التجول حول العالم
لتسع سنوات منذ أن رأى ديكارت رؤياه في ألمانيا، بحسب ما جاء في مؤلفه «مقال عن المنهج»، «لم يفعل شيئًا سوى التجول في العالم …» (٦ : ٢٨). كانت تلك الفترة حافلة في المقام الأول بالأسفار خارج فرنسا؛ فقد كان من المفترض أن يساعده التعرض للتقاليد والمعتقدات الأجنبية على أن ينأى بنفسه عن أي تحيزات وأخطاء اكتسبها في شبابه. وكان يهدف إلى اكتساب الخبرات، والوصول إلى النضج الضروري «لأهم مهمة على الإطلاق»؛ ألا وهي الكشف عن المبادئ اليقينية في مجال الفلسفة، أو على الأقل هكذا يصف «مقال عن المنهج» رحلات ديكارت في سياق تطوره الفكري.
ولا يأتي مؤلفه «مقال عن المنهج» على ذكر شيء بخصوص وجهة ديكارت في أسفاره، أو الأحداث التي شهدها خلال الطريق؛ فهو لا يتبنى هذا الضرب من السير الذاتية، فهو أقرب ما يكون إلى وصف لهيكل العلوم على هيئة قصة تطور رجل عن طريق تعليم الذات، منه إلى سرد لأحداث وقعت في حياة مؤلِّفِه. وكما رأينا، يبدأ ديكارت القصة بذكر عدم رضاه عن التعليم المدرسي الذي يتلقاه، واكتشافه لمنهج من شأنه تصحيح جميع الأخطاء التي تشوب هذا التعليم. ويواصل ديكارت وصفه كيف طبَّق لأول مرة المنهج محققًا نجاحات لا بأس بها في مجال الرياضيات، وكيف — قبل أن يمضي قدمًا — اكتشف أنه يجب أن يعرج على الفلسفة، الأمر الذي دعاه إلى اكتساب المزيد من الخبرات. تم تناول هذا في جزأين من أجزاء الكتاب الستة. وفي أجزاء لاحقة، يصف ديكارت ما حدث عندما صار أخيرًا على استعداد للخوض في مجال الفلسفة؛ فقد نجح في العثور على المبادئ التي كان يبحث عنها، وواصل عمله بتطبيق المنهج على العلوم الأخرى؛ كالفيزياء والميكانيكا، وأخيرًا العلوم الإنسانية.
على الرغم من أن «مقال عن المنهج» في ظاهره يسرد الأشياء بترتيب زمني، فإن النمط الحقيقي في رواية ديكارت هو في الواقع ترتيب مثالي لتلقين أي شخص العلوم. فيوجد أولًا «المنطق»، الذي يتخذ هيئة المبادئ الأربعة للمنهج الجديد، ومن بعده الرياضيات، تليها الفلسفة، ثم الفيزياء، فالميكانيكا، والطب، والأخلاق. ويناسب ذكر ديكارت لأسفاره منطق هذه القصة لا من منطلق كونها تقريرًا عن الأحداث التي وقعت خلال الفترة من ١٦١٩ إلى ١٦٢٨، بل انطلاقًا من كونها محاولة للتدليل على الحدود التي سعى في إطارها ديكارت لتطبيق المنهج الذي اختاره لتصحيح معتقداته السالفة. لقد رأينا بالفعل في مؤلفه «مقال عن المنهج» أن الإجراء الذي اتبعه يقضي برفض أي شيء يداخله أدنى شك في تعلمه. وكان هذا الأسلوب عرضة لسوء الفهم. وإذ كان حريصًا على تبديد أي انطباع بأنه خلال محاولته التخلص من تحيزاته كان يسير ببساطة على درب الفلاسفة المتشككين، ويتبنى موقف الشك المدمر الذي «لا» يترك معتقدًا على حاله، والذي من شأنه شل حركته في الشئون العملية، يشرح ديكارت في مؤلفه «مقال عن المنهج» كيف عاش في الوقت نفسه حياة المسافر النشط، وهدم أفكاره السابقة. استطاع ديكارت أن يحقق المعادلة الصعبة ويفعل الأمرَيْن معًا؛ لأنه استثنى، من فترة تعليمه الذاتي المدمرة، مسلمات ميثاق أخلاقي مؤقت، وأركان عقيدته، وإيمانه بالامتثال لقوانين وعادات بلده؛ فقد كان بحاجة للتمسك بكل هذه الأشياء حتى يتسنى له أن يتصرف بفاعلية في الوقت نفسه الذي ينخرط فيه في استقصائه الذاتي العميق.
شَبَّه ديكارت ميثاقه الأخلاقي المؤقت وعقيدته بالملجأ المؤقت الذي يحتاج المرء أن يلوذ إليه خلال الفترة التي يجري فيها هدم بيته وإعادة بنائه (٦ : ٢٢). ويجب أن نأخذ ذلك التشبيه على محمل الجد إن أردنا ألا ننبذ مشروع ديكارت لنقد معتقداته، بحجة أنه يفتقر للحماس والهمة. إن الملاجئ المؤقتة هي الأشياء التي يمكن تدميرها، أو على الأقل هجرها فور أن يقيم المرء بيته الدائم: وكان الميثاق الأخلاقي المقنن بشدة لديكارت بالمثل عرضة لإعادة النظر والنقد، بل وحتى الرفض فور إقامة الهيكل الرئيسي للعلوم. وبالنسبة لحقائق العقيدة، فستعامل هذه الحقائق «في البداية» بيقين على أن يجري إثباتها لاحقًا أثناء وضعه للمبادئ اليقينية في الفلسفة. ولكن بدايةً، وبحسب ما جاء في «مقال عن المنهج»، فقد قبل ديكارت أخلاقياته وعقيدته دون نقد، وطفق يفكك آراءه الأخرى.
