إلى زهرة البراري

ستوكهولم مدينة تتفرَّع في المكان كما لو كانت نبتة جميلة تُروى أبد الزمن. جذورها جزيرة اسمها: «غاملاستان». وأنا أتمشى، أحسستُ إلى أيِّ حدٍّ تَحمي هذه المدينة حياتها السِّرية. وكما لو كنتُ عاشقًا متحركًا، يَخلط بين اسم مدينة واسم امرأة، تركتُ نفسي أنقاد مع لغة حبِّي وحدها ومع ذاك الاستقبال المُؤثر الذي نحسُّه حين نتموَّج بفضاء حياتنا.

خلال تجوالي، كانت ذاكرتي المبهورة بالصيف وألوانه المُتغيرة، تُعيد تشكيل فسيفساء المدن، كل المدن التي زُرتها في الصحو أو المنام. فهذا الزمن الغالي، المُزركش بإشارات مُتراكمة يتجاوَز كونه مجرَّد حلم طائش، إنه يسمُّ ذاكرتي بلمسات ليس لها فنٌّ مقابل في ذهني غير فرحة تغيير إيقاع الحياة من مرتبة مُجاهدة إلى أخرى.

غيَّرت اتجاهي حين انتبهت إلى أنَّ ريحًا شمسية دفعت بي نحو متاهة من الأزقة حوَّلتني عن وجهتي، إلى درجة أن تقلُّبات الريح طبعت خُطاي بإيقاع خفيف مُتمايل.

يا له من إحساس غريبٍ يأتيني وأنا أخترق هذه المدينة الشائخة، التي تمَّ ترميمها حسب خيال البطاقات البريدية القديمة. قد يتعرَّض الزائر، الذي يقف أمام هذه الصور المصبوغة بالغرابة — غرابة بالية — لاكتساح لحظة حنين ماكر، كما لو كان عالم حفريات للمدن الغافية تحت الثلج. إنه حنين إلى ما لم يَعِشه ويحسُّه بعد.

بالرغم من ذلك، وفي مُنعطف أحد الأزقة، فُوجئت بارتفاع شرفة صغيرة دائرية ومُزهرة، تبزغ من الحائط كان ساكن ذاك المكان كان يَطويها حين يحلُّ المساء، ويدخلها البيت من الجانب الآخر للسور بمُعجزة معمار قابلٍ للطيِّ. ثم انتقلت دهشتي إلى مكان آخر بعد أن أثارتها سياجات حديدية مُتشابكة وعلامات كثيرة تقودُني من زقاق لآخر.

•••

بعد أن خرجت من هذا الحلم، بدأتُ أشحن وأفرغ آلة التصوير. سايرتُ فُضولي والتقطتُ منظورات ومشاهد صُغرى وكل حدث غريب وشاذ. فهذه الآلة رفيقة سفر. إنها ذاكرة محمولة على الكتف. وأنا أُصور بسرعة. ففي كل لحظة أُصوِّب. وفي كل لحظة أصطاد اللقطة في الهواء. لذة خالصة أجدها في الخطوط والأشكال، وفي التأطير والمداوَرة. لكن تصور، فأنا، وكما أُقدم نفسي أحيانًا؛ أي كغريب مُحترِف، ليسَت الغرابة التصويرية هوايتي الأصلية ولا مجالًا لحديثي. فأنا لا أسمح لنفسي بهذا الحديث بصدد أيِّ بلد ولا أيِّ ثقافة أو شخص.

لست عالمَ أعراق ولا هاويَ جمع الصور. فقط أُحاول أن أستعيد لهذه المدينة الشائخة رونقها الذابل. مدينة نخالها متحفًا، وقد سكَنَته العبادة الدُّنيوية للموتى وللأرواح. فهل أنا أيضًا شبح ميِّت؟ عائد من وإلى حياتي السابقة التي راكمَتها تجربتي كمُسافر؟ حياة ليست سديمًا للتجلِّي كما يرى ذلك الصوفيون، وإنما اختبار عذابات تجاوزتها قوة الزمن.

بلغت الزقاق الذي تسكنُه لينا من غير أن أحسَّ بذلك أو أسرع الخطو. كانت يداي فارغتين حين ضغطتُ على زرِّ الجرس. على العتبة كانت تُوجد جريدة وورقة إشهار مُوضة وبطاقتان بريديتان وطرد بريدي. أخذت الكل ومددتُه لها حين ظهرت وراء الباب. ألقَت لينا تجاهي بنظرة سريعة وأخذَت مني مُراسلاتها. كانت الساعة حوالي الحادية عشرة. وحين مرت أمامي في البهو استدارَت جِهَتي. كانت لا تزال شبه نائمة. بدَت أمامي حافية وذات لباسٍ بسيط. سروال دجين وقميص بدون أكمام عليه خطوط عريضة. كان وجهها خاليًا من المساحيق. جمال طبيعي ومظهر مُوحش إلى حدٍّ ما وتعبيرات لا تتجاوَز الأساسي.

هذه الجملة المُسرعة حول سحر لينا تبدو، وهي مُصاغة بهذا الشكل، كما لو كانت هروبًا نحو الأمام. بعد ذلك فقط، حين كنا نتجه نحو ستوكهولم الكبرى، غدا جمالها المضيء أو الغامق أكثر حميمية وقربًا مني.

لم تكن تحبُّ الخُمول، لبسَت حذاءها الخشبيَّ المصبوغ بالورديِّ، ونزلت لتقتنيَ حليب قهوتها.

