العقل
ينعكس زعم ديكارت بأن الكثير من أفكارنا منفصلة عن التجربة الحسِّية في ادعائه بأن «العقل» يمكن تصوره باعتباره كاملًا تمامًا حتى إذا كان يفتقر لملكة الإدراك الحسِّي (٧ : ٧٨). وبحسب نظريته عن طبيعة العقل، فإن القدرات الوحيدة التي «يجب» أن يمتلكها العقل هي قدرات فكرية بحتة، والقدرة على ممارسة الإرادة المطلوبة في إصدار الأحكام. ولا توجد أية قدرات إضافية مطلوبة لاستيعاب أغلب العناصر العامة للفيزياء، والنظرية ترى العقل ضمنًا مالكًا للقدرات الضرورية لاستيعاب علم تجريدي للمادة.
إن الروابط التي تصل ما بين نظرية الأفكار ونظرية المادة العقلية والفيزياء ليست جلية دومًا في مؤلفات ديكارت؛ فمزاعمه عن العقل ومحتوياته يمكن حصرها حصرًا وافيًا في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» حيث أرسى مبادئ الفيزياء خلسة. ففي «تأملات في الفلسفة الأولى» يزعم ديكارت أنه بصدد وضع نظرية للروح، لا نظرية للقدرات العقلية والأفكار التي تجعلنا نتواصل مع جوهر المادة. وكنظرية للروح؛ أي لما يحرك البشر، فإن ما يطرحه في «تأملات في الفلسفة الأولى» يشوبه قدر من الاعتباطية. فمن الواضح أن الزعم بأن الروح هي شيء يحس ويتخيل بشكل عارض فقط، لكنه بضرورة الحال ذكاء متناهٍ، زعمٌ اعتباطيٌّ.
ولم تخفَ هذه الاعتباطية على أصحاب «الاعتراضات» (والتي وضعت هي وردود ديكارت عليها كملحق لكتاب «تأملات في الفلسفة الأولى»)؛ فقد طلبوا من ديكارت تبرير نظرته لقدرات الإحساس والتخيل، بل ولأية قدرة تفترض وجود جسد باعتبارها غير ضرورية؛ فما كانوا يستفسرون عنه هو التمايز الشديد بين العقل والجسد الذي اشتهر لاحقًا باسم «الازدواجية الديكارتية». بحسب ديكارت، فإن العقل يتألف من مادة، بينما يتكون الجسد من مادة أخرى؛ لأنه من الممكن تكوين تصوُّر عن العقل وتصوُّر عن الجسد بواسطة مجموعتين منفصلتين تمامًا من الصفات المُدْرَكَة بوضوح وتمايز.
يدافع ديكارت في «تأملات في الفلسفة الأولى» عن ازدواجيته مرتين؛ الأولى أثناء سريان فرضية الشيطان المضلِّل (التأمل الثاني)، والثانية في نهاية الكتاب (التأمل السادس)، عندما يثبت وجود الرب، وعندما يتخلى عن فرضية الشيطان المضلِّل، وعندما يثبت صحة القاعدة الرابطة بين الوضوح والتمايز من جهة والحقيقة من جهة أخرى. في التأمل الثاني، يتساءل ديكارت عن القدرات التي يمتلكها، ويسرد قائمة طويلة تتضمن التخيل والإحساس (٧ : ٢٨). وبعدها يسهب مفسرًا أنه يمتلك قدرة الإحساس من منطلق خاص وحسب؛ فهو يمتلكها من منطلق أنه «يبدو» بالنسبة له أنه يرى ويسمع ويلمس وما إلى ذلك من أحاسيس؛ فلا يستقيم الافتراض بأنه يرى ويسمع ويلمس فعلًا؛ وذلك لأن المرء لا يستطيع أن يشك في حقيقة حواسه التي «يبدو» أنه يمتلكها. وفي التأمل الثاني، يعتبر ديكارت أن الصفات التي يستحيل الشك في حقيقتها هي التي يمتلكها (٧ : ٢٤)، وبما أنه لا يتجاوز قط ما «يبدو» أنه يسمعه ويلمسه وما إلى ذلك، فهو لا يزعم قط بأنه يملك الإحساس الكامل. ورغم أن الصياغة الخاصة بكل هذا في التأمل الثاني ليست واضحة، فيبدو أنه عندما ينسب الخيال إلى نفسه، فهو يفعل ذلك من المنطلق نفسه الذي ينسب به الإحساس إلى نفسه؛ ولذلك يتضح لنا أنه ما من قدرات تتعلق بالجسد يمتلكها ديكارت بالمعنى المحدد.
يستشهد أحيانًا المعلقون على ديكارت بالتأمل الثاني باعتباره مصدرًا لما يميز حقًّا فلسفة العقل الديكارتية، وفيها يعلن ديكارت أنه شيء مفكر بالفطرة. وفيها أيضًا يشرح أنه «بالتفكير» يعني أية عملية يقوم بها العقل لا مجال للشك في أنها حقيقية من جانب صاحب العقل. واستنادًا إلى التأمل الثاني، فيمكن تعريف كل ما هو عقلي بشكل أساسي بأنه كل ما هو غير قابل للشك في حقيقته وبأنه مدرك مباشرةً من جانب النفس. ومن سبل إيجاز هذه الفلسفة القول بأن الخصوصية في فلسفة ديكارت هي العلامة المميزة لكل ما هو عقلي.
