المراجع التاريخية
أقوال هيرودوتس
كتب هيرودوتس تاريخه عن مصر، وأصبح حجة بين المراجع التي تساعد على كشف كثير من الغموض في تاريخها.
وقد عاش هذا المؤرخ العظيم اليوناني الذي أُطلق عليه «أب التاريخ» بين عامي ٤٨٤–٤٢٥ق.م.، وزار مصر أيام السطوة اليونانية، عندما أوشكت العادات الفرعونية أن تختفي، وكتب الكثير عن تاريخ المصريين وعاداتهم بناءً على مشاهداته في ربوع الوادي، ولم يكن من السهل أن يُلم تمامًا بكل ما يحيط بالتحنيط؛ إذ كان من الأسرار المقدَّسة، ولم يكن من السهل أن يشاهدها بعينيه وإنما كلُّ ما كتبه عنها منقولٌ ومسموع.
يقول هيرودوتس: وكانت طريقة المصريين في الحزن والدفن كالآتي:
عندما يموت شخص ذو مكانة ممتازة في العائلة تُلطِّخ جميع نساء المنزل أيديَهن ووجوهَهُن بالطين، ويتركن المنازل مطوفات بالمدينة، يشققن الجيوب، ويلطمن الخدود، ويصحبهن في هذا الطواف الجنائزي أقاربُهُن، وكذلك كان الرجال يلطمون الخدود، ويشقون الجيوب.
وبعد ذلك يرافق أهل الميت الجثة إلى التحنيط الذي كان يقوم به طبقة خاصة أتقنته، وكان رجال التحنيط يعرضون على أهل الميت بعض النماذج الخشبية للجثث المحنطة؛ ليختاروا أحد الطرق الثلاث التي كانت مستعملة للتحنيط:
- (١)
يخرج ما يمكن من أجزاء المخ خلال فتحات الأنف، بواسطة خطاف حديدي، ويخرج الباقي ببعض العقاقير التي يصبها خلال الأنف.
- (٢)
يعمل فتحة في جانب الخصر بقطعة حادة مدببة من الحجر الإثيوبي، ويُخرج منها الأحشاء.
- (٣)
يقوم بعملية تنظيف الجسم بالنبيذ.
- (٤)
يطهره بأنواع البخور.
- (٥)
يملأ فراغ الجسم بمسحوق المر والقرفة، وبعض أنواع العطور والتوابل، ثم يخيطون الفتحة ثانية.
- (٦)
يغمسون الجثة في محلول النطرون لمدة ٧٠ يومًا، وغير مصرَّح بوضعها أكثر من ذلك.
- (٧)
بعد انقضاء سبعين يومًا، يُخرجون الجسم من النطرون، ويغسلونه، ويلفونه في شرائح من نسيج الكتان المشبع بالصمغ الذي استعمله المصريون بدل الغراء.
- (٨)
بعد ذلك يأخذ أهل الميت جُثَّته، ويضعونها في تابوت جميل من الخشب.
- (١)
يحقنون فراغ الجسم الداخلي بزيت السيدار خلال فتحة الشرج، ويسدونها؛ حتى لا يرتد الزيت.
- (٢)
يغمسون الجثة في النطرون كالسابق.
- (٣)
يدعون الزيت يخرج من الشرج في اليوم السبعين ومعه جميع الأحشاء الداخلية التي أذابها.
ثم يرجعون الجثة لأصحابها دون لفِّها.
وأما الطريقة الثالثة وهي أرخصها، فينقعون فيها الجثة كما هي في النطرون لمدة سبعين يومًا، ثم يخرجونها لأصحابها.
- (١)
المحنط الجَرَّاح الكيماوي.
- (٢)
المحنط للتكفين، واللف.
وقد ذكر هيرودوتس خطأ أن الجثة تنقع في النطرون لمدة ٧٠ يومًا، مع أن المستندات البردية والنصوص تقول: إن هذه العملية تستغرق نصف هذه المدة فقط، وأن عملية التحنيط جميعها، واللف، وجميع الطقوس حتى الدفن، تستغرق ٧٠ يومًا.
أقوال ديودور
عاش ديودور الصقلي في القرن الأول قبل الميلاد، وكتب موسوعته القيِّمة في التاريخ، وجاء بين فصولها ما ذكره عن التحنيط أنه:
عندما يموت منهم واحدٌ، يضع أقاربُه وأصدقاؤه الطينَ على رءوسهم، ويطوفون بالمدينة نادبين حتى يأتي وقت الدفن، وفي الوقت نفسه يمتنعون عن الاغتسال والخمور، وكل متعات الحياة؛ زيادة في الحزن، حتى الملابس الجديدة لا يضعونها على أجسامهم، وكان لديهم ثلاث طرق للدفن.
- (١) يطرح المختص الذي يُسمونه Scribe الكاتب الجثة، ويضع علامة على الجانب الأيسر للقطع.
- (٢)
ويأتي من يسمونه القاطع، ويأخذ قطعة من الحجر الإثيوبي، ويشق به الجانب الأيسر حسب القانون، ويولِّي هاربًا، ويتبعه الحاضرون رجمًا بالأحجار وسبًّا؛ ليتحمل تبعة عمله على رأسه.
