كتاب «العالم» ونظرية ديكارت الفيزيائية
سريعًا بعد أن رجع ديكارت إلى الدولة التي شهدت أول شرارة فكرية له عام ١٦١٨، ربما شعر بثقل توقعات الآخرين لما ستسفر عنه جهوده. لم يكن بيرول وحده الذي انبهر بموهبته، بل هناك كثيرون أيضًا غيره في باريس، كانوا حينها بانتظار ما سيتفتق عنه ذهنه. كان ديكارت قد بدأ عمله وألف بعض الأطروحات في باريس دون أن يتمها (قارن: ١ : ١٣٥)؛ والآن شرع في تأليف كتاب قصير ظن أنه لن يأخذ منه سوى عدة أشهر.
وأخذ ديكارت احتياطات مكثفة ضد أية مقاطعات؛ حيث عكف على بناء منزله حتى سبتمبر عام ١٦٢٩ في أقصى شمال هولندا على مقربة من مدينة فرانيكر. وهناك، بحسب ما ورد في خطاب كتبه في نوفمبر ١٦٣٠ لميرسين (١ : ١٧٧)، بدأ «أطروحة صغيرة عن الميتافيزيقا … شرعت فيها أساسًا لإثبات وجود الرب، وأرواحنا عندما تكون منفصلة عن الأجساد، الأمر الذي يترتب عليه خلودها.» وكان مصير الأطروحة الميتافيزيقية الصغيرة مصير الكثير من المؤلفات السابقة له التي لم تُستكمل قط. ولفترة من الوقت، وتحديدًا في مايو ١٦٣٠، بدا أن ديكارت كان يبحث فكرة جمع ما ألَّفه في رد على «كتاب خبيث» ربما كان يدعو للإلحاد، كان ميرسين قد ذكره له في مراسلاته، لكن هذه الخطة أيضًا طواها النسيان.
ثمة مشروع آخر شرع فيه ديكارت بعد وصوله إلى هولندا بفترة وجيزة كان سيغنيه عن الحاجة إلى الكتابة لأغراض النشر، لكنه اعتمد على التعاون مع صانع الأدوات البصرية الباريسي جان فيرييه. حاول ديكارت جاهدًا أن يغري فيرييه بزيارة هولندا؛ حيث أرسل إليه مواصفات لآلة مثيرة صممها لقطع العدسات التليسكوبية. لو كانت تلك الآلة وعدساتها قد أنتجت، لربما ذاع صيت ديكارت مبكرًا، لكن فيرييه لم يقتنع بالانتقال إلى هولندا، وطُرحت فكرة تصنيع الآلة جانبًا.
كان المشروع الثالث الذي شرع ديكارت فيه أكثر طموحًا. فمن أوجه عدة، شغله هذا المشروع حتى الممات. منذ عام ١٦٢٩، انكب ديكارت على أطروحة واسعة النطاق من شأنها رسم الخطوط العريضة لتفسير موحَّد للظواهر الطبيعية كافة. ولم تُنشر هذه الأطروحة إلا بعد وفاة ديكارت. وكان الجزء الأول منها تحت عنوان «العالم أو كتاب النور»، والجزء الثاني بعنوان «كتاب الإنسان». بينما كان ديكارت على قيد الحياة، كانت النظريات في مجال الفيزياء التي توضع على غرار ما جاء في الجزء الأول من أطروحته الطويلة محظورة بأمر الكنيسة. ولقد أدى قراره بسحب هذا الجزء إلى امتناعه عن استكمال «كتاب الإنسان» أيضًا، لكنه لم يتخلَّ قط عن مشروعه الثالث. إن الفترة التي لم يُمضِها ديكارت من حياته العملية في كتابة أطروحته واسعة النطاق قضاها في التأكد من أنه لا ضرر من نشر نسخة مُنَقَّحة من الفيزياء التي تحتوي عليها.
وعندما شرع ديكارت في كتابة كتابه «العالم» في عام ١٦٣٠، لم يظن أنه سيأخذ فترة طويلة لوضع الخطوط العريضة لنظريته الخاصة بالطبيعة؛ فقد خطط لتجهيز الأطروحة وإعدادها للعرض على ميرسين في أوائل عام ١٦٣٣، لكنه لم يكملها في الوقت المحدد؛ حيث كان لا يزال يُعَدِّل فيها في يوليو ١٦٣٣. والأدهى أنها عندما كانت جاهزة للطبع، سمع ديكارت أن محكمة التفتيش في روما أدانت جاليليو لتدريس (في مؤلفه «حوار حول النظامين الأساسيين للعالم») مبدأ حركة الأرض. احتوت أطروحة «العالم» على «فرضية» عن حركة الأرض لم يكن من السهل تنقيحها دون إفساد بقية الكتاب. وإذ تملكه الخوف من أن يلقى مصير جاليليو، راسل ديكارت ميرسين عام ١٦٣٤ قائلًا ما معناه إنه لن ينشر أطروحته.
