صلاة

نهضَت لينا من نومها في الفجر. كنتُ في سريري حين نادَت عليَّ. رأيتها واقفة بين السرير والباب مُرتدية بذلة المُضيفات. على رأسها قبَّعتها. أخذتها في يدها، حيَّتني من بعيدٍ وعادَت إلى نيويورك. ثم استغرقت مُضطربًا في نومي من جديد.

خلال الليل، راقبتها وهي نائمة. كانت مُستلقية. يدُها اليُمنى على نهدَيها والثانية تحت الغطاء. ومن حينٍ لآخَر كانت تُغير من وضعية يدَيها، ثم تَثني رجلًا وتضعُها على الأخرى في نومٍ تناوُبي. لم أشهد في أي مكان آخر هذا التحوُّل الليلي الذي يخترق جموحي الرجولي. يحدث أن تمنحني هذه الفتاة المتوهِّجة نفسها عارية؛ أن تمنح نفسها لي وهي نائمة، جاذبة إياي نحوها في أوضاع حبٍّ غير مشهودة. آنَذاك تستيقظ وتجلس وهي غارقة في التفكير. وبدون أن تُوجه لي كلمة تعود إلى النوم.

كانت لي مُتعة السهر عليها وعلى فوارقها الزمنية. كنتُ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، الخامل الغريب. في تلك الساعات من الليل لم تكن لينا تملك هُوية معيَّنة. في النهار كانت نشيطة تتحرَّك جيئة وذهابًا. أجدها مرةً هنا ومرة هناك. كل شيء كان مُتأخرًا: مواعيد الأكل والخروج والتلفون والشهوات، وعوض أن يبهرني هذا الاستقرار جعَلني أصرُّ على المكوث في ستوكهولم بدون هدف محدَّد حقًّا. كنت قد نسيتُ دونيز وابنَنا. هل أصبح قلبي قاسيًا إلى هذا الحد؟ كنتُ مشلولًا أمام مطالب وآلام دونيز الملحاحة. لقد وضعَتني أمام حقيقتي، طالبة مني احترام العقد الذي يَربط بيننا، في الوقت الذي قد أكون فيه على أهبة فراقها. لكنَّني أنا نفسي لم أكن أعرف ذلك. لم يكن لديَّ صفاء واقعي ولا أسباب واضحة. كنتُ مفعمًا بالحذر.

كانت الشهور الأخيرة التي قضيتها مع دونيز خالية من أيِّ ثقة مُتبادلة. ولا أزال أشعر بهذا لمجرَّد تذكُّر ذلك. حين كانت تتمدَّد جنبي كانت أنفاسي تنحبِس. كنتُ أُحسُّ ارتجاجات وأصواتًا مكتومة وضرورة مُستعجلة في الابتعاد عنها. غدَت دونيز غامضةً بالنسبة لي وغير مرغوب فيها. وهو غموضٌ خانَه الإنكار المُقنع: «اذهب لحالك!» هكذا كانت تقول، ثم تضيف: «لكنك ستعود بلا ريب.» يا له من خطأ اقترفَته في حقِّي! أنا لا أعود أبدًا إلى أولئك الذين يُحبُّونني زيادةً على اللازم. كانت كلماتها تحدِّيًا لي ووصاية عليَّ.

كنتُ أرتكِز على قوَّتي وحدها، وعلى وحدتي والملاحَظة الذاتية التي أملكها. وفي قلقها ذاك فهمت دونيز العكس، وربما عن حق. اعتقدت أني أريد منها طفلًا ثانيًا. تحدَّثنا عن ذلك خلال أمسية نارية. كنتُ حانقًا. تردَّدَت هي في أن تطلب مني ذلك. تظاهرت بعدم سماعها. وفي حيرتها سألتني بحذر، مُلطِّفة من هياجي ومن رغبتي الملحَّة في استبدالها بامرأةٍ أخرى. كان غضبي جامحًا. ضاعفت هي من حذرها المُقنع لتُصارع عنفي وعراكي. كيف أقول لها ذلك؟ فبجانبها كنت كالميت. ولمَّا فهمَت غرضي أدركها الجنون.

هكذا عنَّ لي أن أتمنَّى تحطيمها وتبخُّرها بدون عودة على الأرض؛ إذ لا حبَّ بدون حقد، وبدون حقد مُلطف لا يُوجد بقاء. كنت أختنِق. فوراء هذه الفوضى كانت دونيز تنتظر إشارة جديدة مني، هدنة تَطرُد كوابيسنا. حاوَلَت تكسير الدائرة. هكذا كانت تُحدثني حديثًا منقطعًا، ليلًا ونهارًا. اقترحت عليَّ أن نقوم بفسحات مرحة، لوحدنا أو مع طفلنا أو الأصدقاء؛ بل اقترحت عليَّ سفرة لجُزُر الكناري. حديث بدون منتهى. مَتاهة من المقترحات الخصبة.

منذ ذلك الوقت غدَت دونيز كثيرة الشرود. وأصبحتُ أنا أغيب عن البيت أكثر فأكثر. في تلك الحالة بالضبط سافرت إلى ستوكهولم. كان ذاك الاضطراب نابعًا، حسب ظني، من نقصٍ في الإيمان. فحين تُحبُّني امرأة لا أطعم ذلك بالاعتقاد فيه. فهل نسيت كيف أَرتبطُ بالآخرين؟ في أيِّ سرٍّ غرقتُ حتى أصبحتُ مشدودًا لماضٍ رهيب القدم؟ كانت لينا تعيش في البساطة اللامنتظمة للحاضر الأبدي. وكانت تستقبلُني في عبثها باعتباري كائنًا محتاجًا للمواساة، ورحالة واقعًا في أسر الدهشة.

