، كانت الاستجابة الوحيدة هي قطعَ التمويل اللازم لإجراء المزيد من الاستقصاء والتحري لفرضية البروفسير دوزبيرج.»
أما حركة حقيقة هجمات الحادي عشر من سبتمبر فقد اعتبرت ستيفن إي جونز عالِمًا متمردًا. ففي عام ٢٠٠٥، بدأ جونز، الذي كان قد أصبح حينها أستاذًا بجامعة بريجام يونج، يطرح فكرته القائلة بأن انهيار برجَي مركز التجارة العالمي كان ناتجًا عن تدميرٍ مُدبَّر. وعندما نأَت الجامعة بنفسها عن تعليقات جونز، شعر مؤيِّدوه بنوعٍ من التآمر ضده؛ إذ أشاروا إلى أن «إدارة بوش لعبت دورًا قذرًا في إجبار جامعة بريجام يونج على إخراس البروفيسور.»
أما المهتمون باغتيال كينيدي فقد رأوا جيم جاريسون محاميًا مستضعفًا. ففي أواخر ستينيَّات القرن العشرين، أصبح جاريسون على قناعةٍ بأن كينيدي قُتل بمؤامرةٍ دبَّرَتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. وبالرغم من الحقيقة القائلة بأن مزاعم جاريسون جرى رفضها من قِبَل المحكمة، قدَّم أوليفر ستون، في فيلمه «جون إف كينيدي» عام ١٩٩١، جاريسون باعتباره بطلًا مستضعفًا ضحَّى بكل شيء في سبيل البحث عن الحقيقة. وقد جاء على لسان جاريسون في هذا الفيلم: «قول الحقيقة يمكن أن يكون شيئًا مفزعًا ومخيفًا في بعض الأحيان.» وهو ما يوحي بكونه مستضعفًا.
•••
أفضلُ نظرياتِ المؤامرة تنطوي على جميع الخصائص الظاهرية لقصةِ استضعافٍ كلاسيكية. فالعدو هائلٌ ومروع. فبدءًا من حكماء صِهيون إلى النظام العالمي الجديد، ومن المجمع الصناعي العسكري إلى المؤامرة الكبرى لشركات الدواء، غالبًا ما تؤكد الأسماءُ التي تُعطى للمتآمرين على قوَّتهم الجبارة ونفوذهم الكبير المزعوم. لكن مثل كل شرير، يكون لكل مؤامرة نقطةُ ضعف قاتلة؛ فإذا ما أُميط اللثام عن الخطط المدبَّرة، يُصبح العدو عاجزًا عديمَ الحيلة.
والدافع وراء المواجهة دافعٌ نبيل. فيشير كريستوفر بوكر إلى أن الأبطال النموذجيِّين البدائيين لم يتحركوا من أجل مصالحهم الشخصية، ولكنهم تحرَّكوا دفاعًا عن الآخرين. «فداود تحدَّى جالوت لأن العملاق كان يُهدِّد بلده إسرائيل؛ وأشرار جيمس بوند يُهدِّدون إنجلترا، والغربَ والبشرية جمعاء؛ ودارث فيدر في «حرب النجوم» كان يُهدِّد بفرض طغيانه على الكون بأكمله.» ووَفقًا لنظريات المؤامرة، فإن المؤامرة تهديدٌ لحرية ورفاهية الجنس البشري بأكملِه.
ويبدو غريبًا، من الوهلة الأولى، أن يركنَ شخصٌ ما إلى موقف الضَّعف. لكن كما رأينا، ثَمة إيجابيات لكونك ضعيفًا. فبدون نظريات المؤامرة، أشخاص مثل ويكفيلد ودوزبيرج وجونز وجاريسون كانوا سيُصبحون مخطئين. لكن إذا كانت هناك حملةٌ مستمرة لتشويه سمعتهم والتشكيك في نتائجهم، فإنهم يُصبحون أبطالًا شجعانًا منكِرين لذاتهم، يوسِّعون نطاق العِلم بمحاربةِ عدوٍّ قوي خبيث نيابةً عن عموم الناس الذين لا يعلمون. غير أن نظريات المؤامرة تُقدِّم ما هو أكثرُ من صنع أبطالٍ من عددٍ من المتمردين، فهي تسعى لأن تصنع منا جميعًا أبطالًا مستضعفين. فنظرية المؤامرة دعوةٌ إلى الانضمام إلى أقليةٍ مثقفة وواعية وإن كانت مُحاصَرة؛ قلة مُصطَفاة تصدع بالحق في شجاعةٍ وإنكارٍ للذات أمام قُوى الباطل.
