ثلاثة نماذج للمنهج
فور أن استقر رأيه على ألا ينشر أبحاثه الفيزيائية، تعين على ديكارت أن ينحي جانبًا «كتاب الإنسان» الذي كان ينوي أن يكون مُتمِّمًا لمؤلفه «العالم». وكان يناقش طبيعة البشر، أو نظراء البشر على كوكب الأرض الخيالي الذي وصفه في أطروحته الفيزيائية. وكانت خطة الكتاب بسيطة؛ خطط ديكارت أن يصف أولًا «الجسد [البشري] وحده، ثم الروح وحدها، وأخيرًا كيف يمكن أن تمتزج الطبيعتان وتتحدان لتشكيل الإنسان الذي سيُشْبِهُنا» (١١ : ١٢٠).
كانت أجزاء من وصف «الجسد وحده» مستندة إلى أطروحة في علم البصريات عمل عليها ديكارت منذ عام ١٦٣٠. فقد نفض الغبار عن تلك المادة، وربما توسع فيها؛ فبحلول عام ١٦٣٥، صاغها في شكل مقال والذي نُشر تحت عنوان «مبحث انكسار الضوء». وأعد ديكارت مقالًا آخر، خطط له منذ عام ١٦٢٩، يناقش بين أمور أخرى «أسباب هبوب الرياح ودوي الرعد» و«ألوان قوس قزح» (قارن: ١ : ٣٣٨ والصفحات التالية). وكان المقال تحت عنوان «الظواهر الطبيعية». اعتزم ديكارت نشر المقالين باعتبارهما نموذجين لمنهجه. وسيقدم «مقال عن المنهج» — المؤلَّف سالف الذكر والأقرب ما يكون للسير الذاتية — المنهج نفسه وتطبيقاته في المقالين. وبينما كان مقاله «الظواهر الطبيعية» لدى دار النشر، ربما في أواخر عام ١٦٣٦، كان ديكارت من المفترض أن يكون قد انتهى من تأليف مقاله «الهندسة» كمثال ثالث على المنهج. وكان «مقال عن المنهج» آخر ما كتب ديكارت. وجُمعت المؤلفات الأربعة ونشرت في عمل واحد عام ١٦٣٧.
حل الشكل الأدبي لمؤلف ديكارت «مقال عن المنهج» كثيرًا من المشكلات التي حالت بين ديكارت ونشر أعماله في السابق؛ فقد وجد صعوبة في كتابة أعمال ضخمة: ذلَّل الشكل المختار المزج بين عدد من الأعمال الأقل حجمًا في ضرب من الألبومات أو الملفات التي تحوي أفضل نتائج ديكارت. لم يكن ديكارت على استعداد للمخاطرة بالإساءة إلى الكنيسة. فقد سمحت له خطة إماطة اللثام عن نماذج متنوعة من أعماله بالترويج لمنهجه دون أن يكشف عن تطبيقاته المثيرة للجدل فيما يتعلق بحركة الكواكب. وأخيرًا، علم ديكارت أن المعجبين بأعماله في باريس توقعوا أن يُخرجَ عملًا شهدوا لمحات منه في عشرينيات القرن السابع عشر؛ فلم يخيب أملهم بالمقالات التي أنتجها عن البصريات والهندسة وعلم الأرصاد الجوية. تعاون ديكارت مع ميدروج وميرسين في باريس في دراسة انكسار الضوء، ومضى ديكارت قُدُمًا مُحقِّقًا نتائج مثمرة في هذا المجال في مقاله «مبحث انكسار الضوء». وورد في هذا المقال أيضًا ذكر الآلة المستخدمة في قطع العدسات التليسكوبية، والتي وصفها ديكارت في رسائله إلى فيرييه. وجاء تفصيل المسائل في مجال الهندسة في مقاله «الهندسة»، والتي عرض ديكارت حلولها سرًّا على ميدروج وهاردي في باريس. وأخيرًا، أعلن ديكارت في مقاله «الظواهر الطبيعية» على الملأ فرضيات من الواضح أنه صاغها قبل أن يشرع في وضع كتابه «العالم»، ربما بينما كان في باريس.