كنتُ بُحبِّها أشتعل رغبة وإن من غير عشق. أنا أيضًا كنتُ أعيش فوق طاقاتي: سنة، سنة بكاملها في الانتظار. والزمن؟ ألا يُمكن أن نتصوَّر أن أصل العالم فوضى أولية تلاها سُبات عميق للكواكب؟

ظللتُ صامدًا. ولم تكن حالاتي النفسية خطيرة. لم يكن يُصيبني الدوار أو خفقان زائد في القلب. كنتُ حرَّ اليدَين. راقبتُ نفسي من الخارج. غريبًا عن هذه المدينة وهذا البلد كنتُ أتأمَّل النساء، أقترب منهنَّ دون أن أمنحهنَّ حضني الهش. هكذا أعيش بالقُرب من سذاجتي ومن احتشامي الخفي، بالرغم مما يُمكن أن يُقال عن ذلك. كانت دونيز في باريس، ولينا ستكون في نيويورك جنب خطيبها. استخلصت ذلك يومًا من مُنعطفات إحدى الجمل. أحسستُ بالغيرة في الليلة التي تلفَنَ لها من هناك. كنا في السرير معًا. انسحبَت مني وأجابَته ضاحكة. كنتُ أغبطه حتى الموت. فهل يُمكن أن يُسبِّب لي هذا الانسحاب الجنسي أزمة أو ربما بذور مرضٍ ما؟ أظنُّ ذلك. خصوصًا حين يكون وهنُ القلب، في حالة عجز خطيرة.

كان ذلك علامة على ما سيأتي. تمَّ الفراق الفِعلي بعد ذلك بقليل. فقد أجَّلَت لينا لمرات مُتكرِّرة مواعيدنا التي أصبحَت مُتباعدة، حتى اليوم الذي تلفَنَت لي مُعلنة أنها على أهبة الالتحاق بخطيبها. نعم، كي يقضيا العطلة في أعالي البحار مع جماعة من الأصدقاء. كان عليها العودة إلى نيويورك في يومِ الغد. هل كنا سنَلتقِي فيما بعدُ؟ أين؟ ومتى؟ كانت لينا لا تدري. ألححتُ عليها. أجابت: «لا أملك القلب الكافي لذلك.» ثم وضعت السماعة. نادَيت عليها في التلفون من جديد؛ أنصتَت لصوتي ثم أقفَلَت الخط مرةً أخرى. أتذكَّر جيدًا ما حدث! أطلقتُ صرخة وضربت بجهاز التلفون عرض كرسي الراحة.

في الغد، وأنا ما أزال تحت وقع الحدث، دخلتُ سهوًا إلى كنيسة ألمانية تُدعى «تيسكا كيركان». كان اليوم يوم أحد. والوقت وقت قداس. في المدخل قُدم لي كتابٌ مقدس وكتاب صلوات أخذتهما بحركة آلية. قد أكون أخطأتُ إلهي في ذاك اليوم. كان الكتاب المقدَّس مكتوبًا باللغة السويدية وبخطٍّ قُوطي رائع، فيما كان القسُّ يقوم بوعظِه ودعواته باللغة الألمانية. كان ذاك القسُّ لوحده رسولًا ذا أدوار مُتعدِّدة، فقد كان خطيبًا متحدثًا ومُغنِّيَ مزامير ولاعبَ أرغن، قرب الواجهات الزجاجية للكنيسة المصبوغة باعتدال ولوحات القديسين الرشيقين الواثقين من أنفسهم، الهادئين المرحين إلى حدٍّ ما.

المسيح نفسُه بدا وكأنه خارج من حفلة ريفية مُقامة بمناسبة يوم القديسة ليسي؛ إذ لا أثر للألم على وجهه ولا يبدو عليه صَلب أو تعذيب ولو كان طفيفًا.

رفع الناس الجالسون جنبي رءوسهم، فعلتُ مثلهم، جلسوا فقلدتهم في طفسهم، لكن الأمر لم يتعلَّق بالتمدد، إلا إذا كان ذلك في قبر. بين الفينة والأخرى كانت الأصوات تُغيِّر نبراتها بعد حصة طويلة من المناجاة الداخلية، كنت غارقًا في صمتٍ عنيد. وكان الرجل الجالس بقربي يطوي صفحات الكتاب بوضع لعابه على أطراف الصفحات. أطراف مذهبة بالتأكيد، لكنَّها متآكلة من فرط تلك التسلية الأصبعية. كنت أقرأ بين السطور إلى حدٍّ كانت معه صلاتي العفوية، ذلك النشيد المُنتَزَع من جسد الحروف، نشيدًا خارجًا مِن الرصاص أو من الذاكرة الاصطناعية. كنتُ في ذلك اليوم في حالة اندهاشٍ وعُزلة مُطلقة؛ إذ أنا المُفكِّر العقلاني قمتُ بهذه الصلاة التي قد لا تُصدق:

ربِّ لمَ أبكَمتَني وجعَلتني من جديدٍ أميًّا؟ فليس بقُربي أي هاتف يهتف لي ولا ملاك جميل. ليس بقُربي امرأة سماوية كي أُداعبَها بنظري. ليس أمامي غير هؤلاء السيدات الصَّغيرات بقبعاتهن المتألِّقة وكأنهنَّ السن في لحظة نشيد. هل نسينَ تعاليم الماضي؟

مولاي، جعَلتَني أعبُر هذه الحياة كحلمٍ خلقه الموتى. فهل سيكونون هم الوسطاء بيننا؟

وُلدت غير بعيد من قلب هذا القرن، في عزِّ الحرب والاستعباد. وهبتَني كل شيء، بكرامة نفس خفية. أيُّ عطاء رائع هذا الذي وقَع في ذاكرتي الجريحة كالوهج؟

ليس من أحدٍ بعيدٍ عن حقيقتك وحُكمك. لكن لو لم يكن فرحي صعبًا، هل كنت بذرتها بدون لا مبالاة معقولة؟

مولاي، لستُ أرتاد المعابد والقبور كي أنحني إجلالًا لعنايتك الإلهية، فثقتي في نفسي مُتقلِّبة حسب هوى الوحي، هذا اللااستقرار أعيشه في مغامرات حبِّي الجميلة. لقد سمعت أن الجمال لا قرين له في غير اندثاره. إنه جمال محفوظ تحت زجاج الكنيسة ملفوف بالأناشيد والابتهالات المُنتزعة من وريقاتها المذهبة.

