رسائل متقاطعة

ستوكهولم. ٥ يونيو

دونيز، هل ينبغي عليَّ تقديمُ اعتذاراتي؟ نعم أدين لك ولنفسي أيضًا بذلك. كان ذهني شاردًا إلى أقصى حد. لا أعرف أحيانًا كيف أُخاطبك. لذا أظلُّ مُتأثرًا بدهشة ضَعفي وغياب تبصُّري ورويَّتي. هل لاحظتُ أنَّني منذ زمن أكتب بسُرعة فائقة؟ وتغدو كتابتي مليئة بالأخطاء الإملائية. فعلاماتُ الشكل تتداخَل وتتمازَج وتأخُذ مناحيَ غير مناحيها، مُتابعة، فيما أعتقد، مزاجي الجموح، أما علامة التعجُّب فتُصبح في يدي مختالة متمايلة.

عاد إليَّ الهدوء. أين وقفنا في حديثنا؟ كم هو الانتظار مُنهك! قررتُ أن أبقى هنا حتى نهاية غشت. وسأعود لعملي بعد ذلك بالضبط وكما هو مُنتظر. سأظلُّ هنا لفُضول ذهني، كما أعتقد … بهدف اكتشاف هذه المدينة وأخذ الوقت الكافي للتجوال والتسكُّع البطيء على شطِّ المياه، سأبقى هنا لاكتشاف بلدٍ بكامله.

لقد تعرَّفتُ مثلًا على ألبرتو. إنه منتج سينمائي وتلفزيوني. رجل رائع ومِن طينة نادرة. ربما نُلاقيه معًا في باريس، تعرَّفتُ أيضًا على زوجَين سويديَّين غريبَين: سفين وأولريكا. فسفين شخصية بشوشة وغامضة معًا. بدَت لي أفكاره في البداية مُتشابكة ومرضية بعض الشيء. لكني الآن أستطيع استيعاب فكره المتميز بالدقَّة اللامتناهية. لقد أعاراني شقةً صغيرة في ملك أحد أصدقائهما أقضي فيها ما تبقَّى من إقامتي هنا.

من أين أبدًا قصة خلافنا؟ يا للبلادة! لا زالت الدهشة تغمرني حين أُفكِّر في ذلك اليوم الذي رأيتُكِ فيه تُقبِّلين بول في المطبخ. تراجعتُ خُطوة إلى الوراء وخرجتُ للتو. كيف أنظر إليك دون أن أرتعش. خارَت قُواي. كان محو تقزُّزي شيئًا قاسيًا عليَّ. أعرف، تعرفين أنه حدث عارضٌ شِبه تافه، لكن رُؤيتي تشوَّشت وعقلي أيضًا. ليس هناك من جسد يَمنح للآخر بشكلٍ نهائي. هذه هي الرغبة ولا يُمكن اعتقالها وإخضاعها لقانون ارتباط حتى ولو كان عذريًّا. لكن أنتما الاثنان المتعانقان أدخلتما الهلوَسة إلى نفسي.

كنتُ كمَن فقَد إحدى ركائز هُويته. ركيزة ما انكسَرت. كانت لحظة الغيرة هذه مرسومة بألوان غير طبيعية. هل كنتُ شبحًا؟ بيننا نهضت مسافة قوية ولا محدودة. أحادث نفسي ونفسي وحدها. أما أنت فقد ظللتِ تُحبينني بنفس الخفة، ترقَّبتُ أن تتخلَّل القسوة علاقتنا. قسوة خفية راجعة إلى الخوف، لكن شيئًا من هذا لم يقع. وانحلَّت هذه الصورة الهذيانية لوحدها ببُطء. كنتِ تتركينَني أتحدَّث كما لو كنتُ أتحدَّث عن شخصية سينمائية.

