الحاجة إلى الميتافيزيقا
يرسم الجزء الرابع من «مقال عن المنهج» الخطوط العريضة للمحاجة التي كان الهدف منها تقديم دعم مستقل لفيزياء ديكارت. وفي قلب المحاجة، نجد قضية أن البشر خلقٌ لرب كريم جليل منحنا نسخة من ذكائه. وحشد الرب العقل البشري بعدد من الأفكار «البسيطة» التي يستحيل أن تكون خاطئة، على افتراض خيرية الرب. وتتضمن هذه الأفكار تلك الضرورية لفهم عام صحيح للمادة؛ أي لفيزياء صحيحة. في الجزء الرابع من «مقال عن المنهج»، يصف ديكارت الاستدلال الذي توصل من خلاله إلى نتيجة أن الرب موجود، وأنه كامل، ومن ثم فإنه لا يخدعنا. ويبدأ استدلال ديكارت باكتشاف علاقة حتمية بين تفكيره ووجوده، وينتقل بعد ذلك إلى الموضوعية الضرورية لفكرة الرب، ويخلص أخيرًا إلى نتائج حول القدرات الفكرية للكائنات التي تثق بأن الرب الكريم لا يضع أفكارًا بسيطة مضللة في عقولها.
لم أجرؤ على الخوض في تفاصيل حجج المشككين، ولا على التصريح بكل ما هو ضروري «لعزل العقل عن الحواس»؛ فلا يستقيم أن يُعرف يقين ودليل محاجتي على وجود الرب بحقٍّ دون استدعاء الحجج التي تعرض الشك في جميع معارفنا عن الأشياء المادية، ولم تبدُ تلك الأفكار مناسبة لتضمينها في كتاب أردت أن يكون مفهومًا حتى للنساء، مع اشتماله في الوقت نفسه على مادة فكرية لأفضل العقول وأكثرها نبوغًا.
لكنَّ أمرًا ما أكثر من خوفه من أن يعرض قُرَّاؤه لمثل هذه الأفكار هو الذي منعه من المُضي قُدمًا في عرض الحجج الضرورية: فلم يُرِد ديكارت أن يوصم بأنه من الفلاسفة المتشككين. ففي الجزء الرابع، اكتفى بإيضاح فكرة أن اليقين بوجود الرب أكبر من اليقين بوجود الأشياء المادية، فهو لم يشأ أن ينكر أنه يمكن أن يكون لدينا علم للمادة. لكن تفسير كل هذا يتطلب أكثر من أسطر قليلة مطبوعة. في «مقال عن المنهج»، اضطر ديكارت إلى أن يكتفي بنسخة مضغوطة وغير مُرْضِية لما كان يلزم التصريح به.
وربما من المدهش، في ظل المحتوى الميتافيزيقي الضئيل لمؤلفه «مقال عن المنهج»، أن أحد قرَّائه — وكان عالمًا هاويًا ومشرفًا على أعمال التحصين في أقاليم فرنسية يعرف باسم بيير بيتي — قد خرج بمجموعة كبيرة من الاعتراضات على الجزء الرابع؛ فقد كان له رأي آخر بخصوص فرضية ديكارت بأن كل إنسان لديه فكرة عن الرب، وشكك في أن المعرفة بوجود الرب ضرورية لمعرفة أي شيء آخر. وأشار بيتي إلى أن أكثر الملاحدة تطرفًا أحاطوا علمًا بوجود الأرض والشمس والكثير من الأشياء غيرهما. كان ديكارت يزدري بشكل علني اعتراضات بيتي، ولم يجشم نفسه عناء الرد عليها، لكنه لم ينسَ تلك الاعتراضات قط، ونجد أن ثمة إشارة ضمنية إليها في مقدمة مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» (٧ : ٨). ولاحقًا، انهال عليه نقاد آخرون بالنقد بخصوص مسألة الملحد واسع الاطلاع.
لو كانت المقالات قد لاقت استحسانًا كليًّا، لما كانت الضرورة لتستدعي أن يُحَسِّن ديكارت الجزء الرابع من «مقال عن المنهج». فقد كان الغرض منه خلق قاعدة عريضة من محبي فيزيائه التي نشرها في «مقال عن المنهج»، فالقراء الذين ثبت استحسانهم لنظريته عن الانكسار، أو لتفسيره لقوس قزح، سيمثلون بالفعل، ولو جزئيًّا، أنصارًا لأفكاره الواردة في كتاب «العالم»، لكن تبين أن استمالة المؤيدين أصعب من المتوقع، فقد واجهت المقالات، وخاصة «الهندسة» و«مبحث انكسار الضوء»، اعتراضات كبيرة عجز ديكارت عن الرد عليها بشكل قاطع وحاسم. وطوال عام ١٦٣٨، أي إثر نشر المقالات بعام، كان ديكارت منشغلًا جدًّا بالجدليات الرياضية والعلمية التي تمخضت عنها.
