المربع السحري
ذكَّرني هذا الرحيل المُفاجئ للينا باليوم الذي وقعتُ فيه لأول مرة تحت فتنة امرأة لم تلبَث أن هجَرَتني. لم أُطق هذا الاستفزاز من طرفها. كانت تُدعى «سيريل». فبدل أن تُثبت نفسها في طبيعتها الأنثوية، هي التي صبغت عليَّ من أنوثتها، حافظت كليةً على حق المبادرة، وبحركة واحدة طوَت الصفحة.
كان ردُّ فِعلي ردَّ مراهقٍ من مُراهقي الجنة. ولمدة شهر كامل أدرت نفسي بعنقود من نساء نائمات على يميني وشمالي. كان كل شيء هشًّا ومطبوعًا بنزقٍ قاتل. كنتُ أبدِّد جسدي وعقلي وقوَّتي المبدعة. ولأني أصبحتُ منهوكًا فقد أوقفت السباق. كانت خطواتي مُضطربة من فرط التعب والشهوة غير المرتوية. أثناء ذلك، استطعت ضبط جموحي وتكييفه مع إيقاعي الخاص. حل الهدوء محلَّ القلق. إنها لحظة نادرة، بل هي أقرب إلى المُعجزة، حين يبقى الإنسان باسطًا نظراته على المرأة التي أحبها دائمًا.
كان ردُّ فعلي أمام رحيل لينا مغايرًا. قررتُ إفراغ كل شيء في داخلي وحولي، وحبستُ نفسي في البيت لمدة ثلاثة أيام بعد أن ملأت الثلاجة بالمُؤن وعطَّلتُ التلفون. وحيدًا وفي صمت مطبق لعبت دور الميت. كنت أعيش حالة ذهول، لكن إرادتي كانت قوية. ذلك أن توحُّدي كان دائمًا قريبًا من عنادي؛ لأنه المُقابل الفعلي لفن الكبرياء.
لم أكن أفعل شيئًا على التقريب. أنام ولا أنام. مسحورًا ومهجورًا، كنت أحلم بعيون مفتوحة أو مغلقة في الظلام. كان ذهني غاصًّا بالصور من غير أن يَنفجِر. كنتُ أعرف، بفضل هذا النشاط المنامي، وما كنتُ أقوم به من تمارين في إبطال السحر، أنَّ الغياب المُفاجئ للينا سيكفُّ في نهاية المطاف عن إقلاقي، وسيبعد عني شبحها، ثم جاء الفرج. أتاني هذا الحلم؛ إذ رأيتُ نفسي، فيما يرى النائم، مراهقًا، جالسًا إلى مكتب عملي في مدينة من الريف الفرنسي. كان يومًا من أيام الصيف، وكان الضوء خالصًا وزرقة السماء معدنية.
كنت أقرأ شارد الذهن حين ظهرت سِحلية بين رفوف المكتبة، كما لو كانت شبحًا مألوفًا للكتب ولأسرارها. كانت تزحف وتتوقَّف ثم تختفي، مُوفِّرة بذلك، وبحركات غريبة، حاجتها من الأمن. نسيتُها وتفرَّغتُ لهموم الامتحان.
نهضتُ لأغلق النافذة فاستعصت عليَّ. لم ألحَّ في ذلك وتابعتُ عملي. كررت نفس المحاولة، بدون جدوى. لم أعرف إن كانت السحلية جاثمة هناك بين إطار النافذة وعمادها، أو أنها مرت من هناك قبل أن تتسلَّق شجرة داتورا قريبة من النافذة، فجأة أبصرتُها. كانت مُحاصَرة وفي حالة يُرثى لها. العينان جاحظتان في هذه اللحظة من خروج الروح. كان رعبًا مقدسًا وكنتُ خائفًا، مُتنقلًا من مفاجأةٍ إلى أخرى في هذا الموت المرئي. كان المشهد مرعبًا. وخوفًا مِن شيء ما غلفتُ السِّحلية بإتقان في ورقة ورميتُها باتجاه الداتورا التي تحتوي على مخدر خاصٍّ ومصفاة حب. تأثر نظري بهذا الموت السحري الذي كنتُ شاهدَه المجهول. ففي تصوُّري، ماتت السحلية مكاني.