- (٣)
وهنا يأتي عمل المحنط فيضع يده في القطع، ويخرج جميع الأحشاء ما عدا الكليتين والقلب، ويقوم آخر لغسل الأمعاء وتنظيفها بالنبيذ.
- (٤)
بعد غسل الجسم يعالجونه بزيت السيدار وأشياء أخرى، لمدة قد تتجاوز ٣٠ يومًا، وبعد ذلك بالمر والقرفة، والتوابل التي لا تحفظ الجسم فحسب، بل تكسبه رائحة عطرية، ثم يسلمونه لأهله محنطًا محتفظًا بجميع مظاهر الحياة حتى رموش العين، والحواجب.
ومن هنا نلمس الفرق واضحًا بين ما ذكره ديودور، وما ذكره قبله هيرودوتس بحوالي أربعة قرون.
وقد ذكر ديودور تكاليف عمليات التحنيط المختلفة مما يدل على وجود أجر ثابت لكل عملية.
الطقوس الجنائزية
لما كانت المومياء هي قطب الرحى في الحفلات الجنائزية، وهي الضيف الأعظم، وساكن المقبرة الأول، وجب أن نعرف شيئًا عن الطقوس التي يقوم بها المحنط، وكيفية لف الجثة بالأكفان.
ولذلك عند وفاة الملك وتحنيطه، وحسب عقائدهم الدينية والجنائزية، يصبح الملك أو المتوفَّى كأنه الإله «أوزوريس»، ويجب أن يمر في جميع الأدوار التي مر بها الإله أوزوريس بعد معركته القاتلة مع أخيه «ست».
تدل جميع الرسوم الجنائزية، والنصوص الخاصة على أن المدة من يوم الوفاة وانتهاء جميع طقوس الدفن هي ٧٠ يومًا، تسلَّم خلالها الجثة إلى رجل التحنيط، ويُسلِّمُها هو في نهاية هذه المدة مومياء تامة ملفوفة بالأكفان، مستعدة لاتخاذ جميع الإجراءات الخاصة بالدفن، وقد كان دكان رجل التحنيط يسمى: «منزل التطهير للدار الباقية»، وهو المحل الخاص الذي كانت تُمارس فيه سلسلة من الطقوس خلال لفِّ الجثة بالأكفان، ووضع التمائم الخاصة في أماكنها.
- (١)
الموكب الجنائزي من المنزل إلى المقبرة، محمولًا على جرارات ومتبوعًا بالنادبات والنساء.
- (٢)
طقوس «فتح الفم» داخل المقبرة، وهي نصوص خاصة دينية، يتلونها على الميت داخل المقبرة، حتى تُعدَّه للحياة الثانية، وهي تقاليد قديمة يرجع أصلها إلى نصوص الأهرام.
- (٣)
حفلات جنائزية بعد الدفن يقوم فيها الأهل والأصدقاء بالموسيقى والرقص والغناء.
- (٤)
إنزال المومياء إلى غرفة الدفن الخاصة في حفل جنائزي رائع يدَشِّنُها فيه الكاهن المختص الذي يمثِّلُ إنوبيس إله الجبانة.
وكان نتيجة ممارسة هذه الطقوس الجنائزية والعادات الخاصة بالدفن أن ارتقت وتقدَّمت صناعة العمارة، وصناعة التوابيت الخشبية؛ إذ تقدمت أثناء الأسرتين الثالثة والرابعة، ورسمت عليها بعض النقوش؛ لتعطي فكرة تقريبية عن منزل الحياة الدنيا، ومنزل الحياة الآخرة، ويظن أن بعض التوابيت كانت تصنع على شكل المومياء، ومن أشهر هذه التوابيت ذلك الخاص بالملك منقرع أحد ملوك الأسرة الرابعة الذي شيَّد الهرم الثالث، والذي نقله الإنجليز إلى متحف لندن عام ١٨٩٨ ومحفوظ تحت رقم ٦٦٤٧.
وكانت بعض التوابيت تحوي الكثير من النقوش والكتابات، وكانت رأس الميت توضع ناحية الشمال تحت النقوش بجوار رسم العينين كما كانتا للميت؛ ليطل منهما إلى الحياة، وكانت تكتب على جانبي غطاء التابوت بعض نصوص كتاب الموتى، وبعض النصوص الجنائزية.
وكان نتيجة الاحتفاظ بهذه التوابيت أن تمكَّن علماء العصر الحديث من دراسة أنواع الأخشاب المصرية وغير المصرية التي صنعت منها، وبالتالي أمكن معرفة بعض الأشجار المستعملة من خشب السيدار، والسنط، والجميز … إلخ.
وأصبح لون التابوت في الدولة الحديثة أسود، نقش عليه باللون الأصفر، وكان مكان الوجه يدهن باللون الأحمر عند الرجال، واللون الأصفر للسيدات.
b. journal of Egyptian Archeology pp. 118–124 t. v.