المرأة الأخرى

تخالُه شعبًا في معبد. معبد قادتني خطاي إليه لأول مرة في عزِّ الصيف. هل سأنصاع أنا أيضًا لصفاء هذا المشهد الذي ملأتُ منه بصَري وأنا أصعد الحافلة التي أقلَّتنا إلى وسط المدينة؟ تاهَت عيناي للحظة في البُعد، بينما كانت الشمس تبدو وكأنها في احتفال. كانت تتراقص فوق تلك الأوراق المحاصرة بقطرات الماء الباردة.

راقبت من خلال النافذة جمال هذا البلد الصامت. جمال بارز الملامح حجَبَه عنِّي مجهودي في التركيز على نفسي تبعا لطقس من التفاني المُلغز أوحاه لي هذا الصيف السويدي. وكل ما تُبودل من حديث خلال الرحلة يشهد على ذلك:

– أيها الجار، يا جاري الجديد، هل تحسُّ هذا الفارق الصيفي بين الأيام والليالي؟ لسنا بعيدِين عن شمس مُنتصَف الليل حيث هي تنتظرك. لكن لتفهم أن الليالي البيضاء تَستدعي الخرافات والتخيُّلات العجيبة. انظر من حولك، سجِّل في ذاكرتك هذه الوجوه والأيادي المبسوطة على حوافِّ المقاعد. إننا نخالُها منحوتة على جدار.

بعد بُرهة من الصمت مدَّ يده نحوي وهو يُقدم لي نفسه «ألبرتو ألبرتيني». ومن يدٍ إلى أخرى اغتنمتُ لحظة ضائعة كي أتمعَّن في تفاصيل وجهه. قلتُ لنفسي: لمَ تُرافقني أمثال هذه الظلال؟ لكني أعترِف الآن أني كنتُ مُخطئًا. فألبرتو لم يكن نظيرًا لي أبدًا. وبعد أن تجاوَز تحفُّظي قال لي:

– أنا مُنتِج. أعني أني مُنتِج للصور والفرجات والمال والمقاطع.

– تعني أنك مُنتج لمجرة من الصور؟

– لديَّ مشروع إنجاز شريط حول حياة روني ديكارت في السويد.

– ديكارت والملكة كريستين، سيُلزمك اللجوء إلى الممثلة غاربو١

– لقد ولَّى عهد النجوم. لديَّ ممثلة لا تقلُّ جمالًا وصمتًا ورشاقة عنها ولها ميزة الحفاظ على مسافة كبرى بينها وبين الكاميرا حتى تكون قريبة من قوة نظرتها. إنها تُحافظ على إيقاعها الطبيعي المُنفتِح والمُستعد لتقبُّل أي مشهد مفاجئ. اكتشفتها السنة الماضية في مطعم. كنت أتفحَّصها طيلة الغذاء، من أمام ومن خلف. كان بإمكانها أيضًا؛ لأنها جالسة أمام مرآة، أن تُراقبني مُتحدِّثة إلى مرافقتها؛ فقد استطاع صوتها أن يُحرِّك المرأة وانعكاساتها عليها.

تابع ألبرتو مونولوجه قائلًا:

– مشروعي يطرح لي مشاكل لا تُحصى. ولستُ مُقتنعًا بحَلها بالقوة. لقد حدَّدنا مواقع التصوير كلها بالهليكوبتر. حدَّدنا المسار والخارطة، والسيناريو مُكتمِل. لكن كل شيء يبقى مُعلقًا.

– مُعلقًا؟

– لا يجب أن نَنسى الجملة التي قالها لابرويير في حقِّ فيلسوفنا. «وُلد في فرنسا وتُوفي بالسويد.» نعم، نعم، لمَ تمادى ديكارت في الاغتراب شمالًا؟ ما الذي كان يَرمي إلى تفاديه؟ نحو أي اكتشاف للذات كان يتوجَّه؟ أوروبيًّا، كان أول مُفكِّر أوروبي، لكن ألم تكن أوروباه غريبة؟

– لكلٍّ أوروباه الخاصة.

– لنَتذكَّر أن ديكارت وصَل إلى ستوكهولم في غضون شهر أكتوبر ١٦٤٩م وتُوفي بها في فبراير ١٦٥٠م. داء السلِّ عصف به. يقولون إنه مات مِن جراء ما فعلته به الملكة كريستين. ما الذي كانت تَبتغيه الملكة كريستين من حمله على النهوض في الخامسة صباحًا؟ هل كان ذلك لتتلقَّى منه دروس فلسفة؟

– فلسفة صباحية جديدة، بعد الليل اللاهوتي والصوفي للعصور الوسطى.

– هو الذي كان يحبُّ مثل مونطيني أن يظلَّ في فراشه إلى وقتٍ مُتأخِّر من الصبح.

غارقًا في التأمُّل. كانت كريستين مزاجية، غير قابلة للترويض. كانت شامانية.٢ هل كانت قد اكتشفت لعبته الاستراتيجية وأسلوبه في الحياة والتفكير؟ كان ديكارت يوهم الآخرين بأن حكمته تَكمن في عدم الرهبة من الموت، وها هو يأتي ليموت هنا في حضن البرد والجليد. فلمَ إذن لا نبني حيلتَه على شاكلة فيلم فلسفي! هذا الفيلم سيبتدع أشكالًا مصحوبة بأفكارها الملائمة. فكلُّ فكر يكتب، من غير وعي، سيناريوها يكون غير قابل للقراءة. ومُهمتي تكمن بالضبط في جعل كل هذا مرئيًّا.