أعاد ديكارت الروح لمؤلَّفه «العالم» بعد ذلك. فالجزء الخامس بأكمله من «مقال عن المنهج» يتناول وصفًا لهذا المُؤَلَّف وعمله المصاحب له «كتاب الإنسان». وكان ديكارت فيما بعدُ يعتزم تضمين مادة إضافية من «العالم» في مؤلفه «مبادئ الفلسفة».
يتضح من نسخة النص الأصلي الذي بقي دون مساس ونُشر بعد وفاة ديكارت، أنه في كتابه «العالم» امتنع عن تأكيد مبدأ حركة الأرض. ولقد ساعده في ذلك الشكل الأدبي للأطروحة. وكما هو الحال في كتابه «مقال عن المنهج» الذي خرج للنور بعد قراره بعدم نشر أطروحة «العالم» بثلاث سنوات، زعم ديكارت أنه يقص قصة خيالية وحسب؛ قصة عن طبيعة عالم خيالي، ولو أنه كان مطابقًا من جميع الأوجه للعالم المادي الحقيقي.
يقدم لنا الفصلان السادس والسابع من كتابه «العالم» وصفًا لهذا العالم الخيالي والقوانين التي تحكمه، ويدعو ديكارت قراءه في البداية إلى النظر للعالم كما لو كان من نقطة ما في فضاء أو خلاء خيالي يمتد بعيدًا في جميع الاتجاهات، كالمحيط عندما ننظر إليه من نقطة ما فيه بعيدة جدًّا عن اليابسة. وبعد ذلك، على المرء أن يتخيل الرب وهو يخلق نوعًا مجهولًا من المادة التي تملأ كل ركن من أركان الفضاء. لقد كانت فكرة العالم الممتلئ عن آخره واضحة جدًّا في فيزياء ديكارت. وكان ديكارت يعلم أن هذه الفكرة تصطدم بالعلم التقليدي، وتتعارض مع المنطق السليم؛ فقد أدت به، على سبيل المثال، إلى افتراض وجود مادة دقيقة في أي جزء من الفضاء لا تحتوي على شيء مرئي أو محسوس يمكن إدراكه بالحواس. ورغم ذلك، ظن ديكارت أنه من الأسهل تبني فرضية الشكل غير المحسوس للمادة على التأكيد على مبدأ عدم قبول الطبيعة لوجود الفراغ، الذي دعت الحاجة إلى استدعائه لتفسير ظواهر بعينها في حالة رفض فكرة العالم الممتلئ بالكامل. من المفترض أن تشغل المادة كل الفضاء، وأن تكون أجزاؤها في حالة حركة دائمة. والحركة في أي جزء من العالم تعني تبادل أجزاء المادة الأماكن لحظيًّا في هذا الجزء من العالم. وظن ديكارت أنه في هذه التبادلات اللحظية، تتحرك المادة في شكل دوائر أو حلقات. والفكرة أن الجسم المتحرك لن يدفع كل المواد الأخرى بعيدًا، بل سيدفعها فقط بقدر حاجته لملء الفراغ الذي تركته، واستكمال المسار الدائري بداية من موضع الجسم المتحرك الأصلي. في كتابه «العالم»، شبَّه ديكارت تلك الحركة الدائرية بحركة سمكة تسبح في أعماق بركة: تحل حركة زعنفة السمكة محل المياه المحيطة بها، لا كل المياه الموجودة في البركة. وتملأ المياه المزاحة الفراغ الذي كانت السمكة تخليه باستمرار.
التراب أو النار أو الهواء أو أي شكل آخر أكثر تحديدًا كالخشب أو الحجر أو المعدن. ولنفترض أيضًا أنه يفتقر إلى خصائص السخونة أو البرودة أو الجفاف أو الرطوبة، أو الخفة أو الثقل، أو أن يكون له مذاق أو رائحة أو صوت أو لون أو إشعاع أو غير ذلك من الخصائص التي يمكن القول بأن في طبيعتها شيء لا يميزه أحد بوضوح.
في استثنائه لكل هذه الأشياء، يعتمد ديكارت على حجج يفتتح بها كتابه «العالم»، وهي مصممة بحيث تثبت أن الكثير من الغموض يحيط بالأفكار البديهية حيال الأشكال والخصائص والأفكار المدرسية المرتبطة بها.
بعد أن صرح ديكارت بالسمات أو الأشكال غير الموجودة في طبيعة المادة في عالمه الخيالي، حدد السمات أو الأشكال الموجودة فيها. فمن «الممكن تقسيمها إلى أكبر عدد ممكن من الأشكال التي يمكننا تخيلها، و… كلٍّ من أجزائها قادر على إتيان أكبر عدد من الحركات التي يمكننا تصورها» (١١ : ٣٤). يطلب ديكارت من قرائه أن يفترضوا معه أن المادة التي يصفها ليست قادرة وحسب على الانقسام والتمايز، بل وأن الرب هو الذي يُقسِّمها، وأن أي اختلافات يخلقها فيها تتألف من «تنوع الحركات التي يخلعها على أجزائها»؛ أي التنوع من حيث السرعة واتجاه الحركة في الأجزاء.