بدأت أُحدِّق في المكان بالرغم من أن ذهني كان مشوشًا. ولو كان عليَّ أن أصف أثاث البيت كما تُرسم لوحة لكنتُ منحتُ للمشهد طابع عراء أو شبه عراء قوي، وكذا جمالًا متناثرًا لبعض العلامات يكون ملائمًا لمزاج لينا وحيويتها ووَقارها. كنتُ أشرتُ بالأصبع إلى ممرٍّ فارغ يَحمل زخرفةً وحيدةً ولوحة سيرغرافية لروثكو لا تَنكشِف للعين للوهلة الأولى. ولجعلت هذه اللوحة تحتوي على ثلاث منظورات، يكون القسم الأول منها. مُحتويًا على الممر فيما ينفتح ويَنغلِق الآخران في تقابل لا مُتوازٍ بين غرفتَين. في الأول سجادة صناعية رمادية عليها رسم دائري أبيض ذو لون رمادي يتكاثَف تدريجيًّا على الأطراف، وسرير راحة جلدي مزيَّن بستارٍ هندي، وبعض الوسادات ذات الزرقة الداكنة والمُختلفة الأحجام؛ وفي الزاوية خزانة قديمة بينها وبين الجدار فسحة بحيث إن مقعد الراحة الذي يبدو وكأنه يلامسها يدخل في هذا الفضاء حركة عامة وتغيرًا يتسلَّل إليه نور تدريجي مُصفًّى. في الغرفة الأخرى تعمُّ الفوضى. إنها خطوة أولى نحو السديم. هذه اللوحة لم تُوجد أبدًا. قلت لنفسي: لو كنتُ رسامًا شماليًّا لكنتُ بدأت بفنِّ الإشارة قلَّ أن أضبط الصورة، أعني الصورة قبل عودة لينا.

ربما كان انطباع اللاتوازي الذي تُعطيه تلك الزخرفة يتزايَد حدة لوجود شجرة طفيلية تبدو وكأنها تلجُ الشقَّة من النافذة الواطئة، أو كأنها تدخُلها وتُطلق فيها جذورها في صلب ذاك التقابل. أما السجادات والطنافس فقد كانت تُشكِّل أمام عيني فنًّا لتنظيم الفضاء يحكمه مبدآن هما التناسُق والإهمال الطفيف.

لم يكن بيت لينا موسومًا بمبالغة. كانت الزخرفة خافتة ومُلائمة لهذا المسكن المؤقَّت المتكيف مع الفارق الزمني الذي تحياه لينا باستمرار. كانت لينا تربح أو تخسر الوقت حسب نوعية سفراتها. فهل كانت قوَّتها الحياتية مُتوازنة فعلًا مع تزامن عاطفي معيَّن؟

كانت تحمل معها من سفراتها بعض الأشياء العجيبة التي تضعها على طاولة صغيرة من الخشب العتيق كما لو كانت علامة على العالم. قارنت بين البلدان التي زارتها وتلك التي قمت بزيارتها. أما إثارة البلدان التي كنتُ أجهلها، أو تلك التي ما تزال كذلك بالنسبة لي، فقد أيقظت فيَّ إحساسًا بالغربة. بدأت أنظر إلى ستوكهولم من الخارج، وقد غمرني إحساس بالذنب والعبثية. أغمضتُ عيني، وما كدتُ أفتحهما حتى كانت لينا مُنتصبة أمامي. كان عليَّ تنظيف هذه النظرة ونسيان دونيز والطفل وكل شيء معهما، مفتونًا بثقب إرادي في الذاكرة. أعرف أني في مثل هذه الحالات أهرب من نفسي خاضعًا لوهم استعمال طاقة خاملة. لقد كنتُ واقعًا تحت انبهار اللحظة.

عادت لينا محملة بالمئونة. وبعد القهوة والصمت الطويل سألتني بشكل مباشر: «ما الذي تفعله في ستوكهولم.»

– لا شيء، أو لأقل: تقريبًا لا شيء.

– إذن، لتأتِ معي.

لبسَت حذاءها الرياضي، فتحت نافذة وخرجت بعد أن دسَّت مفتاح الشفة في الجيب الداخلي الأيمن لسروال الدجين. والتحقَت بي في الخارج.

•••

غادرنا المدينة العتيقة التي تُسمى أيضًا «مدينة بين الجسرين». يعجبني في هذه التسمية مجاز الطرق وتقاطعها بين التلال والماء المحيط. كان كل شيء خاضعًا للترتيب فيما يشبه رقعة شطرنج من الأزقة والأدراج، كما لو كانت الجزيرة، وهي مشدودة إلى الأرض، تحلُم بالسفر. ليس صدفة أن تكون العبقرية الشمالية ذات موهبة في شئون الأركيولوجيا البحرية، بما أنها عبقرية تعشق الكنوز المخبوءة في أعماق المياه.

حين تسلَّلنا باتجاه شمال المدينة توسَّعت الرؤية لتشمل شبكات طرق وشوارع عديدة. كان الجسر، فيما وراء ظله الرطب الذي تحمله المياه، يقترح على ثمالة الخط المستقيم، فبين كل الجسور وصورتها في ذهني نقطة تلاقٍ خفيَّة تُوقظ متعتي في التجوال بإيقاع طاقة فارغة. إيقاع يخط على شاكلة زهرة البراري، تشابكنا العاطفي، ومدينة تضفر خطواتنا على صورتها. جولة راقصة عبر شوارع كبرى رائعة جعلتني أكتشف فيها ما يشبه ساعة هندسية، إحدى أكثر الساعات دقة وتعقيدًا في العالم، تُقارب فيها الحركية الاجتماعية دورة الطبيعة. هكذا يتكيَّف تسكعنا تدريجيًّا وببطء مع المادة المَرِنة ومع توزيعها الزمني.

فجأةً اختفَت أصوات السيارات في زاوية شارع. وهو شيء جعَلني اعتقد أن الجُدران تفصل بين الصمت والأصوات الخلفية البعيدة. صمت لينا المُفرد. كانت تمشي بإيقاع ممطوط ومطواع. ولم تكن بنا حاجة إلى الحديث طالَما أن المدينة كانت تبدو مُرتاحة على مبدأ للتوازُن وهندسته الأخلاقية؛ مبدأ قادر، داخل منطق الحماية نفسه، على التقاط الشمس المُتقلِّبة، غير عابئ بالريح ومُفاجأته القاسية.

كنتُ بين الحين والآخر ألقي نظرةً باتجاه لينا من غير أن أفقد الإيقاع والتناسُق المُتأرجح الذي يطبعها أو يغيب عن نظري أي حدث عارض. وفي لحظة معيَّنة تساءلت إن لم تكن لينا، النزقة والطائرة، تعتبر أن ستوكهولم حكاية سفر لا تتجاوَز كونها مجرَّد محطة في هذه الحياة؛ ذلك أن الصمت الذي أنبه عليه هنا هو عبارة عن جوٍّ شفاف يحلم فيه ذاك الصمت بكل المنظورات التي ترسمها الأشكال الهندسية وجمالها المائل إلى الخضرة؛ وهو ما يُذكي لدى طبيعيي بلدان الشمال روح الشفافية وجمال العدم.

