الشك عند ديكارت
غالى ديكارت في تقدير إمكانات أغلب قرائه المؤيدين له؛ إذ توقع منهم أن يستطيعوا تتبع أسلوبه العجيب في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى»، فقد أساء أتباعُه تفسير الفرضيات الأساسية الواردة في الكتاب. وجمهوره الذي كان معاديًا لأفكاره بالفعل انقض على أفكاره التي طرحها بغية تفنيدها وحسب وكأنها مؤكدة بشكل قاطع. لدينا معلومات وافية على ردة الفعل الأولى للكتاب؛ حيث التمس ديكارت تعليقات القراء على النسخ الأولى — ونشرت لاحقًا تلك التعليقات مع الكتاب. ولقد بادر ديكارت نفسه بطلب «تصحيحات» من عالِمَيْ لاهوت في هولندا وفي السوربون، وأقنع ميرسين بجمع تعليقات من رجال الكنيسة وفلاسفة وعلماء آخرين. وفي نهاية المطاف، جُمعت سبع مجموعات من «الاعتراضات»، وشكَّلت تلك الاعتراضات و«ردود» ديكارت عليها ملحقًا كبيرًا لكتاب «تأملات في الفلسفة الأولى» نفسه عندما ظهر الكتاب عام ١٦٤١.
لقد كنت أتعامل وحسب مع الشك المطلق الذي يُعتبر، كما أكدت كثيرًا، ميتافيزيقيًّا ومبالغًا فيه، ولا يجوز تطبيقه على الحياة العملية. لقد كان الشك من هذا النوع هو الذي أشرت إليه عندما قلت: إن كل شيء يمكن أن يثير ولو أدنى شك ينبغي أن يُعْدَّ سببًا وجيهًا للشك.
استهل ديكارت التأمل قائلًا إنه لمرة واحدة في حياته سيعمد إلى تطهير أفكاره من كل شيء يداخله الشك. ولكي يجعل نقده شاملًا دون أن يكون لانهائيًّا، كان بحاجة إلى أن يبحث الاحتمالات التي يمكن أن تثير شكوكًا في جميع أفكاره على اختلافها.
الاحتمال الأول الذي بحثه كان أن ما بدا وكأنه حياة يقظة ربما يكون حلمًا. ولقد لاحظ ديكارت أن الأحلام يمكن أن تكون حيَّة جدًّا مثلها مثل تجربة اليقظة؛ فعندما نصحو من نومنا من الممكن أن نشعر بالذهول لعدم كوننا في المكان أو الظروف التي كنا نحلم بها. وفي الأحلام، نصدق أشياء عادةً ما نجدها زائفة في اليقظة. وخلاصة القول إن الأحلام يمكن أن تضللنا، ولكن لا تستدعي الحاجة وجود شيء في الحلم أو اليقظة يدلنا على التمييز بينهما. كيف يمكننا الجزم إذن بأننا لسنا نحلم الآن؟ إذا لم يمكننا الجزم، فربما إذن أن المعتقدات التي تشكلت خلال تجربتنا الحالية كلها زائفة، وإذا كنا نعيش في عالم الأحلام دومًا، فربما أن جميع المعتقدات التي آمنا بها «يومًا ما» زائفة على الإطلاق. جل ما كان ديكارت بحاجة إليه هو إمكانية الزعم بأن التجربة الواعية تجربة حالمة، فإذا لم نستطع أن نستبعد تلك الإمكانية، فلا يمكننا النظر إلى التجربة الواعية باعتبارها مرشدًا موثوقًا للطبيعة الحقيقية للأشياء بمعزل عن التجربة. فما من أحد يستطيع أن يقول: «لقد حلمت بأمر ما؛ ولذلك فلا بد أنه حقيقي.» كيف لأحد أن يقول استنادًا إلى أي مبرر: «لقد رأيته؛ ولذلك فلا بد أنه حقيقي.» إذا كان النظر، على حد علمنا، تجربة حالمة؟
استخدم ديكارت فرضية الحلم لإضعاف ثقته في مجموعة كبيرة من المعتقدات التي تمليها التجربة الحسيَّة، لكن فرضية الحلم لم تُلقِ بظلال الشك على كل شيء، حتى لو كان يحلم بأنه يجلس أمام النار وحسب، وأن عينيه مفتوحتان، وأنه يمد يديه، حتى لو لم يكن في الواقع أشياء كالرءوس أو الأيادي؛ فإن هذا لا يثبت لنا أنه لم تكن في الواقع أشياء مثل المادة والشكل والعدد والمكان والزمان وغيرها من «الأشياء الأكثر بساطة وشمولية» من الرءوس أو الأيادي. لقد تُرِكَت المعتقدات المرتبطة بهذه الأشياء الأكثر بساطة وشمولية دون مساس من قبل فرضية الحلم. ألم تكن هذه معتقدات إذن خالية من أي شك؟ أثبت ديكارت في فرضية أخرى أكثر مغالاة من فرضية الحلم أن حتى هذه المعتقدات محل شك (٧ : ٢١). وكانت فرضيته الثانية تفيد بأن ثمة شيطانًا خارق القوة والذكاء يكرِّس كل جهوده لحمله على الإيمان بما يخالف الحقيقة (٧ : ٢٢-٢٣).