ارتفعت لهجتُه فجأة وغيَّر موطن حديثه:

– قبل أن تأتيني فكرة هذا المشروع عن روني ديكارت كنتُ أريد إنتاج فيلم عن موت أولوف بالم يكون في نفس الآن تسجيليًّا وتخييليًّا.

وما إن سمع المُسافرون هذا الاسم حتَّى امتلكتهم الرعشة. أحسست حولي بانفجار صامت وبصرخة في الفراغ. فكَّرتُ بصوت خافت: «ها هي ذي جريمة سرية مرةً أخرى. ويتواتر أعضاء نفس القبيلة اسم الميت على إيقاع الفصول.» وكما لو كان ألبرتو وصيًّا على هذا الصمت القلق، أضاف قائلًا:

– وأين سيكون مقامك؟

– في فندق ستراند.

– نعم إنه يُدير ظهره لظهري. ندير الظهر بعضنا للبعض. شيء لا أستطيع حياله فعل أي شيء. وها أنا الآن في صلب المشكلة. سأكون بحاجة إلى خدماتك كمُترجم. اتصل بي!

بما أن مقعدي كان بجانب النافذة فإني كنت مشدودًا إلى لعبة الظلال على صفحتها. ونظرًا لآثار الانعكاس، لاحظتُ على الأوجُهِ الشاردة كثافةً مُنغلقة على نفسها. كانت كثافة وديعة وإن مُتناثرة هنا وهناك في زرقة الأعين.

انتبهتُ أيضًا لنعومة الشَّعر المُنساب الذي مزجته الطبيعة، الجارية بمثل سُرعتنا، بأوراق العُشب، ومنَح للحُقول نكهة فضية غدَت قزحية بألوان الأزهار والانطباعات المتسكِّعة.

للتوِّ علَّمني هذا المشهد الخلفي طقس الهدوء الشارد لهذا البلد وفيضِه العَفوي المحجوب تحت نار غافية وليلٍ شمسي. وبينما كانت الحافلة تُتابع سَيرها. أثار حلمي النشط انتباه جاري الأبدي، تدخَّل ألبرتو قائلًا: لا تَترُك فكرك يَبرُد. غطِّه، اكسُ بذكريات جميلة، فأنا أعزُو هذه البرودة اليوم إلى الفارق الزمني.

نزل ألبرتو من الحافلة قبلي، واختفى في سيارة أجرة. انتظرت دوري قرب المحطة الرئيسية. وورائي تكون طابور مُتعرِّج شيئًا ما، يتقلَّص باتجاه ذاك المتخنِّث ذي القرطين والظفيرة المُلقاة على القفا، ويتمدَّد ليتيهَ في جسدٍ صقيل؛ سروال دجين، قميص أسود، قامة مُجدوَلة ونهدان نافران.

هذا الرسم، المُقتطِّع للتوِّ من اللحظة، ذكَّرني بهذا التعبير: ذكرى قيد التبريد. لا أدري بأية طريقة منامية سيتمكَّن هذا الرسم من الانحفار في نفسي ورفع حجاب الزمن. أظنُّ أن الذكرى التي تُباعد بيننا في لحظة ما من حياتنا تنعزل في غور ذاكرتنا كلوحة سها عنها الرسام في زاوية مغبرَّة من معمله. وحين يعثر عليها في يوم من أيام عطلته فإنه يكتشف صورة امرأة عشقها حتى الوله في الماضي؛ ثم حين يتملَّى الرسام في اللوحة بعد أن يُغمض عينَيه كي يُوجه ذاكرته نحوها، يُلاحظ أن الرسم العاري المُتخفي تحت الألوان لا ينتمي إلى نفس الموديل وإلى نفس المرأة، وأن هذه الصورة المُنطبعة على اللوحة فتَنَته إلى درجة غيَّر معها قصة حبه.

ربما كنتُ في حالتي هذه أُشبه ذلك الرسام! فهل تكون مهنتي إذن ذريعة لقصص حُبي؟ فالسفر وتغيير البلد واللغة يُثير فكري وفائض لذتي. كلَّما عبرت حدود بلدنا إلا وانتابني حدس بأنَّ سرًّا ما سيُفضي إليَّ. هل أنا مُتطيِّر إلى هذا الحد؟ فأنا لا أومن بالحظ ولا بانتظار الذي لا يأتي. الانتظار؟ النوم يقوم به لحسابٍ فكريٍّ وأيامي الشائخة. يشيخ النوم: يا لها مِن فكرة! وإذا كان الأمر كذلك فما سيكون مآلُ الحلم في دروة مُتعي؟

كان السائق يقودُني بهدوء نحو الفندق. تحدَّثت معه بالسويدية، وهي لغة أعرف منها بعض النُّتَف وكذا شفرة سرية سأحتاجها لتأثيث نسياني وثقوب ذاكرتي. نُتَف مُتوحِّدة، معزولة داخل الماضي، كأنها مسروقة من سرعة الترجمة ومن ذاكرتي المشحونة. إنها لغة أتلقاها بالهمسات.

