مجرَّة
لم تَعد بي حاجة إلى العجَلة؛ فمدينة نيويورك نفسها كانت تبدو وكأنَّها تجري. كانت استعداداتي النهائية للرحيل سريعةً جدًّا إلى درجة أن تلك السرعة المتشابكة أثارت في داخلي دوارًا حادًّا، وإنْ لحظيًّا، ناتجًا عن صرير الضَّوضاء.
في مطار كيندي أخذتُ مكاني في الطائرة من غير أي شعور بالرعشة. اجتاحَتني بغتة أحلام هاربة. كان الإقلاع لطيفًا. ولم يَعتورني أيُّ إحساس بأني أحلق مع رُوح الطائرة، إنما خلتُ نفسي محمولًا في لبِّ ذاكرة مُتألقة، ذاكرة تسمق في فضاء مرصَّع بالنجوم. ورأيت نفسي فيما يُشبه الوميض. أرحل من مطار لآخَر، مُركِّزًا نظراتي إلى أمام. كانت النظرات تبدو مُحلِّقة لبرهة، ثم تهوي أمام جمال السماء.
كنتُ أراقب الأرض من نافذة الطائرة وهي تَبتعِد في انحناء مُستمر، قبالة نور ساطع، لتختفي أخيرًا؛ بينما كانت الطائرة تستوي فوق غمام سارعت الريح إلى تشتيتِه. كانت تلك هي النِّسمة التي ستقودنا إلى مُنتهى هذا اليوم، كي يتفرَّع في أوجهنا وأيادينا وعضلاتنا، وأعصابنا ونسيجها العاطفي.
حدَّقتُ في الأفق وتموجاته. وأظنُّ أني فعلتُ هذا بهدوء كبير. هل أردُّ مبعث ذلك إلى طبيعة مهنتي؟ ألستُ رحَّالة محترفًا يرغب في عبور الحدود بمرونةِ رُوح خاصة. إنها مرونة لا أتوفَّر عليها بالضرورة خلال كل تغيير للمناخ أو البلد أو اللغة، بل ولا خلال كل تبادُل للنظرات والكلام.
فكرتُ لبرهة في عملي. حياة برمَّتها، جزء بأكمله من حياتي كرَّسته للترحال! فكيف أعود بالقرب من نفسي من غير أن أفقد نُقَط توازني؟ أتصوَّر مجيئي إلى هذا العالم بسرعة تزيد من شساعة ما يفصلني عن ماضيَّ، تحجُبه، تنتزعني من مدينتي الأم ومن جذورها القبَلية الرابضة على شاطئ أحد المحيطات. آه لو أنضج دون أن أستسلم لهذه المسافة!
بعد أن فسختُ حزام السلامة أشعلت سيجار «هافانا» وأغفيتُ. نعم، السفر يُؤهلنا للتناجي ولفن الكلام السماوي. وأنا أعشق هذه الحميمية المفروضة بين المُسافرين. حميمية يحافظ عليها وهم حياة نبيلة: حركات خفيفة، بسمات، كلمات مُتبادلة بلُطف، طواف طقوسي لرئيس الخُدام والمُضيفات اللواتي كنتُ أتملَّى في طلعتهنَّ المَرِنة ومِشيتهنَّ المُتوازنة وخَطوِهنَّ شبه الراقص. وأنا جالسٌ على يمين مقصورة الربَّان كنتُ أقول لنفسي بأن السفر هكذا، تحت ظلِّ جسدي، يُوقظ في الروح أفكارًا غير مُرتقبة؛ فيما تغدو صورة كل سفر في الذاكرة سلسلة لا مُتناهية من الذهاب والإياب كما لو أن المُسافر أمام رقعة شطرنج يَجد فيها نفسه وقد حملَته اللعبة.
