علم واحد ومنهج واحد
ما رآه ديكارت في رؤياه في وضح النهار لم يعرفه أحد، ووصْفُه لأحلامه التي راودته في مذكراته الخاصة مكتوب بأسلوب منمق جدًّا، وعلى هيئة جمل مبتورة لدرجة يستحيل معها أي تفسير موثوق. ورغم ذلك، من المرجح أن الفكرة التي بدأت تتجلى له هي توحيد قائمة طويلة من العلوم التي كانت تُعَد من قبل علومًا منفصلة تحت لواء الرياضيات. وتتضمن تلك القائمة أربعة فروع علمية كانت تصنف عادةً تحت مسمى «العلوم الأربعة»؛ وهي الحساب والهندسة والموسيقى والفلك، علاوة على البصريات والميكانيكا وبعض الفروع الأخرى.
ويشير عدد من المصادر المختلفة أن ديكارت — بعد أن غادر بريدا — صار أكثر نزوعًا لاحتمالية وجود علم جامع أو منهج جامع للكشف العلمي. ولمَّا راسل ديكارت بيكمان من أمستردام في أبريل ١٦١٩ قال إنه التقى علَّامة كبيرًا زعم أن لديه القدرة على توظيف طريقة مستخلصة من كتاب «الفن الصغير»، لمؤلفه ريموند لول، ببراعة منقطعة النظير، لدرجة تجعله قادرًا على مناقشة أي موضوع على الإطلاق لمدة ساعة كاملة دون توقف. كان لول كاتبًا في القرن الثالث عشر الميلادي يتناول العلم الكلِّي. وحمل ديكارت هذا الزعم على محمل الجد لدرجة أنه طلب من بيكمان أن ينظر في المسألة، ويخبره ما إذا كان كتاب لول مميزًا بحق. كان ديكارت قد كتب بنفسه لبيكمان عن رؤياه الخاصة بعلم قادر على توحيد الجبر والهندسة، ولعل هذا جعله ميالًا لفكرة منهج مناسب لتحقيق اكتشافات جديدة في أي موضوع، أو بالأحرى فيما يتعلق بأي موضوع.
بحث ديكارت عن منهج شامل يتجاوز لول، فنراه لفترة يتأمل مذهب جماعة الصليب الوردي التي زُعم أنها مصدر لضرب من الفهم الإجمالي للأمور. وخلال الفترة التي عاشها ديكارت بالقرب من مدينة أولم، التقى رياضيًّا يدعى يوهان فاولهابر عُرف عنه أنه محسوب على جماعة الصليب الوردي، وربما أطلع ديكارت على شيء يتعلق بالمعتقدات السرية لجماعته. في السنوات التالية، ولكي ينفي اتهام انتسابه هو شخصيًّا إلى تلك الأخوية الخارجة على القانون، قال ديكارت إنه لم يجد شيئًا مؤكدًا في عقائد تلك الجماعة، ولكن إن كان قد تبرأ منهم، فلم يكن ذلك فور لقائه بفاولهابر مباشرة. تتحدث شذرات من مفكرة له احتفظ بها بعدما رحل عن ألمانيا عن عمل له اعتزم أن يرسي أساسًا لما أسماه «سبل حل جميع الصعوبات في علم الرياضيات … سيتم تقديم هذا العمل للمثقفين في شتى أرجاء العالم، وخاصة إلى الإخوة الأجلاء المحسوبين على جماعة الصليب الوردي في ألمانيا» (١٠ : ٢١٤).
تواصل المفكرة التي اقتُبس منها الاقتباس أعلاه الحديث عن الوَحدة الكامنة في العلوم: «لو استطعنا أن نرى كيف ترتبط العلوم ببعضها فلن يكون استبقاؤها في عقولنا أصعب من مجموعة أرقام بسيطة» (١٠ : ٢١٥). ولا يتضح على وجه التحديد إن كانت تلك الفكرة جالت بخاطره في شتاء عام ١٦١٩ أم لا، لكن ثمة اعتبارات وثيقة الصلة — عن الترتيب الذي يجب دراسة العلوم به — من الواضح أنها خطرت له من قبل، إذا صدقنا الرواية التي يرويها في مُؤَلَّفِه «مقال عن المنهج».
