البقايا الأثرية والمخلفات
من أهم مصادر هذه الدراسة تلك الآثار والبقايا المبعثَرة هنا وهناك، والموميات التي عَثر عليها رجال الحفائر، والتي يرجع تاريخها إلى جميع عصور التاريخ المصري المختلفة، ومما يُؤسَف له أن رجالَ الآثار لم يلتفتوا إلى كثير من هذه المخلفات، ولم يُعيروها عناية علمية، مما أضاع علينا كثيرًا من التراث العلمي. وسأذكر هنا حادثة على سبيل المثال لا الحصر:
وفي العام الثاني للبعثة أمكننا أن نجد أقوى الأدلة على صناعة التحنيط؛ إذ وجدنا فوق حوائط الممرِّ كثيرًا من الأواني الكبيرة مملوءة بالقش، وبعضها بأكياس من النطرون والملح، وبين هذه الأواني وجدنا تابوتًا جميل الدهان، وعليه نقوش دلَّتْ على أنه قد صُنِع للكاهن نامنخت آمون كاهن منتو في الأسرة ٢٢؛ إذ إنه من دم ملكي، وجَدُّه الأول الملك أوسركون الأول من الأسرة ٢٢ … ولما فُتح التابوت لم يوجد به المومياء ولكن بضع مئات من أكياس النطرون الصغيرة.»
وقد كانت موميات الفراعنة مصدرًا هامًّا من مصادر البحث العلمي عن التحنيط، وسنوجز الكلام عنها هنا حسب ترتيبها التاريخي.
الأسرة الأولى
الأسرة الثانية
الأسرة الثالثة
وقد صاغ المحنط أعضاء التناسل في إحكام دقيق وفن رائع، يطابق الطبيعة تمامًا، حتى يصعب على الإنسان أن يُميِّز أنها غير طبيعية، كما تدل المومياء على أنهم كانوا يمارسون عملية الختان، وكان جسم المومياء ممدودًا تمامًا، وفراغ الجسم مملوءًا بالكتان المشبع بالراتنج.
ويظن بعض علماء الآثار اعتمادًا على بعض القرائن الأثرية أنها من الأسرة الخامسة.
على أي حال، فهي مَثلٌ قيِّم من أمثلة التحنيط في الدولة القديمة، واستعمال المواد الكيماوية ومحاولة شبيه الجسم.
الأسرات الرابعة والخامسة والسادسة
وقد وجد فيز في الهرم الثالث مومياء يرجع تاريخها إلى عصر الأسرة الرابعة، ملفوفة بالأكفان، ومشبعة بالراتنج، وذلك عام ١٩٣٧.
وقد كشف بيتري عام ١٨٩٧ مومياء من عصر الأسرة الخامسة، وكتب عنها ما يأتي: «الجسم ممدود على ظهره، والرأس للشمال، ومتجهة إلى الركن الشمالي الغربي، وقد صيغت أعضاء التناسل من الكتان، والراتنج، ووضعت في مكانها الطبيعي، وقد لُفَّ الجسم جميعه في الكتان، وجلد المومياء وعضلاتها قوية ليس هناك ما يدلُّ على محاولة التحنيط، ولو أنه من المؤكد أنهم حاولوا تجفيف الجسم».
- (١)
محاولة التحنيط العلمي المعملي.
- (٢)
لف أعضاء الجسم بأنسجة الكتان.
- (٣)
كثرة استعمال المواد الراتنجية، واستعمالها كمادة لاصقة.
- (٤)
استعمال النطرون.
- (٥)
ظهور قطع التحنيط في الجسم «شكل ٣».
- (٦)
الاهتمام بإبراز أعضاء التناسل في شكل طبيعي.
- (٧)
ظهور المحاولات الأولى لصناعة شبيه الجسم من الكتان والراتنج المضغوط، وتوضيح أجزاء الوجه بالألوان.
الدولة الوسطى: ٢١٦٠–١٧٨٨ق.م.
انتهت الدولة القديمة بآخر ملوك الأسرة السادسة، ودخلت مصر في عصر من الفوضى، والنزاع الداخلي، وانقسمت البلاد إلى إقطاعيات يتنازع أمراؤها سلطة البلاد، ولم يترك لنا هذا العصر من المخلفات، والبقايا الأثرية ما يستحق الذكر في هذه الناحية.
وتحرَّرت البلاد، واستقر الأمر فيها لملوك الدولة الوسطى، وعثر الأستاذ نافيل عام ١٩٠٦-١٩٠٧ في حفائره بالدير البحري بجوار المعبد على مجموعة من مقابر أميرات الأسرة ١١، ولو أن هذه المقابر جميعها قد امتدَّت إليها يد اللصوص إلا أنها تُهمنا من حيث دراسة التحنيط.