يا له من كبرياء! أبدًا لم أعرف الانحطاط والإهانة المزمنة، لستُ مريضًا أو شبحًا أو عائدًا من بلاد الموتى، هل أحسست بأنَّ النذالة لصيقة بالخطيئة؟ خطيئة تبدأ من ارتواء القلب الجريح ومركزه الذي سبغ عليه الفزع والإرهاب أنواره. أنا مُحرَج يا رب أمام طيبوبتك، فهل هي مُنفلتة منا في كل مكان؟

بي حاجة إلى لمِّ شتات نفسي كي أرتاح بفعل قوة هذه الصلاة نفسها من ثقلِ خطاياي. مولاي، ما الذي ناديتُه في عُمقِ ليلي؟ هل أخللتُ بتحابِّي الرائع؟

عيناي مُحدقتان في زجاج الكنيسة، ترسُمني ألوانه وتشابُكاته كأيقونة مُنتصبة قبالة جدار أعمى. فهل سأُحافظ على انشقاقي فيما وراء هذا اللون الأسود؟ هل أنا قُربانُ زيارة. أنصت لهذا النذر (لكن لمن؟): ألا آكل حياتي نيئة، ألا أذوبها، ألا أُبخرها أو أذرها في الجهات الأربع.

ربِّ إني أرى أناسًا أشباحًا، وآخرين خائري القوى، وآخرين بُسطاء العقول. معهم أضحك بلذة. أقف بدون حياء أمام ضحكة وشعاع شمس ذاهل في رقصته الدائرية. والضوء، والضوء الخارق، يمدني حيث أنا، بالبهاء المنتشر في طقوس الناس وذاكرتهم وهيئاتهم الروحانية.

أبدًا لم أعرف الاستحياء الممزوج بالشر والخداع. أبدًا لم أضرب أحدًا ضربًا مُبرحًا. وكم مرة تفادَيتُ الرعب والقسوة القُصوى، وقد كنتُ أكثر هياجًا من وليٍّ عاشق.

هكذا، وبينَما أُضاعف من حريتي، لم أكتشف أبدًا جفاءً لم يكن نتيجةً لحرَجي الكبير. كلُّ واحد منَّا يصل إلى نهايتِه بخُطًى هادئة ثقيلة؛ نهاية تكون منثورةً في غبار النجوم.

كل شيء يبقى وكل شيء يَنمحي، وأظلُّ أنا مشدودًا إلى هذه المفارقة. مفارقة أحتفل بها في الصحو والنوم، وأيضًا في ارتعاشات أحلامي، لا ريبَ. هل ستَظهر يا ربِّ في أحلامي؟ لن أتذكَّر منه سوى صرخة في عز الليل. هل أكون سقطت في حضن حنينٍ قاس؟ لكن بالعلاقة مع أي صبر في الحياة؟ أظل مسكونًا بعجلة غريبة أكثر من أيِّ إنسان مُنهمِك في مَشاغِلِه. وبما أني لستُ جليلًا ولا غامضًا فإني أبسط نظرتي على الحرية المعقولة واللامعقولة لكل شيء، وأضع عينًا على الخلود الأهل المزركش بلحظات حضور ملحاح. رب، لقد صاحبَتِ الروح القلب باتجاه فتنة كبرى أو باتجاه كارثة. يحدث أن أقع تحت سحر إرادتي الجريئة التي تقوم بشطبِ كل العوائق الصعبة. آنَذاك تَنفتِح إشراقة الشمس باتجاه علامات لم نشهَدها من قبل. فهل أنا وفيٌّ لمصيري الحقيقي ولضروراته التي تُخفِّف من حدتها قوة مرحة؟

ما يَنقصني يتجاوَز كل قياس، وما أطلبه بإلحاح ينتمي للرغبة. وكل هذا ليس سوى سذاجة ونزق. مَن منَّا يعرف الرعب؟ فهل تغلب على نسيان هذا العالم؟ لحظة واحدة وأعود.

للعودة الكبرى طقوسها التطهيرية والنسكية، إن لم أقل أيضًا طقسها في العفَّة المُفتعلة. أتكلَّم لأني أعرف أنه بمُستطاعي أن أقول لكم كل شيء، ولو بدون رقابة أو لياقة أو فكر مُستسلم ومدجَّن بجراحه. حين تتهشَّم حياة يصنعون منها حياة أخرى. وهذا العمل أكبر من أن يتم فيه تحويل الميت إلى كائنٍ حسِّي.

هكذا تحقَّقت الرحمة بدون صراع مع مَلاك مُغتال. أنا لا أفهم ما أقول. أحيانًا أُثقل براءتي بكلمات نسيتها من حبِّي الأول، الأول أو الأخير، لا أدري. كتبوا لي ذلك بحروف رقيقة فاخرة على قلبي فصدَّقت. أحبُّ ويُحبُّني الناس، وهكذا دواليك حتى نهاية الزمن. كشَف جسدي عن صورته، واستعرضها مخترقًا بذلك كل احتشام. لم يكن لي أيُّ اختيار. ولا يُسعفنا الحظ أو الثقة في النفس إلا بعد أن يكون كل شيء قد تم.