وفي تلك الأثناء، نأى عنه علماء اللاهوت الذين عقد ديكارت الآمال على أن يدعموا مؤلفه «مقال عن المنهج» ومقالاته الأخرى. ولقد أرسل عددًا من النسخ الأولى إلى اليسوعيين في لافليش دون أن تثمر هذه المبادرة عن أية نتائج. وكتب مدرس من لافليش إلى ديكارت أنه يجب أن يكون أكثر وضوحًا حيال مبادئه الميتافيزيقية قبل أن يتوقع أية تعليقات أو اعتراضات. وقُبِلَت النسخ التي أُرسلت إلى أقطاب الكنيسة في روما شريطة ألا تُدَرِّس تلك المقالات مسألة حركة الأرض. وذاع خبر تأييد ديكارت للموضوعات المحظور تدريسها في روما رغم تكتمه على مؤلَّفه «العالم»، وصارت الحاجة إلى وجود أطروحة تثبت توافق فيزياء ديكارت مع الأركان الرئيسية التي تقوم عليها العقيدة الكاثوليكية، صارت أكثر إلحاحًا لهذا السبب وحده.
وكانت بعض المواد المتعلقة بالأطروحة سالفة الذكر متاحة بالفعل في هيئة كتاب انتهى ديكارت من نصفه، وكان عن الرب والروح، لكنه هجره بعد أول تسعة أشهر أمضاها في هولندا. ولقد أشار ديكارت إلى هذا الكتاب المهجور، ولآماله في مراجعته واستكماله، في خطاب إلى ميرسين عام ١٦٣٧ أقر له فيه أيضًا بمواطن الضعف في الجزء الرابع من مؤلفه «مقال عن المنهج» (١ : ٣٤٧). في الكتاب الأسبق، كان من المفترض أن يكون قد «اكتشف كيفية إثبات الحقائق الميتافيزيقية بطريقة أكثر وضوحًا من حقائق الهندسة.»
ما المنهج الذي ابتكره ديكارت؟ وماذا ضَمَّنَ تحت عنوان «الحقائق الميتافيزيقية»؟ لقد ألمح بالفعل إلى المنهج الذي يعرف عادة باسم الشك المنهجي. وبدأ هذا المنهج بإقرار أن أي شيء يداخله الشك ولو قليلًا بالنسبة للعقل الباحث زائف، وأي شيء يستدعي التسليم والتصديق حتى في مواجهة أقوى جهود النيل منه ورفضه؛ فهو يقيني لا محالة. في مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى»، وهي الأطروحة التي نشرها ديكارت في نهاية المطاف، تم تفعيل مبدأ رفض أي شيء يمكن أن يداخله الشك بالاستعانة ببعض فرضيات الشك الغريبة؛ فقد تخيل ديكارت نفسه واقعًا تحت سيطرة شيطان عتيد قادر على التحكم في أفكاره، وجعله لا يؤمن بشيء سوى الباطل. ولكي ينجح الشيطان في خداعه، كان يجب ألا يكون هناك مراء في أنه يُقْحِم أفكارًا في عقل ديكارت فعلًا. ولذلك كانت «تلك» الحقيقة — ويراد حقيقة أن ثمة أفكارًا تراوده — يستحيل أن يخدعه الشيطان بشأنها. ولو كانت حقيقة أفكاره لا شك فيها، فكذلك ستكون حقيقة وجود فاعل للتفكير؛ أي «أنا» للإقدام على فعل التفكير. ومن ثم كان أول يقين في الميتافيزيقا «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» كان يجب أن تكون هذه الحقيقة صحيحة حتى ولو كانت بقية أفكار المرء الأخرى واقعة تحت سيطرة شيطان مخادع. ومن هذه الحقيقة، بحسب زعم ديكارت، يمكن استنباط حقائق ميتافيزيقية أخرى (عن الرب).
الأشياء التي أريد أن يلاحظها الناس بصفة أساسية، ولكنني أعتقد أنني أضفت أشياء أخرى كثيرة أيضًا. ويسعني القول — بيني وبينك — إن هذه «التأملات» الستة تحتوي على جميع أسس الفيزياء الخاصة بي، ولكن رجاءً ألا تخبر أحدًا؛ لأن ذلك من شأنه أن يُصعِّب على أنصار أرسطو قبولها. آمل أن يألف القراء تدريجيًّا مبادئي ويدركوا حقيقتها قبل أن يلحظوا أنها تهدم مبادئ أرسطو.
ولذلك كانت الأطروحة الميتافيزيقية في ظاهرها تحتوي على نص ديني، ولكن في باطنها أسس فيزيائية مُقَنَّعة على نحو جيد، وبعيدة كل البعد عن الأسس الفيزيائية التقليدية.