وجميع الموميات التي وجدت في هذه المقابر قد اختطفتْها متاحف العالم دون أن يُكتب عنها أيُّ تقرير.
ولكن واحدة من هذه الموميات قد تفتَّتت في المتحف البريطاني، وكتب عنها التقرير التالي: «المومياء لامرأة — متكسرة، الجمجمة ضاع منها الفك الأسفل — بقي منها ساقان وذراع واحد، توجد في الجمجمة تغيرات مرَضية، وهي انتفاخ في عظام الرأس من الجانبين، مما يدلُّ على حالة التهاب قبل الوفاة، الأقدام والأيدي في منتهى الرقة، أظافر اليدين مخضبة بالحناء بعناية.»
وقد عثر كويبل في حفائر سقارة عام ١٩٠٦-٧ على مومياوين من الدولة الوسطى، ويُهمنا من التقرير الذي كتب عنهما أن الوجه كان فوقه غطاء من الكارتوناج، وقد صُبغ شعر المومياء المستعار باللون الأخضر، والوجه بالأصفر، والشارب والذقن بالأخضر، وكان الجسم مغمورًا في كميات من نسيج الكتان، وملفوفًا في طبقات من الأشرطة، وكل من الذراعين ملفوف بمفرده، وموضوعان على الصدر في شكل متقاطع.
- أولًا: أظافر اليدين والقدمين ملفوفة تمامًا؛ لتقي تلفهما، وانفصالهما أثناء عملية النقع، وهذه الطريقة أصبحت متبعة فيما بعد في عصر الدولة الحديثة.
- ثانيًا: الجسم خالٍ من الأمعاء الداخلية.
- ثالثًا: ملء فراغ الجسم والصدر بالكتان.
- رابعًا: لم تحدث محاولات لإخلاء المخ.
فوق ما ذكر يمكننا أن نلاحظ أن هذا العصر قد امتاز بالخواص الآتية:
- خامسًا: استعمال الحناء.
- سادسًا: حقن المواد الراتنجية من الشرج.
- سابعًا: صباغة الشعر المستعار.
- ثامنًا: وجود بعض البللورات الملحية مما يدل على استعمال النطرون أو الملح.
- تاسعًا: استعمال الراتنج كمادة لاصقة، واستعماله كمسحوق مخلوط بنشارة الخشب لحشو فراغ الجسم.
عصر الهكسوس: ١٧٨٨–١٥٨٠ق.م.
عصر الهكسوس هو عصر الفوضى الثاني في تاريخ مصر القديم اختلطت فيه بعض العادات المصرية بعادات كثير من الشعوب الشرقية المجاورة.
وقد عثر بيتري في القرنة على بعض موميات من هذا العصر، وقرر أنها ترجع إلى عصر الأسرة ١٧.
أحد هذه الموميات كتب عنها التقرير التالي: «الجسم داخل جميع اللفائف، الأيدي والأرجل ملفوفة على انفراد، تلف جميع نسيج الكتان المستعمل من تأثير الحشرات، تفكُّك الجسم من تأثير التلف، العظام أصبحت في غير وضعها الطبيعي، وضع في فراغ الجسم كميات من أنسجة الكتان، جَفَّت وأخذت شكل هذه الأجزاء، حول العظام تراب رمادي.
- (١)
لم يجد فيها كلورور الصوديوم بنسبة أعلى مما في الجسم العادي.
- (٢)
رائحة عطرية نتيجة نثر بعض التوابل على الجسم.
- (٣)
ليس هناك محاولة لوضع الجسم في الوضع الجنائزي المعتاد.
ويظن ماسبيرو أن الجثة قد أخذت بسرعة من الميدان، ولم تتم عليها عملية التحنيط حسب أصول الصنعة في المعامل الخاصة بذلك، بل حاولوا تحنيطها في مكان قريب من ميدان القتال.
ويقول الدكتور فوكيه: إن الملك قد خَرَّ صريعًا في ميدان القتال، وأرسلت جثته إلى طيبة للتحنيط، وقد أخذ وصول الجثة إلى هناك وقتًا طويلًا، لحقها أثناءه بعض التلف، وأصبحت في حالة لا تسمح بإجراء عملية التحنيط حسب الصناعة.
والتحنيط في هذا العصر لا يعطينا فكرة ثابتة، ولا قاعدة متبعة، اللهم إلا استعمال التوابل؛ لتعطير الجسيم.
الدولة الحديثة: ١٥٨٠ق.م.–١٠٩٠ق.م.
منذ بدء الدولة الحديثة أصبحت عملية إخلاء المخ قاعدة كما ذكر هيرودوتس.