شيء ما انكسر في علاقتنا. شيء غير قابل في الواقع للحل. لتتذكَّري أني فيما بعدُ وجدتُ نفسي في مواجهتك عاجزًا عن ضبطِ غضبي. كان غضبًا رهيبًا، ورغم سرعته وهياجه، لم يكن ذاك الغضب سوى ضياعي الأوَّل. كنتُ أنتظِر منك تفسيرًا مُهذبًا لما حدث، قادرًا على إيقاف عُنف إرادتي.

وللحقِّ أقولُ بأنَّ إرادتي غير مُتوازية، أما إرادتك فهي نابعة من امرأة رهيفة الإحساس وذات هشاشة تحكمها مُفارقة الانتظار والشهوة. أنا لا أستطيع يا دونيز أن أُحطِّم فيك كل ذاك الجمال ولا أن أطلب منك الاستسلام. فحريتُك ملك لك وحدك. وفوضى الرغبة؟ تلك اللحظة المجنونة من الغيرة كانت تكبُر في العمى والتفكُّك واستنزاف الزمن. لم يُفارقني اليقين في الحفاظ عليك بالقرب مني طوال حياتي، ولن يُفارقني أبدًا. إنه يقين صارم حتى في لحظات اليأس. وربما يغدو كذلك في لحظات إنكاري لنفسي، وفي استراحاتي العاطفية، أنا لا ألومك يا دونيز. فقط أصف تلك اللحظة. كيف ستتلقِّين هذه الرسالة وهذه الكلمات.

أنا الآن جالس في حديقة جميلة، أتأمل نصبًا لليني. والظل الذي يُصاحبني يشبه تشابُكًا زخرفيًّا من صنع زمن قديم. أحسُّ نفسي خاملًا إلى حدٍّ بعيد. منذ قليل، غفَيت قبل أن أكتُب لك، هل أنا مُحبَط؟ لا. ولكن فكري هارب ومُشتَّت. هل أنا حالم وعاشق لكلِّ جمال عابر؟ أنا مُتقلِّب، نعم، بالشكل الذي تُحبِّين. لكني وفيٌّ لذاك التقلب. «هل فهمت؟» غالبًا ما تُطمئنينَني بهذا الشكل. وأنتِ تَعرفين دهشَتي الكبرى أمام مُفاجآت الحب.

دفعني عملي إلى الحديث معك بكلام مُباشر أو بشكلٍ مجازيٍّ، والفارق بينهما غامض، لتتذكري لقاءنا الأول. أيَّة حيرة أصابتنا! لكن هذه الحالة هي التي تجعل من حياتنا الزوجية حوارًا عاشقًا ومبهمًا.

بعد ذلك تركتُ التدريس في الجامعة وبدأت بمُتابعة المحاضرات والمناظرات. في كل المناحي والتخصُّصات، هذا ما يقال عني. فهل مسَّ ذلك حياتنا؟ كان ابننا، وهو لا يزال صغيرًا، لا يملك أبًا؛ فالأب غائب على الدوام. لماذا تلك الأسفار؟ هل كان ذلك هروبًا أم إرادة عنيفة في التحوُّل المستمر؟ لا أدري. أجري وأجري؛ لكن يَحدُث لي الآن أن أمشيَ لصق الحائط.

كلَّما سافرت تمكَّنت من رُؤيتك بموضوعية. عرَضَت لنا مصائبُ أخرى مثل اليوم الذي عدتُ فيه إلى البيت بدون أن أُخبرك بوقتِ عودتي المضبوط نظرًا للفارق الزمني بين البلدَين. نسيتُ أن أُتلفِنَ لك. يا لها من مُفاجأة رهيبة بالنسبة لك ولي وللولد. تضبَّب كل شيء. كان الطفل نائمًا. ظللتُ جالسًا على سرير الراحة وأنا أهتزُّ من الانفعال، كما يُقال. كانت التلفزة قد أزعجتها برامجها المسبوكة على عجل. يا للعدد الهائل من القنوات، ويا له من خصاص مروع! بدأتُ في مشاهدة شريط سينمائي ميلودرامي. حكاية امرأة تخاف المسَّ بكبرياء زوجها، وتفعل كل ما من شأنه أن يجرحه. هي ليست مسئولة عن أيِّ شيء. تصوُّري هذا المشهد الذي لم ينتزع مني ضحكة واحدة. اعترف بذلك يا دونيز. كان عشيقها قد استُدعي خلال سهرة فاخرة. قدمته لزوجها: «جيمس، من معارفي الجدد.» غدا الزوج شاحبًا. قالت له: «كم امتقع وجهك!» ثم أضافت: «ما بك يا عزيزي؟» ارتعش الزوج.