في الفندق ناوَلني مُضيف الاستقبال ملفَّ المناظرة ورسالة، ومعها مفتاح غرفتي المذهب مثل الفندق المحاط بالكروم البرية. كانت غرفتي، الموجودة فوق أقواس مُتراصَّة قبالة البحيرة، تبدو وكأنها تطفو قرب الزَّوارق. فتحت رسالة دونيز: «اسمع يا جيرار. أنا لا أشتكي منك ولا ألومك أبدًا. كيف الحديث إليك الآن؟ قد تكون بينَنا الآن مسافة لا يُمكن استدراكها، أنا لا أنحني أمام سلطة الانتظار ولا أمام ذاك الأجل الذي حدَّدناه بالهزل أكثر منه بالقناعة العميقة، كيف سنَحسب خسارات أحاسيسنا؟ أود لو نترك ابننا المشترك جانبًا لحمايته مني ومنك، هل ستكون حاضرًا في عيد ميلاده؟ بعد رحيلك أعدت تنظيم أثاث البيت، وعلقت بعض اللوحات الأصلية منها والمنسوخة، والرسوم التي كنتُ محتفظة بها. حلقت شعري حسب العادة الطقوسية لدى الحلَّاقة، وهي لا تزال تُحدثني دائمًا عن عُشاقها الذين يتوافَدُون عليها ويهجرونها، كدَورة الفصول، ومن فرط ذلك يُصيبنا جنون الضحك. بكينا ضحكًا لما حكت لي كيف تغير من نظرتها وصوتها حين تلتقي صدفة أحد عُشاقها القُدامى، إنها تُحاكي ذلك بشكل رائع، في بيتنا الكثير من المداخل والمخارج الخيالية. هل أنصاع للانهيار النفسي؟ لا، خصوصًا بعد مُشادتنا الأخيرة. لقد تعلمت منها شيئًا عن نفسي: إني عزلاء أمام إيماني بالحب. حناني إرادتي. انا سهرانة.»

•••

كنتُ قد أصبحتُ إنسانًا آخَر حين تركت الفندق لأجل موعد مُفترَض في مقهى برنسن. هل ما يزال العمل جاريًا بموعدٍ ناتج عن خطاب عِشق رقيق؟ لمَ هذا الوفاء الغريب لفنِّ نبالة ولَّى عهدُه؟ هل بإمكاننا أن نَلتقي بإنسانة غريبة حسب فنِّ المبادرة هذا؟ أبصرتني لينا مُقبلًا نحوها، حاملًا لا مُبالاتي الصيفية ومُفعمًا بها. لم يخنِّي حدسي؛ فقد قبلَت لينا الموعد في المساء الأول لوصولي! لكن لمَ يَميلُ فضولي العاشق إلى مُغازلة الأجانب؟ ما هو الشيء العجيب الذي يُميز المرأة الأجنبية؟ أرتاب في أن خيالي ينصاع لإكراهات غامضة. ربما حين تصغر صورتي في عيني أقوم بحث فتيات جميلات وغريبات على إغرائي. هل يكفي هذا لمنحي رباطة الجأش اللازمة؟ المُهم أنها جاءت للُقياي.

كنتُ جالسًا قرب النافذة، شاردًا من فرط حركة الداخلين والخارجين من المقهى. حين يدخُلون يقولون Heje وحين يخرُجون يقولون Hej da! إلى درجة غدا لهذه الكلمات في سمعي المُغترب وقع نشيد أول.

أبصرتها تُوقِف دراجتها الهوائية لتتوجَّه نحو طاولتي دون أن ترفع عينَيها. رفعتهما أخيرًا صَوبي: لحظة مواجهة، فكر اللامحتمل ورَوعة اللحظة. في أي مشهد كنت محمولًا ومنقولًا حتى أستطيع استقبالها في الهواء، وفي مُنتصَف الطريق. وبما أن رحلاتي المتكرِّرة علَّمتني أن أقف عند حدود قوتي (وهي قوة مُنفتِحة بحقٍّ على فوضى الحياة البسيطة) استعنت على أمري برُوح الملاحظة لديَّ، ابتهجت لظهورها، ونهضت لاستقبالها ولأُقدِّم لها مقعدًا، ذلك المقابل لي، لكنها، ويا لَلغرابة، أخذته وحرَّكته ثم أدارته لتستقرَّ على مقعد آخر. هذا الاستفزاز المُفاجئ والمَرِن زجَّ بنا للتوِّ في نظام اللياقة وترقُّباتها.

كان الاعتقاد في مجيئها أو عدم مجيئها بالنسبة لي مجرَّد لعبة. قد تكون استجابت لإشارتي وفي نيَّتها لعبة مُغايرة وحوافز خفية. في البداية كنت مُضطربًا كما لو أن طموحي الأوَّلي أنهكني. أحسستُ بالضعف أكثر أمام تلك العيون الزُّرق الشفَّافة الحالمة. وغدوتُ لطيفًا لرؤية ذاك الوجه ذي المسحة المتوحِّشة. كانت رقة ملامحها تبدو وكأنها تسري في حركاتها وزينتها وطريقتها في الإنصات لصَمتي. وأنا أقول هذا، وفي اللحظة التي حيَّيتُ فيها لينا، لم أكُن أدري في أي امرأة أخرى كنتُ أفكِّر. فمنذ النظرة الأولى في الطائرة اختلطَت في نفسي الذكريات الباردة، وكان علي أن أنطبع على لون الزمن وذاكرته المُتناضدة.