ويشير جوزيف فانديلو إلى أن فَهْمنا للمستضعفين «يتشكَّل من خلال قصص نموذجية بدائية ملهِمة لتحدي المستحيل.» ففي العالم الواقعي، من المستبعَد أن ينتصر المستضعفون. لكن في القصص التي نرويها دائمًا ما يفوز المستضعفون، فالخير دائمًا ينتصر على الشر. وللحديث عن الشر …
خرافة الشر المحض
يأتي الأشرار في جميع الأشكال والأحجام. فالبعض منهم يكون هائلًا ومروعًا حرفيًّا، كما الحال في أسماك القرش المذهلة المتعطشة للدماء في فيلم «جوز» وخومبابا غير القابل للتصديق من الناحية التشريحية. والبعض الآخَر منهم يأتون في صورة بشر — أو كانوا بشرًا في وقتٍ ما — مثل الهيكل الغريب لشخصٍ سابقٍ في سلسلة «هاري بوتر» ونورمان بيتس — البريء ظاهريًّا — في فيلم «مضطرب العقل» (سايكو) لألفريد هيتشكوك. إلا أنه بالرغم من الاختلافات الظاهرية، فإن أفضل الشخصيات الشريرة حِيكَت من النسيجِ نفسِه. فوَفقًا لكريستوفر بوكر، تُمثِّل الوحوش النموذجية الأولية كلَّ شيء في الطبيعة البشرية الملتوية والناقصة بدرجةٍ ما أو بأخرى؛ العصارة المصفاة لأسوأ عناصر النفس البشرية. فهذه الوحوش يدفعها الجشع وحده، وهي أنانية وقاسية وماكرة ومتغطرسة ولا تعرف الرحمة. ومع ذلك، برغم كل خبثها وقسوتها، فإن أفضل الشخصيات الشريرة لا تُثير مشاعر الاشمئزاز فحسب، وإنما تثير أيضًا مشاعر الإعجاب والفضول بل وحتى الاستمتاع. فالشر لديه على ما يبدو إغراءاتٌ متناقضة.
يقول باومايستر إن حبَّنا للأشرار الخارقين الوهميِّين شيء محيِّر بعضَ الشيء. فبوجهٍ عام، نحن لسنا مغرَمين بالأشخاص العديمي الأخلاق، كما أننا لا نسعد بالسماع عن أفعالهم الشائنة أخلاقيًّا. ويُمثل أدولف هتلر وبول بوت المكافئَ الواقعي للشخصيات الشريرة الخارقة؛ فهما شخصيتان تحظَيان باحتقارٍ وازدراء من جانب عموم الناس تقريبًا. إذن لماذا نسعد بقصص عن المضطرِبين نفسيًّا أو القتَلة العشوائيين؟ يتساءل باومايستر، لماذا ينتهي الحال بالأشرار الخارقين على ملصقاتٍ تُعلَّق على جدران غرف النوم وعلب الغداء الخاصة بالأطفال؟ ويرى أن الإجابة تكمن في شغفنا بإصدارِ أحكامٍ عن شخصية الآخرين، وردَّة فعلنا إزاء المنحرفين أخلاقيًّا.
