سماع النداء
بدا الأمر وكأنه بمحض الصدفة صار لدى ديكارت الثقة والإقدام الكافيان للمضي قدمًا في المهمة التي أخذها على عاتقه، وهي تنفيذ البرنامج البحثي الذي دشَّنه في حياته العملية. عندما ولد بمدينة تورين في شمال غرب فرنسا في الحادي والثلاثين من مارس عام ١٥٩٦، لم يكن ينتسب إلى عائلة من العلماء. صحيح أن جدَّه لأبيه ووالدَ جدِّه كانا طبيبين، غير أن أباه كان محاميًا وقاضيًا. وتبين أن جدَّه لأمه تقلد منصبًا حكوميًّا مرموقًا في مدينة بواتييه، وأن أقرباء أمه الآخرين تقلدوا مناصب قانونية حكومية. وكان أفراد عائلتَي والدَي ديكارت إما من صغار النبلاء أو على مشارف الانتماء إلى طبقة النبلاء، وكانوا أثرياء ومتعلمين تعليمًا راقيًا، ولو أنه لم تكن لديهم ميول علمية تحديدًا. ولم يكن في سنوات حياته الأولى ما يُستدل به كمؤشر على ما آلت إليه حياته المهنية.
ربما عندما بلغ العاشرة من عمره، أُرْسِلَ ديكارت الصغير إلى الكلية اليسوعية بمدينة لافليش في منطقة أنجو. ظل ديكارت في هذه الكلية لثماني سنوات، وحصل هناك على أول تدريب له في مجال العلوم. وفي العامين الأخيرين تعلم الرياضيات التي أبدى قدرات خاصة فيها، إضافة إلى الفيزياء، لكنها لم تكن الفيزياء التي تستخدم النتائج الرياضية؛ فقد تعرَّف ديكارت على النظرية المدرسية (السكولائية) للاختلاف والتغير الطبيعيين، وهي النظرية التي تفسر ملاحظات موصوفة نوعيًّا بلغة غامضة وتجريدية وغير كَميَّة.
وتجاور بين اليسوعيين في أوائل القرن السابع عشر تدريس الفيزياء المدرسية مع الوعي بالقفزات العلمية التي تحققت في علم الفلك، واستُلهمَت من اتباع منهج رياضي مختلف كل الاختلاف لدراسة الطبيعة، وانعكس ذلك على كلية لافليش. على سبيل المثال، أقيم حفل بالكلية عام ١٦١١ تقديرًا لاكتشاف جاليليو أقمار المشتري. ولعل اليسوعيين كانوا مستنيرين بما يكفي لإتاحة الأدوات البصرية المبتكرة حديثًا — والتي كانت تُباع في باريس منذ عام ١٦٠٩ — لديكارت وزملائه بالكلية. ولكن داخل الفصل الدراسي، بدا أن المذاهب المدرسية العقيمة كانت لها اليد العليا، وأنها كانت تُشعر ديكارت بالضجر، أو هكذا كتب لاحقًا. ففي مؤلفه الأشبه بالسيرة الذاتية «مقال عن المنهج»، الذي نشر عام ١٦٣٧ كمقدمة لثلاث من مقالاته العلمية، أعطى ديكارت الانطباع بأنه تحمَّلَ أيام دراسته على مضض ولم يستفد منها، فلم يساعده في أبحاثه اللاحقة سوى الرياضيات التي تعلمها في لافليش، وحتى هذا الضرب من الرياضيات دعت الضرورة إلى إعادة صياغته، على حد قول ديكارت، كي يكون ذا جدوى. ومن الواضح أنه لم ينشغل في لافليش عامي ١٦١٣ أو ١٦١٤، بل في هولندا بعدها بخمس سنوات، بالأسئلة التي حفلت بها أعماله المنشورة.
