التحنيط والدين
في مصرَ مَهدِ الحضارة الأولى، وأمِّ المدنيَّات أجمع عَثرَ علماء الآثار على حضاراتٍ عديدة عريقة في القِدَم قبل العصر التاريخي بآلاف السنين، ومنها ما يرجع إلى العصور الحجريَّة، وهذه الحضارات قد استوطَن أهلوها مناطق خاصة على جانبي وادي النيل، وأهمُّها حضارة تاسا، والبداري، ومرمدة، والفيوم، وحلوان، والمعادي، وكان لهذه الحضارات شأنٌ يُذكر في تاريخ مصر الزراعي والصناعي والثقافي، وكان لهذه الحضارات صلةٌ لا بأسَ بها ببعض الحضارات الأخرى التي نشأت فيما جاورها من البلدان.
وكان لهذه الحضارات البدائية المختلفة نوعٌ لا بأسَ به من العقائدِ الروحيَّة، والحياة الأخرى، والخلود يتجلَّى أكثر ما يكون في مخلفاتهم الجنائزية، في مقابرهم البسيطة، وفي دفن أجساد موتاهم في أوضاع خاصة، ومحاولة المحافظة عليها، وما نُثر هنا وهناك في تلك المقابر من الأواني الخزفية التي قد يحوي بعضها بعض الحبوب والمأكولات، وما عليها من رسوم، وما حول الجثة من الأسلحة الحجرية التي قد يستعملها الميت لحماية جسمه من الأرواح الضارة التي تحوم حول المقبرة، وما وجد من عظام بعض الحيوانات الخاصة المنتشرة في تلك الأزمان كفرس البحر، ووضْع هذه العظام في أوضاع يُلمس منها التقديس، ليس هذا فحسب بل وُجد في مقابر الأفراد بعض التمائم والتماثيل البدائية التي لا بد وأن يكون وجودها لعقيدة متأصلة في عقلية هؤلاء المصريين — أصحاب هذه الحضارات الأولى — خاصًّا بخلود الروح ورجوعها.
ومن أقوى الأدلَّة على تأصُّلِ العقيدة الدينية والروحية في عصور ما قبل التاريخ تلك الأساطيرُ والقصصُ الدينية التي شاعت شيوعًا عظيمًا في عصور الأسرات، وفي تاريخ مصر المجيد … تلك الأساطيرُ الخالدة، مثل: قصة إيزيس وأوزوريس، لا بد وأنها لم تظهر فجأة، ولم تطفر طفرةً واحدة بين معالم التاريخ، وإنما لا بد وأنها صادرة من أعماق الزمن السحيق، يردِّدُها صدى الماضي في عقول هذا الشعب الجبار، ويتداولُها العامة والخاصة في أحاديثهم … وإذ بها بين عصر وعصر قد أصبحَت من صميم معتقداتهم الدينية، واحتلَّت مكانةً لا بأس بها بين أنواع عباداتهم ودياناتهم، فقصة إيزيس وأوزوريس، وقصة الإله خنوم الفخراني، وقصة رع، وقصة رتق السماء عن الأرض بواسطة الإله شو؛ كلُّ هذه القصص فيها دين، وروحية، وعقيدة أَثَّرَتْ في حياة المصريين، وفي طريقة دفن موتاهم؛ حتى لا تَفْنى أجسادُهم، وكانت محاولات أولى للتحنيط في عصور ما قبل التاريخ سنذكرها بعد.
وتطوَّرت تلك العقائد الدينية في عصور الأسرات، حتَّى أصبحت قلوبُ هذا الشعب العظيم عامرةً بإيمان قويٍّ بوجود قوة خارقة للطبيعة، ووجود إله واحد هو مصدر هذه القوة، وهو الذي يَهَبُ من روحه التي تملأ الكون حياةً للبشر، وهو الذي علَّم كلَّ هؤلاء جميعًا مظاهرَ المدنية الفرعونية المختلفة. ومن أقدم آلهة قدماء المصريين الإله بتاح الذي عُبِدَ منذ الأسرة الأولى، وقد جاء في بعض الأناشيد له أنه «إله الآلهة، وأب الآباء، ومصدر الحياة الذي خلق الشمس والقمر، وهو الخالق الذي أبدع نفسه، وهو مصدر العدل الدائم.» وتعدَّدَت الآلهة المصرية، وكانوا يعتقدون أن أرواحَهم لا بد وأن تلتقي في عالم الأبدية بأرواح المَوتى، فكانوا يُخاطِبون الميت: «أَنِ اذْهبْ إلى أبيك في السماء، واحكم معه على عرش أوزوريس إله الموتى.»
من هذه الفكرة في خلود الروح نشأت فكرة التحنيط، وهي محاولة لبقاء الشخصية، وأن يخلقوا من جسد الميت «أوزوريسًا»؛ إذ كان يعتقد المصريون القدماء أن هذه الأرواح المُنْطلقة جميعها خالدة في عرش أوزوريس، وكانوا يُطلقون عليها أيضًا بعد الموت «أوزوريس».