ويوضح خطاب بتاريخ فبراير ١٦٣٧ (١ : ٣٤٧) أن ميرسين حثَّ ديكارت على نشر أفكاره في الفيزياء مع مؤلفه «مقال عن المنهج» أيضًا؛ خشية أن يظل العامة في حالة ترقب للمزيد من أعماله إلى الأبد، لكن ديكارت رفض اقتراحه بلطف؛ فهو لم يقنط من فكرة نشر أفكاره في الفيزياء، لكنه أراد أن يكون المناخ الفكري مواتيًا للنشر، وظن أن مؤلفه «مقال عن المنهج» سيساعد على خلق الظروف المناسبة. في رسالة تفسيرية ملحقة بالنسخ التي كان يوزعها سرًّا، كتب ديكارت أن «الغرض الأساسي» من نشرها هو تمهيد الطريق أمام أبحاثه في الفيزياء.
علام كانت تحتوي المقالات الأخرى؟ تعاطى مقال «مبحث انكسار الضوء» مع موضوعات الضوء والرؤية والسبل الاصطناعية لتحسين قدرات البشر البصرية. وترجع تسمية المقال بهذا الاسم إلى أنه يناقش انكسار الضوء بدلًا من انعكاسه («مبحث المرايا»). وقد نوقشت طبيعة الضوء باستفاضة في نهاية كتاب «العالم». وفي «مبحث انكسار الضوء»، شغلت طبيعة الضوء الفصل الأول من الكتاب. والتمس ديكارت تعليقات وأسئلة واعتراضات فيما يتعلق بالمقالات الثلاثة كلها، ولعله عقد الآمال على تلقي طلب لتفسير نظرية الضوء في مؤلفه «مبحث انكسار الضوء»، بحيث تكون لديه ذريعة لإصدار مادة علمية من مؤلَّفه «العالم»، ردًّا على طلب التفسير.
ونرى أن الفصل الافتتاحي من «مبحث انكسار الضوء» يكاد يتحرج متى تعلق الأمر بإجلاء طبيعة الضوء: «لست بحاجة إلى التصريح بطبيعته الحقيقية. أعتقد أنه يكفيني استخدام مقارنتين أو ثلاث مقارنات …» (٦ : ٨٣). وشبَّهَ ديكارت حركة الضوء عبر أجسام شفافة كالهواء بحركة الأجسام المقاومة على عصا رجل كفيف، وشبَّهَ سبب ظهور الألوان بالحركات التي يمكن أن تكتسبها كرة وهي ترتد عن أسطح متباينة الملمس. كانت هذه التشبيهات وسيلة لتغليف تبنيه لشكل من أشكال التفسير التي ترجع جميع المظاهر الحسِّيَّة إلى التماس بين الأجسام المتحركة. وكانت تشبيهاته في بعض الأحيان غير مُوفَّقة؛ فقد ألزمته بالزعم، خطأً، أنه كلما زادت كثافة الوسط الذي يمر عبره شعاع الضوء، كان مروره أسرع. وسارع الفيلسوف الإنجليزي، هوبز، والرياضيان الفرنسيان؛ فيرما وروبرفال، إلى الاعتراض على هذا التلميح في النظرية البصرية لديكارت، وانهالت انتقادات أخرى بخصوص فرضيات أخرى تتعلق بطبيعة الضوء.
ورغم ذلك، كانت التشبيهات الموجودة في بداية مقال ديكارت «مبحث انكسار الضوء» دقيقةً بالقدر الكافي لإنتاج صيغة قانون جيب الانكسار، الذي يحدد عامًّة الطريقة التي ينحرف بها شعاع الضوء بحسب كثافة الوسائط التي يخترقها. (من غير الواضح ما إذا كان ديكارت قد اكتشف هذا القانون من تلقاء نفسه أم اقتبسه من العالم الهولندي، سنيل، الذي يُنسب إليه القانون عادةً.) تتناول الفصول التالية من هذا المقال خلقة العين، وإدراك المسافات، وأفضل أشكال العدسات وترتيباتها للرؤية بعيدة المدى والميكروسكوبية.