في التأمل الثاني، اكتشف ديكارت أن تصور شيطان قادر على خداعه بخصوص «كل شيء» يتعذر الإبقاء عليه. ومع ذلك، في الفقرات الختامية من «تأملات في الفلسفة الأولى» قال ديكارت إن «الشكوك المبالغ فيها خلال الأيام القليلة الماضية»؛ أي الشكوك التي أثارها في تفكره في الأحلام والشياطين، «ينبغي استبعادها باعتبارها مثيرة للسخرية» (٧ : ٨٩). ومن خلال توجيه بوردين إلى الفقرات ذات الصلة، اعتقد ديكارت أنه قادر على أن يُبرِّئ ساحته من تهم الشك الموجهة إليه، لكنه سيكون مضلِّلًا إذا كان يوحي بأنه استبعد تمامًا ما يوحيه إليه التأمل الأول في نهاية كتابه. وفيما يتعلق بالمعتقدات الحسية، «لا» يقدم ديكارت فرضية شكيَّة ليثبت وحسب مدى ضعف أساسها. صحيح أنه في نهاية المطاف يتراجع عن فرضية أن كل التجربة البشرية محض حلم، لكنه لا يتراجع عن الرسالة التي أعرب عنها في الفرضية؛ ألا وهي أن التجربة الحسية أساس واهن للوصول إلى استنتاجات بشأن الأشياء المادية.
ويدعم هذه الرسالة الواضحة بقدر معقول في نهاية «تأملات في الفلسفة الأولى» مُؤلَّف ديكارت «العالم» الذي كان بطريقة أو بأخرى تتمةً لأطروحته المتعلقة بالميتافيزيقا. ويستهل «العالم» بعدة فصول ناقدة لوجهة النظر البديهية للأشياء المادية؛ ناقدة لوجهة نظرنا عن العالم الفيزيائي التي تخطر على بالنا بشكل فطري، والمستندة إلى التجربة الحسية. ويحاول ديكارت أولًا أن يُخَلِّص القارئ من المعتقد بأن حواسه أو خبراته مماثلة للأشياء التي تسببها. وبعدها يكرِّس فصلًا كاملًا (الفصل الرابع) من أجل تصحيح «خطأ وقعنا في أسره جميعًا منذ الصغر عندما آمنا بأنه ما من أجسام من حولنا بخلاف ما يمكن إدراكه بالحواس» (١٠ : ١٧). ترسم هذه الفصول الخطوط العريضة لنوع من الشك في المعتقدات المستمدة من الحواس، والشك في مدى موضوعيتها، والذي أوضح ديكارت أنه متوافق مع إمكانية وجود العلوم الطبيعية.
وأحيانًا ما تُعْرَف وجهة النظر التي تمكن ديكارت من نقد المعتقدات المستمدة من الحواس، وفي الوقت نفسه الزعم بأن البشر قادرون على إنتاج علوم مادية، باسم «المذهب العقلاني». آمن ديكارت بأن البشر يملكون عقلًا أو روحًا أو نفسًا، وأنه بينما عوَّلَ العقل/الروح/النفس في بعض أفكاره وخواطره على عمل الأعضاء الحسية، فهو يحوي معلومات أخرى منفصلة عن الأعضاء الحسية، معلومات محتواها واضح «بموجب الطبيعة وحدها». وكان بواسطة أفكار من هذا النوع أن أكثر حقائق الرياضيات والفيزياء بدائية من المفترض أنها تخطر للبشر، وكان من المفترض بواسطة «الاستنباط» من الحقائق الأساسية هذه فهم أكثر الظواهر العامة في الطبيعة فهمًا أكثر موضوعية، دون التأثيرات المشوِّهة للتجربة الحسية.