– «لكن أنت محموم.»

– «حالة عابرة، سأبرأ خلال السهرة. لقد تعوَّدتُ على هذا.» هذه الجملة المُلغزة، جعلت العشيق يضجُّ بالضحك. ليس بإمكان أحد أن يُغير من نظرته ولا من ملامحِه عندما يجد نفسه في وضعية كهذه بين الزوج والعشيق الحاضرَين معًا. وأنا أيضًا لم أكن، في تلك الأمسية بالضبط، أملك القوة على الضَّحِك والسخرية.

انطلقت باتجاه المكتبة، لم يُثِر اهتمامي أيُّ كتاب. ثم (أرجوكِ احبسي أنفاسك) اكتشفتُ على أحد الرفوف رسائل. كومة من الرسائل. كانت الكتابة غريبة عليَّ، تردَّدت في قراءتها، ثم غامرتُ بذلك. وكلَّما توغلت في القراءة اكتشفت حياتك الأخرى. كان «عشيقك» حسَّاسًا لما أحبه فيك، أعني جمالك الذكي الموسوم بعزة النفس. كان يُقدم لك تحياته بأسلوب منقح نادر لا تشوبُه المبالغة، يبدو صادقًا في قوله، اقترح عليك الانفصال عن زوجتِه ليعيش معك. كان يحدثك كما لو كنتُ غير موجود، وكما لو كان ابننا يعيش في السماء. يا له من خطأ ارتكبه!

جعلَتني تلك القراءة ذا مزاج حالم. والغريب في الأمر أني قهقهتُ ضحكًا عند الانتهاء من قراءة الرسائل. أفاق الطفل وارتمى في أحضاني. حكى لي حلمًا رائعًا عن إنسان آليٍّ فنان. آلة تصنع الرسوم والتشكيلات والصور المتحرِّكة. ثم عاد بسرعة لنومه. هذا الحلم جعلني أتخوَّف على مستقبل الطفل وهذا الجيل الأصبعي.

لم أكن غافلًا طوال تلك السهرة. عاد إليَّ صحوي. كنتُ كمَن رمى عن ظهره غيابه، غارقًا في نسيان كل شيء. استمرَّت السهرة. لم أكن أعرف أين أنا في هذا الزمن الذي بدا لي لا نهائيًّا وضائعًا في أتون الليل. في الخارج كان الرذاذ يتساقط. ألقيت بنظرة على الشارع. كان خاليًا. كنتُ أبحث عن مخرَج لهذه الوضعية. فالبقاء على هذه الحالة اللامتحدِّدة الشكل، كان بالنسبة لي صراعًا ضمنيًّا مع شياطيني القديمة.

ومن دون أن أتهم نفسي بأية مخادعة أو حبٍّ للعذاب ارتميتُ عفويًّا على السرير، سرير الزواج. استحال عليَّ النوم. كنتُ إنسانًا أعزل وإن لم أَصِل كلية إلى الركوع أو الزحف مقتفيًا آثارك، سمعت نفسي أهمس بهذه الجملة: «قريبًا ستُصبحين حرة حرية كاملة.»

