الجسد
كما أن مفهوم العقل دون صفات تنطوي على وجود جسد من المفترض أن يكون كاملًا، كذلك من المفترض أن يكون كاملًا مفهوم الجسد الذي يستبعد جميع الخصائص التي تعتمد على عقل. إن صحة هذا المفهوم المتشدد عن الجسد، والذي يستبعد درجة الحرارة واللون والرائحة والملمس وما إلى ذلك، هي واحدة من أواخر المزاعم التي حاول ديكارت أن يرسيها في مؤلَّفه «تأملات في الفلسفة الأولى»؛ وهي واحدة من أوائل المزاعم التي حاول إثباتها في كتابه «العالم»؛ ولذلك من المنطقي أن نعتبر هذا المفهوم عن الجسد شيئًا مُصمَّمًا لتدعيم الأواصر بين ميتافيزيقا ديكارت وفيزيائه.
هناك توازٍ بين الطريقة التي تناول بها مفهومه عن الجسد والطريقة التي تناول بها مفهومه للعقل. فيبدأ ديكارت بوصف الرؤية الساذجة أو البديهية لكل مادة، ويمضي قُدمًا مُقسِّمًا الخصائص التي تعزوها البديهة إلى الجسد والعقل إلى تلك التي تنتمي حقًّا للمادة المعنيَّة، وتلك التي تبدو وحسب وكأنها تنتمي لها، ثم يحاول أن يفسر كيف يمكن الخلط بين الخصائص التي لا تنتمي حقًّا وتلك التي تنتمي. وفي كل حالة، يفسر وجودنا المجسد الخلط ما بين الخصائص الظاهرية والحقيقية، أو إن شئنا التعبير عن الفكرة بشيء أكثر من التفصيل، فإننا نضل الطريق بفعل عادةِ وضْعِ تصورات عن المواد بمساعدة الحواس وحدها. فعندما نعتبر الأجسام قاصرة دون خصائص كاللون؛ فإننا نعلي من قدر — عن طريق الخطأ — سماتها المدركة بالحواس؛ وعندما ننظر إلى أنفسنا باعتبارنا قاصرين انطلاقًا من كوننا عبارة عن عقول أو إرادات فقط؛ فإننا نتسرع في إصدار الأحكام على أساس شعورنا بأننا مندمجون مع أجسادنا أو لا ننفصم عنها.
إن التوازي بين معالجة ديكارت لمفاهيمنا عن العقل والجسد يتسع وصولًا إلى الطريقة التي يوزِّع بها تعليقاته عنهما في مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى». يحتوي التأمل الثاني على تعليقات حول العقل أو الشيء المُفكر، ويحتوي أيضًا على تعليقات عن الشيء المادي وهو الجسد. ويؤكد التأمل السادس بقدر كبير الأفكار الأولى لديكارت عن الذي ينسب إليه بوصفه عقلًا، ويؤكد أيضًا على بعض تعميماته المبدئية عن المادة.
ومن بين هذه التعميمات التي استلهمها من تأملاته في طبيعة قطعة من الشمع (٧ : ٣٠) هي أن المرء لا يستطيع أن يحدد شيئًا بعينه استنادًا للأشكال التي يبدو بها للحواس. فالمادة المستخلصة حديثًا من قرص العسل لها مذاق ورائحة وملمس مميز، وما إلى ذلك من الصفات المميزة. ولكن، إذا تعرض القرص للنار، يفقد كل هذه الأشكال ويتخذ أشكالًا أخرى. وإذا اعتمدت هويته على الأشكال، فسيكون شيئًا قبل التعرض للنار، وشيئًا آخر تمامًا بعد التعرض لها، لكنه هو الشيء نفسه طوال الوقت. إذن ما نوع الشيء الذي يبقى رغم تغير أشكاله المدركة بالحواس؟ ربما أنه جسد وحسب، شيء ممتد مكانيًّا ومرن (قادر على تغيير شكله)، وقابل للتغيُّر (عرضة لاتخاذ أشكال مختلفة). وإن صح ذلك، فإن ما يحدد هويته ليس ما تلاحظه الحواس، بل ما يستوعبه العقل باعتباره منتميًا إلى الجسد؛ ولذا فإن الأشكال المدركة بالحواس ليست مفتاحًا لطبيعة الشمع أو، إن شئنا التوسع، حتى مفتاحًا لطبيعة أي شيء مادي.
أن الأشياء التي أدركها بوضوح وتمايز شديدين فيها قليلة العدد جدًّا. وتتكون القائمة من الحجم أو الامتداد طولًا وعرضًا وعمقًا، والشكل الذي يعتبر نتيجة لحدود هذا الامتداد؛ والموضع الذي يمثل العلاقة بين عدة عناصر تمتلك شكلًا؛ والحركة أو التغير في الموضع؛ وربما أضيف إلى تلك القائمة المادة والزمن والعدد.
