«منطق» جديد
لم تكن المقالات «مبحث انكسار الضوء» و«الظواهر الطبيعية» و«الهندسة» مستقلة، بل كانت بمثابة إعلان عن منهج جديد للاستدلال في العلوم. آمن ديكارت بأن المنهج سيكون وافيًا لإنتاج فيزياء كاملة، لكنه لم يبذل قصارى جهده ليصرح بذلك. وعقد ديكارت الآمال على أن تتجلى إمكانات المنهج من تفسيره العام لها وتطبيقاتها في مقالاته، لكنه كان مُغاليًا في التفاؤل؛ فقد ثبت أن المقالات مثيرة للجدل، وبدا تفسيره للمنهج لبعض القراء واهنًا ومحتويًا على افتراضات غير محسومة. وكما سيتضح لنا، في نهاية المطاف رأى ديكارت أن الحاجة تدعوه لملء الفجوات التي تشوب منهجه بمبادئ من الميتافيزيقا.
جاءت معالجة منهج ديكارت في شكل مقدمة للمقالات، وعرفت باسم «مقال عن منهج التصرف العقلي السليم للمرء والبحث عن الحقيقة في العلوم»، واشتهرت بعنوان «مقال عن المنهج». وكان من المقرر أن يحمل هذا العمل عنوانًا مختلفًا مثيرًا بعض الشيء: «خطة لعلم كلي قادر على الارتقاء بطبيعتنا إلى أعلى درجات الكمال». وبعد أن نصح ميرسين ديكارت بأن يسمي كتابه ببساطة «أطروحة عن المنهج»، استقر ديكارت أخيرًا على كلمة «مقال» مُصرًّا على أن عمله أقل من أن يكون أطروحة، وأقرب إلى «البيان» أو «الإعلان» البسيط عن المنهج الذي سيرد في المقالات.
كان «البيان» ذا شكل غير تقليدي. وحيث كان الغرض منه الوصول إلى «غير الدارسين»، فقد كتب بالفرنسية بدلًا من اللاتينية، وكان في ظاهره سيرة ذاتية، ولكنها لمفكر غير معروف. ونُشِرَ «مقال عن المنهج» دون ذكر اسم مؤلفه؛ لذا فإضافة إلى معرفة أن الأحداث الواردة في حياة المؤلف تُسرد وكأنها أحداث قصة خيالية، فإن قارئ «مقال عن المنهج» كان يُترك لتخميناته بخصوص هوية القاص (وسرعان ما أميط اللثام عن أن مؤلِّفه هو ديكارت). وغير ذلك الكثير جاء تلميحًا لا تصريحًا في «مقال عن المنهج»، بما في ذلك، كما اعترف المؤلف نفسه، آليات عمل المنهج الذي يتناوله الكتاب. في رسالة تفسيرية مصاحبة لنسخة أولى من الكتاب قال ديكارت إنه اقترح في كتابه «منهجًا عامًّا لا أبادر بتفسيره بشكل مفصل» (١ : ٣٦٨).
أولًا: ألا أقبل أي شيء قط إذا لم يكن لدي معرفة قطعية بحقيقته؛ أي أن أحرص كل الحرص على تفادي التسرع في استنباط النتائج وتفادي المفاهيم المسبقة، وألا أُضَمِّن أحكامي على الأشياء أكثر مما يُعرض على عقلي بوضوح وتمايز شديدين بما لا يدع مجالًا للشك.
ثانيًا: أن أقسِّم كلًّا من الصعوبات التي أمحص فيها إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء حسبما يستدعي الأمر لحلها بصورة أفضل.
ثالثًا: أن أوجه أفكاري بطريقة منظمة، بالبدء بالأشياء الأبسط والأسهل في معرفتها كي أرتقي شيئًا فشيئًا إلى معرفة الأكثر تعقيدًا على الإطلاق، وبافتراض وجود ترتيب ما حتى بين الأشياء التي ليس لها ترتيب طبيعي بحسب أسبقيتها.
وأخيرًا: أن أحرص طوال الوقت على أن يكون ما أورده كاملًا، ومراجعاتي وافية جدًّا لدرجة تجعلني متأكدًا من عدم إغفال أي شيء مهما كان.
وتناظر المبادئ الثلاثة الأخيرة بالضبط القواعد الخامسة والسادسة والسابعة في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر» السابق مناقشتها من قبل. فنجد التأكيد نفسه على تحويل المسائل إلى مكونات، وأولوية «البسيط»، وعلى المراجعات الشاملة للبيانات ذات الصلة.