إنها لعبة ستكشف لنا شيئًا فشيئًا عن مراحلها دون أن نكون قد تلقَّينا أي رسالة مُبهمة. فلا أحد فرض على هذه الحكاية منطقها ولا تركيبتها الحق. بل ليس في ملكِنا نحن ما يُمكننا من تفكيكها. نحن؟ كل شيء سيتمُّ في غياب أي عقد بين القارئ والراوي، ومِن وحي اللحظة لوحدها: إنه تقسيم سرِّي للضوء والظل بين الوجوه والمشاهد واللوحات والآثار، وعلى بساط من الشمس والثلج المكفن. فهذا مشهد خفي قد تغيب في أغواره الأرض تحت الأهداب. ولن يتنزل أي ملك ولا شيطان ولا كتاب ثرثار تنهشه حروفه، وحدها تبقى الارتجاجات الصمَّاء وهذا السباق نحو الأصيل وجدار الصوت فهل أغفيت؟
•••
من الداخل تبدو حركة الطائرة وكأنها متحف حيٌّ موشًّى بالصور والمَجازات. كانت عيناي تلتقطان صورًا لكل مسافر ولوجهِه المنحوت بحدِّ مناخ بلده وعاداتها. كل واحد هنا مُطالَب باحترام حضور مُجاوريه والخضوع لأعراف السفر الصارمة. أفليس إتقان الجلوس والانضباط في الرقعة الفضائية بدون اعتداء على فضاء الآخَرين شيئًا مُرتبطًا بالتحليق في أعالي الجو؟ ديانات كثيرة بزغت هكذا، انطلاقًا من فكرة ملائكة نورانيِّين وعبر التيه في جسد التاريخ. وأنا الذي ظلَّ غافلًا لمدة، أحسُّ نفسي الآن بعيدًا عن هذا الزمن السماوي الذي يتحدَّث عنه عشاق الله بشكل خارق. لن يُقنعني أي مجاز بهذه الهشاشة في الطيران دون تحليق، وبقُدرتي على نشر أجنحتي الأسطورية، كما لو كنت وُلدتُ في مركز السماء. وكما لو كنتُ سأنتقل من محطة إلى محطة كي أحط على الأرض في صورة جنيٍّ، كي أحطَّ وأصعد في هُدوء وبين شفتَيَّ سيجار.
من جديد تأمَّلت الرُّكاب جنبي، تحت هذا الضوء، وهو ضوء مُزدوج، كانت هيئاتهم المنحوتة تأخُذ باستمرار أشكالٍ مُغايرة تحت تأثير طواف المُضيفات. كن يَنطلِقن، ويتوقَّفنَ ليُعاودن الانطلاق، يَقُمن بإطلالة من هنا وأخرى من هناك، حسب ضيافة دائرية وشفَّافة. أيتها الراهبات الباسمات، يا راهبات من لحم وحديد صائت، قلنَ لي بأيَّة سرعة تختبرن أعيننا وأعصابنا؟ بأية رشاقة تُوجِّهن توازنكن؟ فلتُدِرن مِن فضلكنَّ أوجُهكنَّ نحو ظلِّ غُنجِكنَّ، وإذا ما غيَّرتُنَّ بسمَتكُنَّ أو محطة عشقكن. فلتحفَظن السر، لتحفَظْنه.
أحيانًا، كانت المُضيفات يتحادَثنَ وأجسادهنَّ تتَقاربُ مِن غير أن تتلامَس، أو تختلط الأدوار في فرحة سأكون أنا كاتبها النَّزِق. فأنا أفقد عقلي حين تَفتِنُني رشاقةُ حركة واحدة. لكن من أنا، هذا الذي يكلمكم الآن، حتى أقودكم في رحلة هذه المُجاهدة بدون أن أكشف عن نفسي؟ من أنا حتى أستقبلَكم في عز السماء من غير أن أكشف عن هويتي، هويتي الحقيقية؟
أفقتُ على بريق شقراء. انبلجَ وجهُ المُضيفة مِن زمنٍ سحيق، كان إصراري الأكيد على التملِّي فيها من خلال هذا التقابُل المُعلَّق، حقيقة حدثٍ فِعلي. بالرغم من ذلك لم أحسَّ بأيِّ سحر أو سعادة. ففي الحالة التي وصلت إليها، لم أكُن قادرًا على غير إطباق الجفن. كانت المُضيفة بعيدة المنال وهي ماثلة أمامي، قريبة مني وهي بعيدة عني. ذلك ما فكَّرت به في صميم نفسي. هل أحادثها؟ كنت ثابتًا في مكاني وصامتًا لا أمتلك أيَّ مُرتكز أرضي غير هذا التقاطُع من النظرات.