لا بد أن نتذكر أنه في تاريخ الفيزياء بأسره، لم يحاول الناس سوى تخيل بعض الأسباب لتفسير الظواهر الطبيعية دون أن تكلل محاولاتهم بالنجاح قط. قارِنوا فرضياتي بفرضيات الآخرين، وقارِنوا جميع سماتهم الحقيقية وأشكالهم الضخمة وعناصرهم وغير ذلك من فرضياتهم التي لا حصر لها بفرضية واحدة من فرضياتي القائلة بأن جميع الأجسام تتألف من أجزاء … قارِنوا الاستنتاجات التي توصلت إليها من فرضيتي — المتعلقة بالرؤية والملح والرياح والسحاب والثلج والرعد وقوس قزح وما إلى ذلك — بما استنبطه الآخرون من فرضياتهم حول الموضوعات عينها.
وبذلك زعم ديكارت أنه سيتخلى بشكل منفرد عن الفيزياء المدرسية التي عفى عليها الزمان.
كان الشكل التفسيري الذي نبذه ديكارت يتألف من إرجاع الخصائص الملحوظة للأشياء المنفردة إلى الطبائع أو الأشكال التي تجعل تلك الأشياء تنتمي إلى نوع دون الآخر. والنظرية المستند إليها والمناسبة لهذا الشكل من التفاسير افترضت أن الطبيعة منظمة ومستقرة أساسًا، وأن كل نوع من الأشياء يتمتع بضرب ملائم ومميز من السلوك والنمو نظرًا لطبيعته؛ ولذلك كان من المناسب أن تسقط الأحجار باتجاه مركز الكون لأن طبيعتها تملي عليها ذلك. ومن طبيعة الأجرام السماوية أن تدور بانتظام وإلى الأبد في مكانها، ومن طبيعة جوزة البلوط أن تنمو لتصبح أشجار بلوط كبيرة. وفيما خلا ما حدث بمحض الصدفة للأشياء الملحوظة، فإن سلوكها يمكن إرجاعه إلى طبيعة أو شكل أساسي مستقر يختلف لكل نوع من الأشياء المميزة بالملاحظة. وإذا تعذر الجمع بين سلوك شيء ما وشكله، فلا بد أن السبب يرجع إلى المادة التي صُنع منها، أو الغرض الذي من المقرر أن يخدمه عندما يصبح نموذجًا فريدًا من نوعه مكتملًا بشكل ملائم. وتعيَّن تفسير الخصائص الملاحظة حديثًا للمواد بشكل خاص، وذلك بالرجوع إلى السمات أو الأشكال التي من المفترض أن تتمتع بها هذه المواد بطبيعة الحال. لقد كان هذا هو النوع من التفسير الخاص الذي قوبل بالسخرية في قصة موليير عن الطبيب الذي شرح قدرة الأفيون على تنويم البشر بذكر فائدته الخفية المسببة للنعاس. شرح ديكارت لأحد المراسلين عام ١٦٤٢ أنه بدون إنكار أو نبذ هذه الأشكال أو السمات في مقاله «الظواهر الطبيعية»، فقد «وجدتها ببساطة غير ضرورية في بيان تفسيراتي» (٧ : ٤٩١).
كانت «الفرضية الوحيدة» التي استخدمها ديكارت أكثر فاعلية من الفرضيات المدرسية عن الأشكال والسمات بحسب ما بَيَّنَ لنا في «الظواهر الطبيعية». ففي بداية المقال، يشرح ديكارت، بالإشارة إلى شكل وترتيبات أجزاء المادة وحدها، كيف يمكن أن تتشكل الأجسام الصلبة والسائلة. ولشرح انتقال الضوء، يفترض ديكارت وجود نوع من المواد دقيق جدًّا لا تدركه الحواس، لكنه موزَّع بين كل الأجزاء الدقيقة أو «المسام» الموجودة لدى كل الأجسام السائلة منها والصلبة. وتنتج هذه المادة حرارة بالتناسب مع وطأة إثارتها بفعل أشعة الشمس. ويستشهد ديكارت بهذا لتفسير علة شعور المرء بدفء خلال النهار أكثر مما يحسه خلال الليل، وعلة إحساس المرء بحرارة أكبر كلما اقترب من خط الاستواء. وتستدعي الفرضيات الأخرى التي طرحها ديكارت هذه المادة الدقيقة المحكمة نفسها. فإثارة المادة الدقيقة في مسام الأجسام، على سبيل المثال، يؤدي إلى انفصال أجزاء من تلك الأجسام وارتقائها في الهواء؛ مما يفسر وجود الأبخرة. يتكون الملح من جسيمات طويلة صلبة لا تتبخر عندما تكون في الماء؛ فهي أثقل وأقل مرونة من أن تظل محمولة جوًّا. ومن الممكن تحلية مياه البحار إذا تم تمريرها عبر الرمل؛ وذلك لأن جسيمات الرمل تعوق الجسيمات الطويلة الصلبة للملح، بينما تسمح لجسيمات الماء بالمرور. هذه عينة من الظواهر التي يفسرها ديكارت بشكل منهجي في مقاله «الظواهر الطبيعية».