تخيَّلْ أننا — أنا وأنت — جالسان في مختبر عالِم نفسٍ ونجد أمامنا عشْرَ ورقات دولارية جديدة على المنضدة أمامنا. يُمكننا أخذ النقود، لكن تلك هي المعضلة: لقد أصبحتُ مسئولًا عن اتخاذ قرارٍ بشأن طريقة تقسيم النقود. وكلُّ ما ستفعله أنت أن تُقرِّر ما إذا كنت تريد قَبول عرضي أم لا. فإذا رفضته، سيُغادر كلٌّ منا خاليَ الوفاض. يُطلق علماء النفس على هذا الإجراء لعبة الإنذار. في عالم مثالي عادل، سأعرض عليك خمسة دولارات وأحتفظ لنفسي بخمسة. والأرجح أنك ستقبل عرضي الودي، وسيغادر كلٌّ منا وبحوزته خمسة دولارات. والأمر المشجِّع أن هذه هي النتيجة الأكثر شيوعًا؛ فعند إتاحة الفرصة لهم، أغلب الناس يعرضون قسمةً عادلة. لكن هَبْ أنني عرَضت عليك دولارًا واحدًا فقط. إذا كنت عقلانيًّا، فالأرجح أنك ستقبل العرض؛ فبرغم كل شيء، سوف تُضيف دولارًا إلى ما بحوزتِك من مال. لكنني أراهن أن العرض لن يكون جذابًا. ففكرة احتفاظي لنفسي بتسعة دولارات، تاركًا إياك بدولارٍ واحد فقط، سوف تثير حفيظتك. فربما ترفض العرض، مضحيًا بدولارك الوحيد حتى تمنعَني من خِداعك. إذا كان هذا قرارك، فلستَ وحدك. فنصف المشاركين يرفضون العرض إذا كان بعيدًا للغاية عن القسمة العادلة.
التخلِّي عن دولارٍ لمعاقبة لاعب جشعٍ في لعبة الإنذار قد يُعدُّ انحرافًا عن العقلانية الخالصة، لكنه منطقيٌّ في عالمٍ يكون فيه إطلاق العِنان للمخادعين ليزدهروا قد يُسبب متاعبَ للجميع. فنحن كنوعٍ اجتماعي، يعتمد بقاؤنا على التعاون مع الآخرين دون أن نكون موضعَ استغلال؛ ومن ثَم فإن الانتقاء الطبيعيَّ ضمِن لنا أن نكون قادرين على التعامل مع خداع الآخرين. فكما تُظهر لعبة الإنذار، نحن نهتمُّ بإدانة ومعاقبة مَن يسيئون معاملتنا، حتى وإن كنا سنبذل تضحيةً بسيطة في سبيل فرض العدالة. فكوننا عُرضة للظلم لا يجعلنا نغضب فحَسْب، بل يؤذينا كذلك. عندما يلعب الناس هذه اللعبة داخل أجهزة تصويرٍ دماغي، تنشط أجزاء من الدِّماغ لها علاقة بالاستمتاع والمكافأة عندما يتلقَّون عرضًا عادلًا، في حين أن مناطقَ مرتبطةً بالألم والاغتمام والاشمئزاز تنشط استجابةً لعروضٍ غير عادلة.
حتى عندما لا تُساء معاملتنا، دائمًا ما نترقَّب أي دلائل أو أمارات على مدى الالتزام الأخلاقي لدى الآخرين، مستخدمين أيَّ معلومات متاحة لدينا. وعندما نكون بين الآخرين، نرصد باستمرار سلوكهم، حتى تعبيرات وجوههم السريعة، بحثًا عن دلائل على شخصيتهم. وعندما يغيب أحدهم، ننخرطُ في القيل والقال عنه. وفقًا لعالم النفس روبين دانبار، فإن إحدى الوظائف الأساسية للقيل والقال هي تحذيرُ كلٍّ منا الآخرَ بشأن خداعات محتملة، وأحيانًا يُخصَّص ثلثا المحادثة أو ما شابه للقيل والقال عن الآخرين. وفي اللحظة التي نلتقي فيها بشخصٍ غريب، نبدأ في الحكم عليه، والسِّمة التي نُقدرها قبل أي سمة أخرى هي مدى موثوقيةِ هذا الشخص.
