الفضاء الحد
في الغد، دخلتُ قاعة المحاضرات قبل افتتاح المناظرة، التي تتمُّ أشغالها في فندق فخم. كانت القاعة فارغة. وحين أخذتُ مكاني داخل المقصورة الزجاجية تأكَّدت من سلامة الأدوات التقنية المخصَّصة لي، الميكروفون والسماعة والأزرار. راقبَتِ المقصورة الثانية في غيبة زميلتي ومُجاورتي في المقصورة هيلين مور، ثم غُصتُ بنظري في المشهد بكامله.
في تلك اللحظات الصباحية، كان المنظور الذي انطلقَ منه ثم الذي سيُؤطر نظرتي كمترجم خلال يومين، مصفى بظلٍّ ذي أشعة مشوبة بنزر من اللاواقعية. كان ذلك وهمًا عابرًا، أثرًا لا شكَّ فيه من آثار ليلة أمس، مما اضطرَّني إلى ضبط نفسي ورسم برنامج اليوم ومدَّته السردية داخل ذهني.
كانت النوافذ تُطل على البحيرة. فتحت واحدة. مِن الشارع تصلني همهمة باردة كصوتٍ مكسوٍّ بندف الثلج. بهذه الحركة البسيطة؛ أعني بفتح نافذة باتجاه مدينة ملغزة، نلمس تنظيمًا جديدًا ومتحركًا للفضاء. فالنافذة تُصفي الضوء الذي يحملنا وينحتنا. حين تكون نافذة ما مفتوحة فإنها تحجب الحياة، وحين تكون مُغلَقة ترمي بها بعيدًا في غور أبعاد جديدة.
هذه التمارين الطقوسية كثيرًا ما تُهدئ من روعي. ربما كانت تجعل من إقامتي في المقصورة، وراء الزجاج، أكثر احتمالًا. ذلك أن الزجاج يشكل بالنسبة لي خطرًا شبحيًّا من الشفافية. ألم تصدمني سيارة؟! وأنا فاقد لوعيي على الزجاجة الأمامية للسيارة كنت فيما تبقَّى لي من وعيٍ أحادث شرطيَّ المرور. التحقَت بي هيلين قبل نصف ساعة من بداية الجلسة الأولى. كان لنا الوقت لتقسيم المهام وبرمجتها فقط. وها هي جنبي يَغمرها الشحوب. هل فاجأت أو خمَّنت سرَّ ضيفها؟ حين حدقتُ فيها بحنان، رأيتها بغتةً تستعيد لغتها وهي تتكلَّم. بدأت حمرة طفيفة تغزو وجهها بجماله العادي لكنه لطيف الرؤية ناعم الملمس. وجه مثلَّث، ذو ملامح مُتناسقة، ويبدو من وراء حجاب الخجل منحوتًا بالإرادة والعزم.
هيلين، بالنسبة للعارفين تملك موهبة عبقرية في اللغات. وكنا قد غطَّينا معًا العديد من الاجتماعات في بلدان مختلفة، عقيدتنا في ذلك هي النجاح في مهمَّتنا. لكن هذا الشغل المشترك يخضع، وبشكلٍ غامض، لفنِّ الارتجاج. كان كل واحد منَّا يستفز بدوره الآخر. وشيئًا فشيئًا، لاحظنا أننا، ونحن نكتشف أغوار علاقتنا العاشقة، كنَّا وجهًا لوجه مع وحدتنا المتواطئة. في سنغفورة، تَضاجعنا بلامبالاة خارقة. كانت تلك هي المرة الوحيدة التي نتضاجَع فيها. في ستوكهولم. جددت هيلين دعوتها. لكني في غمرة افتتاني بلينا لم أُجبها لذلك. بدَت لي حزينة من غير ضغينة. ظللنا طيلة المناظرة جنبًا إلى جنب، كما لو أن أي شيء لم يُعكر صفو تعاوننا. وفور انتهاء الجلسة ستغادر هيلين القاعة.