هذه الإقامة ستُمكِّنني من اكتشاف ستوكهولم. مدينة على حوافِّ الماء، بُنيت لأجل وئامٍ غدا مرنًا بشتاءٍ مُستمر. سيقول لي ألبرتو: «هنا يُمارس الناس الطلاق في شهر مارس؛ لأنَّ فصل الشتاء طويل جدًّا. إنها الفترة المُثلى والشهر المفضَّل لمصاحبة امرأة أخرى.» وسيُضيف: «في السويد يَلزم البدء في مغازلة النساء في الصباح لا في المساء. وليس أبدًا داخل حانة؛ فالليل الشمسي محكوم بفائض الصمت الصباحي.»

•••

حين قدَّمَت لينا نفسها بدَت لي صريحة جدًّا ومطبوعة بسُخرية فاتنة. لاحظت في الطائرة دقة حركاتها ورشاقة مشيتِها. وإذا ما عُوينت تلك الدقة والرشاقة عن قُرب، فإنها تَنتقِل نحو أهداب الشَّعر التي تُعيد ضفرها بسمة مُشرقة. حين أُفكِّر الآن في صورة لينا أتساءل عما إذا كانت صورة سجادة قد حلَّت محلَّ جسد هذه المرأة. هكذا تبدأ ضبابية الجسد وجاذبية فوضاه، وأنا الذي كنتُ أترنَّح بعض الشيء، هل كنتُ مُطالبًا بالتنحِّي من أمام هذه الفتنة غير الجارحة؟

إنه الجرح أو المسافة التي أستطيع منها الإنصات للينا من غير أن أضيع في سحرها. ما يُقابل هذه الحالة الحسِّية والمناخية هو بالأحرى العشق البارد، بَغتة قالت لي لينا: «ترجمان فوري! أنا التي اعتقدت أنك …» علَت وجهي الحمرة في قلب هذا الكلام الذي لم يَكتمِل، مثل أي بداية حب مطبوعة بالتردُّد والخجل المُتعارَف عليه. قابلت الصراحة بمثلها وأجبت: «بما أننا غرباء الواحد عن الآخر، أتساءل إن لم أكن قد وقعت عليك … احكِ لي شيئًا من حياتك.» داورت سؤالي وعليها مسحة من الشرود: «في بلد شديد البرودة يكون الفقر قريبًا من الموت … أعني فقر القلب.» لكنها عادت للمواجهة: «هل تحبُّ أن أحكي لك حياتي على طريقة الساغات٣ أو كفيلم لبرغمان؟»

كانت المدينة، من خلال النافذة، قد تحوَّلت إلى مشهدٍ طبيعي حالم يعود الليل منه إلينا تدريجيًّا ليَطبع على شفاهنا نشواته الأولى. سعادة الأصيل ولحظات نادرة لوئام مكتوم. ضحكنا ونحن نترك المقهى باتجاه «حديقة الملكة». كانت زُرقة السماء قد ولجَت بوضوح عالم الليل واخترقت بداية تلك الليلة الشمسية؛ بينما كانت الخُضرة وهي تُحدد أعالي الأشجار تترُك بصماتها في الهواء وعلى ظلال الأرض التي كنتُ أراها بدورها تتَّجه إلى السماء. هذه الصورة لا تتجاوز لحظة دوار خاطفة، إنها خربشة قلم.

وأنا أمشي بالقرب من لينا وكأنني أقتفي خطواتها، بدأت أتملَّى في هندسة المدينة والحركة المتلبِّدة الصامتة التي تُسند الأسوار والأزقة والشوارع. كان صمتًا يائسًا، طورًا من فرط أزيز المحركات وطورًا أليفًا بهمهَمات المطاف. من حينٍ لآخر يُحلق نَورس فوق البُحيرة كما لو كان يريد إرسال إشارة يُنغمها بنفسه، ثم يغوص باتجاه السمكة التي يبتغي اصطيادها ويَرفع عُنقه علامة على رضاه. وأنا الذي أصطاد الآن هذه الصورة على امتداد الزمن، هل أنا متأكد من أني قُمت بالمديح الملائم لنَورسٍ عادي ولرشاقته المجنَّحة؟ فالنَّورس سواء زخرفه الأصيل أو نزع عنه زينته، يظل مقطعًا مُتحولًا من الطبيعة.