•••
وإحدى النتائج التي تترتبُ على بِنيتنا الأخلاقية هي أننا نستمتع بممارسة ملَكاتنا الأخلاقية؛ حتى مع الأشرار غير الحقيقيين. وفي واقع الأمر، يكون هذا بالأخص مع الأشرار غيرِ الحقيقيين. فيرى باومايستر أن الرَّواج الدائم لقصص الانتصار على الوحوش، يعود إلى وضوحها الأخلاقي. ففي الأدب الروائي الرائج، لا يمكن أن تُخطئ عينٌ الشخصيةَ الشريرة. وكما لو أن أفعالهم الشائنة ليست واضحةً بما فيه الكفاية، كثيرًا ما يعطي الكُتَّاب وصانعو الأفلام جماهيرَهم وسائلَ مساعدة عن طريق تقديمِ مفاتيحَ حاسمة للطبيعة الشريرة للشخصية. فنجد أن الأشرار في ميلودراما الحقبة الصامتة كان لديهم ولعٌ ببَرْم شواربهم في سعادةٍ متى نجحت خُطتهم الخبيثة، في حين نجد أن أشرار أفلام الويسترن إسباجيتي (التي تدور أحداثها في الغرب الأمريكي) كانوا يرتدون قبَّعات سوداء في مقابل القبعة البيضاء التي يرتديها البطل. ويتخذ أشرار الكتب المصورة هذا المنحى ليصلوا به إلى طرَفِه المنطقي؛ فكثيرًا ما يرتدي الشرير الخارق النمطيُّ قناعًا معدنيًّا، ويُشيع عن نفسه اسمًا من قَبيل «دكتور دوم» أو يكون لديه تشوُّه جسدي كي تكتمل خسته الأخلاقية. وتعطينا قصصُ الانتصار على الوحوش فرصةً للانخراط في أحكامٍ أخلاقية زائفة سهلة، لنسخرَ من الأشرار الواضحين ونهتف للأبطال الواضحين.
يقول الناقد الأدبي ليونيل تريلينج إن هذه الأنواعَ من الشخصيات المحفوظة التي كانت عنصرًا رئيسًا في الأدب والمسرح وصولًا إلى الحِقبة الفيكتورية، كانت مفصولةً في الأساس عن الأدبِ الرِّوائي «المحترم» في أوائل القرن العشرين. فالمؤلفون الجادُّون بحثوا عن الواقعية، وهذه الشخصيات الشريرة المحفوظة ليس لها سندٌ كبير في الواقع. يوضح تريلينج أن «إظهار الناس في صورةِ خليطٍ من الخير والشر وإمكانية تفسير الكثير من الشر استنادًا إلى تأثير الظروف، أصبح مَذهبًا راسخًا.» غير أنه في حينِ أن الكُتَّاب الذين يسعَون وراء الواقعية يتجنَّبون في أغلب الأحيان الشخصيات الكرتونية الشريرة، لا يزال الجمهور على اتساعه يعشق الشخصياتِ الشريرةَ الجيدة. فكلٌّ من الأفلام العشرة الأكثر شعبية في عام ٢٠١٤ كان به شخصية شريرة من نوعٍ ما أو آخر؛ وخمسٌ من تلك الشخصيات كانت شخصياتٍ مُستقاةً من الكتب المصورة بشيء من التعديل. وفي عام ٢٠٠٨، أشاد النقاد بشخصية الجوكر التي أدَّاها الممثل هيث ليدجر في فيلم «ذا دارك نايت» (فارس الظلام) وعُدَّ الفيلم بسببها واحدًا من أكثر الأفلام شعبيةً على الإطلاق.