كان كلٌّ منا في مقصورته ينتظر. دخل المشاركون جماعة، وأخذوا مقاعدهم التي تحمل أسماءهم. بدت لي القاعة واقعة تحت ضوء مُتغيِّر وهي توزع المشاركين حول المائدة المستديرة.
بدأت الندوة في الوقت المحدَّد تمامًا، وبدون أي تأخير. توجه رئيس الجلسة، الأسترالي، إلى جمهور القاعة قائلًا:
– إنه لشرف عظيم لي ولبلدي أن أترأس هذه الجلسات الدائرة حول موضوع: «الحياد والاستراتيجية العالمية». هذه الجلسات سيتمُّ توثيقها من طرف مقررنا الرسمي، والتنسيق فيما بينها من طرف الكاتب العام الذي أبى إلا أن يترك مسئولياته الضخمة ليُخصص لنا يومين مُثقلين من وقته.
أما البرنامج الذي بين أيديكم فسيتمُّ اتباعه حرفيًّا وحسب التتابُع المسطر فيه.
وأضاف الرئيس:
– ولتسمحوا لي الآن أن أعطي الكلمة للبروفسور … من جامعة لوند.
وأخذ البروفسور … الكلمة:
– قال همارسكيولد: «لا أحد يظلُّ محايدًا أكثر من الوقت الذي يسمح له به جاره.» لقد استشهدت بهذه القولة قبل أن أعرض عليكم المبادئ التي تفهم خلالها السويد حيادها بكل أبعاده، وحتى لا تكون مقدمة تدخُّلي هذا استطرادًا تاريخيًّا، سأذكر فقط بأن أصل «الحياد المسلَّح» ظهر في منشور للملكة كريسين يعود لسنة ١٦٥٨م.
لنُناقش الآن هذه المبادئ. وقبل أن أتطرق إليها نقطة نقطة اسمحوا لي أن أعبر لكم عن انطباع شخصي، فمفهوم الحياد هذا عسير على الحصر، بل إنه أحيانًا يكون غير مفهوم ومُستوعَب من طرف السويديين أنفسهم فبالأحرى من طرف جيراننا.
إنَّ الخطر يكمن بالأحرى في الاعتقاد بأنه من المستحيل جعل هذا المفهوم واقعًا عينيًّا وأنا أشدد هنا على كلمة من المستحيل. إننا نَقترح عليكم بوضوح أن مبدأ الحياد مبدأ واقعي يمتلك مزايا برنامجية: من ثم، فهو ممكن.
النقطة الأولى ذات طابع موضوعي: إنها تتوقَّف على إرادتنا المشتركة في الحياة نحن بني البشر. فالحياد هو الغاية التصورية لكل حرب. إنه يرتبط بضرورة نزع السلاح، سواء تعلق الأمر بأسلحة تقليدية أو حديثة أو مجهولة.
ونحن نتساءل: هل هذه الأولوية الممنوحة للسلام قابلة للتطبيق الفعلي؟ نعم ولا. نعم، لأن السويد ظلَّ بعيدًا عن كل نزاع. ولا، لأننا نسعى، بهذه الصورة أو تلك، إلى شل قدراتنا على الحياد. ونحن نتمناها، وأكثر من أيِّ وقتٍ مضى، قدرات فعالة.