تبادَلنا الحديث أثناء الطريق، وتوقَّفنا أمام هذا المنعطف أو ذاك: مشاهد طبيعية، شوارع أو أزقَّة، مُلصقات أو لافتات؛ بحيث تغدو المدينة أكثر رشاقة وخفة. في «حديقة الملكة» ذكرني الجو السائد فيها بحفلة سنوية. غابت لينا للحظة. جلست إلى مقعد في زاوية منعزلة من الحديقة. امرأة أكثر شيخوخة من يديها انحنَت نحو العشب العاري كما لو كانت تَقطِف زهرة لا مرئية. كانت حركتها المُزركشة قد هدَّأت من رغبتي السرية المسكونة بحديقة رُوحية وبعدد لا مُتناهٍ من الزهور. هكذا، حين تُفكر نفسي في الحب، تنقسم إلى جزئين؛ أحدهما لا مبالاة وحب للمبادرة، والثاني فضول دائم ممهور بعشق بارد. وليس غير الإيقاع ينسج المفارقة وحلَّها اللامحتمل.

حين كنا نُمشط الحديقة بنظرة حية، كنَّا نُفاجأ بمسرب يجمع من السيَّاح والمتسكعين في مطاعم مُتواضعة. كانت تلك المطاعم العادية تتراصَف في هدوء إيكولوجي عجيب، بحيث يلزم تركيز الذهن على فكرة واحدة إذا نحن أردنا دقة الملاحظة.

ارتبطت تلك الفكرة، للحظة، بالممر الصيفي للدراجات الهوائية الذي بدا وكأنه يَمنح نفسًا لهذا الشعب، نفسًا يكون وسطًا بين الخطوة والسرعة اللامتوازية للسيارات. فمثل عربة الجر القديمة التي كانت العرافات يستخدمنها، تزيد الدراجة هنا من الاختيال العاشق للناس. آنذاك تَنفلِت الجبال والغابات من بُؤري العاطفية حين يُدخل ذاك الاختيال الاضطرابَ إلى عيني.

لحقتُ بلينا الواقفة أمام لعبة شطرنج ضخمة. كانت قد جدَّدت وضع الأحمر على شفتَيها، وعليها قميص حاكَته بمهارةِ يدَيها الفائقة. كانت مرتخية، بَشُوشة وساحرة، ولم أكن أفكِّر كثيرًا فيما إذا كنتُ سأعجبها أم لا.

راقبْنا اللاعبين وهم يَنحنُون على البَيادق. كان هناك مُتفرجون شباب بأقمصة صيفية. وعلى يميني ثلاث عجزة جالسون على مقعد. كان أحدهم مُتكئًا على عكازة بيضاء محدقًا في مركز اللعبة، إنه مركز فارغ تتساقَط البيادق الواحد فوق الآخر داخله كما لو تعلق الأمر بكبوات فرسان في ثلوج الزمن الغابر.

كم أتحدث بشكل رديء عن ذاك الماضي المجيد. ذلك أن لعبة الشطرنج كانت تسلية للنبلاء توارَثَها أولئك الذين كانوا يتمرَّنون على الاستراتيجية عبر وضع الضُّعفاء أمام ملك ميت أو إله من جليد. وأنا الآن ليس لي سوى التضرُّع لأودان، ذاك الإله الذي سن العلامات والغناء لبني البشر.

لكن كل هذا ليس سوى حلم يقظة؛ فحصن الملك الحي كارل السادس عشر لم يكن بعيدًا عن الحديقة. وقبل أن نصل إليه توقفنا أما نصب جوستاف الثالث الذي تُشرف قاعدته على الماء ويَجذب إليه نفس القدر من السياح والنَّوارس — أو العكس — في فوضى مُبرقَشة.

•••

هل منحَت لينا نفسها للمسات بصَري، وقبل أن تصلَها أيَّة إشارة مني؟ كانت تُداعبني عن بُعد وكأنها خارجة من حلم عتيق. فجأة نسيتُ لينا ورأيتُ نفسي على سطح بيتنا الأصلي أجول بنظري في آفاق المحيط. لقد كبرت متاهةٌ تغيب منها الشمس في الباحة. متاهة ذات بلاطات مُستطيلة وأدراج صاعدة باتجاه السماء؛ حيث كنتُ أجلس على نجمة كبرى من الفسيفساء لأُلاعبَ ابنة عمي. ثم إني لا أتذكَّر أي شيء، فكلُّ شيء كان قد تلاشى. لينا، لينا، أين أنتِ؟

كانت لينا قد توغَّلَت في فسحة مُنعزلة عما يحيط بها إلى حدِّ اضطُررنا معه عن قصد مشترك أن نَقترب أكثر في وحدة هذه الجملة: «كنت على وشك عدم المجيء.» استدرتُ نحوها. كانت متَّكئة على دربوز تُتابع بنظرها، كما بدا لي، شقوق المُوَيجات، هناك حيث تتداخَل المياه ويغدو تجعُّد سطحها بلوريًّا ذا زبد خفيف يَنتهي عند طيران نورس أو أي طائر مسحور آخر. تحركت الريح ونثَرَت شعر لينا في الظلال. تعتَّم الليل ومعه تعتَّم وجهي. وبالرغم من ذلك، كان الهدوء يعمُّ كل شيء. في البعيد، كانت أشباح أصيلية تَنتقِل من جانب لآخر من القنطرة تحت زرقة السماء. زرقة كانت تنحو نحو السواد تحت غيوم مُتحرِّكة وإن بدت غير مثقلة. كان ألبرتو سيقول لي: «الصيف هنا فاصل قصير بين شتاءين طويلين.»