وهذا لا يعني أن كل ما جاء في هذه الأجزاء من الكتاب صحيح. على العكس تمامًا! إن «حقيقة» أن الماء يتجمد بسرعة أكبر حال غليانه أولًا ليست بحقيقة على الإطلاق، وبعض «تفسيرات» ديكارت يسهل تفنيدها بالتجربة. أبلى ديكارت بلاءً أفضل عندما ناقش موضوع قوس قزح؛ وذلك لأنه كان في موقف يسمح له باستغلال معرفته بقانون الانكسار لتفسير الشكل الدائري للقوس، وإن لم يفسر ترتيب الألوان وانسجامها.
وعندما وصف الغرض الذي يخدمه كل من مقالاته (٩ب:١٥)، يقول ديكارت إن «مبحث انكسار الضوء» لفت الانتباه إلى فن مفيد — فن صناعة التليسكوب — جعلته علومه ممكنًا، بينما كان الهدف من مقال «الظواهر الطبيعية» أن يُبيِّن — في سياق الموضوعات التي عادة ما تخضع في مناقشتها للفيزياء المدرسية — حجم الإنجازات الإضافية التي يمكن أن تتحقق باستخدام الفرضيات الجديدة. «أخيرًا، في مقال «الهندسة»، كان هدفي بيان أنني اكتشفت أشياء عدة ظلت حتى وقتنا هذا غير معلومة …» (٩ب:١٥).
ظن ديكارت أن أفضل نتائجه يمكن العثور عليها في ثالث مقالاته؛ فبعض تصحيحاته للرموز الرياضية والمفاهيم السائدة لعمليات التربيع والتكعيب وما إلى ذلك ذُكرت بالفعل في مؤلَّفه «قواعد لتوجيه الفكر». وهناك ابتكار آخر يتمثل في وصف آلة تستخدم لرسم المنحنيات، التي ساد الاعتقاد في الماضي أنه يتعذر وصفها بأساليب هندسية بحتة، ومن ثم أُطلق على تلك المنحنيات وصف «الميكانيكيَّة» بدلًا من «الهندسيَّة». أثبت ديكارت أن الكثير من الأشكال «الميكانيكيَّة» يمكن في حقيقة الأمر تمثيلها بأشكال هندسيَّة. ووضع ديكارت أيضًا نظرية متكاملة الأركان للمعادلات، ولأساليب تمثيل الخطوط والأشكال بواسطة المعادلات. وصارت العلاقة بين نظرية المعادلات لديكارت ونظريات أسلافه مثارًا للجدل الطويل بين ديكارت وغيره من الرياضيين.
من المتفق عليه عمومًا أن ديكارت جعل مقاله «الهندسة»، ومنهجه يبدو أكثر تعقيدًا من اللازم؛ فقد كان بمثابة ضمانة ضد سرقة أساليبه، ولكن تعقيده أيضًا حال دون تقدير الكثيرين للإصلاحات التي جاء بها. إذا كان ديكارت قد بسط من أسلوبه، لكان قراء «الهندسة» — بلا شك — سيؤمنون بأن ديكارت عبقري في الرياضيات؛ فقد نجح — من بين أمور أخرى — لأول مرة، في حل مسألة أرقت عالم الهندسة القديم بابوس، لكن المنهج العام الذي كان ديكارت يقترحه في الكتاب كان مطمورًا ببراعة، فحيَّر كل الرياضيين البارعين بما فيهم الرياضيون الذين اقترحوا في البداية فكرة أن يحاول ديكارت حل مسألة بابوس.