هذه الروح أتصوَّرها في طابعها البلوري وهي تُغير من انعكاساتها مع التغيُّرات الطقسية، وتوزيع الضوء والعتمة. أجدها في الحركية الاجتماعية وفي الاختلاف الجِنسي والأعمار والمجموعات والحارات والمهن، دون أن ننسى الاحتفالات وحب الطقوس الانتقالية ووضع الزهور على القبور بدموع مكتومة.

شيئًا فشيئًا سأدرك كيف أن تلك الحركية الاجتماعية خاضعة للمراقبة. وقفتُ عند ورشة وقلت للينا: «ما الفرق بين مضيفة طائرة وسائق رافعة؟»

– سائق الرافعة لا يُخاطر بحياته مثل المضيفة … إنه محميٌّ أكثر ويتمتَّع بأجرة قد تكون أفضل من أجرتي، مثله في ذلك مثل كل عامل مُتخصِّص.

أمسكت للتوِّ بهذا الملمَح الساخر؛ لكني صمتُّ في حيرتي. لا أدري إن كان هذا القانون الاجتماعي والسياسي التوازُني والمتسلِّط خفية قد خنق الصراع الاجتماعي، كما أني لا أعرف إن كانت رُوح الشفافية هذه التي غطَّت بشكلٍ خطير على أصوات المدينة قد بطحَت هذا البلد الأعزل. فكرت مرة أخرى في الاغتيال الغامض لأُولوف بالم. والتحقيق الغريب الذي كان وراء استقالة وزير أو وزيرين للعدل. لكن ماذا؟! أليست الحياة السياسية لعبة تَطمس كل شفافية وتستعر نارها غالبًا في أحضان التستُّر والفساد؟

•••

وجدنا أنفسنا داخل حديقة عمومية حين قادتنا الشمس خارج التجمُّع الحضري وزحامه. أصبح الهواء خفيفًا. هنا تظهر العبقرية النباتية والمائية للسويدي وتنشئ حدائق لها إيقاعها. حدائق موسيقية إلى حدٍّ ما. وتنشأ بين الطبيعة والإنسان علاقة نرجسية مُعتدلة تشكِّل عربون محبة للهوية الطبيعية: إنها نرجسية موجَّهة بشكلٍ كامل نحو قلب الإنسان القانع بنفسه كبُرعم طبيعي متحوِّل، وهو يقوم بذلك من غير أن يفرض على نظراته القيام بنفس الشيء، وبدون أن يرد لهم المقابل الأمثل لرغبة محكومة بالخيبة. ويغدو الوعد بحياة هادئة، على ضفة بحيرة، اكتمالًا لحساسية مسكونة بالتوازن والهشاشة الداخلية.

إنَّ ما أسميه حدائق موسيقية يشير إلى ذلك التوازن الذي تكون فيه روعة الطبيعة مطالبة بتجميل بهائها الخاص، عبر مسرحة الانفجار المستمر للعناصر وتجديد البستاني لحركتها الرفيعة الموسومة برهافة زينة مُنفصمة وبفيض من الشهوة السحرية. من هذا الحدس الإشاري ستأتيني فكرة أسطورة الأصبعيات وسواء كانت هذه الحدائق الموسيقية مُنظمة حسب جمالٍ اصطناعي أو ملصقة بالمدينة كشيء فائض على الطبيعة، فإنها علامة على سنَّة الحياة، أي حماية الغريزة الحسية للبقاء.

•••

كان التعب قد نال منَّا قبل أن نصلَ عند سفِين وأولْريكا سفين صديق طفولة لينا. قدَّمته لي بطريقة مَرِحة وحيوية: «هذا سفين، أحد أفضل أصدقائي وأحد معالمي الجيدة في هذه الحياة.» استدارَت نحو رفيقته: «وهذه أولْريكا وحيدة زمانها.» كانت هذه الأخيرة جالسة إلى حاسوبها الصغير. فنهضَت، قبَّلتُها وحيَّتني، ثم عادت بسرعة إلى مكانها لتُكمل نصًّا يلزم رقنه وتصحيحه واستخراج نُسَخ منه بسرعة. كانت أولريكا راقنة.

لينا كانت على حق. فهذا الزوج يفوح بحفاوة طبيعية. أما الشقة فقد كانت منظَّمة لاستقبال الشخص الأقل تعودًا على نظام محبوب وعلى جو شديد الحميمية، بحيث إنَّ التوزيع المُختلف للغرف ولتناغمها الفضائي كان ينمُّ عن روح تعاونية عالية.

هكذا انقسم المشهد إلى قسمَين هناك لينا وسفين في زاوية من قاعة الاستقبال، وأولريكا وشاشتها في الجانب الآخر. كان نظري مشدودًا إليها. بالإمكان إضافة مقطع غير مُنتظر إلى هذا الوصف الفوري؛ ذلك أن روائيِّي القلب، الحسَّاسين للصدى العاطفي لكل منطقة من مخيلتنا، يحفظون درس حبِّهم وتحابِّهم، فهم يعرفون كيف يصُوغون، انطلاقًا من جزئية بسيطة وغير قارة، وضعية جديدة كل الجدة.

حلَّ وقت الشاي. تناولت أولريكا فنجانها واعتذرَت من جديد، لتعود للجلوس إلى حاسوبها، كنت أراها شبه جامده وهي مُنهمكة في عملها، ولم أكن أرى يديها. تأملتُ قدمها ورقَّة ملامحها. كانت لينا وسفين يتحادَثان بمرح عن ماضيهما المشترك. كنتُ أسمع بعض كلامهما، شاردًا من جرَّاء ولادة خرافة جديدة، هي خرافة الأصبعيات.

اقتربت من أولريكا. كانت تُعاود كتابة نصوص مخطوطة. قالت لي: قرِّب مقعدك. يُمكننا أن نُدردش معًا، فهذا شيء لا يُزعجني.