أحسست بنظر لينا يتوقَّف عند يدي: «كان لديك خاتم زواج في هذه اليد. لمَ نزعتَه؟» أجبتها مُضطربًا: «اتفقتُ أنا وزوجتي على سِنة من التفكير قبل أن …»

– «سِنة من التفكير؟ التفكير في ماذا؟ هل في تلك القوة اللازمة لعيش سَنة بيضاء من الراحة؟»

تردَّد صدى ضحكتها الساخرة قُرب وجهي ليَسرِق منِّي نفسي. ما الذي حدث؟ لمَ هذه اللحظة القاسية؟ ومن فرط الجرح الذي أصاب كبريائي كنت أطفو في زمن غير واقعي. ما الذي كانت تبتغيه مني؟ يا لها من كائن عجيب وغريب الأطوار؛ وبما أنَّ كبريائي قد فرض عليَّ بعض الصرامة؛ فقد اضطُررت إلى مسايرة رُؤياي الداخلية بحيث بدت لي كل صور العالم فائقة الهشاشة. وفي ومضة برق، ومِن غير أن أوجه نظري إليها أدركت فجاةً ولَعها بالحالات المُحرجة. ضحكنا، لامستُ يدَيها وكتفها. وبسرعة غيَّرتُ موضوع الحديث بينَنا وانفلتَت من عناقي المختلِّ السابق لأوانه. كنتُ أنا أيضًا أتصارع مع عواطفي.

كنا قد تمشَّينا كثيرًا قبل أن نستقر على العشاء في «شابمان»، الباخرة-المطعم. تناقشنا بكلمات لطيفة عن كل شيء ولا شيء. في المطعم جعلَتني ثمالة الجعة المخلوطة بثمالة خمرة «السنابس» أتذوَّق بشكل أفضل ذلك السمورجاس بالزبدة، وذلك الخبز الصافي المسمَّى «فازا سيزام»، فحتى لو كانت هذه الصوتيات بالية فإنها ستمنحُني لذةً فائضة.

طلبنا بعد ذلك طبقَين من «سترندبرج» أخَذا اسم الكاتب السويدي المشهور، وهو طبق مكوَّن من شريحة عِجل رقيقة على طريقة ميلانو، وبطاطس مطبوخة في الفرن، وورقتَي جلبان وحبة طماطم واحدة، دفع صغرها لينا إلى القول:

«سنأكُل الكاتب كله». رددتُ قائلًا: «سنَنهشُه برواياته ومسرحه وأشعاره ولوحاته، وربما ﺑ …» أمسكتُ نفسي وبلعتُ كلمة «نسائه». خمَّنَت لينا ما أردتُ قوله. أبعدَتني عنها ببرودة وحدَّثتني عن ماضيها وكأنها بذلك تَسبق خيالي. هل كان ذلك خرافة أم حكاية حوريات شتوية؟ لن أعرف ذلك أبدًا.

– تصوَّر أنني وحيدة أسرتي. تربَّيت قرب كنيسة القرية في سكانيا.

أجبتها وقد استبدَّ بي الخمر: أنتِ عرَّافة وثنية حقيقية.

– العرافات هنَّ بالأحرى جداتي من أبي اللواتي ربينَني. لقد قفزت على جيل بأكمله. كنَّ يَعِشن على شكل طائفة، يغزلن الصوف ويَعملن في الحديقة ويشربن الخمرة خالصة خلال الليلة الشمسية، وفي أحد الأيام اختفَين، كان قد اختطفهن طائر من طيور الثلج.

وفيما كنت أنصتُ إليها وهي تحكي حياتها الخرافية على شاكلة أسطورة عتيقة، كان ذهني يضج بتلك الملاحم الشمالية التي تغير فيها الكائنات والأشياء، من مظهرها فجاةً، تتمطَّط أو تنكمش بين السماء والأرض كي تتبخَّر أخيرًا في موت وحشي، هناك حيث لم يكن في مقدرة العقل الغريب لذاك الوقت أن يَصِل! هذه الشطحات تعجُّ بقساوة قاتلة أكون معها الآن مدفوعًا إلى أن أخمن إلى أيِّ حد هو مسكون هذا الصمت المرهف والهادئ لهذا الشعب، بالنفي الشجي للحياة. كانت لينا بسخريتها ووحشيتها تُمثل ذكرى صورة أسطورية وقد أخذت ملامح امرأة طائرة، وهو ما ستقوله لي بنفسها ببداهة فائقة.

•••

توجهنا نحو «شيبسهولمن» حيث كانت راقصة يابانية تقدم فُرجة استعراضية، وبعد أن عبَرنا الجسر سِرنا بمحاذاة فسحة خالية من الأشجار وضيقة، مُتتبعين منعطفات تفصل بين تلَّة والبحيرة، فيما كان الأفق الصافي في الجهة الأخرى من البحيرة يبدو مُهاجرًا من مرتفع إلى آخر. كان الطريق المؤدي إلى قاعة العرض يمر من مركز خاصٍّ بالكُتاب الذين يمرون بالمدينة أو بأولئك الذين يعيشون قطيعة عاطفية.