في هذه المرحلة من محاجة ديكارت التي يضع فيها هذه القائمة، فإن حقيقة أن شيئًا ما يُدرك بوضوح وتمايز ليست بعدُ سببًا كافيًا للظن بأنه صحيح أو حقيقي. ولا يملك ديكارت أساسًا متينًا إلا في التأمل الخامس للزعم بأن «الشكل والعدد والحركة وما إلى ذلك» حقيقية لكونها مدركة بوضوح وتمايز (٧ : ٦٣-٦٤). وحتى هذه النتيجة لا ترقى لما يرسيه التأمل السادس؛ ألا وهو أن ثمة بالفعل أشياء مادية لها حجم وحركة وعدد وما إلى ذلك مستقلة عن الفكر.
إن المحاجة المؤيدة لوجود أشياء مادية (٧ : ٧٨–٨٠) تجريدية جدًّا، ومن الصعب عرضها في إيجاز. وهي كالتالي: الأشياء المدركة بوضوح وتمايز باعتبارها أشياء مختلفة «تكون» قابلة للانفصال عن بعضها — بقوة الرب غير المحدودة، فيمكنني بوضوح وتمايز أن أدرك نفسي منفصلًا عن كل شيء خلا الفكر؛ ولذا فإنني مادة مفكرة. والتأمل في أوضاع نفسي باعتباري مادةً مفكرة يكشف عن أن ثمة مَلَكَة سلبية بداخلي (الإدراك) لتلقي الأفكار، لكن المَلَكَة السلبية ستكون خاملة لو لم تكن هناك ملكة أخرى نشطة تحث الأولى على العمل. والملكة النشطة، أيًّا كانت، ليست ضرورية بالنسبة لي كشيء مفكر؛ فلو كانت ضرورية، لكانت ملكة نشطة أمتلكها، وسترتبط حينئذ بإرادتي، ولكن يستحيل أن ترتبط الملكة النشطة بإرادتي؛ لأن الأفكار الحسيَّة تنتج في الغالب على غير رغبتي. علاوة على ذلك، الملكة النشطة لا تفترض وجود الفكر مسبقًا، وأية ملكة نشطة أمتلكها ستفترض ذلك مسبقًا: ستكون جميع أفعالي الإرادية واعية، وهذا يعني أنني أمتلك أفكارًا عنها؛ ولذلك فلا بد أن الملكة النشطة توجد في مادة أخرى مختلفة عني.
ويمكن استنتاج ماهية هذه المادة من معطيات الملكة النشطة؛ أي الأفكار الكائنة في خيالي. لا بد أن لهذه الأفكار وجودًا موضوعيًّا، ولا مراء أن لها عللًا ذات وجود شكلي أكبر أو مساوِ. والعلل الوحيدة التي تستوفي هذا الشرط هي المادة الجسدية، والمادة العقلية، والرب. لم يهبنا الرب قدرة إدراك المادة العقلية أو الرب باعتبار أي منهما علة أفكارنا الفورية، لكننا في الواقع نميل بشدة إلى الإيمان بأن الأجساد تنتج الصور، وإذا لم تكن علتها الأجساد، فمن الممكن أن ننخدع بما لا يسعنا الحيلولة دون التفكير فيه، والرب لم يخلقنا بحيث يجعلنا عرضة لمثل هذا النوع من الزلل؛ ولذا لا بد أن علل الصور تنتمي إلى فئة المادة الجسدية. ومن ثم فإن الأجساد موجودة.
إنها قد لا توجد بطريقة تُناظر تمامًا إدراكي الحسي لها، ذلك أن استيعاب الحواس في حالات كثيرة غامض وملتبس جدًّا، لكن على الأقل تمتلك [الأشياء الملموسة] جميع الخصائص التي أفهمها بوضوح وتمايز؛ أي جميع الخصائص، بالنظر إليها عمومًا، المشمولة في مضمون الرياضيات البحتة.
ويعني ديكارت «بمضمون الرياضيات البحتة» «الكمية المتصلة» للهندسة والقيم العددية للمتغيرات والثوابت في الجبر. هذه السمات الهندسية والعددية للأجساد هي السمات التي تمتلكها تلك الأجساد بمعزل عنا. والخصائص الأخرى التي تبدو متأصلة في الأجساد، كاللون ودرجة الحرارة والملمس المحسوس والصوت، ما هي إلا آثار معقدة للخصائص الكميَّة للأجساد — الأجساد الخارجية وأجسادنا — المنطبعة بطرق معينة في عقولنا.
من حقيقة أنني أدرك بحواسي مجموعة كبيرة متنوعة من الألوان والروائح والمذاقات، علاوة على الاختلافات في درجة الحرارة والصلابة وما شابه ذلك؛ فإنني على صواب إذ أستنبط أن الأجساد التي هي مصدر هذه المدركات الحسية المتعددة تمتلك اختلافات تناظرها، ولو أنها ربما لا تشبهها.