الأعيُن والأصابع تَشتغل بتسلسل. خمسة حروف في الثانية. يحدث أحيانًا أن أتلفِن وأنا أرقن. فأنا أملك وكالة في البيت، خاصة بخدمات مُتعدِّدة مثل معالجة النصوص، التصوير السريع، التصفيف الضوئي، التنظيم الطباعي. وبحوزتي أيضًا طابعة. وأقوم من ناحية أخرى بكراء أجهزتي، فهي تصبح مُتجاوزة بسرعة. نعم، تَعجب لسرعتي. إنه عمل سهل ومرهق معًا، لكني أحبه. فهو لعبة تُهدِّئ أعصابي وتمتصُّ قلقي.

– لكن القلق يعود!

– طبعًا، أنا أُنوِّع دائمًا من أنشطتي. أمارس التزحلُق على الثلج أو الجليد في الشتاء. أما في الصيف فأمارس السباحة كثيرًا، سواء في المسبَح أو في الهواء الطلق.

كانت تركب وتُصحِّح وتُعيد التصحيح بسهولة فائقة. ظللت أمامها مشدوهًا، ففي هذه الظروف بالضبط، وأنا أنصت إليها، بدأت أسطورة الأصبعيات تأخذ صورتها النهائية في مخيِّلتي. كانت أولريكا تطرز الزمن؛ تشبكه وتحلُّ تشابُكه وهي مُنغلِقة في منعزلها.

فكَّرتُ في نساء الماضي أمام مَنسجهِنَّ، قربتُ منها مقعدي، كانت أولريكا تنتظر مني مجرد حركة بدء، وصدرت مني هذه الحركة أخيرًا: أنت سحر أبيض وأسود.

– هناك مثل سائر نرويجي يقول: «إذا حكَّك أنفُك فهناك أحد في انتظارك، وإذا حكَّتك أصابعك فهناك إنسان يدخل المزرعة، إذا كانت أصابع اليُمنى فهو رجل، أما إذا كانت أصابع اليسرى فهي امرأة.»

وللتوِّ تغيَّر حالُ أولريكا. وتغيَّرت معه نبرة صوتها. كانت تحبُّ الخرافات. وأنا أصبت منها، وبمزاجية خالصة، ذاكرتها الأسطورية.

– لقد سمعت عنك من قبل.

لم أُحرِّك ساكنًا. لكني اضطربتُ حين اقترحَت عليَّ هذا الاقتراح الغريب:

– هل تُريد أن أحكي لك قصة حياتك الخاصة؟

وبينما أنا أُحاول ضبط نفسي، أدركتُ في لمح البصر شطحاتها الخرافية.

– فليكن … احكي لي قصَّتي.

– زعموا أنكَ وُلدت مرتين، الأولى في السماء والثانية على شاطئ نهر النسيان. ورثتَ طبعَك المتقلِّب عن ولادتك الأولى، أما عن الثانية فقد ورثتَ حبك المجنون للسفر.

تمَّ السهر بعناية على نموِّك في طفولتك. كنتَ تعيش على ظهر كوكب في قلب أبوَيك المسحورَين. تعلَّمت من أمك فنَّ التأليه، وعن أبيك أخذت كيمياء الكلمات ونظامَها وفوضاها.

كبرت في عالم خاصٍّ مليء بالحوريَّات والملائكة. وبينَهم بلغتَ سنَّ الرجولة. أليس كذلك؟ وبما أنك كنتَ عاشقًا للشَّهوة، أنشأتَ تجمعًا تعليميًّا للتخاب. كان تجمعًا مؤسسًا على الذكاء ووفاء القلب. وأصبح كل شيء مُعجزًا.»

تغيَّرت سحنتُها من جديد. كدتُ لا أتعرَّف عليها. تابعَت دون أن ترفع عينيها عن شاشة الحاسوب: أتحدَّث إليك وأنا أُلاعب ملامسَ الحاسوب. فأنا ألعب بأوراقٍ مكشوفة أو محجوبة. كما تشاء، أُمسك برموزها وبرنامجها وسننها وأرشيفها. إن ذاكرتك نفسها مُختزنة هنا، ونظرتك قد تمَّ امتصاصها وإعماؤها. أنت ترى من دون أن ترى وتسمعني من غير أن تلمسَني. أقودك من أرنبة أنفك. ألفُّك وأفكُّ برمجتك تجاهي وتجاه سفين. وربما لينا أيضًا. إنني، كما ترى، واقعة تحت تنويم مغناطيسي.

لم أكن متأكدًا من نومها المغناطيسي. كنتُ قد نسيت الآخرين وحديثهما. غمَرني تعبٌ مفاجئ حين استعادت أولريكا وعيي بدون جهد يُذكر. تحكَّمَت فيه بحذق فائق:

– لنَعُد إلى قصتك، أو بالأحرى لنَعُد إلى مُراهقتك، سامحني على صراحتي، سأمحو مراهقتَك وأضعها على هامش الشاشة، أكتُب مصيرك ثم أشطبُه. أتحكَّم في عينِك وصمتِك بمجرَّد لمسة أصبع. يدي بصيرة وأصابعي عرافة.

قالوا بأنك نزلت إلى الأرض وعليك وشاحٌ أسود. كان غامضًا ترحالُك من كوكب إلى كوكب ومن نبتة إلى أخرى حتى ظهورك أخيرًا في مدينتنا. من أين يأتيك سحرك الغامض هذا؟ وكل هؤلاء النساء اللواتي فتَنْتَهنَّ واللواتي هجَرْنَك، واللواتي عُدنَ واللواتي هرَبنَ مِن سحرك؟ يا له مِن سَراب يا صديقي العزيز! أخطأت قارَّتك والقلب الرهيف، تُحلق في هواء الزمن وتُسمي هذا فنًّا! هل أنت كائن ممسوس؟ لكنك مسكون بمَن وبم؟ على الأقل ليس بي أنا. فأنا ولدت على نجمة أخرى، نتيجة خطأ طبيعي ولسوء تفاهُم في الخطبة بين أمي وخطيبها وصديق خطيبها. أمي مِن أصل فينلندي. كانت ذات عينَين مغوليتَين وهيئتها ذات كبرياء خاص. امرأة تُحافظ على المسافة الضرورية مع الآخَرين، قالت يومًا لأبي: «تعالَ. كُفَّ عن المعاناة. وعن الارتماء في أحضان الفراغ.» وأنا وُلدت في هذه الوضعية.