لم ترد أخبار كافية عن ديكارت خلال الفترة بين عامي ١٦١٤، عندما غادر كلية لافليش، و١٦١٨، عندما وصل إلى هولندا. لدينا دليل على أنه حصل على درجة علمية في القانون في بواتييه عام ١٦١٦ تأسِّيًا بأخيه الأكبر بيير الذي سبقه في الحصول على درجة مثيلة قبله بسنوات قلائل. ولكن بينما وَجَّهَ والدهما بيير لامتهان القانون، بدا أن القدر اختار الحياة العسكرية لرينيه؛ ففي عام ١٦١٨، انتقل إلى مدينة بريدا في هولندا، وقيد اسمه كمتطوع نبيل في جيش الأمير الهولندي موريس، أمير ناسو. وحقيقة الأمر أنه كان ضابطًا متدربًا في جيش يُعتبر أكاديمية عسكرية أيضًا لشباب النبلاء بالقارة الأوروبية.
وفي مدينة بريدا، التقى ديكارت البالغ من العمر ٢٢ عامًا آنذاك بطبيب يكبره بثماني سنوات يُدعى إيزاك بيكمان، وصارا صديقين. كان بيكمان علَّامة محيطًا بعدد كبير من التخصصات العلمية، وكان أثره على الشاب ديكارت عظيمًا. ويستدل على ذلك من خطاب يرجع لعام ١٦١٩ كتب فيه ديكارت إلى بيكمان: «إن شئت الحقيقة، دعني أقر بأنك الذي أخرجني من خمولي وجعلني أتذكر أشياء سبق أن تعلمتها وكاد النسيان يطويها، وعندما شطح عقلي بعيدًا عن الأمور الجادة، أعدتني أنت إلى جادة الطريق.» ولعله كان يعني ﺑ «الأمور الجادة» مجموعة من المسائل المعضلة في الرياضيات البحتة والتطبيقية؛ فالرسائل التي بقيت من المتبادلة بين ديكارت وبيكمان خلال تلك الفترة لا تناقش شيئًا آخر إلا قليلًا، ومن الواضح أن الواحدة منها تكمل الحوار من حيث انتهى في السابقة لها. وكانت هناك رسالة واحدة تتعلق بالعلاقات الرياضية بين النغمات الموسيقية في الأغاني لصوت واحد. وفي رسالة أخرى، أعلن ديكارت أنه عثر في غضون ستة أيام على حلول لأربع مسائل قديمة في الرياضيات. وأسَرَّ لبيكمان أيضًا أنه ينوي أن «يقدم للناس علمًا جديدًا بالكامل» لحل أية مسألة حسابية أو هندسية بطريقة قياسية أيًّا كانت طبيعتها. في تلك الفترة تحديدًا، بدأ حماس ديكارت للمسائل العلمية يتمكن منه حقًّا ويستحوذ عليه.
بدأت المراسلات بين ديكارت وبيكمان بعدما رحل الأول عن بريدا في طريقه إلى كوبنهاجن بنهاية أبريل عام ١٦١٩. وإذ كان حريصًا كل الحرص على تفادي التحركات العسكرية القائمة بسبب اندلاع حرب الثلاثين عامًا، فقد خطط ديكارت لسلوك درب غير مباشر بالمرة عبر أمستردام ودانزيج مرورًا ببولندا، وأخيرًا النمسا وبوهيميا. وكما يستدل من رسائله، عندما انطلق ديكارت في رحلته، كان منشغلًا كل الانشغال بالمسائل الرياضية، وبدلًا من أن يفقد اهتمامه مع طول رحلته، بدا وكأنه ينغمس أكثر فأكثر في تأملاته. ومن الواضح أنه عدَّلَ أيضًا مسار رحلته؛ فلمَّا لم يكن لديه الوقت الكافي للسفر عبر بولندا والمجر والنمسا وبوهيميا، وصل إلى فرانكفورت في سبتمبر ١٦١٩ بالتزامن مع تنصيب الإمبراطور فرديناند.
أنهى ديكارت رحلته في الشتاء في ألمانيا، ربما على مقربة من مدينة أولم، ولعل الأبحاث التي كان منشغلًا بها هنالك استحوذت على عقله. على أية حال، ففي العاشر من نوفمبر عام ١٦١٩، وبينما كان منعزلًا في غرفة يتم تدفئتها بواسطة موقد، يُزعم أنه رأى رؤيا في وضح النهار، وراودته ثلاثة أحلام في المساء فسَّرَها على أنها وحي مقدس لمهمته في الحياة؛ كَشْف النقاب عن علم رائع.