نشوة باردة

كان الجو سريع التقلُّب خلال هذا اليوم، بحيث كان من الأفضل لو أني تزوَّدتُ برداء واقٍ كي ألبسَه أو أنزعه حسب هوى الريح والشمس والمطر المُتناوبة. فجأةً صحا الجوُّ وعمَّ الضوء. هكذا اختفَت المظلات والقبعات. لكن أين يضعها الناس؟ وانتهى بي المطاف إلى التنزُّه، حاميًا جسدي بملابس داخلية من القطن.

تلك الشطحات الطقسية كانت تُلائم مزاجي، وتستجيب لنزَقي العابر، إلى درجة أني استطعت أن أدرك القيمة التعليمية للسفر على حقيقتها. فالفضاء والزمن تقيسهما ساعتنا الداخلية.

في ذلك اليوم، وفي مُنتصف النهار بالضبط، غمرت المدينة شمس حارقة وقاسية. وتمزَّق نسيج خفيف من الغيوم ليُثري بنَبرة الألوان وغورها المبرقش. فتلك البرقشة المعلَّقة في السماء، التي تتلاشى فور انتهائها في تحوُّل سريع، هي التي تستدعي بريق الآلهة وأرواح الماضي. يحس ذلك كل متجوِّل عاشق، من خلال رعشة هاربة تَخترقه. ذلك أنه مشدود إلى تقلبات الطبيعة، راغب في استعادة روعة تلك اللحظات.

كانت ستوكهولم تمتدُّ أمام ناظري، بين الأرض وحضور الماء المُتمايل مع الرياح، المحمول هكذا على هُبوبها نحو منبع مجنَّح. ففي هذه اللحظات المُلائمة تأخذ كل صورة في التحليق المتوازن لتُرسِل إلينا بإشارة ما، مهما كانت هشاشتها الرمزية.

حين أجلس في حديقة ما، يَحدُث أن أتأمل الأشجار دون أن أنتبه إلى أن عصارة تفانينا وعنايتنا تتفرع داخلها، وأنَّ كل شيء يبدو منفلتًا من الجاذبية الباطنية. هبَّت الريح من جديد موجِّهة نظري نحو أعالي المدينة. توقفت عيناي أمام لوحة إشهارية تقول: السماء حد. تابعتُ جولتي على الطريقة السويدية، متقفيًا المسارب التي يأخذها المارة من غير أن يبدو عليَّ طابع التجوال.

هكذا كنت منقادًا ومنجذبًا إلى رشاقتهم العضلية والحسية، فعبر اكتشافي لستوكهولم، كانت الذاكرة تفكُّ رموز درس خاص بالأشياء، هناك حيث يذرع مسار حياتي أراضيها، تائهًا من مدينة إلى أخرى. هناك أيضًا، كنتُ أتعلم اكتشاف سرِّ الحدود والمسارب والممرات والمنافذ المقفلة: إنه السر الخاص بتعليم المسافر. كان ذاك المربع يُوسع من ذاكرتي ومن صبري في الحياة. أقول لنفسي أحيانًا: كلَّنا غرباء حتى تخوم العالم، لكن أن نظلَّ مع موتنا في سلام هو ربما الغرابة الكبرى التي لا تُساويها غرابة.

كنتُ أفكر في دونيز وأنا أحلم بلينا. هل سحَرَني هذا الصيف؟ وبما أننا لسنا محميِّين بأحلام يقظتنا، فنحن ننسى الطبيعة الغافية فينا، تلك التي تفنى في رمادها: ضحكات وصرخات، شفاه شهية وجريحة، وزجاج مكسور يَنجرف على بحيرات مكسوَّة بالثلج والنار. بالفتنة يُدوِّخ الحب عقولنا.

لماذا يكون الحب بهذه القسوة والعنف؟ النفاذ الصبر؟ الخوف؟ لكن ممَّ؟ هل يكون ذلك تعبيرًا عن الوحدة؟ فالوحدة أعيشها بالتأكيد. هل هي الوحدة المتنامية؟ لا. فأنا حاضر مع الأهل. أراقب نفسي وأنا أحيا بينهم وبعيدًا عنهم. وخلال تجوالي في «كاملاسطان». أثارني إلحاحي على العودة إلى تلك المدينة العتيقة، وإلى ساحاتها الصغيرة وأزقتها المُلتوية ودكاكينها المهترئة وكنائسها. هل كان ذاك الإلحاح بحثًا عن سرٍّ قابل للكشف؟

أحسُّ بهذا السرِّ منذ طفولتي الأولى. أعرفه من غير أن أخصه باسم أو صورة أو شكل. فهو يستلم قوته من ارتباطاتي بالكائنات الأكثر حميمية وشفافية. قد أكون مفتونًا بجمال الأشياء والكائنات حين يكون ذاك الجمال ذكيًّا. لكن هذا الجمال الذي طالَما داعبَتْه أحلامي لا ينتمي، شأنه شأن كل سرٍّ، لغير فنِّ الأوهام.

كررتُ لنفسي ذلك وأنا أتابع سَيري، بعد أن قررت شيئًا فشيئًا أن أمكث في ستوكهولم الصيف كله.