حين أفقتُ من النوم، كانت الشمس قد غمَرَت الشقة. نهضتُ وقمتُ بإطلالة على الحروف والشارع والمارة. كان مرحٌ ما يطفو في الهواء. لبستُ ثيابي وخرجت للتجول.
•••
في الغد وجدتُ نفسي أطرق باب أولريكا من دون أن أعلن عن زيارتي. كان سفين جالسًا إلى مكتبه. كنتُ أعرف ذلك، فهي مبادرة عنَّت لي دون أيَّة نوايا سيئة. إني مُضطرٌّ لقول ذلك، وأوضِّح أن هذه الزيارة ليست حيلةً من جانبي. كانت أولريكا شريكةَ أسرار ذات مزايا سِحرية، وكانت ستبدأ بينَنا علاقة لم تَحمل بعدُ اسمًا لكنها من أكثر العلاقات رَوعة في حياتي.
كاد حدثٌ تافهٌ أن يُهشم ما بيننا. وجدتها في نفس الوضعية، جالسة إلى حاسوبها. لم تُحدثني عن لينا أو سفين. اكتفَت بأن شرَحَت لي مهارتها. أظنُّ أني أردتُ أن أداعبها لكن ذكرى ذلك غدَت ضبابية في ذاكرة يدي. أناطَت نظارتَيها وهمسَت لي بهذه الجملة: «ليس ذلك فعلًا أورثوذوكسيًّا.» ثم انفجَرنا بالضحك.
كنتُ أقترب تدريجيًّا من أولريكا ومن هوايتها السحرية. ما الذي كانت تبغي اكتشافه بعنادٍ في جلستها الأبدية تلك أمام شاشتها؟ لكن أليسَت تلك السُّرعة خاضعة للهلوسة؟ وللفوضى بين الرؤية والملمس؟ أليسَت أولريكا صورة مشدودة إلى ذاكرةٍ اصطناعية مُنغلقة ومنعزلة عن العالم؟ من يرى الآخر، أولريكا أم الشاشة؟ الذاكرة الطبيعية أم الذاكرة الاصطناعية؟
كان بحثي يستهدف العثور على أسطورةٍ أو خرافة جديدة من الماضي، نعم، لكن والأسطورة؟ ما الذي سيَحدُث للحكاية المُلتصِقة بها؟ هل من الضروري أن يكون الإنسان ميِّتًا كي يُجسِّدها؟ أبطال مُنتصرون أو منهزمون، شعوب لها نجومها وأخرى تركَع استسلامًا. كنتُ أراقب أولريكا وهي تطلُّ على شاشتها كما لو كانت جالسة إلى بيانو صامت أو إلى طاولة الزينة؛ إذ هي أمام الشاشة لا تكون أمام مرآة وإنما أمام خط، مؤطَّرة بذاكرة اصطناعية. اصطناعية؟ لكن كل شيء لعبة ولعبة مضادة من المظاهر. علينا أن نجد شيئًا آخر، أن نَخترِع ونكفَّ عن الاجترار، وعليَّ أن أفتح ذهني لمباغتات اللحظة وحدها.
خلال حديثنا، كنت أراقبها وهي تخزن المعلومات وتمحوها، تربط وتفكك بين الحروف والأرقام والخطاطات وترتيب الصفحات. كانت أولريكا نادرًا ما تنهض من مقعدها. وحين تتحرَّك فلكَي تُعاود الرجوع بسرعة إلى مكانها وهي تقضم حلويات صغيرة ذائبة من نوع «درمار» على ما أعتقد. أحيانًا تُذهلني الشاشة إلى حدٍّ لا أُميِّز معه جيدًا ملامح وجهها، وبتشجيع منها اشتريت حاسوبًا صغيرًا وبدأت الاشتغال بتُؤَدة. جنبًا إلى جنبٍ معها. أخذ مني ذلك أسبوعين. هكذا كنت أترجم بالأصابع نصوصًا عديدةً كانت بحوزتي. تعلمتُ أشياء كثيرة. كنتُ أُعمِّق تجربتي الملمسية التي أصبحت نواةً معرفيةً وذاكرةً للجسد، وفي نفس الآن أوسع مِن مجال رُؤيتي وملمَسي عبر الارتجاجات الصامتة للبشرة وتشنُّجها. كان تشنُّجًا يبدو منفصمًا تحت أشعة الحاسوب الصغير. ثم سجلتُ في الذاكرة هذا الاكتشاف الجديد.