وشغَفُنا غيرُ المنقطع على ما يبدو لقصصٍ بها شخصيات شريرة خبيثة على نحوٍ غيرِ معقول يُوحي بأنه حتى على الرغم من أنها تنحرف عن الواقع، تتوافق الشخصيات الشريرة النمطية بطريقةٍ ما مهمة مع الكيفية التي نرى بها العالم. فتفكيرنا خاضعٌ لما يُطلِق عليه باومايستر «خرافة الشر المحض». فعندما نفعل أشياءَ سيئة، فإننا نُجيد إضفاء الطابع العقلاني على سلوكنا معتبِرين إياه مجردَ زلة مؤقتة أو استجابة منطقية ومبررة للظروف. أما عندما يفعل الآخرون أشياءَ سيئة، فإننا نُفسِّر ذلك بأنهم أشخاصٌ سيئون حتى النخاع؛ فنحن نفترض أن الأشخاص الذين يقترفون أفعالًا شريرة مدفوعون في الأساس بالساديَّة والخبث والحقد، ويُلحقون الأذى بغيرهم لمجرد أنهم يستمتعون بفعل ذلك، في حين أن ضحاياهم أبرياءُ تمامًا. والنتيجة هي أننا يُصبح لدينا — مثل سانتا كلوز — ميلٌ قهري لا يُقاوَم إلى تصنيف الناس إلى قائمتَين لا ثالث لهما: الأخيار والأشرار، القديسون والمذنبون، الأشقياء واللطفاء.
ويتتبَّع باومايستر خرافة الشر المحض ليس فقط في الكتب المصورة للأطفال، ولكن أيضًا في القصص التي نحكيها لتبرير حياتنا اليومية. فالأخبار الليلية غالبًا ما تُركز على قصصٍ عن هجمات جائرة على أبرياءَ غافلين. ففي أعقاب حادثِ إطلاق النار في مدرسة كولومباين الثانوية، نشرَت مجلة «تايم» على غلافها صورتَين باسمتين للشخصين المتورطين في الحادث، ووضعَت عُنوانًا رئيسًا يقول «الوحوش إلى الجوار». وقد لعب الرئيس جورج دبليو بوش دورًا في ترسيخ الخرافة عندما قال إن الإرهابيين الذين ارتكبوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر دفعتهم الكراهية الخالصة «لحريتنا»، مُضيفًا أن «هؤلاء الإرهابيين لا يقتلون من أجل إزهاق أرواحٍ فحسب، بل من أجل زعزعة أسلوب حياة والقضاء عليه.»
الواقع معقَّد. فمرتكبو الشرور نادرًا ما تدفعهم السادية المحضة والضحايا ليسوا دائمًا أبرياء تمامًا. فالعنف كثيرًا ما ينجم عن الاستفزاز المتبادَل والعدائية المتصاعدة. والأفعال الشنيعة كثيرًا ما يرتكبها أشخاصٌ عاديون يعتقدون أنهم على صواب. غير أننا، في خِضم خرافة الشرِّ المحض، نلوي عنق الواقع، بكل ظلاله الرمادية غير المتناهية، ليصير رسمًا كاريكاتوريًّا باللونين الأبيض والأسود للخير الذي لا يمكن التشكُّك فيه، في مقابل الشر الذي لا يُمكن تبريره. يقول باومايستر: «خرافة الشر المحض تُصوِّر القُوى الدخيلة الخبيثة وهي تُريد أن تنال من عالم الأبرياء الفضلاء ذَوي النوايا الحسنة.» ويُتابع قائلًا: «غالبًا ما ينقسم العالم إلى إيَّانا في مواجهتهم، وفي أغلب الأحيان يُثبت أنهم هم الأشرار.»
•••
وكما الحال مع أي نقيصة نفسية، كلٌّ منا ينساق وراء خرافة الشرِّ المحض بدرجةٍ ما أو بأخرى. ففي عام ٢٠١١، أجرى عالِما النفس إريك أوليفر وتوماس وود استبيانًا شمل ١٠٠٠ أمريكي. وكان من بين الأسئلة التي تمحورَت حول نظريات المؤامرة المختلفة، عبارةٌ مختصَرة عن الطبيعة الجوهرية للعمَلية السياسية: «السياسة في نهاية المطاف صراعٌ بين الخير والشر.» وقد وافق أكثرُ من ثلث المشاركين على هذا الرأي. واتضح أنه كلَّما ازدادَت درجة موافقة الشخص، زادت احتمالية اقتناعه بنظريات المؤامرة. فرؤية العالم التي لا تعرف سوى اللونَين الأبيض والأسود تقدِّم نسيجًا مثاليًّا للتفكير المؤامراتي.