•••

– السماء حد: استدرتُ نحو اللوحة الإشهارية قبل زيادة N.K.، وهو متجر أُسِّس سنة ١٩٠٢م (أمن الواجب التذكير بذلك؟).

تسلَّقت هذا المحلَّ الأثري المُتخم بثراء تراكَم على أنقاض الفقر. وبما أني كنتُ غريبًا عن هذا البلد فقد غمرتني أشعة الثراء كما غمَرتني أشعة الفقر، وهو ما سوف أُسجِّله لاحقًا.

صعدتُ ونزلتُ في المتجر مُفعمًا بالعطور والألوان الزاهية والباردة أيضًا، مما جعَلني أتوقَّف عند كل طابق منتبهًا لذهولي؛ بحيث إني أحسستُ في الطابق السُّفلي أني شحنت. أزياء، لعب، دُمى عارضةٍ للأزياء في أوضاع مُحتشمة، ملابس داخلية وردية وزرقاء، كاد كل شيء أن يكون مشهدًا سحريًّا خاصًّا بالأشباح. في وصفي هذا، الذي قد يبدو مُغاليًا، ما يتكرَّر هو عناء البرودة هذا الذي يتسرَّب إلى الهيئة وملامح الوجه ورقَّته الملائكية. كنتُ أصادف أيضًا هذا العناد الهادئ في الشارع والمتاحف والأوبرا وأمام ديوان الملك.

خرجتُ في عجلة وقد شملَني الانبهار. ذلك أن الصيف هنا ليس صيفًا، إنما تناضد للذاكرة تنسجه الشمس وظلالها والثلج والجليد وبصماتها الواضحة على الجسد والروح، وربما النفس أيضًا، فوضعية الجسد الشهوانية القبرفائيلية١ قد اقتُطعت على خلفية مضيئة حيث تتاكثَف أرض حدودية — هي «سفيريج» — في نشوتها الباردة.

كانت المدينة اللامعة بهذا الشكل، فيما بين الفصول، تُعين المارة على أن يكسوا أنفسَهم بهذه المشية الموشَّاة بخطًى خفيفة هوائية، مُنزلقة على جليد غائب بالتأكيد، لكنها مشدودة إليه.

•••

وأنا أتوجَّه نحو حديقة «كونغسترا»، توقفت قرب ضوء أحمر. أبصرت على الرصيف المقابل امرأة باسمة أضاءت جسدي بمرورها، وبدل أن أتقدم متجاهلًا إياها، انتظرت في مكاني مقررًا عدم تركها تُفلت مني. «اخترقَت» نظراتي ظهرها. استدارت نحوي وقد ذهبَت بسمتُها. لكن بدون جدوى. وعوض البسمة وجدت لها شامة مُدوِّخة. تعثَّرت ثم رفعت رأسها وضاعَت في الزحام بعد أن تمكَّن شعرها الثلجي المُشتعل من اضطرابي وفوضاي. كنتُ لا أزال عند الضوء الأحمر. لم أتحرَّك باتجاه ناحية ما. هل أنتظر؟ هل أنتظر «لينا»؟ لو كان لي ان أمنح اسمًا لتمثال «سيرجيزتورغ»، وهي ساحة انتهيت للتوِّ من زيارتها، كنتُ سميته شعار برياب.٢ قد تكون لحظات الفتنة المتبقية البسيطة هذه كشفا لحيرتنا واضطرابنا حين تنحَّت مُتعتنا نفسها، وفي لحظاتها الغامضة، في أيِّ مكان، سيُنبِّهني «ألبرتو» بصدد كلمة «انتصاب» قائلًا: «بعد الحرب العالمية الثانية تمَّ نصب سور من الحديد بين مُستهلِكي الويسكي ومستهلكي الفودكا. أما البريسترويكا فقد روَت نفسها من الاثنين معا.»

بعد ذلك بقليل جلست في ركن هادئ من الحديقة وراقبت الأطفال في لهوهم. على يميني رجل يحمل كيسًا بلاستيكيًّا ويدور حول صندوق قمامة. أُلقي بنظرة عليه دون أن يأخُذ منه شيئًا. مرَّ آخر وفتَّش نفس القمامة، لكن بدون نتيجة.

هذه التحرُّكات أثارت فضولي بعمق، فالفقر لعبة حياة أكثر منه عيب في الوجود. إنه لعبة مُغايرة للحياة والبقاء.

شيئًا فشيئًا، أصبح المكان الذي حشرت فيه نفسي فاقدًا لكلِّ ملامح. عزوتُ هذا التعارُض إلى بنية هذا المكان من الحديقة، حيث يتوزَّع بالتدريج الضوء والظلام، الثراء واليأس. وهو توزيع ولج منه الليل إلى عيني ليُوجه شرودي كمُتجوِّل.