كانت تُجيب المسافرين بلطافة ويُسر أوحى لي بأنَّ لها دراية نبيلة بالكائنات وتدبيرًا دقيقًا ومسبوكًا. في تلك اللحظة تغيَّرت وجهة سفري بشكلٍ محسوس. استدرتُ نحوها. كانت في انهماكها تدفَع بعرَبة الأكل بحيوية، وكل حركة منها تَحجُب الأخرى، رامية بها في مجال سديمي. على هذا النحو، إذن، تَنتفِي أي حركة آلية. لكل حركة شفافيَتُها. قدَّمَت لنا الأكل ورفعت المائدة بنفس السرعة. وهي سرعة حرَّرَت فيَّ تأمُّلي المعتاد. ألم تُلاحِظوا أننا حين نُوجد على متن طائرة يأتينا ذاك الإحساس الغريب بأننا نَسكُن مغارة بدائية كقِردة مُبرمَجة؟
تحرَّك المشهد من حولي. قالت سيدة عجوز للجالس جنبها: «حين أركب الطائرة، يُصيبني الهلع على الدوام». كانت تتحدَّث بلهجة أمريكية محشوة بكلمات أجنبية مصطنعة. «تابعي حكيَك أيتها السيدة العزيزة؛ فأمامنا مُستقبَل مُصغَّر.» «آه، كم هي جميلة تعبيراتك!» غالَبَها الصمت من جديد. وحين أرخيت أذني الثالثة وصَل إلى سمعي صدى غريب: «أنا أعيش في بروكلين مع قطِّي … ست عشرة سنة من الحياة المشتركة. إنه أكبر قطط الحارة سنا … يموء بما يُشبه النباح كما لو كان يريد أن يتكلم.» «أية لغة، سيدتي العزيزة؟ ربما كانت الاسبرانتو.» نظرَت إليه وهي تُتابع كلامها والدهشة تغمرها: «مرة يكون قطًّا ومرة كلبًا … إنه يخترق المجهول. وقد أشار علي طبيبي الخاص بالقيام بحصص من «التأمل الروحاني» هكذا قال لي.»
مرَّت عن بُعد طفلة تحمل في اليد طيارة ورق آلية. قام طفل آتٍ من الجهة المقابلة بمعاكستها. سقَطا أرضًا ثم نهَضا والابتسامة على فمهما، ويداهما متشابكتان. هكذا أتذكر طفولتي ومتاهاتها. إلا أنَّ ممر الطائرة الذي ليس سوى خط مستقيم كان يحدُّ من غوصي في عُمق الماضي.
تعرَّفت على لهجته الفينيسية من كلماته الأولى. كان جليسي يُحادثني بصوتٍ خافت. صوته خالص، يعلو ويَنخفِض تبعًا لتنامي الحوار. أصبح الحديث حيًّا من الوهلة الأولى. حين سمعته يقول لي: «هل شاهدت وأنصتُّ حقًّا لمذيعي تلفزات أمريكا الشمالية؟ يا لثقة النفس التي تبدو وكأنها خرجت للتوِّ من الوعظ والحديد الصلب!» اقترحت عليه للتوِّ ما يلي: «لكن ألا تقترح تلفزتكم «راي أونو» (القناة الأولى) لجمهورها، كاباريهًا مُستمرًّا في بيوتهم؟!» حدَّق فيَّ بدهاء، هل تجاوزت حدود اللباقة في اتهامي إياه؟ وبنظرة خاطفة رمى بي بعيدًا عنه، صمت، ومن جديد غيَّر لهجته كما لو كان يُوجه كلامه لإنسان آخر جالس في مكاني، لا في هذه الطائرة، وإنما في صالون أحد الفنادق الدولية، مُعلنًا إلى نسيج عنكبوت إلكتروني، بقيتُ مُنحازًا إلى ظلِّ كلامي. استطرد ألبرتو بحيوية: «كاباريه دائم في البيت! ولم لا؟! نحن الإيطاليون فنَّانو فرجة.» تأمَّل البابا في الشاشة الصغيرة، يا له من فنِّ قداس إلهي! تأخذه الكاميرا عن بُعد، ثم تقترب تدريجيًّا من هالته المقدسة؛ لطافة وسمو وتجلٍّ رباني. إنه معجزة زائفة، لكنه يبين عن مُعجزات أخرى، تلك التي لم يَسبق لأحد أن عايَنها، تأمل في بساطة حركاته، وفي بسمتِه، إضافة إلى كلامه الطيب، كلام مُقتضب، نابع من صلب صورة مُنسابة يتوجَّب معها ثلاث كاميرات لتجسيد الثالوث المقدس؛ الأولى للأب (البابا نفسه)، والأخرى للابن (نحن، المتفرجون …) أبدى تردُّده. انتظرت: «والثالثة؟»
– الثالثة للروح القدس الذي نقوم نحن بفنِّ عرضه. إنه أحد أسرارنا الفنية التي نتوارَثُها قرنًا بعد قرن حتى تخوم الزمن.
– نعم، فهمت.
– هل أنت متأكِّد؟ هل أنت متأكِّد من ضبط الوهم البصري؟ فالبصر الذي يرى كما يجب يُجرِّد الصور من أشكالها. إنه يُؤطرها في طابع ثقافي مُؤثِّر. فنحن لا نرى إلا انطلاقًا من حدٍّ ما.