يتمُّ القيام بمشروعٍ أو برهان بدل الشكوى أو العذاب المُحرج. لكن الخلاص الحق ربما كان كابوسًا وحيرة. جاء النظام ومعه جاءت الفوضى. أقول للمحبوبة: لقد تجاوَزنا السُّخرية بكثير. إذا أنا وضعت قميصك الحريري وحليَّك أمام هذا القداس، فإن ذلك سيكون إكبارًا لصلاةٍ جديدة مصنوعة من الدنتيلَّا ومسبوكة بفن النبالة القديم. أوضاع شبقية في الجسد والروح، فلتتمتَّع إذن!

ربِّ، إن كنت أكبرك وأبتهل إليك مرةً أخرى، فلأنَّ حنقي يَهمس لي أحيانًا بكلامي. ثم يهدأ الحنق في صمت خفي. إنها اللطافة المشبوهة للظلمات والضباب المشتعل بفجر مُستعجل كنسرٍ خرافي. لا حاجة لي كي أكون إنسانًا مجردًا عن جسده، وإنما بي حاجة لأن أكون اسمًا، علامة، رسالة. يتناثَر الفجر فيما الكاتب المُتوحِّد، بعد أن تابع عقارب الزمن، يدور مع الشمس والقمر والضوء والظل.

مولاي، أنا لا أبتغي أن أكون إنسانًا آخر، نظيرًا أو نسخة مِن فوضى هُويتي، غريبًا غربةً مُطلقة عن ذاكرته العميقة. ولا اتَّجه نحو المُستحيل. فبين بابَين مفتوحتين اختار دائمًا الأكثر ألفة في حركته المتقطِّعة.

هنالك قُرة مجهولة تفكُّك جسَدي وأصابعي البحرية وتمنعني من الموت مُتأثرًا بعذاباتي. إنها عذابات قابلة للاقتسام والتفرقة، موهوبة لنسمة العواصف وحدَّة الرياح المتقاطعة، أنا لا أحتفل أبدًا بالدوار. فالسجود فِعلٌ من أفعال الحب. وأنا أقوم به من غير مساعدة. لقد تردَّدتُ كثيرًا أمام تعدد أقنعتي وحماقاتي. وحين أستخرج بعضها أحس نفسي عاريًا أمام السماء، وهذه الكمشة من نفسي والتراب، مثل ما أنا أمام هذه الساعات من التسلية الخالصة. لرغباتنا يا مولاي إشاراتها؛ فهي تنحت دومًا عواطفي وحُدوساتي وخطواتي، أنا لا أرى خطواتي وإنما حركاتها فقط، فليس هناك تبشير فيه الخلاص أو تقزز يكون موجَّهًا يا مولاي ضدي.

وإذا ما قمتُ، كما يقوم الصوفية، بخطِّ دوائر من النار بجمرة في الظلمات، فهل سأرى رُوحي تلتهب من كثرة العناد؟ أنا مهاجر خائف، وأنا كذلك على سطح الأرض بكامله.

يَحكي رحَّالة عربي قديم عن تأبينٍ غريب للأموات، هناك في شمال بلاد الفكينغ. فإذا كان الميت، فقيرًا يُوضع في قاربٍ ويتمُّ إحراق الكل، يا له من زواج بين النار والماء! أما إذا كان غنيًّا فإنهم يُقدمون له كقربانٍ عبيدًا وجواريَ يتمُّ إسكارهم ليلَ نهار حتى لحظة القربان، يتم وضع الجثة على سفينة مُزيَّنة بأقمشة وأبسطة شرقية. ويظهر ملك الموت في شكل امرأة عجوز، هل كانت ثَمِلة هي الأخرى؟ لم يَذكر ذلك راوية ولا علَّامة. ثم يتمُّ شطر كلب نصفَين ويأتي دور الخيول والبقر والدِّيَكة. ويُرمى الكل على ظهر السفينة المبحرة في لُجة المياه.

تقوم الضحية بجزِّ رأس دجاجة وتصيح: «انظروا معي! هناك أرى أبويَّ. إنهما جالسان. آه إنني أصعد نحو الجنة. فسيِّدي يُوجد هناك مشرقًا. سيدي الجميل المزيَّن بالضياء، سيدي الذي من أجله أفارق الحياة.» تهبُ الضحية زينتها وخلاخلَها وحليها لملك الموت. تنسحب من أمام خيمة الميت. يتمُّ الإمساك بها والدفع بها إلى الداخل. يتلو ذلك لحظة فجور غريبة. عشرة رجال يقومون بمُضاجعتها، في كل الأوضاع. دم بدم وموت بموت، وها هي الآن مُضطجعة جنب سيِّدها الميت. يتقدم منها ملك الموت ويطعنُها بخنجر مهنَّد بين ضلوعها فيما يكون الرجال آخِذين في خنقها. يا إلهي! يتمُّ إشعال النار في السفينة. تشتعل النار تحت غضب السماء محمولة بعاصفة أُخروية. إنها مجرَّد حكاية من الماضي.