جاءت امرأة وفتَّشت بدورها صندوق القمامة دون أن ترفع الغطاء. حيَّرتني هذه الجزئية. فهل تظن تلك المرأة نفسها عرافة؟ لكن، لم يكن أيُّ طائر شؤم يُحلِّق في تلك الأجواء. فقط يتراءَى لنا التحليق البطيء والبورجوازي لحمَّام الملك. بإمكاننا رؤيته وهو يتبختر أمام القصر الحصين، وفي الباحات الخالية التي يتمرَّن فيها عسكر يوم الأحد على حركات جيش أعزل منذ زمن بعيد. وهذه الصيغة بدورها غير دقيقة؛ إذ الأصح أن هذا الجيش يَسهر قُرب الملك، مثل صورة جامدة في حلمٍ قُطبيِّ قبل انحسار الجليد.

توقَّف بالقُرب مني باحثُ قمامات متوتِّر. ألقى بنظرة على حقيبتي ومظلَّتي الموضوعتَين على المقعد. يبدو أن حاجياتي حظيت باهتمامه الكبير. هل خلط بيني وبين القمامة؟ قمتُ بحركة مُصطنعة كي أُبعد عني اهتمامه الجشع، فكرَمي لم يُؤهلني إلى أن أمنح لغريب — ولو كان في محنة — ما أحمل من متاع زائد على جسدي العاري.

كنت أول مَن أفقده الخوف شجاعته، كما كنتُ غير مسرور من نفسي، ندمتُ لأني وجهت نظرته الهائجة نحو مركز الفقر. ولأني قسمتُ نصفَين ماهية هذا الفراغ الذي انحفَرَ بينَنا. أشاح بوجهه عني وانسحب.

لم انصعتُ لتلك الحركة المُصطنعة والوقحة؟ ولم انصعتُ لذاك الهلع؟ هل تتوفر هذه المدينة على ثراء من هذا القبيل كي أطارد تبذيرًا من هذا النوع حتى أعماق بئر النظرة؟ ففي الضائقة يسقط النظر، إنه يَهوي كي ينبعث في الهواء اللامتحدِّد كسماءٍ ممزَّقة تتناثَر قرب أشجار مُنتزعة من تجذرها العجيب.

•••

بدأ الرذاذ يتساقط حين قصدتُ مقهى على جانب الشط. هناك كان موعدي مع ألبرتو. في تلك الأثناء كانت زرقة السماء الداكنة قد بدأت تتراجَع ببطء نحو الوجه الآخر للأفق، وقد اخترقها خط أحمر.

انغلق الخط على نفسه بفعل الجليد. في مثل هذه اللحظات من المساء، يحدُث أن تَنكمِش الأرض أحيانًا على نفسها أمام إعادة خلق للعالم تتمُّ انطلاقًا من علامات قابلة للإدراك. تجد الأرض حداثتها في ذهننا عبر تكثيف عاشق لليل، لذا فإنها تبحث عن توازُن جديد. وبما أن العمق فراغ مُشع، فلا شيء يمتلك عمقًا بدون ديمومة. هذه الديمومة هي التي تعترض طاقتنا الأرضية وفوضاها. هكذا، حين يأخذ الليل شكل الماء، يُرسل لنا بإيقاع خاضع لتفرُّعات شبقية.

دلف ألبرتو إلى المقهى وبصُحبته ممثلوه ومُعاونوه. ببشاشة وحرارة قدمهم لي ضاحكًا حسب التسلسل الأبجدي: بابو، بينت، جان، غوران، كيريستين، ليبرينا وماريت. أسماء جميلة. ثم حدثت الرجَّة. توالت أمامي وجوه رائعة حدَّقت في وجه باربو. يا لها من حيوية وخفَّة رُوح، ويا له من ذكاء مُتحرك! تأمَّلتُ بانتباه ملامحها المتناغمة وأنفها المائل بعض الشيء نحو جان. كانت بين الفينة والأخرى تُداعب خصلةً من شَعرها: لو تناثَرَت تلك الخصلة في نظرتي لاشتعلت نارًا.

جلس المُمثلون والمُمثلات وتظاهروا بالجلوس. كانوا لا يزالون بين الواقع ومظهره. يتحادَثُون دون أن يكفُّوا عن التقاطُع والافتراق بين الطاولات والكراسي وزوايا الرؤية. هذا التغيُّر في الأوضاع الرشيقة النزقة مكَّنَني من التأمُّل في تلك اللحظات الرائعة التي تبدأ فيها شخصية لا تزال عارية من صورتها المحدَّدة في بناء تجليها الجديد والمقنَّع.

فاجأتني ماريت، الجالسة بين غوران وبنيت بوقارها وهيبتِها الواضحَين إلى حدِّ السحر، كان وقارًا تُحرِّكه طرافة يقظة: تُدخن من دون أن تُدخن، وتَبتسِم بخفاء، كانت تُمسك بالمُمثلين تحت سلطة أفكارها وجمالها الساحر، فهل كنتُ مخطئًا في التقدير حين بدَت تَشتعِل غضبًا؟ لكن كل شيء مر بسرعة. التقطَت بنيت علبة ثقاب وغابت عن الشاشة. استدرتُ نحو ألبرتو الذي كان يشرح رؤيته للفيلم. ظللتُ لمدةٍ صامتًا أسجِّل هذه الوفرة من الصور التي يَلتقطها ذهني ليزج بها في قلب ذاكرتي السينمائية كمُتفرِّج ظل سجين أول فيلم رآه. أول فيلم شاهدته كان من النوع الغرائبي: امرأة تهرب من سجنها، ومن علوِّ برجٍ شاهق تَرمي بنفسها في الفراغ كما لو كانت تسكُن للأبد في زُرقة السماء. ولا أزال أتذكَّر الآن أيضًا فستانها الأبيض.