– حدٍّ ما؟
– ألق بنظرك معي عبر النافذة. السماء من ناحيتنا صافية. ومن الناحية الأخرى تبدو الغيوم وهي تتجمَّع. وفي الأسفل آثارٌ أكثر خفاء. هكذا تُسافر الغيوم فوق البحر. أَلاحظْتَ آثار البواخر التي تمخر البحر؟ وتلك الجزر الصغيرة التي تظهر لتَنسحِب بسرعة معاكسة للنافذة، نحن الآن قريبون جدًّا من السويد. والحد الفاصل بين السماء والأرض والبحر تَناظُم سديمي من البصمات والعلاقات، إنه نظام اللاثبات، حد مُطلق في الفراغ؛ أي في صلب الزمن نفسه. فراغٌ بدون فراغ … تأكد بأننا في سماء ذات ذاكرة، وبأنَّ رحلتنا، أنا وأنت، ليست مُمكنة إلا بهذه المفارقة بين المادة وولادتنا للفور. فهل تُصغي إلي؟
ثم صمت. بدا الآن حالمًا وهو يتصفَّح كتابًا. كان يُمسك بدفتَيه مائلتَين جهتي. هل كان يريد أن يُشير إلى شيء ما؟ سطر تحت بعض الكلمات كما لو كان يرغب في أن يرسل لي بفكرة ويُهديها إلى تسليتنا المشتركة. لكن ذلك جاء متأخرًا. كانت كلماته الأخيرة مهموسة. هل سقطنا في ثُقب هواء؟ ها هي الطائرة تترنَّح بعنف كبير. الأمتعة من كل صنف تنصبُّ في فوضى عجيبة طوال الممر. ونحن كنا نرقص في أمكنتِنا، لكنَّنا لا نمتلك خفة الملائكة وروَّاد الفضاء. يحيد المشهد عن مركزه. يتصارخ الأطفال، وخدم الطائرة يُحاولون تهدئتنا بلغات عديدة، من جديد هوت الطائرة في ثقب هواء. أرى السماء تُبدل من موقعها. يمرُّ شهاب يخترق الطائرة فأحسَّ نفسي مُشعًّا ومُتحولًا في نكبتي: أشد بين رجلي، نعم، أتنفَّس ببطء، أيضًا نعم، أغلق العين والأذن، أنزل داخل نفسي وأمارس اليوغا. هل غيَّرت الطائرة طريقها؟ هل سقطنا في شرك كوني؟ أهي حيلة من اللامحتمل؟ الويل لمن يذكر بوجوه الموتى! الويل لمن يَصحب معه كفنه! أنا الآن مقذوف، أولد وأموت في نفس اللحظة، ندا لنفسي، ولتحوُّلاتي التي بغتة غدَت صلبة في تجاويف مقعدي.
ورأيتُ نفسي راكعًا أمام الله فيما كانت الطائرة قد استعادَت توازنها الكامل مُنطلقة بسرعة فائقة. رفعتُ رأسي فصادفت ابتسامة المضيفة. كانت بسمة متشنِّجة، نارًا انطفأ سعيرها. تعالَت على نظري، في زاوية مضيئة من الطائرة والسماء، زاوية تَنفلِت تدريجيًّا من إدراكي. فهل سقطت قرب نفسي، أو داخل ذاكرتي من غير أن تَفقِد وعيها؟ أية صدفة أوحت لي بها حتى أتملَّى في تلك الصورة البهية؟
رفعتُ رأسي من جديد بحركة سريعة وخاطفة: جلتُ ببصري من حولي. وجوه كابية. نشيج مكتوم، وكلمات ينبس بها كما لتوديع الحياة. كان هنالك ظلٌّ يحوم حول الإشارات والحركات والأنفاس. بدت لي الكلمات في غير مقامها. غرتُ في هذا الصمت حتى خلتُ نفسي أملك مكارم رجل الخلاص. ثم قفزتُ في مكاني كي أُعاود الإغفاء، مشدودًا إلى سرعة الأحلام. كانت أحلامًا أوحَت لي بأني أطير من نجم إلى آخر. كواكب تَنطفئ فور ظهورها وألوان مُتناثرة في ليلٍ عجيب، إنها مجرَّة! هل أصبحتُ مستترًا عن نفسي، عاجزًا عن رؤيتها إلى هذا الحد؟ أظنُّ أني لم أكن أبتسم للملائكة، كما يقال؛ لكن لمَ بعد تلك الرجات حلمتُ بشامة امرأة وبتُوَيجات وردٍ مُتناثرة؟ لمَ هذه الحكاية وليس غيرها؟ فلتحُكموا بأنفسكم. من حيث أنتم، كنتم جالسين أو متمدِّدين، أو مُطلِّين على هذه الصفحات.