يخوض ديكارت في التفاصيل في «كتاب الإنسان» (١١ : ١٧٤ والصفحات التالية)، و«مبحث انكسار الضوء» (٦ : ١٣٠ والصفحات التالية)، و«مبادئ الفلسفة» (٨أ:٣١٨ والصفحات التالية). الفكرة العامة أن الألوان والروائح والمذاقات المختلفة وما إلى ذلك تناظر السبل المختلفة التي تستطيع بها الأعصاب الخاصة بأعضاء الحس المتنوعة التأثر بفعل الأجسام الخارجية المختلفة كَمًّا.
كيف يُفترض ترجمة الحركات في الجهاز العصبي للجسم إلى تجارب العقل عن اللون والصوت والرائحة والمذاق وما إلى ذلك؟ إجابة ديكارت عن هذا السؤال غامضة؛ فهو يقترح أن ترجمة تلك الحركات تجري بواسطة الترتيب الإلهي. من الواضح أنه ما من قوانين في الطبيعة يمكنها تفسير العلاقة بين تجارب العقل من ناحية، والحركات في الأعصاب وتمثيلات الأشياء الخارجية في المخ من ناحية أخرى. إن العلاقة ليست حتى ضرورية. كان يمكن أن يرتِّب الربُّ مسبقًا لنا أن تطرأ على عقولنا أفكارٌ لأشياء مختلفة كل الاختلاف عن الألوان والأصوات والروائح في حالات الاستثارة الحسيَّة (٧ : ٨٨).
لماذا ينبغي أن يحتوي العقل تمثيلات نوعية للأجساد على الإطلاق إذا كان بالإمكان استيعاب طبيعة الأجساد بإحكام من منطلق كَمِّي؟ إن ديكارت ملتزم التزامًا شديدًا بالقضايا الثلاث التالية: الرب ليس بمخادع، والرب يرتب لنا نحن البشر بحيث تتجلى لنا تمثيلات نوعية للأجساد بين الحين والآخر كلما أثَّرَت الأجساد على أعضائنا الحسية. وأخيرًا، فإن الأجساد لا تمتلك فطريًّا الخصائص التي تتمثل بها إلينا. أيستقيم حقًّا ألا يكون الرب مخادعًا إذا لم تصور لنا الأفكار التي يضعها بداخلنا عن الأجساد بدقة تلك الأجساد؟ الطريقة التي يخرج بها ديكارت من هذا المأزق هي القول أولًا بأنه ما من شيء مضلِّل حيال أفكارنا في حد ذاتها، فهي تصوِّر لنا الأجساد بشكل محدد، لكننا نحن من نتسرع في حكمنا بأن الأجساد تُعْرض علينا بموضوعية كما تصورها لنا الأفكار، ثانيًا: من المفيد بالنسبة لنا أن يكون لدينا تمثيلات نوعية للأجساد؛ وذلك لأنه استنادًا إلى جانبها النوعي نستنبط ما إذا كانت الأجساد ستضر بنا أو ستعود علينا بالنفع. وبتعبير آخر، فإن تمثيلاتنا النوعية لها أهمية في عملية البقاء حيث توجهنا إلى ما يجب أن نسعى إليه وما يجب أن نتفاداه لمصلحتنا (٧ : ٨٢ والصفحات التالية، ٨أ:٤١).
تنطبق فكرة ديكارت الخاصة بفائدة وجود تمثيلات نوعية للأجساد على أجسادنا بقدر انطباقها على الأجساد الخارجية. لدينا تمثيلات نوعية لأجسادنا عندما نشعر بالجوع أو العطش أو الألم أو المتعة أو نتحرك، لكن هذه التمثيلات يمكن أن تضللنا؛ لأنها يمكن أن تجعلنا نزاعين للإيمان بأننا مدمجون مع أجسادنا بشكل أو بآخر، بينما نحن، إن صح زعم ديكارت، مجرد عقول أو أشياء مفكرة متحدة بأجساد متمايزة عنا. ورغم ذلك، فهناك أهمية واضحة متعلقة بعملية البقاء في تعاملنا مع الألم والجوع والعطش باعتبارها أحاسيس خاصة بنا لا منتمية إلى جسد منفصل عنا.
تساعدنا التمثيلات النوعية للأجساد على الحفاظ على حياتنا، بحسب ما يرى ديكارت، ولا «ينبغي» أن تعوقنا عن اكتساب علوم الطبيعة؛ وذلك لأن التمثيلات النوعية يمكن أن تتعايش في عقل يحوي أفكارًا عن طبائع بسيطة كالحجم والشكل والعدد والمكان وما إلى ذلك، والتي تمكننا من الإمساك بتلابيب الأجساد بمعزل عن خصائصها.