من أين جاءني هذا الاضطراب الذي جعَلني أخلط بين الصورة في السينما وحضور المُمثلين؟ لا أدري. لم أستطع إمساك نفسي عن الانصياع لهذا الخلط بين المستويَين. كنتُ أرى بشكلٍ مُقتضَب وأنصت بسرعة مضاعَفة.

باربو، كما يُوضح ذلك اسمها، كانت شبقيَّتُها واضحة في حركاتها وعلى شفتَيها واستداراتها الموسومة بنوع من الشراسة. سألتُها عن نفسها ومهنتها. أجابتني بين صمتين: أنا مولِّفة الطاقم. وإذن فقد أصبحت عدة سيناريوهات ممكنة: التوليف والتفكيك واستعادة زمن الحديث، وهذا ما جعل وضعيتي اللَّدِنة داخل المجموعة تغدو مرنة، حُمتُ حولها بنوع من الافتعال، لاعبًا بذلك دورًا ثانويًّا في حياتها ذلك المساء. يا إلهي لمَ يلزمني ولوج حياة امرأة كي أحترق فيما بعدُ من الداخل؟

•••

كان الكل، في مرح، يتجرَّعون كئوس جعة أو خمرة، وكلُّ ما تبقى فوق الطاولات كان ألبرتو يلفُّه بجدله البالغ. كان يُنصِت للمُمثلين ويحترمهم من غير تفريط في حقوقه وسَطوته. حدَّثني في شبه مُناجاة عن مشروع فيلمه عن رُونيه ديكارت: أُفضِّل تسمية أصغر أو إذا شئنا: René Descartes. ألم يرث عن أمه سعالًا حادًّا ولونًا باهتًا؟ كان لاعب ورق عبقريًّا ومحاربًا فذًّا.

لنتذكر أنه سافر في بداية شتنبر ١٦٤٩م متجهًا نحو السويد كي «يلبس الشمال» كما كان يقال آنَذاك. كان يصحبُه في رحلته مساعد واحد ألماني هو «هنري سكلوتر»، الذي كان يتزيَّا بزي الخادم: شعر مجعَّد، حذاء هلالي وقفَّازات للثلج.

يبدأ الفيلم من هذا المُنطلق. أمام البحر. إنه سفر مُجاهدة نحو المجهول ونحو موته الآتي. تردَّد ديكارت قبل أن يأخذ قراره في الأخير مؤجلًا بذلك موعد سفره. رتَّب رسائله ومخطوطاته، أحرق بعضها وترك الآخر ضمن صندوقٍ في هولندا.

لم يأخُذ معه غير الأشياء القيمة، كما لو كان سفره ذاك علامة آتية من العالم الآخر. هل كان يحدس شرًّا في الأفق؟ كارثة مثلًا؟

ستقوم اللقطة الأولى الخالية من أيِّ جنريك بشد نظر ديكارت إلى حركة الماء. حركة هاربة. وستُساعدني الصورة التي رسمها فرانز هالز لديكارت في الماكياج، أي في تحديد الطابع التأمُّلي للفيلسوف.

يبدأ السفر فجرًا في جوٍّ بارد. ثم تشق الباخرة طريقها وسط مطر يشتدُّ ويخفُت ويَنطلِق هوج الرياح. ليس في الجو عاصفة، بل نسيمٌ جامح. إنها الروعة. الروعة البدئية. يُلقن ديكارت لصاحبه بعض الأفكار الحقيقية والأحلام الجميلة لتأثيث صمت السماء. يَحكي فلسفته على شكل سيرة ذاتية. عودة إلى الماضي تتخلَّلها الومضات. لا شكَّ في أن متعة الحكي تنبغ من هذه الومضات. أفكار دقيقة موشَّاة بذكريات من طفولته في أنجوفين.

في لحظة معيَّنة ينسحب ديكارت إلى مقصورته، وينام. إنه الحلم الرابع المُهم في حياته. يرى نفسه يلعب بأقنعة. وبعد أن أعمَته الأقنعة يَستفيق. ويصيح: «في لا مكان».

يصل ديكارت في الخامس أو السادس من أكتوبر إلى ستوكهولم، ويُقيم في فندقٍ كان يُقيم فيه «شارنيت» سفير فرنسا آنذاك.

تستقبلُه الملكة كريستين في اليوم الموالي. يكون الاستقبال فخمًا وتكون أجوبة ديكارت مفعمة بكثير من الاحترام. تمنحُه الملكة ستة أشهر كي يتألَّف مع البلد، إنه الوقت الكافي لإنجاز شريط سينمائي!