وكان الجسم الإنساني في معتقد الفراعنة يتكون من ذلك الهيكل المادي القابل للفناء، والذي تفنن علماؤهم في طريقة حفظه وتحنيطه لدرجة وصلت حد الإعجاز حتى على علماء العصر الحديث، ومن عنصرين روحيين هما «الكا والبا».
فالكا هي الجزء الأَثِيرِي من الجسم، وهي التي قد تلازم الجسم في المقبرة، وهي كاملة الشبه به — أي إنها نسخة منه ولكنها مُنطلِقة شفَّافَة — ومن هنا تقدمت صناعة التحنيط تقدُّمًا ملحوظًا؛ حتى يحتفظ الجسم بشكله الأصلي عندما تلازمه الكا جزؤه الثاني، وفي مناظر ولادة الملكة حتشبسوت في معبد الدير البحري ترى صورتين طِبْقَ الأصل، إحداهما الطفلة الملكية، والثانية هي الكا، وكانوا يصنعون تماثيل خاصة للكا يحفظونها في سراديب مقفلة إلا من فتحة صغيرة يُرفع من خلالها البخور، وترجع إليها الكا إذا ما فني الجسد.
ولم تكن هذه الكا من مستلزمات البشر فقط، بل كان لكل مخلوق نبات، أو حيوان، أو جماد «كا» خاصة به.
ويقول ديودور: «إن المصريين كانوا يسمُّون مساكنَهم في الدنيا منازلَ ضيافة؛ نسبة إلى تلك الحياة القصيرة، وكانوا يسمون المقابر بالمنازل الأبدية».
ولذلك فقد اهتموا بمقابرهم اهتمامًا عظيمًا، وكان من أبرز وأروع مظاهر حضارتهم تطوُّرُ معمار المقابر مع تطور الفكرة الروحية بالخلود اللانهائي وبقاء الشخصية، وتقدم التحنيط، وقد تطوَّرت المقبرة من مجرد حُفرة في باطن الوادي تُغَطِّيها الرمالُ إلى غرفة مُبَطَّنة بالأحجار، إلى بناءٍ هرميٍّ متعدِّد الغرف، وحوله سور عظيم، وعلى جانبي تلك المقبرة الهرمية مركبان تَسْبح فيهما الروح كما تسبح الشمس، وبجوار ذلك الهرم معبد جنائزي للملك المُتَوَفَّى لعبادته وتطوَّرت تلك المقابر إلى أن أصبحت مؤسسات ضخمة إما من البناء، وإما منحوتة في الصخر الطبيعي، وقد غُطِّيت جميع جدرانها بمناظر الحياة الدنيا في منتهى الروعة والجمال، وكُدِّست غرفها بجميع مستلزمات الحياة من مأكل، ومشرب، وملبس، وأثاث، كلُّ هذا من أجل ذلك الجسد الذي أصبح مثل أوزوريس، ومن أجل الكا.
وأما البا فهي ذلك الجزء الحيُّ الذي يترك الجسد عند الوفاة محلِّقًا إلى الآلهة، ولكنها لا تمكث في السماء أبدًا، بل قد يَنْتابها الحنينُ إلى ذلك الجسد المحفوظ في المقبرة «المومياء» فتنزِل من أعالي السماء إليها؛ ولذلك جعلوا في المقابر كوة صغيرة تَنْفُذ منها البا إلى المقبرة كلَّما هَفَا الشوق، وكانوا يرمزون لهذه البا في مقابرهم ورُسومهم بطائرٍ له رأس إنسان، وقابض في يده على علامة الحياة، وكانوا يرمزون له أحيانًا أخرى بطائرٍ هابطٍ من السماء إلى كوة المقبرة، أو يرمزون له بطائرٍ وقد حَطَّ مسدَلَ الجناحين فوق المومياء.
وكانوا يعتقدون أن الإنسان بعد الوفاة قد أصبح مثل الإله أوزوريس، ويجب أن يُعْنى أهلُه بجسده كما عَنيت إيزيس بجسد أوزوريس، وكانوا يبالغون في محاولة التحنيط وبقاء الشخصية الأوزيرية، وقد جاء في نصوص الأهرام في إحدى المقطوعات التي كان يتلوها الكاهنُ المختصُّ بالملك بعد وفاته ما ترجَمَتُه: «يا أوناس لم تذهب إلى السماء ميتًا، وإنما ذهبت إليه حيًّا، لِتَجْلِسْ على عرشِ أوزوريس وصولجانك في يدك».
- (١)
محاولة حفظ الأجسام من التَّلَف.
- (٢)
محاولة حِفْظ الشخصية بعد الموت.
- (٣)
خلق هيئة تُشْبه أوزوريس بعد التحنيط.