«ولمَّا توقعت أنني سأكون قادرًا على إنجاز ذلك بسرعة أكبر بالتحاور مع الآخرين مما لو قبعت في غرفتي ذات الموقد حيث جالت بخاطري كل هذه الأفكار، شرعت في أسفاري مرة أخرى في نهاية فصل الشتاء [شتاء ١٦١٩-١٦٢٠]» (٦ : ٢٨). قام ديكارت بعدد من الرحلات خلال السنوات التسع التالية، لكنها لم تكن فترة ترحال وحسب بأي حال من الأحوال، بحسب ما جاء في مؤلفه «مقال عن المنهج». وحتى استقر لبعض الوقت في باريس، بين عامي ١٦٢٦ و١٦٢٨، ليس من الواضح أنه أخضع أفكاره للاختبار فعلًا عن طريق «التحاور مع الآخرين». على أية حال، من الصعب أن نحدد كيف آمن ديكارت بأن التحاور سيساعده على تصحيح أفكاره إذا كان يؤمن أيضًا بأن الآخرين ما هم إلا أبواق لتعليم لا يقل إثارة للشكوك عن تعليمه الشخصي. علاوة على ذلك، فهو يصف دائمًا عملية استبعاد الأخطاء باعتبارها حكرًا عليه وحده. وهذا يُطرح السؤال: لماذا لم تكن الإقامة في غرفته ذات الموقد مناسبة لأغراضه بنفس قدر العودة للمجتمع؟ في نهاية المطاف، يجب على المرء أن يتعاطى مع مزاعمه العديدة الواردة في «مقال عن المنهج» عن الأشياء التي قام بها، ومرات قيامه بها، وأسبابه للقيام بها، مثلما يتعاطى مع المزاعم المتضمنة في أية قصة خيالية؛ فقد قدم ديكارت كتابه لقرائه على أية حال باعتباره قصة خيالية (٦ : ٤).
ولعله «لم» يغادر الغرفة ذات الموقد وفي ذهنه خطة لتأجيل أبحاثه في مجال العلوم. ورغم أن كتابه «مقال عن المنهج» يفيد بأنه حدد مهمة في مجال الفلسفة كان بحاجة إلى إنجازها قبل أن يتمكن من تطبيق منهجه خارج نطاق الجبر والهندسة، فليس من الواضح أنه أجَّلَ حقًّا تطبيق منهجه، أو أنه حدد لنفسه أي مشروع في الفلسفة. فمن المحتمل أن الحاجة لاستقصاءات ميتافيزيقية لم تتضح له إلا في باريس، بعد أن رحل عن ألمانيا بست أو سبع سنوات. أما بالنسبة لتأجيل تطبيق منهجه خارج إطار الرياضيات البحتة، فتوحي المفكرة الوحيدة التي وصلت لنا عن تلك الفترة بأن المنهج كان قيد التطبيق بالفعل عام ١٦٢٠ في أعمال ديكارت عن مبادئ صنع عدسات تليسكوبية. ومرة أخرى، من المعروف أن ديكارت كان يطارده في شبابه خوفٌ من أن توافيه المنية قبل أن يكمل مشروع حياته. ومن المنطقي أن نفترض أن هذا الخوف جعله يتعجل لا يتلكأ. وحقيقة أنه لم ينتج سوى عمل مبتور على مدار تسع سنوات من المرجح أن يكون مردها إلى المحاولة والفشل في استكمال شيء ما، لا إلى سياسة متعمدة للانتظار لحين نضج أفكاره.
ليست لدينا معلومات كافية ومؤكدة عن أسفاره بعد شتاء عام ١٦١٩-١٦٢٠ المحوري في حياته. ولعله واصل خدمته العسكرية كمتطوع وسافر لفترة من الوقت بصحبة جيش دوق بافاريا، وربما انتقل إلى جيش آخر عام ١٦٢١، وعرج على سيليزيا وبولندا. تسرد مفكرته الخاصة بتلك الفترة واقعة درامية حدثت خلال رحلة فرعية قام بها ديكارت وخادمه إلى جزر فريزيا؛ حيث تواطأ البحارة الذين استأجر قاربهم على سرقة أمواله وقتله، لكن ديكارت سمع مؤامرتهم واستل سيفه وهدد بقتلهم إذا حاولوا إلحاق أي ضرر به، فتراجع مهاجموه عن كيدهم.
وفي عام ١٦٢٢، عاد ديكارت إلى فرنسا حيث أمضى بعض الوقت في باريس، وبصحبة معارفه في بريتاني. ويسجل خطاب بتاريخ مايو ١٦٢٢ بيع الكثير من العقارات في هذا العام التي تركها له أبوه. ووفرت عليه أرباح استثمار تلك الأموال عناء البحث عن عمل لكسب العيش. وفي مارس ١٦٢٣، انطلق إلى إيطاليا حيث تجول لأكثر من عامين، ومن أولى وجهاته التي قصدها مزار البيت المقدس بلوريتو. لقد أقسم ديكارت أن يذهب إلى هذا المكان تقديرًا للرؤيا التي رآها عام ١٦١٩. ولاحقًا زار روما وفلورنسا، ومنها عائدًا إلى فرنسا، ربما في مايو عام ١٦٢٥، عن طريق جبال الألب. ويزعم أنه في طريق عودته سنحت له الفرصة أن يشتري رتبة فريق شاتيليرو، لكن سعرها أذهله فرفض المسألة برمتها. وفي العام التالي، ١٦٢٦، استقر في باريس، وباستثناء بعض الرحلات للريف، ظل في باريس ثلاث سنوات.