رأيتني آكُل «السمورغاس». أُلقي عليها نظرة خاطفة قبل تذوُّقها. إنها سندويتشات في أشكال مكعَّبة كادت تطفو لوحدها في الهواء وتغدو بدورها نُدَف ثلج مِن فرط فزَعي الذي أسكته أزيز الطائرة. بالرغم من ذلك أبصرت في السماء، وبالقُرب مني، بعض البصَمات. كانت ذاكرة بصرية تقود نظرتي الحالِمة الغارقة في التجلِّي نحو كأس شامبانيا بين الشفاه. تردَّدت نبرة صوت. أمسكت ببعض نُدَف الثلج وأنا أرشف معك هذه الكأس، معك أنت؟ نحن؟ فيما بعد، فيما بعدُ، وكما لو كنتُ غافلًا عن نفسي، أكلتُ في ستوكهولم وجبة عَلْند مشوي مصحوب بخمرة من البوردو المعتَّق، كان قنص العلاند يمرُّ أمام شاشة عيني: يتمُّ قتل وجرح الناس أكثر من الحيوانات. ستقول ضاحكًا إنها سلفية ترمي العودة إلى تقاليد الفكينغ. هكذا كنتُ أجول عبر غابات الشمال ضافرًا طرقات الذاكرة. لكن من سيُصدقني؟
الحلم الأخير كان يخصُّ مشيَتي الوحيدة في ستوكهولم. كان الثلج قد كفَّ عن السقوط. ثلج خفيف وبلوري، بساط مُتحرِّك يَلتوي مع انعطافة كل شارع. المشية الرشيقة للمارَّة. كل شيء كان يدعوني إلى شق طريقي بحزم وبدون تسرُّع. كنتُ أتملَّى في الوجوه وفي الأعين خاصة، وفي حركاتها الخفية التي تشقُّ عن نظرة مستترة تكشف عن لغزٍ وأُفُق من الأشجار والبحيرات الجامدة في قلب الزمن. نظرة خفية كنتُ أجسُّ نصاعتها الباطنة، وإن ظلَّ جمالها ورقته بالنسبة لي مبهمًا. قلت لنفسي بصوت عالٍ: «لكن لمن؟» سأكون في هذا البلد بحاجة إلى نسيان كل جَمال كي أستعيد صفائي الصامت.
كلَّما أمعنت في المسير، وجدتُ نفسي أسترجع زمن أحلامي. إنه زمن حياة يَقتفي آثار نفسه. كنت أطفو. نُدَف ثلج أخرى ثم يغيب الثلج. وإذا كنت الآن أحكي هذه الأحلام دون أن أنتبه إلى ما سيلحقُني فيما بعدُ، فإني كنتُ ولا أزال أدين بذلك للامبالاتي وحبِّي للمُبادَرة.
لكن إذا كنت آتيه بعض الشيء في أحلام تأخذ شكلَ صُوَر وكلمات سويدية، فلأنها تُوقظ في ذكريات سيتم الكشف عنها خلال هذه الحكاية.
حين عدتُ إلى نفسي، كان المشهد قد غيَّر من أجوائه، ومُجاوري قد غاب. غيَّر مسافرون آخَرون أماكنهم. كل شيء تمَّ في صمتٍ جنائزي. لا أدري إن كانت أحلامي قد تمدَّدت خلال المدة التي تلاشى فيها خوفي، أو أني، وقد استحوذَت على سرعة الزمن، سيتمُّ تنويمي بحركة غير مُرتقَبة بعد نزول الطائرة في مطار «أرلاندا». أمسكت بحافظة أوراقي وتحقَّقتُ من وثائقي بعد أن استبدلت النظارات، ثم أخذت طريق الخروج. هناك وضعت خطابًا رقيقًا في يد المضيفة. كيف تجرَّأت على ذلك؟ قلت لها دون أن أحيد بنظري عنها: «شكرًا على هذه السفرة». تبسَّمت وبما أن السماء كانت بعيدة فقد كان عليَّ الاعتماد على طاقتي الأرضية كي أشق طريقي في هذه المدينة وبين أهلها، ولربما، في خارطة قلبها ورُوحها أيضًا.
قدَّمتُ للجمركي جوازي بيدٍ واستعدتُه بأخرى. نظر إليَّ بفضول، قد تكون مهنتي أثارت انتباهه؛ فأنا مُترجم وأقوم بالترجمة الفورية، واسمي جيرار نَمِر.