-
واستعملت عجائن الراتنج بكثرة؛ لتحفظ للجسم كيانه عند جفافه.
-
واستعملت الحمامات الملحية كمحلول النطرون.
-
وخلال عملية النقع تتقشر بشرة الجلد، حاملة معها جميع زغب الجسم.
-
ولم تسقط الأظافر لاتخاذ احتياطات خاصة بتغطيتها بشرائح معدنية، أو لفها بأربطة وخيوط.
-
ويدل بقاء شعر فروة الرأس على أنها لم تغمس في المحاليل الملحية.
وسنذكر هنا أهم الأمثلة على موميات الدولة الحديثة.
مومياء أحمس الأول: محرر مصر، وملك النهضة في الدولة الحديثة، المومياء تغطيها طبقة قوية تشبه الدرع من عجينة الراتنج، وقد استعملت الراتنج بإسراف، حتى إن شعر الرأس قد تلبَّدَ، واختفى قطع التحنيط.
- (١) الفقرة العنقية العليا Atlas vertebroe المتصلة مباشرة بالعظم المؤخري، والحاملة للرأس غير موجودة.
- (٢)
الجزء السطحي من الفقرة الثانية، والعظم المؤخري للجمجمة مغطاة بطبقة سميكة من الراتنج.
مومياء مُرَبِّية نفرتاري: وُجدت في حفائر الدير البحري وهي مومياء مُرَبِّية الملكة نفرتاري زوجة أحمس الأول، وتدل على أنها كانت في شبابها سيدة جميلة رقيقة لها شعر غزير، ذو طابع خاص في التسريح، وكل الجسم منثور عليه مخلوط من أنواع الراتنج والرمل — أمكن مشاهدة قطع التحنيط.
•••
ولوحظ في جثة أمينوفيس الثالث أنها قد حُشيت بين جلد الأرجل والذراعين والرقبة، وبين اللحم بكمية من الراتنج، حتى إنه عند جفافها يلتصق بها الجسم، ويحفظ رونقه ولا ينكمش، وأصبحت هذه العملية فنًّا دقيقًا شائعًا في الأسرة ٢١.
- (١)
أنه قد عُمل له عملية إخصاء قبل التحنيط مباشرة؛ بدليل ما وجد على الجرح من الراتنج.
- (٢)
أن الجسم قد نُثِر عليه كثيرٌ من الملح.
- (٣)
أن هناك فتحة في مؤخرة الجمجمة، وهذه قد وجدت أيضًا في موميات سيتي الثاني، ورمسيس الرابع، والخامس، والسادس، ويقول ماسبيرو عن هذه الفتحة: إن المحنط قد عملها؛ لتنصرف منها الأرواح الشريرة.
-
كتان.
-
كتان مشبع بالراتنج.
-
نشارة مخلوطة بالراتنج، ورمل مخلوط بالراتنج شيبة.
وقد حُفظت مومياء رمسيس الرابع في طبقة سميكة من عجينة الراتنج التي غطتها جميعًا ما عدا الرأس، ووضع بصل صغير محل الأعين.
وتدل جثة رمسيس الخامس على أنه كان يقاسي عدة أمراض، أهمها:
آثار الجدري في وجهه، وفتق إربي، أو رفقي، وقرحة في خن الورك.
- (١)
وضع مواد خارج لفائف المومياء.
- (٢)
حشو تحت الجلد.
وتدلنا الدراسة الدقيقة لمومياء الأسرة ٢١ على أن المحاولة لم تكن لتحنيط الجسم وحفظه فحسب، وإنما لتجعل من المومياء صورة تمثالية مثالية، وكان الجسم يدهن بمخلوط الصمغ، والأهرة الصفراء، وتوضع له عيون صناعية، وأصبحت أجزاء الجسم التي كانت توضع في أوانٍ جنائزية توضع الآن ملفوفة في فراغ الجسم؛ حتى لا ينقصه شيء، ثم ملئت فجوات الجسم بالنشارة.
وقد ملئت رقبة الملكة ماكارع من الأسرة ٢١ بمخلوط من الدهن والنطرون، عن طريق قطع التحنيط، وقد وجدت بجوارها جثة طفلة حديثة الولادة، وثدي الملكة متضخم مما يدل على أنها كانت في حالة رضاع، وأنها تُوفيت بعد الوضع مباشرة ربما بحُمى النفاس.
ولوحظ في هذه الأسرة أنها كانت تعمل بعض القطوع الجراحية في أنحاء الجسم المختلفة؛ لتحشو تحت الجلد بالمواد الحافظة.
- (١)
المحاولات الجراحية الهامة كالفتحة في مؤخرة الرقبة، وعملية الفقرة العليا، وقطوع الحشو في أنحاء الجسم.