يوضح جو أوسينسكي وجوزيف بيرانت أن نظريات المؤامرة بعيدةٌ عن كونها طريقةً غريبة تمامًا لرؤية العالم. فهما يرَيان أن المؤامراتية ليست مختلفةً كلَّ هذا الاختلاف عن الخطاب السياسي اليومي؛ كلُّ ما هنالك أنها مكثَّفة أكثر ولا تنطوي على أيِّ فوارق دقيقة. «في حين أن الساسة العاديِّين يُبرزون المشكلات ويقترحون الحلول ويَدْعون إلى تضافر الجهود والتحرك سريعًا، يُسلط أصحابُ نظريات المؤامرة الضوءَ على الأوضاع البالغةِ السوء وينادون بسياساتٍ ضخمة ويدعون إلى التحرك الآن.» ثَمة مشكلات حقيقية في هذا العالم، فحُريتنا تصبح مهددةً أحيانًا، والبيروقراطيون يمكن أن يكونوا ممن يسعَون وراء مصالحهم الشخصية. ومن خلال مصفاة المؤامراتية، تتخذ هذه المشكلاتُ شكلَ صراع ميلودرامي بين الخير والشر، مستقاةً بشكل مباشر من صفحات الكتب المصورة. فبدءًا من زعم جون روبينسون أن المتنوِّرين كانوا يسعَون إلى الإطاحة بجميع الحكومات في أوروبا، وصولًا إلى نظريات المؤامرة الحديثة عن البيروقراطيين المضطربين نفسيًّا الذين لا يُبالون بقتل الآلاف من بني جِلدتهم، فإن أفضل نظريات المؤامرة هي قصصٌ عن أشرارٍ مهاويس، لديهم أكثرُ الدوافع غموضًا، ويقترفون بعشوائية شرورًا مروِّعة ضد أشخاصٍ أبرياء حسَني النوايا.
ما الدنيا إلا مسرح كبير
في مقالةٍ نُشرت عام ١٩٨٧ حول المؤامراتية، قارن عالِمُ النفس سيرج موسكوفيتشي بين العالم في مخيلةِ أصحاب نظريات المؤامرة والعرض المسرحي. وفي المشهد الافتتاحي، نرى المجتمعَ في حالةٍ من البراءة والاستقرار. ثم تدخل مجموعةٌ أخرى من الشخصيات، جالبةً معها الصراع والمكيدة. وكما الحال مع الممثلين في مسرحيةٍ ما، يتبع هؤلاء الأشرار نصًّا كُتب لهم مسبقًا، من قِبَل منتجٍ خبيث شرير يُحرك خيوط الممثِّلين، ولكنه يبقى دائمًا خلف الكواليس. ويستنتج موسكوفيتشي أن «تمثيل هذا المشهد في الواقع سيكون نوعًا من السخف.» لكنه يستدرك قائلًا: «هذا ليس سخيفًا على خشبة المسرح. فهو عرضٌ اختُزل إلى عناصره الأساسية؛ إنه المواجهة بين القُوى الأساسية التي لا يمكن أن تنتهيَ سوى بانتصارٍ حاسم لطرَفٍ على طرف آخر.» فوفقًا لنظريات المؤامرة، «يتم تجسيد الثنائية، ويجري تمثيلها على مسرح المجتمع» في هذا العالم.