يقدم لنا الجزء الثاني من مؤَلَّف ديكارت «مقال عن المنهج» تقريرًا عن تأملات ديكارت في غرفته ذات الموقد للتدفئة. ومن المفترض أنه شرع بالتأمل في فكرة أن الأدوات تكون أقل جودة إن صنعها عدد كبير من الأشخاص مما لو صُنعت على يد شخص واحد وحسب، بل وستكون أسوأ لو صنعت بارتجال مما لو صُنعت استنادًا إلى خطة شاملة. ومع ذلك، فمن الأفضل أحيانًا ألا نحاول من الصفر إعادة صُنْع شيء ما صُنِعَ بطريقة تفتقر للنظام. وكما لا يستطيع أحد أن يحلم بهدم «كل» البيوت في مدينة عشوائيَّة واستبدال بيوت أخرى بها لمجرد إنجاز عمل أكثر جاذبية، على حد قول ديكارت؛ فإنه «من غير المنطقي … أن يضع المرء خططًا لتصحيح مسار العلوم أو نظام تعليمها الراسخ في المدارس» (٦ : ١٣). على الجانب الآخر، من الممكن أن يكون من المنطقي أن يهدم الإنسان بيته ويعيد بناءه، ومن المنطلق نفسه قد يكون من المنطقي أن ينطبق ذلك أيضًا على تصحيح المرء مسار ما تعلمه — رفض كل ما يداخله الشك في معتقداتنا المكتسبة — دون المساس بمحتوى العلوم ونظام تدريسها الراسخ. من بين أوائل النتائج التي توصل إليها ديكارت، بحسب مُؤَلَّفه «مقال عن المنهج»، أنه لا ضير من التخلص من جميع آرائه والبحث عن شيء أفضل يحل محلها طالما أنه ابتكر مقدمًا «منهجًا» لإيجاد بدائل (٦ : ١٧).
كان ديكارت يبحث عن منهج يتمتع بجميع المميزات دون أن يشوبه أي من أوجه القصور التي تشوب الإجراءات المتبعة في المنطق والجبر والهندسة، وزعم في مؤلَّفه «مقال عن المنهج» أنه عثر على ذلك المنهج ونجح في تطبيقه إلى حد ما بنجاح. يقول: «في الواقع، يسعني القول إنني بالاتباع الدقيق للقواعد القليلة التي وقع اختياري عليها، صرت بارعًا جدًّا في حل جميع المسائل التي تنتمي إلى (التحليل الهندسي والجبر)» (٦ : ٢٠). وبعدها بقليل يقول ديكارت: «وبما أنني لم أحصر المنهج في موضوع بعينه، عقدت الآمال على تطبيقه بنجاح على مسائل العلوم الأخرى كما نجحت في تطبيقه على الجبر» (٦ : ٢١). وهذا التصريح أقرب ما يكون إلى زعم ديكارت في مؤلَّفه «مقال عن المنهج» بأنه — عندما كان في ألمانيا — عثر على منهج شامل ينطبق مبدئيًّا على جميع المسائل العلمية، لكنه لم يتطرق إلى أن المنهج يناسب بالفعل العلوم الأخرى، بل صرح بأنه فكَّر أنه طالما أن مبادئ العلوم الأخرى تعول كلها على الفلسفة، التي لم يجد فيها أي شيء مؤكد، فعليه أولًا أن يثبت وجود يقينات في هذا المجال. علاوة على ذلك، أدرك أنه لا داعي لإنجاز هذه المهمة قبل الأوان: «ارتأى لي أنني لا ينبغي أن أحاول إنجاز هذه المهمة حتى أصل إلى عمر أكثر نضجًا من سنوات عمري الثلاث والعشرين، وحتى أمضي فترة طويلة في تأهيل نفسي لها» (٦ : ٢٢). وكما سيتضح لنا، استمرت فترة «الإعداد» لديكارت تسع سنوات، فلم يبادر بإثبات «المبادئ اليقينية» التي عدَّها ضرورية لحل المسائل في العلوم الأخرى سوى عام ١٦٢٨.