بدأت المُناظرة أشغالها في جوٍّ من وضوح الفكر. غدَت مهمَّتي شفافة. وأنا الذي يقوم بالترجمة الفورية ويُنصت ويتكلَّم بفارق زمني بسيط بينهما، كنت أتعود بسرعة على موقعي كلاقط للكلمات، إلا أني لاقط يلزمه أن يظلَّ مختفيًا عن الأنظار. وإنه لشيء عزيز عليَّ أن أحافظ لسر المهنة على كرامته حتى في الأوقات التي أكبت فيها رغباتي المفضَّلة. إذ يلزمني أن أكون محايدًا من ناحيتين: لأجل سياسة الحياد ولأجل نفسي. استراتيجيتي في ذلك ألا أنقل شيئًا في كلمات غير صريحة، فكل شيء ينبغي أن يتم في شفافية الكلمات، نعم، نعم يحدث أن أرتجل أحيانًا. إلا أنه ارتجال يتم تحت المراقبة، بينما ينزلق صوتي بين تنويعات التدخُّلات. أما الحِفاظ على نفس النبرة والإيقاع والابتكار الصوتي، فتلك قاعدتي الذهبية، يحدث أيضًا أن يقوم المحاضر بفلتة لسان. وعليَّ أن أُصحِّح وأقوِّم كي أحكم التسديد. عليَّ دائمًا إعادة المتكلِّم إلى رشد اللغة عبر التخفيف من تكرار الأخطاء، الأخطاء تتناسل، وتكون أحيانًا سخيفة، وأحيانًا أخرى مُدهشة أو غير قابلة للاستدراك. يَحدث لي أيضًا أن أترجم «همسًا»، بقواعد مرنة وبحميمية مُطلقة الافتعال. إن أهمية المفتعل تكمن في كونه يغدو حقيقيًّا وأصيلًا. والنبرة الصوتية للمُتدخل؟ أنطقها حسب ذوقي. فأنا أكون أنا والآخر ثم أنا، تباعًا؛ محبوسًا بين السرعة والكلام. والسرعة والصمت. وبمجرَّد ما انفعل أهدِّئ نفسي. أعود بنظري إلى الحضور، راميًا بنظرة مُختلسة عبر النافذة. وغالبًا ما أكون مضطرًّا إلى أن ألقيَ بنظرة واحدة ألفُّ بها الحضور بكاملِه. فأنا هنا خلف الزجاج للالتقاط والاستشراف وإدراك معاني الكلمة أو الجُملة أو الجناس بمجملها. كل المعاني، سواء كانت واضحة أم غامضة، جناسات معقولة ومعقَّدة أم ضبابية، محمَّلة بأفكار وضَّاءة أم بالهذر والبلاهة والصرامة الزائفة التي لا تُحتمل؛ فهنالك مواقع كثيرة مُتأرجِحة في توازن اللغات. وكلَّما تسارعت وتيرة الترجمة قرأت الواضح والمخبوء في جسد المتدخلين كما لو كان ذاك الجسد المتعدِّد الأشكال كتابًا مسجلًا على أشرطة وضاءة. إنها سرعة تقودُني إلى أبعد مما تقودني إليه قُدرتي الخاصة على ترجمة كل شيء خلال الجلسة … يا لها من تجربة مُدهشة! إنها تُرخم من نبرة صوتي ومن إيقاعي التركيبي وتُلطِّف من مويجاتي الحسية، أنا الموجود وراء الزجاج، أراقب شفافية الكلمات من نفسي إلى نفسي، من الآخر إلى نفسي ومن نفسي إلى زميلتي. أسجِّل كل لفظة وكل جملة مُكتملة كانت أو ناقصة، مستشرفًا تطوُّرها ومانحًا إياها نسغ القوة إن كان هذا النسغ موجودًا. الأمر يتعلق بالأحرى بلغة موحَّدة؛ فعليَّ سماع الإنجليزية أو الألمانية والترجمة إلى الفرنسية، لغتي الأصلية. في الداخل، تسكُنني أذنٌ هائلة. تدفعني مع الزمن إلى المرونة. فما يصلني، وبفارق زمني طفيف، لا يلزم أن يكون مشحونًا أكثر من اللازم، وإنما قريبًا من قُدرتي على السماع الحق والأكثر موهبة. بالرغم من ذلك يبقى في تقعُّرات أذني بعض الصرير والأزيز المزعج الشبيه بالصوت الغائر لكلمة منسية. فخلال الجلسة، أقوم بموازنة تتابع الكلمات على شاكلة آلة موسيقية.