لا يتوافق هذا التفسير مع أجزاء لاحقة من «تأملات في الفلسفة الأولى» على النحو الذي يتوافق فيه مع الأجزاء السابقة منه، والأدهى أنه يصور فلسفة ديكارت عن العقل كمنتج ثانوي للشك المنهجي، حتى إنه يكاد لا يجد ما يدعمه إذا ما ثبت أن هذا الشك المنهجي يفتقر إلى الاتساق أو إذا أسيئ تصوره. ولكن هناك تفسيرًا آخر محتملًا يقيم ركائز النظرية على نحو مستقل بشكل أفضل، ويعطيها دورًا محوريًّا في كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى» ككل.
ولعرض التفسير البديل، يجب أن أذكر متطلبًا يتعين على النظرية الوافية للعقل تلبيته أولًا؛ وهو أنه لا ينبغي أن تكون النظرية متعلقة بجنس معين. يبدو واضحًا أن نظرية العقل لا يمكن أن تسري وحسب على العقل البشري؛ لأنه من الواضح جدًّا أن المخلوقات المختلفة عنا بيولوجيًّا يمكن أن يكون لديها قدرات حسيَّة-إدراكيَّة، وذاكرة وحركة ذاتيَّة، وبديهة، بل وقدرات على التواصل مقابِلَة للقدرات المكافئة لدى البشر. ويلفت الخيال العلمي نظرنا إلى احتمالية وجود مخلوقات فضائية لديها قدرات لا يمكن التمييز بينها وبين قدراتنا، ويكشف لنا العلم نفسه عن مدى تعقيد وتطور القدرات العقلية للدلافين والشمبانزي. وبما أن مفهومنا عن العقل والقدرات العقلية يمتد إلى هذه المخلوقات، فلا بد أن تحقق النظرية الوافية عن العقل درجة معينة من الحياد البيولوجي.
ويفي ديكارت بهذا المتطلب تمامًا؛ فهو يدرك أن مفهوم العقل يمتد إلى كائنات أخرى خلاف البشر، لكن طريقة تفكيره في العقل — وهذا ما أراه مميزًا في نظريته — منفصلة عمدًا عن علم البيولوجيا، كما أنها أقل اعتمادًا على السبل التي يمكن بها أن تقترب قدرات المخلوقات الأدنى منزلة من قدرات البشر بالمقارنة بالسبل التي يمكن بواسطتها أن توجد قدراتنا بشكل أكثر تطورًا في الكيانات الفائقة للبشر، كالملائكة وما شابه. وحقيقة الأمر أن ديكارت يصنف العقول بحسب مدى قدراتها لا بالرجوع إلى الأنواع البيولوجية للكائنات التي تملك تلك العقول. فعقلنا ليس بشريًّا بقدر ما هو محدود، والرب ليس بشرًا فائقًا بقدر ما هو لا محدود، وامتلاكنا للعقول بالنسبة لنا «شأنه شأن» امتلاكنا لقدرات من النوع العام نفسه الذي يمتلكه الرب، ولو أنها أكثر محدودية وقصورًا من الرب بمراحل. والنقطة المحورية هي أن عقل الرب الكامل أو اللامحدود هو الذي يضع معيار أي شيء باعتباره عقلًا.
استنادًا لهذه الخلفية، من الممكن فهم تمييز ديكارت الاعتباطي بين القدرات الفكرية البحتة من ناحية وقدرات الإحساس والخيال المفترضة مسبقًا وجود جسد من ناحية أخرى. ويمكن أن يعتبر ذلك تقسيمًا للقدرات إلى تلك التي يمكن أن تكون مشتركة بيننا وبين الرب، والتي بموجبها يمكننا أن نتمتع بشيء من فهمه الموضوعي للواقع، وتلك التي ليست مشتركة بيننا وبين الرب ولا تستدعيها الضرورة للفهم الموضوعي للأمور.
أدرك أنني — على ما يبدو — شيء ما بين الرب والعدم، أو ما بين الكائن الأسمى والعدم: طبيعتي بقدر ما خلقها الكائن الأسمى توجب أنه لا يوجد شيء بداخلي يُمَكِّنُني من أن أسلك الدرب الخاطئ أو أن أنحرف عن جادة الطريق، ولكن بالقدر الذي أشترك فيه مع العدم؛ أي بقدر ما أنني لست المخلوق الأسمى، وأنني قاصر في جوانب لا حصر لها، لا عجب أنني أقترف الأخطاء.
يضع ديكارت نفسه على مسافة متساوية على ميزان الوجود الذي ينتهي إلى الكائن الأسمى، وبينما يزعم أنه لا شيء يعيبه فكريًّا طالما أن الذي خلقه هو الرب، فهو يوحي بأن ثمة شيئًا يعيبه طالما أنه فانٍ أو أدنى سموًّا. وتضع فقرة شبيهة للفقرة التي سلف الاقتباس منها، في التأمل الثالث (٧ : ٥١)، قدرات العقل البشري لا في الترتيب الطبيعي للأنواع، بل في ترتيب يختص بالمواد من حيث كونها أكثر أو أقل كمالًا.
وإذ يرسي ديكارت قواعد شيء فائق للبشر وغير بيولوجي كنموذج المادة العقلية، فهو يضع نظرية لا تعترف بوجود عقول في الحيوانات غير البشرية مطلقًا، وهو ما يعيبها. (ولقد صدم هذا الوصف بعض قرَّائه إذ ألمح إلى أن حيواناتهم الأليفة ما هي إلا آلات غير مفكرة.) على الجانب الآخر، وهو ما يميزها، فالنظرية تنظر لحدود العقل البشري؛ وبذلك يبطل النزوع إلى اعتبار العقل البشري النموذج الأفضل من نوعه، دون أسلوب الشك المعتاد. العقل البشري محدود، ولكن بما أنه نسخة محدودة من العقل الإلهي، فمن المنطقي أن تكون ممارسة العلوم في مقدور البشر وضمن قدراتهم.