ماذا عن أولى القواعد الأربعة؟ تذكرنا هذه القاعدة أيضًا بمؤلف ديكارت «قواعد لتوجيه الفكر» الذي تنص ثاني قاعدة فيه على أنه أثناء البحث «ينبغي أن نُعْنَى فقط بالأشياء التي من الواضح أن عقولنا تدركها إدراكًا أكيدًا لا يداخله الشك» (١٠ : ٣٦٢). عرف ديكارت في «قواعد لتوجيه الفكر» «الأشياء» بأنها الأرقام والأشكال الحسابية والهندسة والبراهين المرتبطة بها (١٠ : ٣٦٤-٣٦٥)، ولكن في مؤلفه «مقال عن المنهج» تبدو حتى براهين الرياضيات أنها من ضمن الأشياء التي يمكن أن تكون محل شك (٦ : ٣٢). ويطرح ذلك سؤالًا عما إذا كان ديكارت يعمل وفقًا لمعيار جديد لما هو جلي وغير مشكوك فيه عندما ذكر المبدأ الأول لمنهجه في «مقال عن المنهج». ألم يعد يظن أنه عندما شرع الناس في تأمل المسائل الرياضية كان نصب أعينهم أكثر الأشياء وضوحًا وأدناها ريبة؟ من الواضح أنه ظل يعتبر الرياضيات واضحة ولا يداخلها الشك، لكنه ظن أن اليقين الرياضي لا يمكن إدراكه إدراكًا صحيحًا إلا في ضوء الحقائق المتعلقة بالرب والروح. لم ينكر «مقال عن المنهج» أن الرياضيات واضحة أو حتى واضحة جدًّا؛ بل أوحى بأن الأشياء الميتافيزيقية ما زالت أكثر وضوحًا. بالنظر إليها في سياقها إذن، سنجد أن القاعدة الأولى في «مقال عن المنهج» تنحرف فعلًا عن «قواعد لتوجيه الفكر»، وتسلم تسليمًا بمفهوم منقَّح لما هو واضح ولا يداخله الشك.
لقد أُعَلِن عن المبادئ الأربعة للمنهج بشيء من الترويج في مؤلف ديكارت «مقال عن المنهج»؛ ففي البداية يعرضها ديكارت باعتبارها تجسيدًا «لمنطق» جديد كليًّا يَجُبُّ القياس المنطقي الأرسطي (٦ : ١٧)، وبعدها يبارك لنفسه استبدال المنطق القديم بمجموعة موجزة جدًّا من القواعد. وكما رأينا بالفعل، فقد ثبت أن هذا الإيجاز في حد ذاته محرجًا لديكارت؛ حيث ألقى بظلال الشك على زعم ديكارت برسم الخطوط العريضة لمنهج متكامل، ومصدر تباهيه الآخر يطرح مشكلات أخرى.
ماذا كان يعني ديكارت إذ زعم بأن منهجه يشكل «منطقًا» جديدًا؟ إنه يعني على الأقل أنه إذا لم يستنبط أحد أية نتائج في بحثه سوى التي تجيزه مبادئ ديكارت، فإن هذه النتائج يمكن إثباتها والتدليل على صحتها حقًّا. شكلت المبادئ منطقًا جديدًا؛ لأن ديكارت — على النقيض من نظرية البرهان الأرسطية — لم يربط قطعية مسألة استدلالية بالعلاقات بين المقدمات والنتيجة — تأليف المقدمات والنتيجة من التجميعات الصحيحة من الموضوعات والمحمولات — بل بأثر القضايا التي تُعْرَض على العقل الذي تمرَّس بالقدر الكافي الذي يضمن الوصول إلى مستويات مثالية من الانتباه والمصادقة المنضبطة. إن استحداث المعايير النفسية للقطعية والحقيقة في المنطق يُنظر إليه الآن غالبًا باعتباره خطوة انتكاسية. ولكن ثمة مشكلة تتمثل فيما إذا كانت البراهين الواردة في المقالات يمكن أن تعتبر قطعية استنادًا إلى معايير المنطق الجديد.