كان الوفاء في علاقتنا يمرُّ باختيار صعب من جهتَين معًا. وجدتني أمام هذه الحقيقة البسيطة: الحب فنٌّ للترميق بين الوهم والخيبة، بين اللذة والألم. فهل اندثَرَ حبي في صحراء الغيرة؟ وهل سينبثق مجددًا من ألمه نفسه؟ أنت، والحمد لله، مسكونة بهذه الرغبة، لكن لمَ هذه الحيرة والاضطراب؟ هل ستُرغمينني على ضبط نفسي والعدول عن قراري؟

قد أكون واقعًا تحت تأثير نوع من الانفصال عن الحياة، فحياتي الخاصة تربطني بالصرخة والضحكة وإشعاع النور. كانت تلك الليلة اختبارًا صعبًا لي، أرغمتني على عليل نفسي، شكرًا دونيز على هذا العمل الحاذق، شكرًا لليونة يدَيك وحركاتك الرشيقة العفوية.

أنا لا ألومك كثيرًا، على كل حال، فعلاقتنا مُستمرة، لكن كيف؟ أليس من المعقول أن نعيش في شقتين مُختلفتَين ومُجاورتين؟ أعتقد ذلك، ها حيث وصلتُ في تفكيري. لا أعرف ما أقول لك بعد ذلك، لك قبلاتي، قُبلة وديعة كما في الفن العذري، أليس كذلك؟

جيرار

•••

باريس في ١٥ يونيو.

ما الذي تُريده مني يا جيرار؟ الانتظار! نحن لا نفعل سوى تأجيل معاناة طويلة. مرَّت الآن أكثر من أربعة أشهر، وأنا أهترئ، كل شيء غامض كما من قبل. وهذا شيء شلني كلية. من حسن الحظ أني أكبر مجددًا مع طفلنا الصغير. إنه يغمرني بالفرح. أجِبني: هل ستحضر عيد ميلاده؟ يوم الأحد أخذت الصغير إلى الحديقة العمومية. مارسنا هناك لعبة مطاردة (في صيغة مبسطة). في طريق العودة حدَّق في عينيَّ مباشرة وقال: «هل يلعب بابا لعبة المطاردة؟» بلعت كلماتي، «أنت تلعب لعبة الهرب. أليس كذلك؟ ليس هذا مُماطلة ولا ابتزازًا، لذا لا تُخرج مخالبك. أحبك.»

دونيز

•••

جعلتني هذه الرسالة البائسة أمتلئ حنينًا، يا إلهي كم أنا عبثي! وأية رغبة هذه التي تدفعني إلى جمع حاجياتي! أنا الآن في حالة ترقُّب. هل تفكَّكت علاقتنا بشكل نهائي؟ هل أصبح الوقت متأخرًا؟ أصبح لديَّ انطباع بأني مُستتر خلف حجاب أسود. هي تنتظر وأنا أنتظر، ربما كان ذلك كارثة أو شيئًا بالغ التفاهة. أصطنِع لنفسي شراكات عديمة الجدوى وأختلِق لها الاعتذارات. تُنهكني هذه الحالة؛ فتعليق ماضيَّ، ماضينا، شيء مُستحيل، بل إنه لا واقعي.

•••

دونيز، باريس في ١٦ يونيو.

جيرار، أيامي مُظلمة وحمراء، هذا الصباح، نهضتُ وسط كابوس. إنه «حلم تعويض» كما يقال. مضغة قلق. وأنا ممزقة ومنخورة ومُشرحة بأدوات التعذيب. إني مُزركشة بنقط من نار. يكفي أن أفكر في ذلك كي تأخُذني الرعشة.

أنا الآن أتفهَّم بشكل أفضل النساء المصلوبات وضلالاتهنَّ الصوفية. هؤلاء الوَّليات، هؤلاء الصالحات المسكينات اللواتي تتمزَّق جلودهنَّ أو تُنتن من الوحدة. لكني لستُ من أصحاب هذا المنزع، ثم إني أحبك. أحبك إلى درجة إيلاجك في لذتي الخاصة.