كان البروفسور … من جامعة لوند يتحدَّث ببرودة. وبدا أن ضيقًا عامًّا يرفرف في أجواء القاعة. قد يكون ذاك الضيق نابعًا من كدري العاطفي. فكَّرت لبرهة في لينا، ثم اغمضت عيني واستعدت قُواي العقلية. تناول الرئيس جرعة ماء. وأشعل جاره سيجارة كي يتبعه الآخرون في ذلك. كانت المائدة المستديرة، منظورًا إليها من مقصورتي، تبدو وكأنها تدور مع الدخان. نافذتان كانتا مفتوحتَين. نهض الرئيس وفتح ثالثة. أما وكأنها تدور مع البروفسور، فقد تابع عرضه دون أدنى انزعاج:
– نحن نطرح على أنفسنا أيضًا هذا التساؤل: كيف المكوث خارج النزاعات وسيناريوهات الاستراتيجية؟ إن إجابتنا لا لبس فيها: بفضل التبصر. وأنا أشدِّد على الكلمة التي نعتبرها جوهرية بالنسبة للعقل المنطقي والتأملي للاستراتيجية. تقول السياسة: «ليكن حذر الثعابين»، وتضيف الحكمة (كشرط حصري) «وبساطة اليمام». هكذا تحدَّث عمانويل كانط وهو المنافح الأكبر عن السلم الأبدي.
إننا نُميز، حسب وجهة نظرنا، بين درجتين من الحياد: السِّلم الشامل (وهو ما يُشكل مثَلَنا الأعلى) والحياد الملتزم قولًا وفعلًا. وهذا النوع الأخير يتمُّ الدفاع عنه أكثر من طرف بعض الأحزاب النسوية والفلاحية. إنني الآن لا أنتقِد، أحلل فقط. فنحن نحترم وجهات النظر كلها.
أما استراتيجية الحياد المسلَّح فتُشكِّل النقطة الثانية في حديثنا. إنها تفترض شرطَين أساسيَّين: نحن لا نهاجم لكننا لا نرغب في أن نكون عرضة لهجوم مباغت. نحن ضد استعباد أو اضطهاد شعبٍ من طرف آخر. فمنذ زمن طويل لم نُعلن حربًا ولم نستعمرَّ بلدًا. لهذا نحن نتفهَّم جيدًا رغبة بلد ما في الانعتاق من وطأة الاستعمار وإرادته في التحرُّر وأخذ مكانه ضمن محور الهوية الوطنية: أعني الفضاء والزمن واللغة والاقتصاد والتقنية والأخلاق. هذا المحور هو المحور الذي يُوجهنا. فهل سيكون نظام السويد محطَّ تقليد الآخَرين أم أننا نحن الذين سنقوم بتقليد الآخَرين؟
لنتصوَّر، سيداتي وسادتي، هذا السيناريو العسكري. ولنفترض أن بلدًا جارًا أو بعيدًا أراد مهاجمتنا. يلزم هذا البلد، حسب نظامنا، أن يُخبرنا بإشارات نحن مُستعدون دومًا لتلقِّيها وإرسال إشارات جوابية لتفادي أي حرب. فهل موقفُنا غامض وعبثي؟ يُجيب بعض الملاحظين الفَطِنين بالإيجاب، لكنَّنا نعتبر أن الاستراتيجية تنبع من نظريات التواصل. فما هي نظريتنا نحن في التواصُل؟ نحن نترجم نمطنا في الدفاع عبر الردع الضمني للآخرين ولأنفسنا، وفي الحالين معًا، نحافظ على حياد مسلح، بوازع وفاء لنظامنا الأخلاقي.