يقوم ديكارت في المرحلة التعليمية الثانية بزيارات وجولات. ويقوم بالملاحظة. وعلى تغيير صورة ستوكهولم بكاملها كي أجعلها تُلائم النظرة الفضولية لديكارت. ستكون «صورة تركيبية» من النمط الذي يستعمل أحيانًا في السينما الجديدة. سأضع كاميرا مكان كتابه «انكسارية الضوء»؛ ففيه يتحدث عن الحاسة السادسة للأعمى ولعصاه، سأحول الأعمى إلى بصير.

ستتوالى صور ستوكهولم كما هي عليه الآن، لكن منظورًا إليها انطلاقًا من وثائق من عصر ديكارت؛ خرائط ورسوم وصور، مطبوعات ولوحات وأدوات وآثار من المرحلة.

ستكون ستوكهولم مدينة تصول وتجُول عبر الزمن. ذاكرة للحاضر والماضي أمام نار الكاميرا.

ما الذي تُريده الملكة من ديكارت؟ دروسًا في الفلسفة. إنها تستقبله في الخامسة صباحًا في مكتبة القصر.

وتبدأ عطالة ديكارت في خدمة الملكة. كانت كريستين تتعامل معه كما يلي: تطلُب منه باليهًا وكوميديا ونصًّا لأجل حفلةٍ تنكُّرية. كل هذا تكريمًا وتشريفًا له. وكان هو يقوم بالتنفيذ. لقد تمَّ العثور على النص الأخير الذي كتبه، ويتضمَّن عشرين مدخلًا بالإضافة إلى الديباجة. النص بكامله يمتدح السلم وينتهي بهذا البيت:

وبالرغم من ذلك، ليس لنا سوى مَلِكة واحدة وإله واحد.

سأصوِّر الباليه في أوبرا ستوكهولم.

في بداية فبراير ١٦٥٠م يُصاب ديكارت وهو ذاهب إلى المكتبة في الخامسة صباحًا. بجنابٍ ناتج عن البرد القارس. وفي الحادي عشر من الشهر نفسه يمُوت وهو لخادمه شولتز بهذه الجملة الأخيرة: آه يا عزيزي شولتز، يَنبغي علينا الرحيل حالًا. صمت «ألبرتو» ثم استرجع موضوعه مستطردًا: أنا مُصرٌّ على تصوير هذا الفيلم بنفسي.

- قاطعته بغتة وبحدة: لماذا أنتَ بالذات، الآن في نهاية القرن؟

– أنا أنظر لمهنتي انطلاقًا من استراتيجية شاملة. سأوضِّح لك ذلك. فأنا أنتج أنواعًا عديدة من الأفلام، بعضها إيطالية (تتوجَّه لجمهور محلي)، والأخرى أوروبية كما هو حال هذا الشريط. أوروبا هي مستقبلنا، وأنا أفكر في أن أصوِّر فيها أفلامًا أخرى تدور حول بلدان متوسِّطية.

– إنَّ ما يُثيرني هو هذه اﻟ «إلى حد ما».

كانت قاعة المقهى قد أصبحت فارغة تقريبًا. وحدهما رجل وامرأة كانا يتناولان عشاءهما في صمت طقوسي، لا يسري إليه ملل أو مرح. انجذاب عاطفي فقط بين وجهَين تضيئهما العتمة. كانت المدينة تبدو عبر النافذة مُنكمشة على نفسها، موزَّعة بين المسرعين والبطيئين. ولقد أثار الليل الشمسي غبطتنا ورشاقة الحياة فينا حتى بزوغ الفجر.

كان التفاهُم الفِعلي قد جرى بيننا. لكن هل كان هذا الكلام الجاري بدون تحفُّظ تجاه نفسي هو الفكر الحي للقاء بيننا، أم إنه كان مجرَّد حوار؟ في أية لحظة كان ألبرتو يُخاطب صداقتنا؟ كان منتبهًا بشكلٍ خاصٍّ إلى حضوري، وكما كان مهتمًّا بي فإني كنت أهتم به في خضمِّ وحدة طردها الليل. وحدة مشرقة في يأسها. مشرقة ومليئة بالعناية.

– بدأ حوض البحر الأبيض المتوسط يغزو منِّي الذهن منذ الطفولة. لقد كتبت سيناريوهًا كاملًا عن الحصان الشمسي. نعم، إنه أسطورة. لكنَّها أسطورة جديدة اخترعتها لنفسي (صنعتها: هي الكلمة الملائمة) وبشكلٍ كلي: إنه سرد إغريقي في بعض جوانبه، شرقي وغربي معًا.

– وإيطالي.

– بالتأكيد! لا تنسَ يا جيرار أن البابا هو أسطورتنا الحسية. تأمَّل وجهه وأوضاعه وحركاته ورقصته الثابتة.

– شاهدته مرات عديدة في التلفزة. سيأتي اليوم الذي ستبيع فيه الراهبات ملاحتهن الخفية إلى وسائل الإعلام.