لماذا فعلتَ ذلك يا جيرار؟ لم؟ ما الذي يَجعلك تشمئزُّ مني؟ قل لي الحقيقة. تحدَّث معي بتؤدة وبدون وجل. أنا أقبَلُك كما أنت. فما الذي تُريده بعد هذا؟ عشيقاتك لا أهتمُّ بهن؛ لتعرف ذلك! لن أهتمَّ بهن إطلاقًا. أنت تكذب عليَّ حين ترتادهن. اصمت! فأنا أحسُّ خياناتك لمجرَّد تغيُّر بسيط في صوتك، وكذا في تبدُّلات نظراتك الأكثر خفية. وفي التلفون أيضًا، بل خصوصًا في التلفون. أنت كتوم لأسرارك إلى درجة أبدأ معها في التخريف والزعيق، وحيدة وأمام الطفل اترك قناعَك وعُد لي كما أحببتك. إني أرتعش. ولتغفر لي وقاحتي. فأنا أودُّ لو أحافظ عليك. يا لها من غلطة ستكون. وإذن اذهب حيث يُملي عليك قلبك. انس نفسك واغرُب عن نظري. فأنا سأمحوك. ذات ليلة حلمت بشيء يخصُّك، يخصُّنا. كنتَ تتمشَّى في مدينة خَرِبة، مدينة أشبه بواجهة زجاجية مُهمَّشة. كنتَ تعبُر طريقًا يشطر نصفين خطًّا من نورٍ شفَّاف وثابت. في يدك «والكمانْ». كنتُ أراك قبالتي، من بعيد، تتسكَّع على إيقاع موسيقى صامتة إلى حدٍّ ما. وفجأةً غبت في الضباب. ثم نزلت أمطار طوفانية غسلت المدينة. رفعتُ عيني قبل غيابك. رأيت في مكانك لطخةً تبدو زرقاء وتارةً خضراء. كنتُ أحس ببرد شديد بدأت أسناني تُطقطق معه. يا له من سحر أرضي وسماوي. حين أفقت أمسكت دموعي. نهضتُ ووقفتُ أمام المرآة. آنذاك وجدت نفسي أجهش بالبكاء لأني لم أتعرَّف على نفسي.

لا أعرف كيف ينام الشجر، لكني أعرف أني شجرة، شأني في ذلك شأن كل امرأة، وحين أنام تَنطلِق تفرُّعاتي وأمشي باتجاهك وأنا أُضاعف جذوري. ثم يأتي الكابوس ليُمزِّقَها.

نعم … نعم … رغبت في نسيانك، ولمرات عديدة. لكن، هذا شيء لا يخصُّك يا حبِّي الجاحد. أنت نفسك تقول ذلك، كيف الحديث إليك بدون تجريحك وبدون أن ألحسَ بلساني دموعك؟ أنا مُضطربة جدًّا من فرط صمتك. صمتك الذي يُحيلك إلى حجر، قل! أنا لا أتنازل أبدًا، إني أنتظرك، لقد تأثرت كثيرًا لكني شديدة الارتباط بك.

دونيز

•••

باريس، في ١٦ يونيو.

الرسالة التي كتبتُها لك للتوِّ انفلتت مني. إنها عنيفة. وأقول لنفسي: يَلزمني المواصلة حتى النهاية. أنا الآن هادئة. أُقبِّلك بحرارة.

د.

•••

ستوكهولم، في ١٦ يونيو.

دونيز، كتبتُ لكِ البارحة. أعتقد أني قلتُ لكِ الأساسي. واليوم، أحسُّ بحاجة إلى أن أُحدِّثك عن هذه المدينة. أتمشَّى كثير بحذاء «الكلاركس» الخفيف، وأستعمل جميع وسائل النقل. دعاني ألبرتو البارحة إلى جولة جوية في منطاد. تمتَّعت بمُشاهدة ستوكهولم في الجو. عناق رائع بين الأرض والماء، إنهما «مُتعاونان» كما يُقال هنا.