يُقابَل مستمعو العرضِ الإذاعيِّ اليومي الموجَّه مؤامراتيًّا الذي يُقدمه ألكس جونز بالمقطوعة الموسيقية «المسيرة الإمبراطورية» (ذا إمبريال مارش) من فيلم «ستار وورز»؛ وهي المقطوعة الموسيقية التي تُصاحب ظهور الشرير دارث فيدر على الشاشة. من آنٍ إلى آخَر، عند العودة من الإعلانات التجارية، يُطمئن مقدم البرنامج المتأنق في عباراته المستمِعين قائلًا: «ما زلنا نُواصل المسيرة، الإمبراطورية ماضية قُدمًا.» عندما كنت أستمع إليه في ظهيرة أحدِ أيام الجمعة حيث كنت أُجري أبحاثي بشأن هذا الفصل، وجدتُ جونز وهو يتفكَّر في أوجُه التشابه بين فهمه للعالم والمؤامرة التي عُرضت في فيلمٍ حديثٍ لبطلٍ خارقٍ. قال جونز: «إذا شاهدتَ فيلمًا على غرار «كابتن أمريكا»، فسيبدو لك الأمر كما لو أنَّني شاركت في كتابه هذا الفيلم.» وتابع قائلًا: «فالأمر لا يتعلَّق حتى بكونهم يُقلدونني، وإنما السبب أني أفهم آلية عمل المنظومة.»
خلال محاكمة تيموثي مكفاي، مفجِّر مدينة أوكلاهوما، أوضح أحد المتواطئين معه في الجريمة كيف أن مكفاي كان قد برَّر قتل سكرتارية وموظَّفي استقبال وموظفين حكوميِّين لم يكن لهم علاقةٌ بحصار واكو. «لقد شرح لي أنه اعتبر جميع هؤلاء الناسِ كما لو كانوا جنود الإمبراطورية في فيلم «ستار وورز». فربما كان كلٌّ منهم بريئًا على حِدة؛ لكن نظرًا إلى كونهم جزءًا من إمبراطورية الشر؛ فهم مذنبون بالتبعية.»
•••
كتب عالِم النفس دان ماكآدمز يقول: «نحن جميعًا رُواة قصصٍ.» فالقصص هي الآلية التي تعمل بها عقولنا. إنها العدسة التي نفهم من خلالها العالَم ونُدرك مكاننا فيه. وهي تُتيح لنا تنظيمَ الواقع الفوضوي ليصيرَ متماسكًا ذا معنًى. والقصص تتغلغلُ في كل شيء. فحتى المساعي التي تبدو موضوعيةً مثل العلم والتاريخ هما صورتان من صور الأسلوب القصصي. تقول مولي باترسون وكريستن مونرو اختصاصيَّتا علم النفس السياسي: «ليس هناك تاريخٌ دون إحساسٍ ضِمني بأبطال وخصوم، ليس هناك مجموعةُ حقائق دون تفسيرات لما هو مهمٌّ أو ذو صلةٍ وما هو غير مهم أو غير ذي صلة.»
القصص التي نستمع إليها يُمكن أن تُؤثر في معتقداتنا وسلوكنا. فعندما تريد أن تُقنع أحدهم، يمكن أن تُصبح القصةُ أكثرَ تأثيرًا للغاية من مجرد سرد قائمةٍ بالنقاط المهمة. فقد أثبتَت عالمة النفس ميلاني جرين وزملاؤها أن القصص تُغرينا، وتستطيع الالتفاف حول ملَكاتنا النقدية. فعندما نعلم أن شخصًا ما يُحاول إقناعنا، نُدقِّق على الأرجح في الحجج التي يسوقها، لكن القصص يمكن أن تُشكِّل معتقداتنا حتى على المستوى اللاشعوري. وكلما كانت القصة أفضل، زاد استغراقنا فيها، وكلما زاد استغراقنا فيها، زاد انفتاحنا وأصبح إقناعنا أسهل.