يا إلهي، هل يكون إحراق الجسد ونثر رمادِه في مهبِّ الرياح وحركة الأمواج عملًا همجيًّا! وبما أن الموت انفصال ونسيان للأرض، فلماذا لا نُخلق مع رمادنا؟

الأسى فرح شائخ. إنه خطوة نحو الأرض أو السماء، مصحوبة بتعفُّن الروح. فهل ينسى الناس الحياة على عتبة غيابهم المُبهم وهم مزيَّنون برفات الأحياء؟ يحدث أيضًا أن يُنطفئ كل شيء في عقلي وجسدي المُنتشي، أن أكون مُضمخًا بدموع صامتة، ومهجورًا من طرف الفراغ نفسه، وأن أُكرِّس نفسي لغموضي الكبير. أطفو من غير نجمة تهديني، أرتفع وأتشكَّل. أُغيِّر تمامًا نظرتي للعالم والناس وهواجسهم الرائعة، وأستسلم أمام كبريائي. فهل يستطيع أحد أن يتحدَّاني؟ لا أجيب. وأكون بذلك مُتظاهرًا باللامبالاة، لا أكره عدوِّي ولا أحبه. أنزاح باتجاه طريقي المتوحِّد وباتجاه حقيقتي ومُرتكزاتي، هل هي الغبطة أو الحسد تجاه هذا وذاك؟ أخرج من تلك التجربة جريحًا وبدون وعي واضح. أستمع وأصيخ السمع لأفكار باطنية. أمنح فرصة لمن يريد لي خيرًا حقًّا خالصًا ورزينًا وغير منته أبدًا. والكرم، أمسك به الجو، وأردُّه بدون أي ضغط.

يا رب، هل من السهل الحفاظ على مبدأ الاستقامة؟ وهل سيكون ذلك معجزة إن أنا به تمسَّكت بقوة؟ وهل هذا الصراع مُتكافئ وإرادة حقة بدون مخرج؟ داخل قوى الليل الشمسي، سيغرق عقلي في التأمل على سطح الأحلام والأرق. وكلما رأيت رؤيا سحرية أجد نفسي على سطح الأرض والسماء والماء. ومن نجمٍ إلى نجم، تُهاجر كلمات بسيطة موشومة في القلب حول منامي وتغيُّرات أحلامي.

تلك التي تنام جنبي تسهَر على ذاكرتي. لذهني صفاء الصحو أمام شفافية عينَيها وتموُّج خصرها وعناقاتنا الليلية. فهل هذا من الحقارة في شيء؟ رب، إني لا أشكو أبدًا من جراحي وهيجاني، من بلادتي وحرجي. أكرر دائمًا لنفسي بأني قد أكون فقدتُ كل علاقة إرادية مع الاستسلام. لكن عشقي النابع من أفكارٍ طفولية ربما كان للأسف باردًا! ربما كانت تلك الأفكار مُقنعة، ببرودتها وسداد نظرتها!

أنا لا أضع مُقابل مستقبلي أي عنفٍ قاسٍ. فالزمن المختل الفارغ، الرخو المتراكم على صفحاته المتراكمة، يُصاحبني باتجاه أبعاد جديدة. قد يكون مُستقبلي الكبير مرًّا، ويُمكنه أن يجعلني أتفادى آلامًا ضمنية. إنه القاعدة السرية للفراغ.

أنا لا أُحاول أن أفاجئ ما أجهله بعطالة مبالغ فيها. أليس من الواجب اكتشاف الفكر والقياس العيني والصحيح للأشياء وتناظمها عبر المُعاناة؟ كم تبدو لي تلك المُعاناة ضحية لغموض وجهتها! أناديها بصوتٍ خافت تنفخ في إيقاعها ولحظات حقيقتها. هل أنا مُستعد لاستبدال كلامي وقسمي بالصمت الأخطر؟ رب، يا حافظًا لذاته وبعده القصي، أبدًا لستَ أنت قبالتي!

أقوم بضبط علاماتٍ وارتجاجات وهمسات واقتراحات مُفاجئة. ويقال ها هو آت. يتفوَّهون بحكم جميلة، وبتمايُزات فجَّة بين العقيدة والإيمان، بين الإيمان والقدر، بين النشوة الداخلية والخارجية، بين تجلِّي المسيح وعودته على الأرض، بين الألغاز والمُعجزات بين الحروف والأرقام، يتبادل فيه الطرفان مواقعهما باستمرار، كما لو أن كل إنسان وكل حيوان أو أي كائن طبيعي هو مجرَّد حكاية طفل صار تمثالًا بفعل ولادة خارقة. كل شيء يتمُّ اقتراحه عليه وعلى كلامه عبر تقنية انتقال الخواطر أو بشكلٍ مباشر عبر شُرطته الروحية؛ بحيث لا يُمكن للمرء أن يمارس الخداع أو إخفاء الأوراق تحت الطاولة، والطاولة موجودة تحت المقابر وهذه الأخير تحت طفل ولد ميتًا.

إنه لعنف مُذهل أن يَنحني المرء، إذن، نحو هذه الأرض أو يتعالى بحثًا عن أمل في السماء. شبح. أيها الشبح. بين الفراغ والحرية، أثر كائن يطلب النجدة، رب، لمَ يكون الناس ملزمين بالمكوث هكذا ساجدين؟ هل يُحاولون الحصول على رحمتك؟ لكن الرحمة قوة حب ممنوحة للمحبين والمحبات، في الجسد الأنبل والأشهى! هل يرغبون في الهداية؟ أو بالأحرى في مخادعة الشبح؟ لكن الأشباح ليست سوى لعبة أضواء. يصوغها ويطفئها تناثُر الغيم وهو يعبر بحر البلطيق وبحر الشمال في لمح البصر.