- (٢)
شيوع عملية إخلاء المخ.
- (٣)
التجارب العلمية على مواد الحشو، وقوة امتصاصها ونفعها.
- (٤)
فتحة مؤخرة الجمجمة؛ لطرد الأرواح.
- (٥)
الإسراف في استعمال الراتنج.
- (٦)
استعمال الأملاح.
- (٧)
استعمال الصمغ والأهرة.
- (٨)
الاهتمام بالمظهر الخارجي اهتمامًا كبيرًا.
عصر البطالسة: ٣٣٢ق.م.–٣٠ب.م.
يمتاز عصر البطالسة بالدقة الفائقة في صناعة غطاء الكارتوناج الخارجي ونقوشه، وكثرة استعمال الراتنجات ومادة القار المعدني، ولذلك كثيرًا ما تبدو الموميات سوداء لامعة.
وتبدو القشرة دائمًا غير موجودة من الإفراط في استعمال محاليل المواد الملحية والكاوية، وكانوا يجمعون البشرة التي تتقشر، ويضعونها في لفافة واحدة.
وقد ملئت فراغات الجسم بالكتان، والطمي، والراتنج، والشمع، وقد وجدت مواد راتنجية داخل الجمجمة بعد إخلائها ولم توجد آثار لهذه المواد في منتجات الأنف مما يدل على احتمال استعمال قمع خاص لذلك.
وأحيانًا لا تحوي المومياء جثة كاملة بل بعض العظام المبعثرة.
وفي عام ١٩٠٤ زار السير ألكسندر سمبسون أستاذ الولادة في جامعة أدنبرة، كليةَ الطب المصرية، وطلب فك إحدى الموميات، ولحسن الحظ وجد أن المومياء التي فكها لفتاة في السادسة عشر من عمرها، وفي الشهر السادس من الحمل، وقد قتلت عمدًا، وكسر ذراعاها بعد القتل مباشرة؛ وربما كان هذا لأنها حملت سفاحًا، كما دل على آثار القتل العمد الجروح التي ظهرت في جسمها، وقد لف جسمها دون تحنيط ولا عناية.
وكانت اللفائف غير دقيقة في عصر البطالسة، واهتم المصريون في ذلك العصر كما ذكرنا بالمظهر الخارجي للمومياء، فكانت اللفائف تكوِّنُ شكلًا هندسيًّا من الخارج، وفي بعض الأحيان ذا ألوان مختلفة، ثم توضع المومياء في غطاء جميل من الكارتوناج، شكل٤.
العصر المسيحي
ولما دخلت المسيحية مصر، واعتنق أهلوها جميعًا هذا الدين، وأصبحت مصر مركزًا هامًّا من مراكز الدين المسيحي ونشر الحضارة المسيحية، تأثَّرت عاداتها طبعًا بما جاء في الإنجيل من أصول وقواعد.
وطبيعي أن تتأثر طريقة التحنيط، وحفظ الأجسام في العصر المسيحي، بما جاء في الإنجيل عن دفن السيد المسيح؛ إذ جاء في إنجيل متى إصحاح ٣٧ والعدد ٥٩:
«فأخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي.» وجاء في إنجيل لوقا إصحاح ٢٣ والعدد ٥٣: «وأنزله ولفه بكتان ووضعه في قبر منحوت.» وجاء في إنجيل يوحنا إصحاح ١٩ والعدد ٤٠: «وأخذا جسد يسوع، ولفَّاه بأكفان مع الأطياب.» كما لليهود عادة أن يكفنوا «طبيعي جدًّا.» أن تتأثر عادة التحنيط بتقاليد هذا الدين الجديد، وما جاء فيه عن صاحب هذه الرسالة المسيحية، وأن تتطور عملية التحنيط من عملية تشريحية جراحية كيماوية إلى عملية مبسَّطة جدًّا، وهي مجرد لف الجسم في الكتان مع نثر بعض الأطياب.
وكانوا يُلبِسون الرجالَ أحسنَ ما عندهم من ملابس، ويلبسون السيدات فستانًا طويلًا أبيض، وينثرون حول الجسم مسحوق الملح، وبعض المساحيق العطرية بكميات كبيرة.
وبهذا حُفظت جثث العصر القبطي في حالة جيدة أمكن تشريحها، ومعرفة الكثير عن غذائهم مما تبقى من فضلات في أمعائهم.
وظلت عادة التحنيط تتلاشى رويدًا رويدًا حتى لم يبقَ لها أثر بعد بضعة قرون من ظهور المسيحية، وأصبحت فيما بعد رمزًا خاصًّا من رموز الفرعونية.