أثار فضولي مبنى ذاك المركز المُشرف على ضفة البحيرة كأنه ينزلق نحو مويجاتها. مركز يبدو وكأنه كان قد بُني بوحيٍ سحر لوثري خاص جمده الزمن. وفي لحظة خاطفة أحسست بالحلم اليقظ لهؤلاء الكُتاب الذين شكَّل صمتهم الليلي ذاك، لأجل عملي الثمل، مكتبة جسدية وذاكرة حية صيغت لتوها في هذا المأوى المُلغز. هناك درج من الخشب الصقيل الذي صبغته أو صقلته محنة مورقة، يؤدي إلى الباب الذي تحف به مجموعة صناديق الرسائل. أما أغلفة الكتب فيبدو أن صانعها هنا مجلد حالم يذكرني بالأدب الغابوي الذي يشكل مجالًا خصبًا للساغات الشتوية وظهور الأشباح. لهذا كانت رائحة السندر (التي ملأت خياسيمي في أول إقامة لي في السويد) تترك أبدًا بصماتها على تلك المخطوطات المفتوحة باتجاه الأجيال المقبلة.

وأنا أنسج هذا على عبير الكلمات، أفكر أيضًا في راقصة هذه الأمسية وفي التواءاتها العجيبة. نزعنا أحذيتنا قبل أن نأخذ مكاننا على بساطٍ من قصب، بينما كانت الموسيقى قد بدأت عزفها، مساعدة إياي على فك عقدة سير حذائي وإرخاء أعصابي وثمالتي. أنغام عنيفة تارة وهادئة أخرى. لكن لا الهدوء ولا الحدة كانا هنا يَحملان اسمًا مميزًا إلا تلك الحركات الرشيقة التي رسمتها خطى الراقصة. كانت من الرقة بحيث نخالها تخطو على تُويج زهرة دون أن ترتعش أبدًا.

قدمت الراقصة تحياتها الطقوسية لربة النور ورسمت في الهواء ولأعيُن النظارة رسمًا خطيًّا يابانيًّا: مو. ونحن نُصغي السمع لتلك الموسيقى اليابانية المُتداخلة بتلك الخطى، كنا مدفوعين إلى توزيع نظراتنا المتسائلة على فضاء شبه عار، مزين بعلامات ناصعة: هنا تُوجد ساعة هرمية كبيرة موضوعة على الردهة؛ وهناك لوحة ممدودة ومُرتكزة في أسفلها على عماد خشبي.

بعد قليل ستُضاء الستارة حتى تمنح المجال لظهور لعبة ظلال يَنطبع من خلالها جسد الراقصة على شكل نيجاتيف وعبر تموُّجات سرية. ظلال ستَبقى للحظة وبدون حركة، كما لو كانت توقف الزمن وتركز صورتها على شاشة عين مُصوِّر حالمة.

لا وجود للإيماء. ليس غير ملامح الحركة وصورتها. ليس هناك مِن تعقيد نافل، فقط آثار عاطفية على لوحة من العرض. كان الجسد محاطًا عن قُرب بإطار محدَّد؛ إنه حرية تشكيلية ورياضية حتى ضفاف الرغبة والمُتعة. من ثم انحلَّ الكيمونو الحريري لذاته على أهداب الجسد بفنٍّ شهوانيٍّ. وعلى الكيمونو ظهرت صورة تنِّين، ثم ثانية، تنين يصارع روح الرقص الصانعة للمعجزات.

هل نسيت وجود لينا؟ كانت تضع رأسها على هذا الفخذ أو ذاك مسايرة تنوعات هيبة أبدية. همهمت في أذني ولمرات عديدة كلمات غير مفهومة. بعد العرض تركت لي بسرعة رقم هاتفها وغابت في ظلمة الليل. مرَّ كلُّ شيء بسرعة. ولكي أخفِّف من ثمالتي قمت بجولة طويلة، عاهدًا بلا مُبالاتي المتوحِّدة إلى هذا الصيف الجميل.

•••

ما كدتُ أدخُل غرفة الفندق حتى رن جرس التلفون. كان قد مر على منتصف الليل نصف ساعة. فكرت قليلًا قبل الإجابة. فأنا حين أرفع السماعة لا أقول أبدًا: آلو! على الآخر أن يقولها لي. كانت دونيز حزينة ومُرتبكة. سألتني للتوِّ: وستوكهولم؟

– فاتنة وعجيبة.

– وغرفتك؟

– تطلُّ على الجزء الآخر من القارة.

كنت قد قررتُ الإجابة بنوع من الوقاحة. وسواء أكانت تلك الوقاحة حقيقية أم مُفتعلة فقد كان يشوبها المرح والشاعرية. غير أن دونيز لم تتركني أتمادى في غمغمتي وحديثي مع النجوم. فقد كانت هي أيضًا نجمة من بين النجوم، ألحَّت قائلة:

– اسمع … النوم لا يأتيني. أنا أناديك، هل أنت بخير؟ قل لي. أحس بنفسك. أنت مخمور. غائب عن وعيك. شربت السنابس.

كذبت بمرح:

– السنابس؟ يا له من هذر يا عزيزتي، أنا في فترة نسك، ففي الوقت الذي كانت فيه الخمرة متوفرة، كنت أَحرم منها نفسي بعض الشيء.

