كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى»
تشير خطابات ديكارت إلى أنه بدأ العمل على مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» في نوفمبر عام ١٦٣٩؛ ففي ذلك الحين مرَّ على حياته في هولندا عشر سنوات تقريبًا دون أن يستقر في أي مكان طويلًا. وتُصوِّره الروايات الواردة عنه خلال تلك الفترة من حياته منعزلًا تقريبًا، حيث كان يعيش مع عدد قليل من الخدم بمنأى عن المجتمع، منكبًّا بالكامل على أعماله التجريبية والنظرية في العلوم، وعارجًا على الفلسفة. لكن عادةً ما بولغ في الحديث عن عزلته؛ فقد كان لدى ديكارت عدد من الأصدقاء المقربين، ومن بينهم زميل العمل المشهور في نظرية البصريات، كونستانتين هيوجينز، وفرانز شوتن، أستاذ الرياضيات بجامعة ليدن، وكذلك، قبل أن يتفرقا، بيكمان. تبادل ديكارت الزيارات والخطابات مع هؤلاء وغيرهم بانتظام، وفقًا للمكان الذي كان يتخذه بيتًا له.
إن المعلومات البسيطة المعروفة عن حياة ديكارت الخاصة تتعلق في أغلبها بالأيام التي عاشها في هولندا. وربما في مدينة ديفينتر، حيث حصل أحد تابعيه الشباب على وظيفة أكاديمية عام ١٦٣٢، التقى ديكارت امرأة، تدعى هيلين، صارت عشيقته وأمًّا لابنته غير الشرعية، والتي أطلق عليها اسم فرانسين في السابع من أغسطس عام ١٦٣٥. وبعد عام ١٦٣٥، بدا أن فرانسين وهيلين عاشتا بعيدًا عن ديكارت، وكانتا تزورانه على فترات متقطعة. وحاول ديكارت أن يخفي على الدخلاء علاقته بهما، مُدَّعيًا كلما عرجتا عليه أن فرانسين ابنة أخيه. وعندما بلغت صغيرته خمس سنوات، في سبتمبر عام ١٦٤٠، أصيبت بحمى شديدة أودت بحياتها. ووصف ديكارت هذا الحدث بأنه أشد بلية ألمت به في حياته.
وتوفيت فرانسين بعد بضعة أشهر من استكمال ديكارت لمؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى». وطوال فصل شتاء ١٦٣٩-١٦٤٠، عني ديكارت بمؤلفه المهجور الذي وضعه عام ١٦٢٩ عن الميتافيزيقا، وأمضى خمسة أشهر عليه حتى أضحى كتابًا جديرًا بالنشر. وكانت الحاجة لأطروحة يوافق عليها علماء اللاهوت تزداد إلحاحًا. فبينما استقبلت كلية لافليش «مقال عن المنهج» والمقالات بشيء من الحذر، نجد أنها قوبلت بعداء شديد من الكلية اليسوعية في باريس، وفي صيف عام ١٦٤٠، بدأ ديكارت يؤمن بأن اليسوعيين كلهم يناصبونه العداء. وحينئذ كان قد انتهى من كتابه المكون من «خمس أو ست صفحات» في مجال الميتافيزيقا دون أن ينشره.
علامَ كان الكتاب الجديد يحتوي؟ شأنه شأن «مقال عن المنهج» كان الكتاب الجديد يتمتع بأسلوب أدبي استثنائي؛ فكان من ناحية مناسبًا لدعايته الرسمية كإثبات لبعض حقائق المسيحية، لكنه موافق أيضًا، ولو ضمنًا، للبرنامج السري لدحض مبادئ أرسطو؛ أي المبادئ التي يرتكز عليها التعليم المدرسي في مجال الفيزياء. كان كتاب ديكارت مذكرات عن فترة اعتزال فكري خيالي استمرت ستة أيام على غرار اعتزال القديس إغناطيوس في «تمارين روحانية» التي اقترحها لعمليات الاعتزال الدينية العادية.
ولكل يوم من الأيام الستة تأمله الخاص وصولًا إلى ذروة التأملات في اليوم الثالث. وفي التأمل الثالث، يقنع ديكارت نفسه بأن فكرته عن الرب تتمثل في أنه كيان حقيقي وموجود. وهذه نقطة تحول ترتبت على تأمليه في اليومين المنصرمين. وفي التأمل الأول، يجعل ديكارت نفسه تتشكك في وجود «أي» شيء موجود بحقٍّ، ويرفض كل معتقداته عن الأشياء المادية باعتبارها زائفة، وحتى إيمانه بحقيقة الطبائع المادية البسيطة. هنا يعول ديكارت على فرضية الشك للمخادع الشيطاني. وفي التأمل الثاني، لاحظ ديكارت أنه لكي ينجح الشيطان في خداعه يجب أن يكون هناك وسط للخداع، ألا وهو الفكر؛ وإذا كان الوسط هو الفكر، فلا بد أنه هو نفسه مفكر حقيقي. ويقلص ذلك بقدر ضئيل مجال الشك الذي استحدثه في اليوم الأول من اعتزاله، لكن ديكارت لم يعمد إلى البحث عن أساس للإيمان بحقيقة الأشياء التي تتجاوزه وأفكاره أو خواطره إلا بعد أن أثبت وجود الرب.