قهقه ألبرتو من الضحك:

– لقد حلَّ هذا اليوم. لقد عجلتُ به أنا بنفسي. فقد أسست هذه الرؤية أمام ملايين النظارة في شريط تمَّ عرضه في السنة الماضية. أحداثه تدور في دير، وهو ما نُسميه في البلدة باسم «النفَس البطيء». إنه تلك الردة القصوى التي بموجبها يتمُّ إعدام كل إمكانية للصراخ، وضبط الصراع والرغبة واللذة. لقد سجَّلت كل شيء، ملامح الراهبات، أياديهنَّ الصامتة، نظراتهن، صدورهن وسيقانهن المُغلَّفة من خارجها وداخلها.

– كان من اللازم إذن وضعُ منظار حتى لا يُخطئ المرء في معرفة جنس الراهب.

– لقد وضعتُ منظارات من القرمز والبنفسج على بعض أثاث الدير وفي الخارج على السطح، لكن الملك اشتعل نارًا أمام الكاميرا.

لم أفهم ما يريده بقوله. اكتست الدردشة إيقاعًا روحيًّا؛ فالحلم السردي له وزنه: لماذا التفكير في الهناك حيث لا يتعلَّق الأمر سوى باصطياد الزمن؟ ولم يتوانَ ألبرتو في أن يحكي لي قصة حياته:

كنتُ وأنا طفل، أقضي عطلتي مع أبويَّ على شواطئ الجنوب. كنتُ أسبح بسرعة حصان. الحصان الشمسي الذي لم أرَه أبدًا كان يُصاحب عومي ورُؤاي وأصوات البحر. تصور. السينما برمجة للأوهام والأحلام. أوهام مُستعارة. هذا الوهم يكون مُباشرًا بالنسبة للمُتفرج في القاعات العمومية، وهو بالتأكيد يقطع منه الأنفاس. السينما سحر بالأبيض والأسود. وحين تكون بالألوان فإنها تكسو الأشياء والمناظر الطبيعية. علينا اختلاق الأساطير حتى يغدو هذا السحر حقيقيًّا. فلكَي يكون الوهم حقيقيًّا أو زائفًا، يلزم على الجمال أن يهبَه تلك الصفة؛ فالجمال من الهشاشة بمكانٍ؛ بحيث لا يُمكنه أن يمنح لعيش المتفرِّج أثرًا أكيدًا. علينا توظيف تأطيرٍ دقيق لا ثغرات فيه، وإيقاع يغزو صلبَ كلِّ صورة. فمن غير إيقاعٍ تظلُّ كل صورة مجرد جثَّة مُتعفنة للحياة. كل شيء يلزم أن يغوص داخل رؤية أسطورية. فحين أكون بصدد فيلمٍ أُفكر دائمًا في التركيب. فأنا لا أترك شيئًا للصدفة أو على الأقل أُحاول ذلك. لكن لنترك هذا النقاش لوقتٍ آخر. مع السلامة أيها الصديق.

وبدل أن ينصرف، عاد ألبرتو أدراجه. منذ ذلك الوقت ترسَّخت صداقتنا. وهي لا تزال كذلك إلى اليوم. هذه الصداقة علمتني أن أوضح لشركائي في العاطفة، سواء كانت حبًّا مُتوحشًا أو عاديًّا، صداقةً عُذريةً أو تحابًّا، أن أوضِّح لهم بأن العاطفة تخضع لمبدأ مُزدوَج يتطلَّب الكثير من الرقة والعناية. إنها صلاة موجَّهة للتقاسم، وهو تقاسُم مُتنامٍ. في الحياة والموت وآثارهما. فالمحبَّة، وفية كانت أو مزاجية حسب تقلُّبات القدر، هي عهدٌ بين كلمتين.

اعتبر الصداقة حدثًا عظيمًا في حياتي. ولأنَّ هذا الحدث يغدو اختبارًا ومُكابدة فإنه يلزمه المحافظة على صرامته المجاهدة. لأيِّ شيء؟ للفرادة التي لا تُنسى لهذا الحدث.

قد أفقد صديقًا، لكني لا أفقد أبدًا ذكرى الترابط الأول مع أية قوة حياة. وسواء كان أصدقائي أحياءً أو أمواتًا فإني أحتفِظ بذكرى الوجه أو بملمحٍ أو بأسلوبٍ أو بقلقٍ صادق مع نفسه.

في هذه الحالة، يغدو كل حوار، نشطًا كان أو خاملًا، مطلوبًا في صحو الحياة وقوَّتها المُعجزة. لكلِّ شيء حساب في الزمن وبالزمن، لكن عوادي الزمن تملك أيضًا حلاوةَ مَلَلها ورتابتها ووحدتها.

وإذا ما ظلَّت الصداقة مُحتفظة بهذا الانفتاح العقلي نحو رفيقِ طريقٍ فعلي، فإنها آنَذاك نتيجة حقيقية للتفاني.

كان ألبرتو يربط بين الكلمات ويَمزج بينها بفنٍّ رفيع من التلوينات. تلوينات نشطة موجهة نحو فكر واحد كان يأخُذ وقتًا كافيًا لتطوير هذا الفكر، من حيث هو فكر الصورة، ولأرشفته في أفلامه على واجهات متعدِّدة. وكان عليَّ أنا التقاط الأدلة والإمساك بها ومُتابعة تناميها. ربما يلزم على المرء أن يكون في لحظة عطالة قُصوى، كما هو حالي، كي يستطيع بلوغ فهمٍ أفضل للآخرين، وفهم حالاتهم النفسية وأفعالهم وسرعة كلماتهم المُرتجلة على خلفيةٍ صاخبة تخترقها علامات عمياء صمَّاء بكماء.