لكن دونيز أوقفت هذا الارتجال الفج.

– اسمع.

– نعم دونيز. سنة للتفكير، هذا أجل لا يخلو من قساوة. لديَّ فكرة لصالحك: ابحثي لك عن عشيق!

أجابت بجفاء:

– هذا شيء لا يَعنيك يا وغد.

– لكنك لا تتركين لي الفرصة للابتعاد، وربما للعودة أيضًا.

كادت دونيز أن تُجهش بالبكاء. كان كل شيء قد ادلهمَّ فيما غرقت باريس في ليلٍ حالك دون أن تتعود هي على هذا الفراق. في النهار تشتغل بشكلٍ آليٍّ في المتجر. وبدون نتيجة تُذكر. يدخل الزبائن ويخرجون خاوين الأيدي. يرن الجرس بشكل آلي. والباب يبدو وكأنه يدور في زمن سائب. تَجلِس إلى مكتبها وتَحسب إلى الآخر الفاتورات وقصاصات السلف. وتُعيد بين الفينة والأخرى ترتيب أوراقها. من الأفضل تعذيب الأوراق كما عذَّب قلبها الجريح. حين تعود للبيت باكرًا تهتمُّ بالصغير وتسهر على نومه بحكايات مُرتَّقة تدور أحداثها في بلدٍ بدون اسم أو في صحراء بدون أفق! حكايات على شفا الموت. وينام الصغير مذهولًا.

– لكن ما بك يا دونيز؟ تكلَّمي. أعاهدك أني سأكون إنسانًا وفيًّا. أنتِ تعرفين أن صيفي ليس مُبرمجًا كلية، فأنا أعتزم التجول في البلد، وربما أصل حتى فنلندا مرورًا بلابونيا.

أحسستُ أنها تُصارع بأنفة، إن لم يكن بكبرياء، الألم الذي يَنخرها. تمامًا كما الرباط عهدتها. هل كان بمُستطاعي في تلك اللحظات التخفيف من كبريائها ومِن دموعها وتحديها المشاكس للزمن؟!

بعد أن تلاشى اضطرابي حدثتها بهدوء. أجابتني بنيَّة السِّلم نفسها، لكنها كانت نية زائفة. فقد فاجأت في قعر صوتها ارتيابًا يَشي بحنينٍ عارم. كل شيء كان يُنهكها، الزمن المنساب والزمن المعاند. فحين يتمُّ رسم أجل لزمن الحب بهذا الشكل، أيكون ذلك محتملًا عندما يُبدد النسيان الذكريات؟ آه كم كنت أتمنى أن نحافظ على نواة وحدتنا، ونقتسم ما لا يُقتسم إلى أن يُعمينا الذهول المطلق! لا ترمِ بنفسك في الهاوية. راقبي نار الحنين ورمادَه وشياطينه الغافية. تخلصي من الضغينة وكوني كائنًا ذا إيقاع وصوت، صوتًا حقيقيًّا. بدءًا من هذه اللحظة، لم أعد أعرف من يتكلَّم مكان الآخر. كلام مرتج، مطوَّح في الليل، أيادي مُترابطة، مُقيَّدة. أسرعتُ بإنهاء الحديث.

– دونيز. لنُوقف الخسائر. عِمي مساءً!

أجابت دونيز بخفوت، تاركة صوتها يهرب منها وهي تُتمتم. هل كانت حقيقية أم مُفتعلة هذه الرعشة في صوت ألفته؟ كنتُ أعجب فيها بهذا الارتباك الممزوج بالصمت والصراخ القابل لأن يُحوِّل السخف بمُعجزة إلى قوة حب. ثم انسحبَت داخل نومها البعيد. هناك في كوكب الأحلام حيث الوحدة في توازُن دائم، دخلت في نوم عميق. وأنا الغافي في الطرف الآخر من الخط، المغلَّف بنبرة صوت صامتة، نهضت صورتي المُثقلة بالنوم في المرآة. وبمجرد ما تلاشت الصورة عاد بي فكري إلى ماجريات اليوم. تصوَّرت لينا تدلف داخل بيتها، تصعد الدرج، تفتح الباب، تعبر البهو لتمنح نفسها بوقارٍ للنوم في تلك الشقة التي تُطل، كما أكَّدَت بنفسها، على جانب من الحديقة.

مهما طال هذا الفصل التعليمي من حياتي فإني واثق من حماسي وتفانيَّ.

وهي حماسة خمدت بعض الشيء خلال مدة المناظرة التي كنتُ أقوم بمتابعتها كمترجم. كانت حالاتي النفسية قد غدت إلى حدٍّ ما معلقة. خُضت في مهمتي وأنا أتظاهر بأني في حالة سِلم مع نفسي. كان ذلك سكونًا مليئًا بالمفارقات. لكن كيف الترويح عن ضعف القلب بغير العمل؟

١  Greta Garbo، ممثِّلة سويدية دخلت عالم السينما كهاوية. هاجرت إلى هوليود حيث كسبت شهرة عالمية وهي نموذج للشخصية الشهوانية.
٢  نسبة إلى رهبان آسيويِّين.
٣  الساغا Saga ملحمة تتميَّز بها الشعوب الاسكندنافية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