هذا الردع إذن تقني وأخلاقي. فنحن نعتبر أن لكل بلد الحق في استقبال إمكانياته، ومن ضمنها إمكانيات الدفاع عن نفسه في حالة التعرُّض للعدوان. فهذا يفترض ذاك، ولكي يتم تفادي النزاع فمن اللازم الحفاظ على المصداقية، أعني المصداقية في أعين أولئك الذين ليسوا بمُحايدين أبدًا (وهم أغلبية) والذين يُبدون حيادهم إلى هذا الحد أو ذاك. إنَّ المسألة هنا مسألة رؤية وتبصر. فهل يكون ذلك حلقة مفرغة؟
إن التمييز بين الشك والمصداقية هو ضمانة أخلاقياتنا. وتلك هي النقطة الثالثة. فمن اللازم الإيمان بمصداقيتنا. لماذا؟ لأنَّ السويد بفضل ذاك الإيمان الذي يُبرهن عليه حيادنا، استطاع تفادي فاجعة حربين عالميتَين. و«التفادي» يعني هنا ربح السِّلم بالسلم في باقي أوروبا.
إنَّ رِبح حرب بدون اللجوء إلى خوضها هو الحكمة المثلى. فهل بإمكان الاستراتيجية الخضوع إلى الحكمة؟ أم إنها فقط توظيف لجنون الناس وغريزتهم العدوانية، تقوم به الأرواح الشيطانية؟
هذا النوع من الاستراتيجية يُشكِّل نظرية خطيرة للعبة؛ إنها تُفقر وتذل، تهدم وتزرع الموت. وإذن فإن نظريتنا بيضاء، فهي تدخل اللعبة فقط لإقامة السلم المؤقت والدائم. باختصار إن استراتيجيتنا محايدة.
هذه هي النقطة الرابعة التي يصعب إيصالها إلى جنوب أوروبا. لنتأمَّل لحظة في مصير العالم وأمنه. الأرض تتفقر والبحر يتلوث والسماء أصبحت غاصَّة ومُثقلة بالآليات. أستحلفكم أن تقولوا لي ما الذي سيبقى من ورقة العُشب ومن النشيد الملائكي للعصافير؟
في تلك اللحظة توقَّف البروفسور عن الاستمرار. ألقى بنظرة على الحاضرين وباتجاه الرئيس الذي كان يهشُّ برأسه، ثم تابَع بهدوء محرج:
– يقول الحقوقيون وعن حق: القانون خيال صنعه المؤسِّسون. لقد أثبت القانون السويدي الحياد، إلا أنَّ هذا الحياد لا تنصُّ عليه القوانين الأساسية. هل هو شذوذ بيِّن؟ قد يكون ذلك أيضًا ضربًا من اللامعنى. فما معنى أن نكون مُحايدين من غير أن نكون ملزمين بمعاهدة دولية؟
كل هذه الأسئلة توجد في مقدمة اهتمام المجموعة العالمية. ذلك أننا إذا نحن وقَّعنا معاهدة مع هذه القوة أو تلك، صغيرة كانت أو كبرى أو مُتوسِّطة، فإننا سنغدو ملزمين بالاهتمام بالنزاعات مع أطراف أخرى. وهذا شيء لا يُهمنا أبدًا.
نحن نضبط نفسنا. وهذا كافٍ لإثبات مصداقيتنا لدى الآخَرين. فالبلد الذي لا يضبط نفسه ولا يدجن قواه اللاعقلانية قد يخضع بسرعة للردع، من طرف الآخرين. إن بلدًا يعيش في الحياد يملك طريقة خاصة في موازنة عنفه.
هذه النقطة لها حمولة دلالية كبرى. فالاستراتيجية التي تذيب بلدًا جارًا أو صديقًا في جغرافية سياسية للتوسع، تكون خطرًا على العالم. إنها تمنح لنفسها حق مراقبة بلد معيَّن وسكانه وحياته الطبيعية.
وبصيغة أكثر صراحة، هناك الحرب والسلم، والحياد هو الاختيار الثالث، ومن الأكيد أن السلم نقيض للحرب. أما نحن فنريد التفكير فيما يُؤسِّس السِّلم النهائي للحق الطبيعي.