– أيَّة وضعية؟

أثر فيها سؤالي. حدقت فيَّ بقوة. قلتُ لها بنبرة ازدراء: أنا لستُ مرآةً لك.

– بلى … أنا أتخفَّى أمام الشاشة، أُبدِّل ملابسي حين أكون في العمل، وبدون مساحيق، بدون زينة أو عطر، ألمس الآلة، أضع عليها اليدَين وأقترح على نفسي كلمات وجملًا. وكلَّما هدأتني السرعة كلما غدوت كائنًا آخر. مرة سخر مني سفين. حدثته عن نشوتي الإلهية. فأنا عرافة مُصطنعة.

لم تكن اللعبة قد انتَهت. أمسكت بزمام الأمور:

– سأحكي لك قصَّتك الشخصية.

– زعموا أنَّ جيرارنمر قد وُلد أسمر بعض الشيء. لهذا فهو عاش في هناء وإيمان. نما وسط الحرب الباردة، في مناخ مُعتدِل. وقد فتح هذا المناخ ذهنه للخمول. تعوَّد جيرار أن يكون هو نفسه وذلك بإعطاء نفسِه دروسًا في التواضُع. عرف البؤس والمهانة وفرحة مصيرِه. كانت صرختُه الأولى أليفة، وعوض أن يُغني تمرَّن على فن الكبرياء. كبرياء الكلمات. وهي عقلية كان يُنكرها عليه ذووه. حفظَ عن ظهر قلبٍ كنوزَ الأدب العالَمي وفن استعمال اللغات والأساطير والمجازات.

قالت لي أولريكا وهي تُقهقه ضحكًا.

– لكن هذه سيرة حياة.

هل نسينا أنفسنا؟ أصابني الاضطرابُ من الجهة الشعثاء لهذه الحكاية المزدوجة. وأنا أنهض، لامسَت يدي نهدَها الأيمن الذي انتصب أمامي قوامُه. هل لامستُها خطأ أم سهوًا؟ كل يدٍ مهتاجة تمتدُّ في الفراغ تسقط في تيه اللحظة، دليلها في ذلك تشنُّجها. وللتوِّ قيَّدتُ يديَّ وساعديَّ الممتدَّين ومعهما شهوانيتها المُستعِرة.

في هذه اللحظة نهضت لينا. حرَّرني وقارها من ثقلي، وتضبَّبت الرؤية أمامي. ابتسمَت لي وأخبرتني أنها ذاهبة لاقتناء هدايا للعمَّة فينا وستعود بسرعة. وافقت بحركة من رأسي. نادت على سيارة أجرة واختفت.

للمرة الأولى وجدتُ نفسي أمام سفين. ناوَلني جعة دنماركية تحمل اسم «هاملت». شغل أسطوانة وجلس أمامي.

وما كاد يشعل غليونه حتى بدَت لي النغمات الأولى ذات تعبير محرج بالرغم من أنها أليفة بالنسبة لي. تعرَّفت فيها على توقيعات لإريك ساتي وعلى ارتجالها المُصطَنع. تتحوَّل هذه الموسيقى، بعد أن يتدخَّل الساكسوفون في مقدمة قصيرة، إلى موسيقى صالونات ممزوجة ببحث عن اللانغمية وبالحنين إلى البلُوز.

ملأت هذه الموسيقى الفراغ الذي تركَتْه لينا. فقد صاحبَتْنا لتخلق بينَنا جوًّا من الثِّقة والألفة قد يكون غامضًا، لكنه على كل حال مُنشِّط. وعوض أن تتناثَر هذه الجملة الموسيقية في هشاشة اللحظة فإنها بلوَرت فكري في خط حلمٍ واحد. وبما أنها تلَت نقاشًا حادًّا ونزقًا، فإنها كشفت لي عن القناع الصوتي لسفين، وعن عواطفه وحساسيته من غير أن يتمَّ بيننا حوار مفروض.

كنتُ قد غفيت قرب سفين حين برَزَت لينا وسط حصتنا الموسيقية من غير أن تدقَّ على الباب. كانت الأسطوانة لا تزال تدور. وعُدنا معًا نحو ستوكهولم الكبرى.

•••

حين نتمشَّى طويلًا في مدينةٍ كُبرى فإننا نغدو كشَّافين للرؤى؛ فالنظرة لا تُلقي بثقلها على الأشياء وإنما تُلامسها … تُمسك بشكلها وتجعل منه شكلًا خالصًا، تُحركنا المناظر الحضرية المتغيرة. أحيانًا تُخفِّف من سرعة الخَطو. والتعب يمنح للمَشي جلالًا موسومًا بالحدَّة. تقيس أفضل حركة الناس وانتقال الخبرات وتبادلها. إنها سرابات معمار مُتحركة. تفرغ المدينة أحشاءها وترحل من تجمُّع لآخر. تمتد ستوكهولم تبعًا لمبدأين؛ بساطة في الشكل معتدلة وحادة، مرتبطة بهندسة تُبرقشها التلاعبات الضوئية. أما خطوات السويدي فمشوبة بإيقاعية يخترقها مزاج صلب لا شكَّ أنه مُثقَل، بذاكرة ثلج وجليد ومطر مُتطاير.

في المترو، الذي كان يُقلُّنا إلى «بروما»، أسررتُ للينا الصامتة: «كنتُ في كاراكاس حين تمَّ تدشين أول خط مترو. كان صمت خارق قد أصاب المشاهدين من أمثالي. وقد فسَّروا لي فيما بعد أن السكان المعروفين بذلاقة اللسان قد ظنُّوا أنفسهم في كنيسة. لقد عادوا إلى طفولتهم المسيحية. ثم تمزَّق الصمت وعاد للناس ذلَقُهم الممهور بالجعة والويسكي والروم بالكوكا (كوبا الحرة).»

– نعم لقد تذوقتُه في نيويورك.