ويواصل ديكارت حديثه فيصف «قوانين الطبيعة» الثلاثة التي يجب أن تتصرف المادة بناءً عليها، بحيث يكون لها طول وعرض وعمق وأجزاء ذات أشكال محددة، تتحرك بسرعات مختلفة. وينص القانون الأول على أنه ما لم يحدث اصطدام بجزء آخر، فإن كل جزء من أجزاء المادة يظل على شكله وحجمه وحركته، أو خلاف ذلك من السمات التي يتمتع بها أصلًا (١١ : ٣٨). وينص القانون الثاني على أن جزءًا واحدًا من المادة يمكن أن يكتسب حركة بفعل الاصطدام بنفس القدر الذي يمكن أن يفقده الجزء المصطدم به (١١ : ٤١). وينص القانون الثالث على أن حركة أي جسم متحرك «تميل» إلى أن تكون مستقيمة، حتى ولو كانت في واقع الأمر دائرية أو منحنية بفعل الاصطدام (١١ : ٤٣). وحسب كتاب «العالم»، لا يجب نسبة أية خصائص بخلاف التمدد المكاني والحركة إلى المادة لتفسير الظواهر الملحوظة في عالم الجمادات؛ ولا يجب تحديد أي قوانين أخرى إضافة إلى القوانين الثلاثة الأساسية لوصف الآثار الأكثر عمومية في الطبيعة: ألا وهي انقسام المادة وتشوهها وتراكمها عبر الاصطدام وزيادة الحركة أو نقصانها (قارن: ١١ : ٤٧).
ورغم أن ديكارت نسَبَ التمدد والحركة إلى المادة، فالتمدد وحده — المخطط المكاني ثلاثي الأبعاد — كان من المفترض أن يكون محوريًّا، لكنه لم يقل قط إن المادة يجب أن يكون لها أجزاء متحركة، بل زعم أنه إذا كان للمادة أجزاء متمايزة بالحركة، فلا بد أن نتوقع الآثار الطبيعية التي نلاحظها فعليًّا. وتحديدًا، زعم ديكارت أنه إذا كانت أجزاء المادة الموجودة في فضاء خالٍ من الفراغ تتمايز بتنويعات من الحركة الدائرية (قارن: ١١ : ١٩)، فإن الآثار ستبدو على هيئتها التي نلاحظها بها. ولقد درس ديكارت الظواهر الفلكية، كمسارات الكواكب وسرعاتها، وانتهى إلى أنها تتحرك حركة دائرية على غرار حركة الدوامة في المادة السماوية؛ ولذلك أطيح بالكواكب في دوامة تدور حول الشمس. وإذا اقتربنا أكثر، سنجد أن ثمة دوامة أخرى ألقت بالقمر في مساره حول الأرض. وفسرت حركة دوامة الأرض علة عدم الإطاحة بالأشياء الموجودة على سطح الأرض أثناء دوران الأرض: فالحركة الدوامية ستجعل كل الأشياء الموجودة على السطح تنجذب إلى مركز الدوامة «مركز الأرض». وبالمثل، فبدلًا من أن يطاح بالكواكب في الفضاء بفعل حركتها حول الشمس، فهي تنجذب ناحية مركز دوامتها.
لقد كانت هذه الأطروحات عن حركة الكواكب هي التي خشي ديكارت أن تصطدم بمحكمة التفتيش في روما؛ فالمبدأ الوحيد الذي كان مقبولًا آنذاك للتدريس من قبل الكنيسة هو الذي ورثه الفلاسفة المدرسيون من أرسطو. وأفاد هذا المبدأ بأن الأرض هي المركز الثابت للقبة الزرقاء. احتوى مؤلَّفه «العالم» على مزاعم أخرى أيضًا لم تكن لترضي المسئولين بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية؛ فقد نصت، على سبيل المثال، أنه فور أن خلع الرب على المادة حركاتها الأصلية، لم يتدخل بأي حال من الأحوال في مسار عمل الطبيعة، وسيحافظ على عملياتها بواسطة القوانين الثلاثة للطبيعة وحسب. وبتعبير آخر، لن تكون هناك أية معجزات تعرقل مسار الطبيعة (١١ : ٤٨). وأمر كهذا كان من الممكن أن يعطي النقاد سببًا كافيًا لإدانة صاحبه بالكفر.
كان على ديكارت كي يجعل فيزياءه مقبولة إما أن ينقحها بطريقة ترضي الكنيسة، أو أن يخفي نتائجها، أو أن يقيم المذهب بأسره على مبادئ لا يتسنى لأعتى نقاده الكنسيين معارضتها. في نهاية المطاف، وفي مؤلَّفيه «تأملات في الفلسفة الأولى» و«مبادئ الفلسفة»، تبنى ديكارت الخيار الثالث. وحاول أن يثبت أن المعرفة العلمية للعالم المادي تعتمد على وجود عقل أو روح متمايزة عن الجسم، عقل أو روح عرفت الرب قبل أن تعي مبادئ الفيزياء السليمة. ولكن بعد فترة قصيرة، لجأ ديكارت إلى التصريح الانتقائي بمحتويات مؤلفه «العالم» وبوصف دالٍّ، وإن كان غير كامل، لمنهجه العلمي.