قد نكون موضوعًا لسخرية البعض، فيم سيُؤكد لنا آخرون: «لكن الحياد نوع من الشلل». ونحن نُجيب بأن الحياد ليس مرضًا وإنما هو لصيق سلامة العقل نفسها. وإذن فإن العقل معنا إلى حدٍّ ما. ويقوم آخرون أكثر دهاء بانتقادنا بخصوص الجمعية السويدية الدولية للتطور: السيدا ونحن نُسمي الآن هذه المنظَّمة المختصة في إعانة العالم الثالث بالسادي؛ لأننا بدلنا من مواقع الحروف البدئية للشعار كي لا نُثير حفيظة أحد.
في هذه اللحظة بالذات، لا أدري أية صدفة جعلت امرأةً بالغة الأناقة تلجُ القاعة فجأة. استدار نحوها كل الحضور. نزعت سماعتي وفتحت باب المقصورة، ثم عمَّ الصمت. تقدمت المرأة الغربية بتؤَدة بالغة، ثم حدَّقت فينا وأطلقت قهقهة لتعود أدراجها مُطقطقة بكعب حذائها. ثم دخلت امرأة أخرى عادَت لتوِّها دون أن ترفع رأسها. ما الذي حدث؟ لا جواب. ابتسم الرئيس، وبحركة من يده دعا المُتدخل إلى متابعة كلامه. وبعد صمتٍ حائر تابع البروفسور قائلًا:
– سادتي سيداتي، لكم الحق الكامل في سؤالنا: ما الذي تُريدون بالضبط؟ هل يتعلق الأمر بنزع السلاح تدريجيًّا إلى أن نصلَ إلى العدو الأكثر خطورة؟ أم إن الأمر يتعلَّق فقط بحماية أنفسكم من كل أنواع الحروب؟
ذلك هو التخوُّف الذي نبلغه إلى العالم منذ إقامة سِلمنا الخاص منذ قرنَين تقريبًا. إنها رسالة موجهة إلى العالم. وتُشكِّل سيميولوجيا الإرسال والتلقِّي فصلًا خاصًّا من علاقاتنا الدولية. فالسلم الداخلي والخارجي مترابطان ومتعاضدان، فهما يُشكلان بِنيةً واحدة في السياسة والاقتصاد والثقافة.
أما عن السلم في الداخل، فنحن محظوظون لأننا خلَّصنا السويد من آفة البطالة والتفكُّك الاجتماعي والثقافي، ومن الفوضى المُعادية للبيئة التي تسُود بين الأرض والماء وصفاء الهواء، ولتسمحوا لي أخيرًا هنا بذكرى قديمة، خلَّصنا السويد أيضًا من انجراف القارات.
حصل حادثٌ جديد. كادت هيلين تضجُّ من الضحك. كانت عيناها مغرورقتَين بدموع المرح. أشارت بأصبعها نحو مدخل القاعة. مشهد لا يُصدق: عارضات أزياء كنَّ يتتالَين في صمتٍ مُتوجهات نحو باب الخروج في عمق القاعة: تنُّورات فساتين بأكتاف اصطناعية أو تنُّورات مفتوحة. عدد وفير من الألوان المختلفة. أصباغ زرقاء ووردية خفيفة. فتنة! حين نهَض الرئيس كان كلُّ مَن في القاعة قد وقف. ثم عمَّت الضوضاء. فهمت فيما بعد أن خطأً لحق لوحة الإعلانات في بهو الفندق. ففي الطابق السفلي، بدأ في نفس اليوم مؤتمر لعارضات الأزياء الاسكندنافيات.