حكى لي ألبرتو ما يلي: «فهمتُ يومًا، وأنا أُحلِّق فوق أجواء نيويورك بالطائرة المروحية، لمَ تمَّ تزطير هذه المدينة من طرف السينما بشكل أفضل من الأدب؛ إذ لا شيء غير حركة الكاميرا يستطيع الإمساك بتلك القوَّة الهائلة وتلك الهندسة والسُّرعة التي للكائنات والأشياء.

ألبرتو كائن غريب الأطوار، ألحَّ عليَّ أن يُريني مخطوطًا عجيبًا في مكتبة عمومية. بدَت لي المحافظة، وهي سيدة عجوز، كما لو كانت خارجة للتوِّ من خرافات عتيقة. أسرَّ ألبرتو في حضرتها بحكاية هذا الكتاب الخارق: قيلَ إنَّ بولدازيس، وهو راهب من بوهيميا، حُكم عليه بالإعدام لتُهمة مجهولة، وإني على كل حال، لم أتوصَّل أبدًا إلى معرفة تلك الجريمة. ولكي يتُوب ارتمى في أحضان مُغامرة فيها الكثير من المبالغة، إنها كتابة أضخم كتاب في العالم في ليلة واحدة. وشرع الراهب في إنجاز مهمَّته.

قيل أيضًا إنه أدرك في مُنتصَف الليل أن هذه المُهمة مستحيلة، ومُنتصف الليل هو مركز الليلة الاصطناعية. نادى الراهب على الشيطان وأقام معه الحلف المعهود: إنجاز الكتاب مُقابل أن يبيع له نفسه. وقبلَ الراهب المسكين. وفي رمشة عين كان الكتاب المعجز قد تمَّ. وكاعترافٍ بالجميل قرر الراهب رسم صورة الشيطان وتأبيدها وسط الكتاب المُعجز. وهذا ما تراهُ أمامك.

لقد خلص الراهب جسده من الموت لكن رُوحه الملعونة ظلَّت تائهة من مدينة إلى مدينة ومن مكان إلى آخر. وفي أحد الأيام ركَع الراهب أمام نصب لسيدتنا مريم واعترف لها بحلفِه مع الشيطان. وبفضل تلك الصلاة جاء خلاصُه مرة أخرى جسدًا وروحًا. إنها حكاية المزدوج، حكاية الشيطان مشخصًا.

وبما أني كنتُ ذاهلًا بعض الشيء. فقد انصعتُ لسِحر ودهشة الضَّخامة اللامألوفة للمخطوط وروعة كتابته الرومانية الدقيقة وسذاجة رسومه. لا وجود لتصويرٍ إنساني، هناك فقط صورة وحيدة للشيطان مرسومة على صفحة كاملة مُقابلة لتشكيل معماري. لم يَسبق أن رأيت رسومًا أفقر من هذه. وقد شكَّكت في أن يكون ألبرتو يلعب بخرافات قديمة. استعدتُ صحوي بسرعة وبمجرَّد ما انتهى ألبرتو من حكايته طرحت عليه هذا السؤال كالصاعقة: «لماذا هذا الاهتمام الشخصي بهذا الكتاب؟»

– طبعًا بسبب المَلِكة كريستين.

– أعترف بأني لم أفهم شيئًا!