كلُّ حدث يُخفف من حضوره الملحاح تبعًا لنسيانٍ حادٍّ. أستسلم لمرحي وخوفي وشغلي كي أحمي هشاشة صورتي من بريق الضوء. وفي مخزون قوَّتي المحدودة تكثُر الوجوه والأزقة والمناظر الطبيعية والأسفار البعيدة، هل أعترف بذلك؟ على وجهي وقسماته يبدو ظلُّ الواقع واضحا. ربِّ إني أريد أن أتحدَّث إليك فلا أستطيع. أرغب لو أمنحك صلاتي، لكنَّها تعود إليَّ، هنا بين يديَّ، كما يعود السَّهم إلى صاحبه من غير جرح، وأيضًا من غير عناية أو إهمال.

وبما أني حسَّاس تجاه اللامبالاة وقلاقل العالم، فإني أحني رأسي أمام اقتراب النوم، وعلى ضفاف الشمس. في الليل يرجُّني شُعاع صباحي، ويُهدهِدُني فجر قصير مخصَّص لي. فهل اقترب منها؟ هل هذه هي إذن طريقتي في أن أكون غريبًا عن سعادتي وهنائي؟! ينخرني الشك. إنه شكٌّ صريح وكثيف. ذهول في عقلي وجنوني. دوار، انقطاع، سقطة، شيء حادٌّ يملأ لحظاتي الحقيرة ثقوبًا. كل شيء يُسلِّيني. فهل أنا مُهتم إلى هذه الدرجة بحياتي الواقعية كي أبحث عن طريقي في الظلام؟ سيكون الأمر مدهشًا لو أكون الظلَّ الخفيَّ لإله ما. سيقول ملك الموت: «شبه بقاء على قيد الحياة.»

تهت من الخوف ولم أُدِر رأسي أبدًا. اصطنعتُ الذهول. نصَّبتني المحبة على نفسها فرضيتُ عنها في شهوتها السحرية. ثم انسحبَ جسدي وتبعه قلبي، في راحة أخَّاذة. يا لها من وحدة رائعة للمُتحابين، تُوشم بالكلمات المُؤثرة المهموسة من غير شاهد. يا رب هل كان من الضروري أن تُبعدني عنها بلطافة الملك الأكبر؟ ألكَي أستيقظ، أنا اللاواقعي، في واقعٍ ينأى عني باستمرار؟ وبالتأكيد، عبر الوهم والغرور، عذاب ثابت وكسوف لوجهك الكريم. سأتحدَّث إليها يومًا، لكنَّها ستكون قد غابت. بالرغم من ذلك فأنا لا أمحو الآخرين بنظراتي، ونادرًا ما أُرهبهم أو أخيفهم. هل يكون ذلك حذرًا مني، أم نتيجة لحبِّ حياة مُزدوجة؟ إنها استقامة لا اعوجاج لها. وحين أكون مختليًا بنفسي بعض الشيء أغدو، بالمقابل، مُتفرغًا لها. فهل من الضروري أن أمنح لهذا المصير فكرًا مؤمنًا ومزاجيًّا معًا؟

يَمتلك فنُّ الكبرياء مزايا حِسية غير مشكوك فيها. فهو ينصرف لخدمة الآخر محبًّا كان أو مُحبةً، ويتفرَّغ لنشيد الأسرار مؤلفًا فُسيفِساء من الخلوات كي يُقدم لكم أفضل أعرافه المضيافة ودليل الثقة فيه. إنه يتحدَّث بصوت خافت عن رغباته ورهاناته وحظوظه وخيباته. لا بهدف استعبادنا وإنما لأجل ربطنا بجوهر شهوته.

فهذا الفن يتكلَّم. إنه ينكتب ويتحوَّل إلى ألغازٍ وأُحجيات وتلميحات ولذَّات مشتركة. لهذا فهو محكوم بقواعد اللياقة والأدب. الكبرياء الجميل يكون دائمًا من غير غرور. كل شيء يتمُّ في فضاء الرغبة. والكبرياء غالبًا ما يكون مُضطرًّا إلى التخفي. الرهبان يَبتهجُون بالكبرياء. لكني لست راهبًا ولا قسًّا ولا طفلَ جوقة. فكيف أطمح إلى الوجد أنا الذي تعوَّد على اللذات البسيطة؟ كيف أغدو مُلغزًا في الشهوة التي يُحسُّها من يُشاركني إياها؟ في أيَّة لحظة يتوصَّل الجسد إلى الإيمان الذي تُوحي به اللذة الجنسية؟

وحتى أكون محقًّا يا رب، سيكون لي هذا الرأي: إنَّ جسد الراهب أو القسِّ مُترملٌ من نفسه. إنه لا يعرف العفَّة، فهو مُترمِّل في الدهشة. وأنا لا أعترف بأي شيء لأحد. لك فقط أنت يا مولاي، وإليك وحدك أعهد بنفسي.

قيل لي اذهب إلى الموتى لترى. أغلقت عيني. وقيل لي مرةً أخرى أنصِت لها. فأغلقت أذني. هل تكون صورة هذا الشبح اختبارًا لي؟ هل أكون نسيتُ ذلك الندم، ذلك الندم الماكر ذا الأصابع الشبيهة بأصابع الجنيات، إلى أبد الآبدين؟ أم أكون نسيتُ ذلك الإقبار الغريب؟ هل سأستطيع الصمود إلى حدِّ ذاك الوقت، إلى حدِّ حلول الساعة، ومن غير سخاء؟

ربِّ، أنا مُضطر ألا أحتقر نفسي أو أمتهنها. سيَصرخ البعض: «يا له من كائن بليد! أي فاقة قصوى هو الشاهد على عارها؟» عليَّ أن أتحدث وأحادث نفسي عن وضعيتي، وبدون ندم مريح أو قساوة لطيفة، سأُسمي ما سيأتي وما راح وما ترك آثاره، كل باسمه. فكل شيء يترابط منذ طفولتي في ذاكرة ثابتة، وأنا مُنفتِن منذ صرخة ولادتي وقفزاتي الأولى.