بدت لي تلك الفرجة غير المرتقبة، في البداية، غير قابلة للتصديق. غير أنَّ أحلامي لم تتوانَ في التكفُّل بها؛ فتلك المخلوقات التي كانت تتمشَّى برشاقة وأناقة رائعتين كانت بالنسبة لي طوافًا مقدسًا متشكلًا من المجازات الحية. ما فتنني في ذلك هو مشيتهنَّ ذات الإيقاع الموسيقي والحركة الشبقة التي تقترحها على العين. أليس هياج الجسد وتنميقاته هي المبدأ السحري للموضة!
تركني الافتتان بتلك الكائنات السحرية منهوك القوى. كانت هيلين هادئة وعلى شفتَيها بسمة ساخرة. وبفضلها هي استطعتُ العودة للتركيز على عملي. تنقَّل الرئيس داخل القاعة، وبخفَّة أغلق كل الأبواب وأشار على المتدخِّل بمتابعة كلامه. غيَّر هذا الأخير لجلجته وتابع: اسمحوا لي أن أخاطبكم ببساطة وتفاهُم. حين تندلع الحرب بين الآخَرين يلزمنا عدم الدخول فيها إلى جانب أحد الأطراف المتحاربة. وفي زمن السلم علينا عدم الدخول في تعاقُد أو معاهدة دولية أو التزام مُعترَف به عالميًّا.
إني أثير انتباهكم هنا إلى استقلال الطرف الثالث. فعلى أبوابنا توجد جدلية الحدود (الجانب السوفياتي) واستراتيجية التذويب (الجانب الأمريكي). وبما أن جزءًا كبيرًا من أوروبا يتَّجه أكثر فأكثر نحو مركزه الذاتي، فنحن نرغب في فهم هذا الفكر الدائري، فِكر الحصار. لماذا نُثير هنا صورة الدائرة؟ لم لا نتَّجه نحو الراحة الإيكولوجية بين الماء والأرض؟ لقد كان أجدادنا محاربين أشداء، ولم تكن آلهتُنا أقلَّ منهم صلابة. وقد ولى زمن حرب الآلهة والأجداد، أما السِّلم الدائم فعلينا نحن تشييده.
إنَّ الفرد في السويد مُحايد بالقوة، وصامت بالفعل، فهل هذا الصمت غير قابل للفهم؟ كل كائن له ملَكة الذكاء السياسي يعلم أن للحياد حدوده. فهل هي حدود غير قابلة للتجاوز؟ هل نتجاوزها؟ بالتأكيد، لكن كيف؟
إنَّ بلدًا محايدًا يتفادى أيَّ تحالف في السر والعلن؛ ذلك أن معاهدة مقامة في زمن السلم تسري صلاحيتها على زمن الحرب، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. فهل يكون ممكنًا ألا توقع في معاهداتنا واتفاقياتنا على غير السلام الأبدي؟ وما ستكون هذه الاتفاقية؟ مهما كان الأمر، فهوامش القانون الدولي ضيقة جدًّا. ونحن نريد أن تكون تلك الهوامش والحدود وذلك التحييد بعيدًا عن مشاكل الساحة العالمية، جنبًا إلى جنبٍ مع فوضاها.
لكن بالرغم من ذلك، فهذا الدفاع المسلَّح يفترض امتلاك موارد خاصة ضرورية لحياد البلد، كل البلد. وهذه الموارد معروفة، بل وقابلة للمعرفة والكشف. هنالك موارد مادية ومعرفية خفية. والمشكل في التقدير والقياس، أي معرفة مقدار ثِقة هؤلاء وأولئك حتى لا يجرَّنا أي واحد أبدًا إلى أيِّ حرب، وحتى لا نسقط في أي منزلق أو أي جنون تجريبي للطبيعة والمرأة والرجل والغنيِّ والفقير والبصير والأعمى.