أعتقد أنه كذلك، طالما يمكن تقديم برهان في هذا المجال دون إثبات سابق لمبادئ الفيزياء بواسطة الميتافيزيقا — وهذا شيء آمل أن أقوم به يومًا ما لكنني لم أُنجزه بعدُ — وطالما أنه بالإمكان برهنة حل أية مسألة في مجال الميكانيكا أو البصريات أو الفلك أو أي مجال آخر بخلاف الهندسة أو الرياضيات البحتة، ولكن طلب البراهين الهندسية في مجال يقع ضمن نطاق الفيزياء ضرب من المستحيلات.
حقيقة الأمر أن «مقال عن المنهج» نفسه هو الذي يوحي بتوقع وجود براهين في مجال الفيزياء شبيهة بالبراهين الهندسية؛ وذلك لأنه يتناول احتمالية أن «كل الأشياء التي تقع ضمن نطاق المعرفة البشرية مترابطة بعضها ببعض بالطريقة نفسها» التي «تترابط بها تلك السلاسل الطويلة المكوَّنة من كل الاستدلالات البسيطة والسهلة التي يستخدمها علماء الهندسة عادة» (٦ : ١٩).
في الخطابات التي ترجع إلى الفترة التالية لنشر «مقال عن المنهج»، يقول ديكارت إن هناك أكثر من نوع واحد من الأدلة أو البراهين في العلوم، وإنه في مؤلَّفَيْه «مبحث انكسار الضوء» و«الظواهر الطبيعية» كان بصدد تجربة البرهان الذي يُمكن فيه إثبات الفرضيات نفسها أو برهنتها بموجب قوتها التفسيرية (قارن: ١ : ٥٥٨ و٢ : ١٩٦). من المنطقي جدًّا الزعم بأن الفرضيات يمكن «إثباتها» أو «برهنتها» بهذه الطريقة طالما أن المرء لا ينشغل أكثر من اللازم بمسمى الإثبات أو البرهان، لكن ديكارت وضع منطقًا جديدًا؛ نظرية تدعي تحديدًا لا بطريقة بحتة ما يُعْتَد به كبرهان، وليس من الواضح أن مبادئها تترك مجالًا لهذا النوع من البرهان «التجريبي».
على المرء، لكي يقبل الكثير من البراهين الواردة في كتاب «الظواهر الطبيعية»، على سبيل المثال، أن يقبل أن الضوء يتصرف بموجب إثارة نوع دقيق جدًّا من المادة موزَّعة في المسام المتناهية الصغر للأجسام، لكن لا شك أنه من غير الواضح أبدًا أن هذه المادة الدقيقة موجودة، وأن الأجسام الأرضية لها مسامُّ متناهية الصغر، أو أن الضوء ينتقل بفعل المادة الدقيقة. تملي القاعدة الأولى لمنطق ديكارت على الناس قَصْر أحكامهم وحسب على كل ما هو واضح وضوح الشمس ولا مجال فيه للشك. ومن الواضح أن هذه القاعدة تبطل البراهين الواردة في مؤلفه «الظواهر الطبيعية» قبل أن تحقق تقدمًا.
لقد استطاع ديكارت أن يحدد المشكلة التي تواجه منهجه؛ ألا وهي أن الاستدلال الرياضي وحده وحسب هو الذي يمكن أن يعتبر غير قابل للشك. فما إن يعول الاستدلال على الفرضيات المتجاوزة للرياضيات، كما في كتاب «الظواهر الطبيعية» أو «مبحث انكسار الضوء»، حتى يفقد صلابته التي تجعله لا يقبل الجدل. وكما رأينا، فقد كتب ديكارت إلى ميرسين أن شيئًا لن يحل هذه المشكلة عدا «إثبات مبادئ الفيزياء بواسطة الميتافيزيقا».
وكان ديكارت يعني برهانًا نظريًّا. لقد قدمت مقالات ديكارت بالفعل شكلًا أدنى من البراهين لمبادئه؛ فالأبحاث في مجالَيْ البصريات وعلم الأرصاد الجوية التي عوَّلت على تلك المبادئ فسَّرت ببساطة وسلاسة مجموعة كبيرة من الظواهر، لكن هذا كان إنجازًا دون ما يصبو إليه ديكارت، طالما أنه على الأقل من المتصور أن ثمة مبادئ أخرى بخلاف مبادئ ديكارت لها أن تقدم لنا تفسيرًا لا يقل بساطة وسلاسة لمجموعة الظواهر نفسها؛ ولذلك يُسْتَحبُّ وجود محاجَّة مستقلة لقبول المبادئ.