– اسمع يا جيرار، هذا النوع من المخطوطات موجود في إيطاليا. لكن مخطوط ستوكهولم كان في ملكية كريستين. وهو يَحمل اسم «كوديكس جيفاس». والمكتبيُّون يُحافظون عليه بعناية فائقة. فهذا الكتاب ذو الأصل الشيطاني يُثير العقول التي بها مسٌّ في ستوكهولم، هل تعلم أن مجهولًا كسر، في أحد الأيام السالفة، الزجاج الذي يَحمي الكتاب وغابَ في الظلام. لكن لنَعُد إلى سؤالك. لقد اخترتُ هذا الكتاب لاحتياجي له في فيلمي عن ديكارت والمَلِكة كريستين. هذا كل ما في الأمر، ففي نهاية الفيلم أي قبل قليل من موت بطلنا الذي سيُجمِّده البرد، سأبرز ديكارت وهو يخرج من عند سفير فرنسا، السيد ثانوت، ويتمشَّى على الثلج شاردًا، وتُصيبه الهلوسة. وبدل الثلج، يجد نفسه يمشي على كتاب مُعجز، تقوده خطواته فتطوي كل صفحة في شبه شفافية، بين بياض الثلج وخطوط الكتاب المُعجز. في هذه اللحظة بالضبط يُصاب ديكارت بالتهابٍ في الرئتين. وبقدر ما يتقدَّم نحو القصر، بقدر ما يحس بالكتاب ينسحب من تحت قدميه. ثم تغوص الشاشة في بياض تأمُّلي. عليَّ أن أفك لغز هذه النهاية بالوسائل السينمائية. سينما تعرض علينا الشخصيات الأسطورية والمُلغِزة.

لا أعرف يا دونيز لماذا أُرسِل لكِ هذه الرسالة بغرابتها. ألكَي أُسليك؟ أحسُّ نفسي شخصًا غريبًا. ذهني مُثقَل. وعليَّ أن أُفرغه كي أجد نفسي. فأنا مُتمسِّك بعملي، لكنه يرهقني. أرجوك أن تتفهمي مُواربتي وحيرتي. من الأفضل أن نتحدَّث عن بُعد. بالمراسلة أو الهاتف؛ فالأمور تكون أقلَّ اختلاطًا عليَّ أمام جمالك. وأنا أخاطبك كما لو كنتُ أرغب في حمايتك من نفسك. أشدُّكِ إليَّ بحرارة.

ح.

•••

أنا الآن أحلم بهذه المُراسلة وبتلك الرسائل المُتقاطعة، وخلال ذلك انظر من نافذة غرفتي إلى منظرٍ طبيعي موشوم بالحنين، إنه يُوقف في ذهني الخامل ذكريات قديمة تتَّصل بحياتي مع دونيز وطفلها، أرى نفسي أحضنُه وأُقبِّله مُطلًّا على عينَيه المحجوبتَين بنورٍ طفيف، هل افترقنا بالفعل، جسدًا وروحًا؟ كل لقاء يكون وحيًا، لكن ما الذي يكونه الفراق المعلَّق في الزمن؟ فهل من الممكن، بعد، أن يظلَّ الإنسان مُحافظًا على فكرٍ نافذ وعلى إمساكٍ مُباشر بالكائنات المحبوبة وبالقطيعة العاطفية الداخلية؟

لماذا تحبُّ النساء، هكذا، بهوَس؟ هذه القابلية تُثيرني. إذا نظَرنا إليها من الخارج، تبدو المرأة التي تفتننا هشَّة، أما إذا نظرنا إليها من أمام فإنها تبدو خائفة ومُترقِّبة. إنه ترقُّب يُعضِّد الجسد، ويغنيه برغبات خفية. وبدوري اقوم بإغناء قُدر أني عليَّ أن أحب وأحب، ثم بعد أن اكتشفتُ أن هذه المواجهة مجرَّد لعبة بين العقل والجنون أدركت أن الملل الذي أخافه ليس سوى تعبير عن حيرتي في الحياة والبقاء لمحبوبتي ونسائي، أقول ذلك وأُكرِّره: إني أفهم فن الحب في كرامته ووفاته.