تابعت لينا قائلة:

– سفين رجلٌ ذو موهبة عُظمى وأنا أُعزُّه كأخ. كأحسن أخ، أنا التي لا أخ لها. هل تعرف؟ العمة فينا هي آخر فرد في القبيلة. فقبيلتي اليوم مشتَّتة بين اسكندنافيا وأستراليا والأمريكتين. وأنا أصبحتُ مُضيفة بالعدوى والوباء الجماعي، لمجرد أن أظلَّ وفية للقبيلة. ولدت في البادية في اسكانيا. مات أبواي الواحد بعد الآخر. كنتُ بنت السابعة آنَذاك. ثم طال موكب الغائبين. من فصل إلى فصل؛ أعمامي وعماتي ثم ابن عمٍّ كبرتُ وإياه. أصبحت من غير قرين أو أبٍ أو أم، وبدون أخٍ أو أخت. العمة فينا هي التي ربَّتني في «بروما» في البيت الذي ستراه بعد قليل. العمَّة فينَّا تسهر على ذاكرة الموتى. إنها تحافظ على بقائها. لا أدري إن كانت ستموت قبلي، لكنها لا تزال صامدة وهي ابنة الواحد والتسعين.

في الطائرة، أفكِّر فيها كثيرًا. تأتي معي العمَّة فينَّا مرةً كل سنة إلى نيويورك. ومن هناك تتجوَّل في أمريكا مُتنقِّلة من دولة إلى أخرى. تصل الرحم مع الأقارب؛ أي مع قبيلة الأندرسون. وهم مُهاجرون من زمنٍ بعيد. في أحد الأيام أرَتني العمة شجرة العائلة. وكل يوم تقضي بعض وقتها في الكتابة إلى أناس في جميع أنحاء العالم. كان سفين يسكُن حارتنا. كبر معي. كان كثير الشرود في المدرسة مما جعل نجاحه في حساب المستحيل. يدخل الفصل متأخرًا ويكون أول من يُغادره. كنا نقضي الصيف كله معًا. يا لها من حفلات! خاصة في الليالي المُقمرة. وعند قرع الجرس كنا نتسلَّل في الظلمة. كان سفين يداعبني.je l’avais sauté (لقد ضاجعتُه)، تقولون هكذا بالفرنسية. أليس كذلك؟

كنا نُهيِّئ لأنفسنا سريرَ زواج قبل أن نتعانَق وننام. سفين ذو مزاج غريب. كان يشكو من الاختناق والشلل. وكنتُ أمازحه وأُداعبه. كنا نُصاحب أبوَيه إلى النزهة أو الصيد في بحيرة صغيرة ذات مروج، موجودة في قلب الغابة. لم أكن أحسُّ بالخوف من الغابة أو حيواناتها، كنتُ أرغب في الارتعاش من النشوة، لكنَّني لم أنجح أبدًا بسبب نهديَّ الصغيرين. فهمَ سفين ذلك. كان يمسك بيدي ثم يضع سبَّابته على فمي وعضوي. لم يكن يرغب في إكراهي أو ترهيبي بحركاته المتوترة. كان بالكاد يتحرَّك فوقي. كان سفين يتقلب في نومه. وأنا أتساءل: هل بالإمكان التمكُّن من كابوس ما خلال المنام؟ هناك من يزعم ذلك. أما أنا فلستُ واثقة من ذلك. كان سفين يفيق وقد غمره الشحوب. يَحكي عن شخص مجنون أو مخبول يتأمَّل الماء إلى الأبد. ينظر إلى الماء والنجوم والأرواح الشبحية التي تأكل من بين يدَيه. كان ينهض من نومه ويُخبرني بروعه. خوفه كان كبيرًا أو سماويًّا. وكنتُ أبكي على وسادته. أُداعبه ولا أدري كيف. لكني كنتُ أصرُّ على تقبيل أنفه أولًا. الأنف قبل كل إجهاش بالبكاء.

كنَّا نضيع وسط الليل. أتذكر جيدًا أنه صرخ مرة بعنف أفاق معه الكل. كان يَرتعد. لا حمى، صراخ غريب فقط. أفي هذا العمر يكون ذلك؟ قال لي فيما بعدُ إنه كان يتخيَّل أنه يعيش مع الأشباح. خاصة تلك التي تتنكَّر ولا نعرف معها هل يتعلَّق الأمر بميت أم بحي. أحبُّ أولريكا. هي التي وضعت حدًّا لذلك. إنها شبح جميل وحقيقي.

– شبح حقيقي؟

– نعم. كادَت أن تموت اختناقًا خلال الوضع كنَّا أنا وسفين نَختلِس من أبوَيه قاربهما. نَنساق مع التيار مُتفادين الأقصاب المائية. كنا نتَّجه دومًا وأبدًا نحو الشط الآخر. هناك تُوجد قرية أخرى، البداية الجديدة للعالم. كان الليل يمرُّ ويُعاود مروره على وجهَينا. سفين كان ولا يزال رائع الجمال. مزيج من النار والرماد. قوة شيطانية. كان يمارس الاستمناء على مرأى مني. كنتُ لا أتجاوز الرابعة عشرة، وكان هو يشرب الجعة. نعيش حالة عُهر. في ذلك العمر، كنا قد قَلَّبنا المسألة من كل وجوهها. يُداعب خصري وعجيزتي وحلمتي. يَمتطيني من قرن لآخَر. هذا ما كان يدَّعيه. كنا نَنسى أبوَيه والعمة فينَّا. هم أيضًا يتركوننا لأنفسنا. هم المرضى والموتى والمُحتَضَرون. كنا في الشتاء على الأخصِّ نَنغلِق في ملذَّاتنا السرية. والعمة فينَّا تحميني. هل كانت متواطئة معي؟ نعم. لكن بحِشمة ووقار. هي نفسها كان لدَيها عشاق يتبدَّلون أو يغيبون مع الزمن، وحسب توالي الأمطار والرياح. وفي فصل الجليد القارس تحتفظ العمة فينَّا بوشاحٍ لكلٍّ منهم. لكلِّ وشاح لونه وحبَّة ذكراه. مات كل عشاقها، وها هي لا تزال تحيا بعدَهم بمرحٍ، هي ذي أمي الثانية.