أما المبدأ الرابع، فإنه مبدأ الاستقلال. وإرادتنا في الحياد هي وجهه الآخر، وهنا تنطرح الصيغ الكفيلة بجعله استقلالًا ملموسًا. فنحن تابعون لبلدان أخرى في مجال التقنيات الدقيقة والمنتوجات الجاهزة، والمواد الأولية والمحروقات، والمخزونات الاحتياطية في حالة الحرب أو في حالة حفاظ على النفس تكون طويلة المدى أو قصيرته، من يدري؟ ثم إن السويد لا تعرف نموًّا ديمغرافيًّا كافيًا، وهذا توازن صحي لكنه صعب. ينبغي علينا إذن تجسيد عقلية المهاجرين الذين نقبلهم بينَنا بإرادتنا.
نحن لا نمتلك جوابًا أكيدًا عن هذه الحدود. وعلماء الاجتماع والنفس والتقنية عندنا يقومون بأبحاث متقدمة في هذه المجالات. فهل أجابوا عن مسالة تجسيد كل شيء: الحرب والسلم، الفوارق الحسية والطبقية والعائلية، والمبالغة في الاستهلاك والتلوث والفقر؟
إنَّ الأيديولوجيات تندثر، بينما الحروب تبقى. يقولون لنا: «لكن مبدأكم في الحياد انتحار!» سيداتي وسادتي، علينا أن نأخُذ وجهة نظر كهذه بعين الاعتبار. ويقولون أيضًا: «وأوروبا؟ ما الذي ستكونون عليه داخل المجموعة الأوروبية وخارجها؟ والتبادُل الحر هل يكون كافيًا لتأمين مستقبلكم؟ هل ستظلُّون آخذين وجهة الشمال لتحبسوا أنفسكم مع اللابونيين في أساطير عتيقة؟»
لا، أيها الزملاء الأعزاء. أوروبا حرة، وهي تُدافع عن الديمقراطية والحرية والاستقلال وحقوق كل رجل وامرأة وطفل عبر العالم. فهل ستستطيع أوروبا الاعتقاد في حقِّنا في الحياد، هل ستستطيع أن تُوفر لنا أمنًا حقيقيًّا في حالة تعرُّضنا للعدوان؟ إن استعمال العنف ضد الآخرين هو الخطر المُحدق بكل تجمُّع مصلحي، فأوروبا عالمٌ غدا مُتوفرًا ولو جزئيًّا على صناعة نووية، فيما نحن لسنا كذلك. هل سيتمكَّن تجمُّعنا الأوروبي للتبادل الحر أن يصبح عضوًا في المجموعة الاقتصادية الأوروبية؟ إني أطرح عليكم هذا السؤال.
هذا ما سمعت وهكذا ترجمته. تابعت المناظرة أشغالها بعد ذلك دون أيِّ عائق يذكر. كانت المناقشة هادئة وديبلوماسية، واستمرَّت بلباقة بين الحاضرين الذين يُشكلون بالتأكيد نخبة ممتازة. كل وجهة نظر تمَّ توثيقها على شريط سجلٍّ أو شريط فيديو، وكل شيء تمَّت أرشفته في نهاية المناظرة التي تمَّ ختمُها خلال حفلة كوكتيل شبه مسرحية.
كنت قد خرجت إلى الشارع، وكان الجو قد أصبح باردًا، وضباب بلوري يَغمر الشط. توجهت نحو الفندق. سيقول لي ألبرتو: «هل مملكة السويد بلد استثنائي؟ بلد بدون شعب يتمُّ انتخابه؟ من هو هذا الشعب الذي لا يختار الانتخابات ولا الطرد؟ قد تكون لفظة «الحياد» تُخفي نمط حياة خاص هو الولع بمحوِ الآثار. لكن النظافة هنا يتكلَّف بها الثلج. وحتى حين يكون الثلج وسخًا وثقيلًا فإنه يمنح للإنسان، هذا الإنسان، رغبة رائعة في الشفافية. يا له من حنين لا يصدق أن يحسَّ به المرء نفسه وقد حوَّلته الطبيعة وأشباحها القديمة، كأنه تمثال وحيد صقلَته الرياح الثلجية!