لكن مرحلة محبتي للجمال الخالص قد ولَّت، وبدأت تجربة أكثر صفاء وأكثر انفتاحًا تجاه الآخرين. العاطفة ما تزال موجودة، والجمال مُنكشِف على الدوام، ونحن نتوصَّل إلى امتلاك قوة هي قوة رُوح التبصر والروية، فهي تَزيد حُضورنا للآخَرين واهتمامنا بالأشياء. فُز من القرب هذا ثمين جدًّا؛ إذ نحن لا نملك القدرة على رؤية أنفسنا كلية من الخارج (وإلا سنكون أمواتًا أو تماثيل)، ولا أن نَنتزع من أنفسنا «روح القلب» وهشاشة الحركة. ففي الرغبة الأكثر وحشية، تُوجد دائمًا تلك الكلمة المحسوسة الصامتة، والشكل السرِّي للصمَم وللصرخة البيضاء.

لقد وصلتُ إلى هذه المرحلة. فعاطفتي تُثرى إزاء المرأة التي أحبُّ من غير أن أفقد عقلي وحقِّي في الاهتمام بها وبتحوُّلاتها. إنه لخطأ أن نرغب في تغيير امرأة وتقييدها، فهي تتغيَّر لذاتها من خلال الانتظار الرائع لرغبتها الكامنة فيها.

لكن هناك نساء لا يَنتظِرن. وأنا أكتشفهنَّ من خلال شبقيتهنَّ وجمالهنَّ الذكي. هنَّ سعيدات لحب الرجال، رجال كثيرين، بدون تبدُّلات أساسية. وأنا لم أحلم بما أقول، لكني أعيشه.

النساء يَقترحن والرجال يتصرَّفون. والعكس أيضًا صحيح في هذا الحِلف الضمني بين العشاق. حلف محكوم بتواطؤٍ واقعيٍّ لا تشوبُه خلفية انتهازية وتنظمه أعراف ضيافة وطقوس واختيارات وقرارات متسامحة ومسافات ملائمة.

ما أقوم بوصفِه وتحليله طوال وحيي الزائف هذا يمنحُني وَهْم الجنة. هل هو استرضاء للنساء؟ لا. فبما أنَّ الحب ليس نظامًا آليًّا فهو تعدُّد غير منظَّم. وحين تهدأ تلك الفوضى فإنها تترك المكان للمُجاهدة ولمرونة ذهنٍ مُتناغمة، إلى هذا الحد أو ذاك، مع مرونة الجسد. أجساد كثيرة لا نظير لها. وحين تنهار أو تخفت هذه المرونة فإنها تُحافظ على حبِّ اللعب والتسامح. تلك المرونة هي جمال التبصُّر. فهل بلغت؟ أن يشيخ المرء دون خبلٍ في الذهن هو الفكر الواضح لكلِّ حبٍّ كبير. سيقول لي ألبرتو فيما بعد: «مِن بين النساء هناك المُداوِمة وغير المُداوِمات بامتياز. أو إن شئت أيها الصديق، هناك الزوجة والعشيقة والمرأة الثالثة، ثلاث مُستويات من التعلُّم.»

هذه الحقيقة المُقنِعة للتراتبية، حين تُلفظ على هذا النحو، تمسُّني في الصميم من غير أن تجرَّ معها مبدئي في الوفاء، فنحن لا نرمي بالمرأة تلو الأخرى في سلَّة المُهملات. كل واحدة تسهر على حدودها وعلى أمكنتِها الواقعية، وأسرارها الشائعة. والإغراء الدائم لا يمحو الماضي كي يستعرض أو يُخفي ما ليس محبوبًا فينا ولا مشبعًا في قوَّتنا الحيوانية. فهل من اللازم الاستسلام؟

ها أنتم ترون أني أقترب من المُعاناة، بلا ضجَّة، مُزيحًا كل الأشواك، التي أمامي مُواساة للنظر، أريجها دوخة من الدنتيلا، فجأةً أغدو لطيفًا أقاسم الآخَرين الضحك والصراخ ولمحات النور؛ أضاجع وأعيد المُضاجعة؛ وكل شيء إيقاع في جسَدي المفتون الذي يتحكَّم فيه فرح عارٍ هو ضحك العينَين. فحين يُحبُّني الآخَرون أكون مشرفًا على أمرٍ ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