صمتَت لينا، وفي كل محطة مترو كنتُ أخال أنها لا تتوجَّه إليَّ بالحكي، وإنما إلى إنسانٍ آخر، ربما سفين. كان يُقابل كل محطة فصلٍ من فصول طفولتها. نبرة صوتها منفرجة، تساءلت إن كانت قرأت «سوناتة كروتزر»، التي يحكي فيها تولستوي قصة رجل خانَته زوجته. يكون الرجل في حوار مع غريب في القطار. وفي كل محطة يكون الكاتب قد خلص من فصلٍ من فصول الحكاية. أحسستُ بالملل عند قراءة هذه الرواية. ربما كان هذا الانطباع يعود بالأحرى إلى الخيال الروائي وإلى الولَع الثَّقيل لهذا الكاتب، المناصر للإصلاح الزراعي، بالتخييل. من المؤكَّد أنه انطباع لا يعود إلى قطارات القرن الماضي. فلكلِّ وسيلةِ نقل جنسها الأدبي الملائم.

المُهم أن صوت لينا كان غير قابل للتعويض. الصوت؟ ليس من مكتوب يستطيع أن يعوض نفسها ونبرتها وتموُّجات صوتها. وإذا كان من المؤكد أن الكتابة بالنسبة لبعض المؤلِّفين هي، إضافة إلى التشويق، انتظار الوحي المعجز، فإنه ليس أقل صحة إن هذه المعجزة لن تقع بدون دقة في الشكل. لست من مؤلهي القراءة ولا من المفتونين بالكتابات. فأنا لا أحبُّ رواية إلا إذا كانت مُثيرة لحياتي الحاضرة. وسيَستطرد ألبرتو في المنحى نفسه:

– لو كنتُ كاتبًا لضمنتُ لك الكتاب الأطول مبيعًا، على وزن شربة طويلة، ولربما لقرن كامل، لك ولذريتك.

– وبعد ذلك؟

– سأوصِّل هذا الكتاب بقناة مشتركة تكون مُتوفرة على لعبة ذات وجوه مُتعدِّدة من جرائد وإذاعات صور وتلفزات وأغانٍ وترجمات، ثم أعرضه للبيع في الأسواق بشكل استراتيجي. عدد من البلدان المختارة بدقَّة. سيكون العنوان مصحوبًا بشعار مطبوع على فضاءات أخرى كالأقمصة الصيفية، ربطات العنق … وربما كرات المضرب، ولم لا؟ أنا مُستعد لأن أقوم بفضيحة إذا لزم الأمر.

– والنَّص. ماذا ستَفعل بالنص يا ألبرتو؟

- سيكون هو هو، لن تُغيره الأبدية، أبَدية أيًّا منا هذه. هل فهمت؟ لا تنسَ أبدًا ما يلي: ينبغي على الكاتب أن يكتب على شاكلة الإنسان الأول، أي إن يستهدف الجوهري وصياغة الجوهري.

– إنها حلم، هذه القناة المشتركة.

– بالعكس، إنها شيء يتعلَّق فقط بحُسنِ تدبير سنده توليف مالي فعلي.

•••

لم تكن ضيعة العمَّة فينَّا بعيدة جدًّا عن المحطة. فللوصول إليها ينبغي اتباع طريق ضيق محمي بصفٍّ من الأشجار كان بعضها مُزهرًا. وراء الأشجار، النوافذ مُغلَقة بالرغم من الحر غير العادي. كانت «برُوما» تشي بحياة سرية. ففي حديقة البيت توجد شمعة مشتعلة داخل فانوس زجاجي. إنه طقس تقليدي لا يزال ساري المفعول، وهو شكل من أشكال الأماني الطيبة وترحيب بالأهل والأصدقاء. كانت فينَّا واقفة على عتبة البيت تنتظرنا. لكن ما الذي حدث لي؟ بعض الهلوسة من غير شك. خيل لي أن الشمعة انطفأت ثم اشتعلت مرتين. هل كانت العمة فينَّا مُتواطئة مع روح النار؟ أي مجمر خامد كانت تلك الروح الشبحية تحضن في هذا البيت الذي قد يكون مسكونًا بالأرواح. قبل أن أتعرف عليها، كنتُ أخاف أن أجد نفسي أمام كائن مُخرف، مقعد ومخبول قد اقترب أجله. لكن العمة فينا كانت بالعكس امرأة مدهشة. لم يكن ظهرها المقوس شيئًا ما لينتقِص من حيويتها. كانت واقفة، بشوشة، تُراقب تقدمنا نحوها.

منحَتنا العمة وجهَها المنعش وعينيها الوضَّاءتين الضاحكتين وأنفها النافر، وتلك العلاقة الصيفية التي ظلَّت محفورة في ذاكرتي: شعر ثلجي شُعِّث بدقة. كانت فينا نزوة خالصة للطبيعة!

تعانَقَت لينا وعمَّتها بحرارة مُفرطة، ولم تصبر فينَّا على التساؤل وهي تتطلع إلي: «لكن من هو هذا الرجل يا صغيرتي؟ هل أحضرتِه معك من نيويورك داخل أمتعتك؟»

– «لا. لا. بالأحرى داخل مقصورة الطائرة. أقدِّم لك جيرار نمر. مُسافر مجهول الهوية.»

ربَّتت فينَّا على كتفي. هكذا، وفي لمحة بصر أدخلتني في نظامها وأسطورتها الشخصية.

دخلت في اللعبة. كانت لعبة سَهلة طالَما أنَّ جذل هذه المرأة العجوز يملك حكمة حيَّة تتجاوَز كل تخريف مُقنَّع.

قدَّمَت لها لينا كهدية علبةً من الحاجيات جلبَتها لها من نيويورك عبارة عن مجوهرات اصطناعية، حاملات نهدَين من نوع «بلاي بُوي» الماجنة، تماثيل صغيرة قابلة للتركيب، لعبة ورق إلكترونية وكل أنواع اللعب المُختلفة، إضافة إلى شيء غريب يتمثَّل في ساعة ذات أربعة موانئ تشتغل حسب الفصول الأربعة. أدركت أن فينَّا كانت جمَّاعة لكلِّ ما هو تافه وعابر. لاحظت ذلك من الطريقة التي تجسُّ بها اللعب بنَوع من الخوف. تُمسك بها أخيرًا وتضعها بحذر فوق خزانة زجاجية.

بعد ذلك تمَّ كل شيء بسرعة. مشَت لينا وراء عمَّتها وهما تُدردشان. ثم غابَت داخل غرفة، ثم داخل أخرى، متوقِّفة بين الفينة والفينة في الممر. ولجتُ المطبخ أخيرًا لتعود بنفس الحركة الصاخبة.