ويدرك ديكارت أن الرب كامل، ومن ثم فهو خَيِّرٌ إلى أقصى حد ممكن، ويستحيل أن يتصور المرء أنه يسمح للزيف بأن يبدو ظاهرًا للعقل البشري الواعي المُصر على إيجاد الحقيقة. والخطأ جائز عندما يشتُّ انتباه العقل، أو عندما يتسرع في التوصل إلى النتائج، أو عندما تهيمن عليه العادات السيئة كعادة الخلط بين السمات الظاهرة للأجسام وخصائصها الجوهرية المتأصلة فيها. لكن لا يمكن أن يخطئ العقل، شريطة التحوط من أي خطأ، عندما يؤمن بوجود الأرقام أو الأجسام، أو يكتشف أن العلاقة بين كون الشيء ماديًّا وشَغْله أبعادًا ثلاثة علاقة لا مراء فيها. وطالما أن الرب لم يخلقنا بحيث ننخدع بما لا يسعنا سوى تصديقه، فحقيقة أن الأشياء والعلاقات تخطر على العقل باعتبارها واقعًا تدخل في تفسير كونها حقيقة في واقع الأمر. بحلول اليوم السادس من اعتزاله، يقرر ديكارت أنه من الحمق الشك في وجود الأشياء المادية وحقيقة الطبائع البسيطة. ويخلص ديكارت إلى أنه بينما قد لا تكون الأشياء المادية في الحقيقة كما تبدو للحواس، فإن خصائصها الرياضية واضحة ولا شك فيها، واللازمة المترتبة على ذلك أن الفيزياء الرياضية ممكنة.
توقع ديكارت أن يستغرق قراؤه في التأملات التي سجلها، وعقد الآمال على أن يعيدوا تصور الاستدلال الذي من خلاله استطاع استدعاء شكوكه وتبديدها ببطء. كانت التأملات مضنية، وقليلون ممن تصفحوا الكتاب، إن وُجِدوا، هم الذين يرجح أنهم انغمسوا في تفاصيله بالقدر الذي طالب به ديكارت؛ فقد نصح قراء التأمل الأول الذي قدم فيه أسبابًا للشك في معظم الأشياء المسلم بصحتها دون تفكير بأن «يكرسوا شهورًا، أو على الأقل أسابيع؛ لبحث الموضوعات الواردة فيه قبل المُضي قدمًا» (٧ : ١٣٠). ولقد قَدَّرَ أن الأمر سيستغرق «على الأقل أيامًا قلائل»، ربما إضافة إلى الأشهر أو الأسابيع العديدة التي سيُمضيها المرء في الاطلاع على التأمل الأولى، كي يعتاد القارئ على التمييز بين الأشياء العقلية والمادية بالسبل التي يستدعيها التأمل الثاني (٧ : ١٣١). كان ديكارت يعتقد أن هذه الأوقات الطويلة التي سيستغرقها القارئ في تدبره يبررها الأثر العلاجي للتأملات؛ فإذا استُوعِبَت بشكل سليم فإنها على أقل تقدير ستكسر عادة أبدية؛ ألا وهي التسليم بالمعتقدات المتعلقة بطبيعة العالم المادي وطبيعة الإنسان المستخلصة من خبرته الحسية.
لكن المنوط بقُرَّاء «تأملات في الفلسفة الأولى» كان يتجاوز بذلهم الوقت والتركيز. كان الأمر يستدعي إجادة ضرب جديد من القراءة؛ فقد كان من الضروري في الأجزاء الأولى من الكتاب أخذ المزاعم على محمل الجد، والتي سيجري صرف النظر عنها لاحقًا على اعتبار أنها غير معقولة. علق ديكارت على هذه الخصيصة في ردٍّ له على مجموعة من الاعتراضات على كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» قائلًا: «يسمح لنا الأسلوب التحليلي للكتابة الذي تبنيته في هذا الكتاب من آنٍ لآخر بعمل فرضيات لم تحظَ بالتمحيص الكامل؛ ويتجلى ذلك في التأمل الأول حيث طرحت العديد من الفرضيات التي أقدمتُ على دحضها في تأملات تالية» (٧ : ٢٤٩). استدعى الأسلوب التحليلي عادةً ترتيبًا محددًا للطرح أو الجدل؛ فأي اعتبارات تُعْرَض إما ستشرح نفسها، أو سيبررها ما تقدم عليها، على أن يكون التطور من الأشياء الظاهرة والسطحية إلى النقاط الأكثر عمقًا وجوهرية. في «تأملات في الفلسفة الأولى»، أدخل ديكارت على الأسلوب «التحليلي» تعديلًا جديدًا؛ فالاعتبارات العميقة والجوهرية تجعل القارئ في واقع الأمر يعيد النظر، أو حتى يرفض ما تقدم.