لكن أيَّة عبودية؛ مهما كانت قساوتها، تستطيع فصل لذة الجسد عن عُنفِه اللامحدود؟ هل هي قسوة أن يسكب المرء دموعه ويَقتلِع قلبه ويتمزَّق ويبتر أعضاءه في الملذات مع امرأة؟ هل يُشكِّل حبٌّ عميق ما جزءًا من وجه ميت أو من عشق الملمس والنظر والثمالة؟ وهل العشق، سواءٌ أكان في السراء أم الضراء، أسيرًا أم مقلوع الجذور، مجرَّد نشوة باردة؟

رب، أيها القادر على الحب الموضوع تحت المراقبة، إني أُحاكي أولئك الذين (أو اللاتي) يقتربون مني بثقة. وبدون جُحود؛ إذ لا فوضى ولا غموض يشُوب النظرة السديدة هذه التي نرمي بها للصدفة. هل حصَّنا الضرورة حتى نترك أنفسنا ضحايا لجمال الصدفة. هل قدرنا خطأ، جيلًا بعد جيل، تبذير خيراتنا وأفراحنا؟ وهل سنقوم، تحت وطأة اليأس غير المُجدي، بإدارة ظهرنا لكل مذلة؟ لن يصل آخر ميت إلى هدفه الأسمى؛ ذلك أنَّ آخر حي يَحميه من نفسه ومن مشهد تحوُّلاته.

يحدث أن أقع ضحية للتعب ولأعراضه السردية، من غير أن يكون في حلقي أو في أطراف أصابعي كلمة صحيحة. إنه تعب يروح أو يتزايد. وحين يفزعني التعب تكفي فكرة وَقِحة واحدة لتهدئة أعصابي. غدت علاقتي بأقربائي موسومة بالغرابة. وأمام حدقتي تَتَتابع ظلال لا شكل لها. أصبح الهواء نادرًا والسماء توارت والأرض انزلقت في مجازات عتيقة. همس لي الشيطان بهذا السؤال: أليس يوم القيامة صورة مجازية للزمن السائر، زمن على الإنسان أن يُغير فيه وجهته؟ لكن بالعلاقة مع أي مركز جاذبية لفكري وتاريخي وفني؟

ولبُسطاء العقول من أمثالي أضيف: هل أصابتنا الصاعقة؟ هل أصابنا جنون الحياة في فرحٍ فوضويٍّ غامض لا شكل له؟ لي الشجاعة الكافية للإيمان بفكرٍ يكون إيقاعًا وزينة للجسد، وبعقل يمسُّنا في حميمية قلبنا. لكن هذا ليس كافيًا، ذلك أن تلك الحميمية الهشَّة بحاجة إلى التأمُّل النشط للفن. فهو الذي يقيس تنفُّساتها ويكشف عن استعدادنا للمحنة.

لهذه الصلاة قَساوة الصرخة، فكلَّما جاءني حدس ما همهمت بصوتٍ خافت وصَوتي مُؤلَّف بوعدٍ غريب: عليَّ أن أُخفِّف من القساوة والتضحية اللامتكافئة. في سبيل نفسي والمعذَّبين والفقراء، فعددُهم لا يحصى. لقد كنتُ دائمًا ضعيفًا أمام براءتي المُتنامية. وكلَّما زادت فظاظتي، استعلنَت أمامي فظاظة العالم، هناك حيث يظهر كل شيء على السطح عاريًا من كل عمق ومُفككًا بشكلٍ مُتقطِّع. إننا لا نهوي، وإنما نسري في الزمن المفصول عن يقيناته، وفي كل لحظة أبدية وكل وهمٍ وكل فكرة نافلة، بهذا الشكل نظلُّ مشدودين إلى عنادنا الحماسي.

رب، يُهمني، بل يُهمنا، التوصل إلى هذه الأخطاء الصعبة للقلب والحواس، فإذا كانت الطاعة إرادة مفصولة عن ذاتها فكيف تكون الحقيقة والضلال مفارقة صحيحة؟ هذا شيء أهمسه لنفسي من غير تقزُّر أو فجور زائد. يتمُّ تأكيد الفعل بكلمة مُجرَّبة، ويتمُّ تجذير كلمة مُتبصِّرة بانفتاح العقل على الأشكال المُختلفة، وعلى المبادئ ولذَّة الإبداع والراحة الروحية. ربِّ إني أنتمي لهذا الإعفاء الخلاق.

أنا مُتمرِّس إلى حدٍّ ما على تحمُّل مسئولية مَرِنة تجاه الآخَرين، لكنَّني هل أتوفَّر على الحماية الكافية ضد كل تلاوين الضرورات التي تعيق مسعاي؟ هل سيتم السماح لي بمعرفة أن العذاب قد ظل كما هو، بين أيدي الملائكة؟ ما الذي اختلط إذن بالرحمة الموشومة بالتشنجات وبالأنين المُتواصِل؟

في ظل السكون المُحايد لهذه المدينة أصلي بعد أن تحرَّرت من الجلوس على مقعدي. أتسكع في مكاني. يبدو أننا ندخل إلى الكنيسة دون أن ندفع الثمن، لكننا نخرج منها مُثقلين بالديون الروحية، من دون أن نُدخل في الحساب القطعة النقدية التافهة التي نرمي بها في صندوق التبرعات. فهل تكون هذه العطالة يا ترى بدون صندوق للصدى؟ إني أشير هنا يا رب إلى الصمت كي أتكهَّن برعشته وعودته. أتغذَّى، ما سنح لي الوقت، من هذه القوة العنيدة التي تغسلني من كل خطاياي. لقد جعَلني هذا السفَر إلى ستوكهولم أفرُّ باستمرار. لكن هناك فاجأني ملك أعمى. ومن جديد، متنقلًا من نشوةٍ إلى أخرى، أغلقتُ عيني وأذني الثالثة، الوحيدة التي تُحافظ على يقظتي حين يصرخ كل شيء في داخلي ضد المحنة والإهانة القصوى والقساوات الماكرة.