عندما حان وقت الجعَّة كان كل شيء قد عاد إلى هدوئه. سيتبيَّن لي فيما بعد، وتبعًا لمربَّع سِحري معيَّن، أن كل يوم قضيته في رفقة لينا كان موزَّعًا إلى أربع لحظات. تتلو القهوة (في الصباح المتأخِّر طبعًا) استراحة الشاي ثم الجعة قبل تذوُّق الخمور العتيقة؛ وذلك حسب التحولات التدريجية لنبيذ عسل مُسكِر.

قدمت لنا فينَّا الجعَّة في سطيحة البيت. كان الليل قد بدأ سُدوله، وريح خفيفة تحمل الأريج الليلي تُصاحب ثمالتنا اللحظية. هكذا أخذ الحديث منطلقه من كلمة نبسَت بها لينا بدقة وسعادة. كانت لينا وعمَّتها تُناقشان بحُرية غير معهودة. أما أنا فقد نهضتُ لأقوم بجولة في الحديقة الصغيرة.

لستُ ممَّن يُحبون النباتات حبًّا صوفيًّا. ذلك أن بي حساسية تجاه غبارها. وهي حساسية جعَلَتني أنسى أسماء النباتات، وأفكِّر بأنَّ هذا الجفاء الفَصلي يسرق من لغة حبِّي معجمها النباتي. كيف امتدح، في حالة كهذه، زهرةً ما؟ عند عودتي أحسَّت فينَّا بمأزقي: «اسمع يا جيرار، لقد اشتغلتُ حياتي كلها تقريبًا في حدائق عمومية أو خصوصية. ألست شخصيًّا مُستنبت زهور؟»

وللتوِّ أرَتني ساعدَيها العاريَين ورِجلها اليُمنى التي وضعتها لحظة على الطاولة. لقد وضَعَتها بالطريقة الأمريكية. كنت ذاهلًا، فحبَّات الصهبة كانت تبدو فيها متنوعة جدًّا، خِلتُ معها في تلك اللحظات من حياتنا أن أشكالًا جديدة من الفِطريات تنبت على هذا اللحم الوَردي، وهذا البياض الهَش.

لم أعُد أتذكَّر في أيِّ لحظة من الحديث كفَّت لينا عن الإنصات. بدَت خائفة. كانت عيناها تَلمعان في الفراغ وعليهما مسحة من التعب. غيَّرَت مجرى الحديث بإعطائنا درسًا في الحياة:

– لقد تعلَّمت شيئًا في هذه الحياة هو السعادة التآزُرية بين الأرض والماء، والماء والثلج وبين الثلج والجليد. هذه هي السويد. تتحدَّثون عن حركةٍ نسائية، فلمَ لا يستمرَّ النساء والرجال في اتِّباع دورة الطبيعة؟ لا تنسَ يا جيرار ما سأقوله لك: ابنتي لينا مشاكسة ويَصعُب ترويضها.

بادرتُ إلى إعلان رغبتي في الانصراف. أشرتُ إلى لينا بالانسحاب. استأذنَّا في الانصراف فأهدَتنا فينَّا فطيرة سمَّان بالعرعر وشيئًا مِن فاكهة العلِّيق ذات المذاق المركَّز، نظرًا لقلَّة المطر، كما وضَّحَت لنا ذلك.

•••

كانت تلك هي الليلة الأولى التي قضَيتُها عند لينا. ليلة ستتكرَّر بغير انتظام. إنه لا تزامُن الليل والنهار.

كانت مُضاجعتها تتطلَّب بروتوكولًا ضد الحمل لم يَسبِق لي أن عرفتُه مع دونيز ولا مع عشيقاتي. وضعت حِجابًا واقيًا ومرهمًا خاصًّا. كان بروتوكولًا مُزعجًا بالنِّسبة لي. ربما لأنه كبتٌ في الرغبة في إنجاب طفل منها. فدخلت حُريتي النزقة والمتوحِّشة في مواجهة اختيارٍ ذي طابع لوثري، يدعو إلى المسئولية، لكن بشكلٍ صارم.

قد أكون وضعتُ الأصبع هنا على لحظة حقيقية أو على ضعفٍ في فُحولتي أو على نُقطة عمياء من رغباتي! لكن، وبالرغم من هذه الوقفات، كانت لعبتُنا الشبَقيَّة تُتابع طريقها.

ومهما كان الأمر، فإنَّ إحساسًا بالقطيعة كان يتخلَّل علاقتنا. قلتُ لنفسي بأن عاطفةً كامدة مزروعة في جسدها، ومِن جسدي يَنبع بحثٌ غير مُجد عن شَهوة سِحرية. لقد دفَعني فن الشهوة دائمًا إلى امتهان الحلم الممطوط لعضلاتي ولكلِّ جسمي المُتهدهِد، كما لو كانت المضاجعة لذة مُنغلقة لا تقبل الانفتاح. هذا النِّسيان لنفسي، وهذه اللحظات الأبدية تكون أحيانًا ناتجة عن الخوف والدهشة. كنت مشدودًا إلى الشهوة السحرية للينا. كانت شهوة تعيشُها بمرح، بدون قناع أو شذوذ أو مُعاناة. وحين يتفجَّر صراخها يَنطفئ بسرعة في جوف الليل.

كان يوم احتفال بالنسبة لي حين قرَّرت لينا استبدال الحِجاب الواقي بالحُبوب المانعة للحمل. كانت لديها رغبة في تجريبها. وبهذا العداد الداخلي، بدَت فيما بعدُ وكأنها تَبلُغ مُتعة أكثر انتظامًا. أعني انسيابًا مُحايدًا للَّذة، ونشوة بدون طِفل في الأفق، سيُسرُّ لي ألبرتو، في ميلانو، بمبدئه الجنسي:

– للجنس المُعاصر تاريخيَّته وإكراهاته. ذلك أنَّ الحجاب الواقي والكابُّوت يَرتبطان بحُرية في المعاشرة لا تخلو من مراقبة واحتجاج. وترتبط الحبوب المانعة للحمل بعصر الفجور، أما وباء السيدا فيُقابله العود المستحيل للزواج كبديل. بينما أصبح الأمر الآن مسألة حياة أو موت؛ إذ يلزم عاجلًا تسويق كابُّوتات جماعية في أوروبا. أليس كذلك؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