العلوم الأخرى
في مقدمة النسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة»، شبَّهَ ديكارت الفلسفة بأكملها بشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزياء، وفروعها «التي تنبثق من هذا الجذع هي العلوم الأخرى كلها التي يمكن اختزالها في العلوم الرئيسية الثلاثة؛ ألا وهي الطب والميكانيكا والأخلاق» (٩ب:١٤). ومضى يزعم أن الفوائد الأساسية للفلسفة تُستخلص من هذه الفروع لا من الجذع أو الجذور (٩ب:١٥)، وقال: إنه، لفترة من الوقت، عقد الآمال على أن يقدم «مبادئ الفلسفة» للقرَّاء أعظم الأجزاء نفعًا من الفلسفة، لكن في النهاية اكتشف أنه يفتقر إلى الموارد الضرورية. ولم يستكمل بناء صروح الميكانيكا والطب والأخلاق قط، لكنه أحرز شيئًا من التقدم في هذه العلوم في ثلاثينيات القرن السابع عشر وأواخر أربعينياته.
ولعله كان يقصد «بالميكانيكا» دراسة الطرق التي تشكل بها المادة أنواعًا معينة من الأجسام، بما في ذلك النباتات والحيوانات والجسم البشري. والطب كان معنيًّا بأسباب الحياة في الجسم البشري وسبل الحفاظ عليها. أما الأخلاق فكانت دراسة النوازع البشرية واستراتيجيات السيطرة عليها، وسبل توجيه الإرادة نحو الخير والشر. وافترض علم الأخلاق «معرفة كاملة بالعلوم الأخرى»، وكان يمثل «أعلى مرتبة من مراتب الحكمة» (٩ب:١٤). وعلى العكس من الميكانيكا التي بدا أنها تعوِّل على الميتافيزيقا من طريق الفيزياء وحسب، استند علما الأخلاق والطب على مبدأ العقل والجسد المبين عمومًا في التأمل السادس. لم ينجح ديكارت قط في تقديم تفسيرات كاملة لأي من هذين العلمين. ففي ثلاثينيات القرن السابع عشر، جمع ديكارت ملخصًا للمعارف الطبية الموجودة، لكن المصدر الأساسي لنظريته الطبية الخاصة يبدو أنه مؤلفه «وصف الجسم البشري» غير المكتمل الذي عمل عليه خلال شتاء ١٦٤٧-١٦٤٨. بالنسبة لآراء ديكارت عن الأخلاق، يجب أن يعوِّل المرء على آخر أعماله المنشورة «انفعالات النفس» (١٦٤٩) والتعليقات الموحية، ولو أنها متناثرة، في مراسلاته إلى السفير الفرنسي لدى السويد، بيير شانو، ورسائله إلى إليزابيث، أميرة بوهيميا.
يعرض الجزء الأول من كتاب «انفعالات النفس» — عبر سلسلة معقدة من التعريفات، ونظرية فسيولوجية ما وردت في أطروحات سابقة لديكارت — لتصنيف للانفعالات، وتشخيصًا للصراع بين الأجزاء العليا والدنيا من النفس. بصفة عامة، الانفعال هو ما يحدث للنفس بالمقارنة بما تفعله هي. «الإدراكات أو أنماط المعرفة» تعتبر انفعالات في سياق هذا التعريف العام جدًّا (١١ : ٣٤٢). ولكن بالنظر إلى عبارة «انفعالات النفس» في سياق أكثر ضيقًا، فإننا نجدها تغطي فقط الإدراكات «التي نحس بآثارها باعتبار أنها في النفس ذاتها» كالفرحة والغضب (١١ : ٣٤٧)، والتي نحس بأنها تأجج النفس وتعكر صفوها بشدة على نحو مميز.
وتجعلنا الانفعالات ننزع إلى الحركات الجسمانية، فتنتج تلك الحركات بواسطة إحداث حركات في الغدة الصنوبرية (١١ : ٣٦١)، وتحدث تضاربات بين النزعات الطبيعية والإرادة (وهو موضوع حثت الأميرة إليزابيث ديكارت على تناوله بالكتابة مرارًا) عندما تثير النفس والجسد حركات متعارضة في الغدة الصنوبرية في الوقت عينه (١١ : ٣٦٤). وتنتهي هذه التضاربات عندما تُصْدِر النفس، وتصمم على أن تتبع، «أحكامًا حاسمة وحازمة بناءً على معرفتها بالخير والشر» (١١ : ٣٦٧)، لكن السيطرة على الانفعالات متاحة، بشكل غير مباشر، حتى بالنسبة لهؤلاء الذين لا يملكون سيطرة عقلانية على النفس؛ وهؤلاء يمكن تدريبهم وتوجيههم على يد من يتفوقون عليهم في هذا الصدد.
وينطوي البحث عن الفضيلة على العيش بحيث لا يلوم المرء نفسه أبدًا على الإخفاق في القيام بما يظنه الأمثل (١١ : ٤٢٢). وصف ديكارت الفضيلة بأنها «علاج فائق» للانفعالات. من الواضح أن المصطلحات الطبية مختارة عن قصد؛ ذلك لأنه يبدو أن ديكارت فكَّر في الأخلاق الشخصية باعتبارها صيانة لصحة النفس، بالضبط كالدواء لصحة البدن. وحقيقة الأمر أن ديكارت لم يعتقد وحسب أن هناك توازيًا بين الأخلاق والطب، بل وأن الأخلاق تُعوِّل على الطب. تضمنت القياسات التي فَضَّلها ديكارت للسيطرة على الانفعالات نظامًا غذائيًّا متوازنًا، وممارسة التمارين الرياضية، واستخدام العقاقير و«الماء». هناك، على سبيل المثال، خطابات متبادلة بين الأميرة إليزابيث وديكارت، من مايو ويونيو ١٦٤٥، تتناول النصح بتناول ماء الينابيع الساخنة لعلاج السعال الجاف والحمى البطيئة. واستشهد ديكارت من قبل بالحزن باعتباره سببًا للإصابة بالحمى البطيئة، وإذ صادق على علاجها بماء الينابيع الساخنة، فقد أوصى إليزابيث بالمزج بين هذا العلاج وشكل من أشكال التأمل التي من شأنها أن تزيح عن فكرها الأفكار الحزينة. وتتألف التأملات من «محاكاة الذين يقنعون أنفسهم — بالنظر إلى نضرة الشجر وألوان الزهور وطيران الطيور وما شابه ذلك من الأشياء التي لا تتطلب انتباهًا — بأنهم لا يفكرون في أي شيء.»
الأخلاق من وجهة نظر ديكارت لم تكن وحسب مسألة سيطرة على الانفعالات لدى البشر، بل توسعت لتحيط بفكرة المنفعة العامة. بصفة عامة، راسل ديكارت إليزابيث في الخامس عشر من سبتمبر عام ١٦٤٥ قائلًا إن المنفعة العامة يجب أن تتقدم على الخاصة، ودعم وجهة النظر هذه عملٌ أشبه بأطروحة ميتافيزيقية مفادها أن الكل أهم من الجزء، وأن الكون أهم من الأرض.