رب، هل يوجد نشيد نادر وجميل قادر على تحويل العذاب إلى هناء؟ من سيخاف، في حالة الحزن هذه، أن يختفي في رماده؟ كيف تنظم صلاة مُكتملة في الوقت الذي لا يشجع فيه أي شيء على استعادة كرامة الغارقين في المهانة؟ رب إن الشاعر السويدي قال بأنه فقَد عقله إلى درجة أنه منَح نفسه للعاهرة المقدسة، وأنا الآن أبتهل إلى هادينغوس وملحمته الشهيرة، أبتهل إلى هادينغوش وهارثغريبا، هي؟ ها هي ذي تشدُّنا إلى سحرنا ووحشيَّتنا، ألا تمنح لذاك الشاعر العاشق الحماس الذي يجعل الفتيات الجميلات يرتعشن؟ هارثغيبَّا! أيتها العملاقة التي تُغذي العالم بالشبق الأكبر، التي لا يَرتوي عطشها والتي وقعت ضحية المبالغة الخارقة، وأنت يا أودان، إني أجدِّد ابتهالي إليك!

هل أهرب يا رب؟ فأنا محجوبٌ عن الأنظار تطبعُني وتنحتُني ذاكرتي وتأرجُحاتها المقموعة. في الاسم والجنس والاستقامة، هل تبدو مُقنعة؟ وبما أنها موشومة فهي تبحث عن النعمة الصحيحة التي ترغب في إيصالها إليَّ. رب، ألستُ ألعب لعبة المفاجأة الثاوية خلف هذا الرضى غير المكتمل الذي تكشف عنه كل صلاة إلى درجةٍ أدهش معها نفسي بمحنتي اللاواقعية؟ فهناك عقول رزينة تقع ضحية ذلك، والكثير من النساء الجميلات اللواتي ضيعهن نزق الزمن. وإذا كنَّا نتَّكئ على سند قائم، سواء أكان زوجًا أم زوجة، وإذا كنَّا نتَّكئ على عُكازة حب، فهل هذا سيَنزع الغشاوة عن أعين من يرى ما يرى ويلمس ما يحب لمسه؟

أتشبَّت بالوضوح فيتبخَّر الوضوح. أتكلَّم بنظام فتسبق الفوضى تمتماتي وتحفُّظي. أتقدم نحو مركز الصخب ملفوفًا في هذا العائق. لستُ مُتمردًا. لكني عاشق في السرِّية. أما زلت طائشًا؟ هل يكون هذا جنونًا وصلاة مجانية غير مصحوبة بوصية مكتوبة في الدم؟ هل يعتقد المؤمنون بالغضب الأبدي وربما أيضًا بانتحارٍ لا دليل عليه؟ ربِّ إني أُفصِح لنفسي بضعف الروح والقلب. فهو ضعف ضروري لذاكرة مُتنامية لا ترتكز على أساسٍ ماكر. أتصور أيضًا لا واقعية الجريمة والإرهاب والقسوة التي لا رحمة لها. فالذِّهن نهر كبير تُنشطه الرياح الآتية من كل صوب، لذا فهو يتململ تحت ثقل واديه. إنه ركامُ الحصى وحبَّات الرمل المسافرة بين الشطَّين المُتماوجين. وأمام شجرة بتولة ضخمة يخترقها الشعاع، ينظر صاحب مركب المرور إلى الخلاص يأتيه من بعيد.

رب نحن نتبع القانون ونرزَح تحت ثِقله المُتغيِّر، المحمي بالعناية الإلهية. أضع نفسي رهن الزمن. فالزمن يبدو من الخارج كشيءٍ لا دليل على وجوده، ومن الداخل يجعل مني فرجة وشاهدًا على نفسي، وموضوعًا لأمزجة الثراء. ليس للزمن حدود أو إطار، مُتناهيًا كان أو لا متناهيًا. أسكنه في تعدُّد مناخاته، كي أبدو طبيعيًّا لدورة الفصول وحركة الأشياء وتقلُّباتها، أو أعبره واهبًا نفسي لجبروته، كظلٍّ مشوب بشبه وضوح. وكذا أجد نفسي مسكونًا بتغيُّرات شيفية مُستمرة تتلوها هدنة عاطفية. وأظلُّ مُتشبِّثًا برأيي وكذا، مبهورًا كل يوم وبعيدًا عن كل مُشاغبة مُفتعَلة. هذا التوازن المُنقسِم إلى دوائر وصور وتحرُّكات مؤهَّل لأن يستعيد لي مواقعي في التحابِّ ومحاور جاذبيتها. ولأني، غريب عن هذه المدينة بالرغم من أنني خبرت شبقيَّتها العنيفة، أستدير نحو نقطة واحدة مبدأ في التبصير مرصَّع بالتقوى والنشوة الباردة. كنتُ أُمارس الإيمان والتفكير والإحساس والخيال، رب، لن أتمكَّن لوحدي من وضع أسلحتي الخارقة ولن أتمكَّن من استسلامي.

هكذا تمتمت بأُولى صلواتي وربما بآخرها، صلاة كانت معلَّقة في الزمن الآتي، خرجت من الكنيسة مُستعيدًا تلك الوقائع الغريبة، مهتزًّا من تلك الرحمة الربانية، وليس لي الآن ما أكاد أفضي به حول هذا الفصل التعليمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