يُعجبني في الحوار ذاك الصبر المستمر. بَغتة وضح لي ألبرتو إحدى حكايات شريطِه.

– كان ديكارت يُردِّد أن من بين الأشياء التي يصعب الحصول عليها امرأة جميلة وكتاب جيد ومبشر لا يُخطئ، إنها مادة لفيلم ذي ثلاث شخصيات، اثنتان مرئيَّتان والثالثة لا مرئية، أو بالأحرى تكاد تكون كذلك. توجد المرأة بين الله والفيلسوف، وبين الله والملكة. لقد أرسل «مازاران» بلدكم إلى «كريستين» ساعات مُوشَّاة بالرسوم، وألبسة داخلية مُعطَّرة، وأحصِنة قصيرة القامة … وبعض الكتب الجميلة المجلَّدة.

نهض ألبرتو وتوقَّف متأهبًا للانصراف. ومن جديد لم يفعَل ذلك. هل خمَّن قلقي وقرأ بعض الاضطراب على وجهي؟ ولم يتردَّد ألبرتو في استفزازي: جيرار، أنا قارئ للوُجوه وتقاطيعها، وللأيادي وخطوطها، وللشفاء وصمتها. أنت لا تبدو في محنة.

أمام صمتي، اقترب كثيرًا مني، وكان لا يزال واقفًا: في سنِّ الرابعة عشرة (يا له من عمر جميل!) تعلمت نظم قصائد شِعرية. وفي العشرين تعلَّمت التصوير الاحترافي، وفي الثلاثين تعلمت إنجاز الأفلام. ثلاث لحظات محورية في تكويني، والكتابة؟ هي ترك بصمات الصوت والعاطفة على رسم الكلمات. والتصوير؟ إنه انفعال النظر حين ينطبع على الشريط الفوتوغرافي.

– والسينما؟

قهقه ضاحكًا: إنها سردٌ متحرِّك، شيء من الكتابة وشيء من الصوت والصورة … كل هذا معًا.

لم أَعُد أُنصِت له، فقد منعني بسطوته الأكيدة من الانكماش على نفسي، عزلني ألبرتو عن صمتي وعن الحزن الذي غزاني فجأة. فكَّرت في دونيز، في الطفل وفي إقامتي الطويلة في ستوكهولم، اعتراني إحساس بالعبث غطَّى على صبري، مدَّ لي ألبرتو بده. أودَعتُه نفسي. ولم يتوانَ عن الاستمرار في حكي قصة عشقي الشخصية: جيرار، لكي تحيا علاقة زوجية ذكية، عليك ألا تكذب على زوجتك، وألا تُحدِّثها عن عشيقتك. فهذا الصمت ليس كذبًا جميلًا. إنه في رأيي أسلوب ومبدأ لياقة؛ فالوفاء إما إن يكون مشتركًا أو يظل خدعة. كن واثقًا من وفائك ووفاء زوجتك. لا ينبغي عليك الإفصاح بكل شيء لزوجتك. فالمرأة سرية، وهي محكومة بالسرِّ حتى لو كان شائعًا. وسواء روَّضتها الحياة بشكل جيد أو سيئ فهي تفعل ما تستطيعه، ونادرًا ما تفعل ما تُريد. ولا فائدة من إرغامها على الإنصات لما لا تريد أو لما لا تستطيع استيعابه. لا أدري لمَ أعطيك هذا الدرس. فأنا أعيش حياة فاخرة بين الفنادق ومنزلَين في ميلانو.

– وزوجتك؟

– يعنُّ لي أن أغازلها أحيانا في التلفون. أنا مُتزوج وسأظل دائمًا كذلك. لكن ربما ليس بنفس المرأة. لي ثلاثة أبناء وبنتان.

– يا لها من فكرة مُضحكة أن يموت الإنسان وهو مُتزوِّج.

– أرى أبنائي بانتظام، الأكبر فالأصغر، وحسب بروتوكول عمري الذهبي، الذي له وزنه، فهناك دول كثيرة تستمرُّ وتُراقب نموَّه. أخيرًا، من الأفضل نِسيان كل هذا.

نهَض ألبرتو واقتراح عليَّ قائلًا:

– هل تريد أن تأتيَ معي إلى «ستامين» مرقص الجاز. سألتحِق هناك بمَن هم معي من المُمثلين والمساعدين.

وخرجنا. كانت الليلة مُقمرة والشارع خاليًا وعاريًا بشكلٍ مُوحش. وحدَه كان أحد المارة. التحقَ بنا جان وكأنه قد خرج للتوِّ من حادث عابر، صاحبنا، في محطة «سلوسن» صادَفنا سكيرًا مُصابًا بالهذيان. ولم يفتأ أن هاجم السكِّير رجلًا اضطرَّ إلى الفرار، ثم امرأة عرفت كيف تتفاداه. تراجع السكِّير وقد تشنَّجت ملامحه وشد بقوة على يدَيه العجراوين. إنه شجرة. شجرة مُقتلعة من جذورها بعد أن ارتوَت بشراب السنابس. هاجم السكير الريح والعاصفة والصاعقة ثم سقط إلى الأرض هامدًا … اقترب مني ألبرتو هامسًا: حين يَنفجر سويديٌّ فإنه يقتل نفسه.