وفيما يتعلَّق بالقصص، كلمة «أفضل» هنا تعني التوافق مع النماذج الأولية القديمة المحفورة في أذهاننا والراسخة في عقولنا. وإذا ما أخذنا ذلك بعين الاعتبار، فليس هناك ما يُثير الدهشة من أن القصص عادةً ما تتطوَّر عن إعادة الحكي لتُصبح أكثرَ توافقًا مع توقعاتنا. فعلى سبيل المثال، القصة التي أَلِفَتها أجيال من التلاميذ الأمريكيين، وهي قصة اكتشاف كريستوفر كولومبوس للأمريكيتين قد طُوِّرت وزُخرفت بمرور الوقت لتُصور بطولات كولومبوس (كانت الرحلة شاقة؛ فقد تمرَّد أفراد الطاقم وكادوا يُلقون بكولومبوس في الماء من على ظهر السفينة، وقد مات بلا مالٍ)، مع حذف بعض التفاصيلِ الأقلِّ جاذبية وإثارة (مثل إسهامه في الإبادة العرقية والعبودية). فأحيانًا قد تغضُّ القصةُ الجيدة الطرْفَ عن الواقع.
ثَمة طريقةٌ أخرى لتحسين القصة وهي تكثيف التوتر والصراع، بإزالة تفاصيل واقعية إلى أن تصير القصة في نهاية المطاف قصةً بسيطة تُعبر عن صراعٍ بين الخير والشر. فمخلوقات الأركون التي أشار إليها ديفيد أيك هي مخلوقات شرِّيرة مثالية، لا يدفعها سوى الجشع والسادية. فهي ذكية ومنظمة تنظيمًا جيدًا، على حدِّ قول أيك، لكنها عاجزة عن التفكير الذاتي. فهي تقتاتُ على البشر وحسب مثل الطفيليات، وتُحافظ على بقائها عن طريق حصد أكثر عواطفنا كآبةً وظلمة. وفي تعقُّبِها لأهدافها، خلقَت جنسًا من المخلوقات الهجينة التي تجمع بين البشر والزواحف، التي حُذف تعاطفها حرفيًّا من جينومها، على حد زعم أيك، وهذا هو السبب في أنها لا تشعر بتأنيبِ ضمير عند نجاحها في إطلاق أحداثٍ قاتلة؛ مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والانخراط في شرب الدماء، والطقوس التي يُقدَّم فيها الأطفال كقرابين. وعن طريق الكشف عن الخطط الخبيثة لدى مخلوقات الأركون، يدعو أيك سامعيه إلى الانضمام إلى القتال، ليُصبحوا أبطالًا مستضعَفين، يحاربون بجسارةٍ مؤامرةً مروعة نيابة عن العوام المنخدعين.
وللأمانة، يبدو أن جاذبية جزء الزواحف متداخلة الأبعاد من أيديولوجية أيك محدودةٌ نسبيًّا. فعندما أعلن أيك للمرة الأولى عن كشوفاته الروحانية في أوائل تسعينيَّات القرن العشرين، أصبح مثارَ سخرية في وطنه. غير أنه على مدار العقدَين ونصف العَقد الماضيَين، صاغ بحِرْفيةٍ نظرياته في قالَبٍ روائي فخم يوضح كل شيء؛ بدءًا من المناورات السياسية العادية، وصولًا إلى طبيعة الواقع. إنها قصة ملحَمية، تتعقَّب بمثاليةٍ أبعاد القصص النموذجية للانتصار على الوحوش. ومن خلال هذا الأسلوب، جذب قاعدة عريضةً من المعجبين. قد لا يُصدِّقون كل شيء يقوله، لكن أيك لديه جحافلُ من الأتباع المخلصين يعتقدون أن لديه شيئًا ما يقدمه.
وقرب نهاية إحدى محاضراته المميزة التي تستمر ١٠ ساعات، أسرَّ أيك إلى المجتمعين قائلًا: «لقد أخبروني منذ ٢٥ عامًا أنني انتهيت، وأنني لا يمكن أن أستمر أكثر من ذلك بعد كل هذه السخرية.» وبعد تطلُّعِه في وجوه المجتمِعين في هدوء، قدم أيك ردًّا موجزًا على نُقاده بقوله: «انظروا ماذا سأفعل.»