– يحترق مثل قطعة ثلج مُلتهبة.

– هذا غير صحيح! أجاب «ألبرتو».

– انظُرا.

في ممر المترو كان الناس يمرُّون مُتظاهرين بعدم رؤية أي شيء. إنها نظرة تحتية حائرة. ثم غدا كل شيء عجبًا. أخرج السكِّير (كيف يُمكن تسميته في هذه اللحظة) قنينة أخرى من شراب السنابس. بدأ يُحركها في الهواء وحول رأسه. ثم تمدَّد على الأرض وتجرَّع نصفها. بعد ذلك رمى بحقيبة ظهره وهو يضحك. هدَأت حركاتُه الآن. فهل كان يحلم أيضًا بأنه يُحلِّق فوق سكة القطار؟ هل جاءته الرغبة في القفز في الفراغ؟ لم يتأخَّر السكِّير في البدء في هذه المغامرة. لكنه وبمُعجزة، توقف بغتة قريبًا جدًّا من السكة إلى درجة اضطُررنا معها إلى الإسراع في توجيهه نحو مخرج المترو طواعية أو إكراهًا. ولم يلبث السكِّير أن عاد أدراجه مترنحًا، كسر الزجاجة وبدأ بتشتيت نتفها بقدمَيه ووضَعها الواحدة فوق الأخرى. ما الذي سيفعله الآن؟ ترك نفسه يَنزلِق على طول الجدار وقرفص قبل أن يُعاود السقوط. أمسكت به الشرطة من غير تعنيف. وبباب الخروج عاد إلى وعيهِ ووضَع فردة حذاء على رأسه مدندنًا بعبارة «الواجب، كل الواجب» ثم رتَّل هذه الأبيات للشاعر لاجركفيسيست:

كما الغمام،
كما الفراشة،
كما ضباب النفس
على مرآة.

•••

في «استامين» كان الجو فائق الحركة. رقَصنا لوقت طويل. كان ألبرتو يعانق امرأة لا أعرفها، وبين حصتي بلُوزْ انتهز الفرصة لتقديمها لي: فرانسين فيسبرغ، نفس الاسم الذي تحملُه ابنة ر. ديكارت فرانسينيتا بالهولندية. تُوفيت وهي في سن الخامسة، يا له من شخصية غريبة الأطوار. هو الذي كان من حاشية الأميرة بالاتين إليزابيت والملكة كريستين، ها هو ذا يُخصب امرأة هولندية تُسمى هيلينا يانس، كانت آنَذاك في خدمته. إنه زواج مُختلط وغير شرعي.

كنت على وشك الإجابة. لكني للتوِّ صمتُّ. غيَّر ألبرتو موضوع الحديث: الجاز هو عبقرية السود الأمريكيِّين. أما عبقرية البيض فهي السينما. الأدب الأمريكي نفسه عبارة عن سينما. فلا شيء غير الأفعال ونوايا الأفعال، ولا وجود للحلم أو لهواجس الداخل.

سألته بمكر: والهنود؟

بدت فرانسيس شاحبة وهي تتدخَّل لإسكاتنا: صمت! وبأصبعها كانت تُشير إلى عازف الساكسفون وهو يبدأ مقطوعة انفرادية.

نعم. كانت فرانسين على حق. إنه حق مُحتشِم إذا ما قُورن بقساوة التاريخ الضارية. فما ارتجله الموسيقي كان من الحدَّة والحيوية بحيث سمعت نفسي أقول: المُعجزة تكمن في فنِّ الارتجال هذا الذي يُحول الكتابة إلى حنين والعبودية إلى حرية والحرية إلى إيقاع. ستقولون إنَّ الجاز تسلية! نعم بل وأكثر من ذلك: إنه هدية مِن هذا القَرن لذاكرة الناس ولتُراثهم.

كنتُ أقول لنفسي هذا في الوقت الذي نهضَت فيه مُغنية سوداء مِن على مقعد في عمق القاعة وتوجَّهت نحو المنصَّة لتناول الميكرو. كانت ذات هيئة ولباس غريبَين إلى حدِّ أني عاجز الساعة عن تصويرها. كل ما أتذكَّر هو صوتها البلوري الذي يُغلفه ارتجاج خفيف. أصبحت أحسن هذا الارتجاج بوضوحٍ حين سكتَت الجوقة تاركةً إيَّاها تُرنم جملة متميزة جعلتني أرتعش من الفرح.

١  القبرفائيلية Préraphaelisme نظرية الرسامين الإنجليز الذين أرادوا تجديد الفن التشكيلي بالعودة إلى تقليد الرسامين الإيطاليين السابقين لرفائيل.
٢  Priap إله القوة الجنسية عند الذكور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