ذات يوم، وبعد أن أحسستُ بتعبي أمام الشاشة، نهضت ووضعت يدَيها على عيني. تظاهرت بالنوم وأنا أصرح لها: لكن، أنت ناسجة أحلامٍ والغاز.
أجابتني:
– جيرار، أفق!
وما كادَت تسمع صوتي حتى تحرَّكَت واتجهَت نحو وسط الصالون برشاقة مُصطَنعة للغاية. استدارت نحوي وبدأت تُوقع حركات راقصة على الطريقة السويدية التقليدية. وبدون أن تُعير اهتمامًا لافتناني دعَت أول فارسٍ وهميٍّ للرقص معها، ثم ثانيًا وثالثًا تاركة يديَّ فارغتين. كانت هذه الرقصة على نغمٍ عتيق تُمكِّنُها، ومن دون تمايُل، من أن تغدو ذلك الكائن الطافي والباسم لأشباح متخفية تحميه، وتمادَيتُ في متابعة حركات عينَيها وتموُّجات خصرها وإيقاع تحولاتها.
ثم جلسَت جنبي وناوَلَتني جعة وسمك رنكة مملَّحة ومحلاة. «رنكات تجعلك تحلم» كما يُقال عادةً هنا. لماذا عادَت إلى الجلوس بهذه السرعة؟ ألأنها كانت ذاهلةً أم لمجرَّد التعب؟ لا أدري. أظن أنها حين استعادت وضعيَّتها أمام الشاشة، كانت تهرب من حضوري الطاغي.
بورك ذاك اليوم الذي استطعتُ أن أجد فيه اسمًا وشكلًا لأسطورة الأصبعيات! لقد تكونت هذه الأسطورة لوحدها. وأنا مدين بذلك لهذا المثلَّث الجميل الذي تُشكِّل الروية طرَفه الأول واللمس طرَفَه الثاني، وصوت أولريكا ونبرته المعدنية طرفه الثالث.
كل أسطورة حكاية خرافية تجعلُنا نُنصت لتمتَمات الماضي وهمساته. ولقد قلتُ سابقًا إنه بإمكاننا أن نتخيَّل أصل العالم كفوضى أولية متبوعة بسُبات عميق للنجوم. كانت مهمَّتي تكمن في جمع بعض المقاطع المنثورة من الماضي السحيق في أنفاس الطبيعة وحكايات الإنسان، وتنظيمها تبعًا لحلمي النشيط. كنتُ ألاحظ وألقي بنظري هناك حيث يبدو أن الأسطورة تتغذى بذاكرة بصرية؛ ذلك أن كل أسطورة قد قيلت يومًا، ثم كُتبت ونسيت.
نعم. الأسطورة قابلة لكل البدايات. في بدء إقامتي في ستوكهولم اوليت اهتماما خاصا للساعات والاشباح السحرية القديمة مفترضا أن هذه القصص العتيقة قد تركت آثارها على السويديِّين ووجههم المنحوت. تخيَّلت لنفسي صورة مُجازية أكون فيها واقفًا على الثلج المغلَّف بنور خارق. كنتُ ألحظ علامات ذلك في الفن التشكيلي الشمالي وعلى وجوهِ المارَّة وخطواتهم وفي جاذبية النساء.
لكن كل هذا لم يكن سوى أُحجية. كان عليَّ أن أحلَّ لغزًا آخر وأفكُّ الفكرة السحرية الكامنة فيه. فحكايات الماضي التي يدعم حضورها هنا شتاء طويل، ذاكرة وأرشيف للذاكرة، بالرغم من أني لم أستطع إدراك النبض الذي يُشخِّص ما يقبل الرؤية في صورة أسطورية.
كانت أولريكا هي تلك الصورة مادية ورُوحية. كانت صحبتها إيذانًا بتبخُّر سِحري. هكذا أعدت خلق كل شيء انطلاقًا من صور أسطورية عتيقة: لينا المحلقة، أولريكا الأصبعية وألبرتو النظير الخارج من فضاء السحر. وبما أني راوٍ مُتعدِّد الكتابات، فإني أتجسِّد في هذه التحوُّلات الجسدية: أتحدَّث وأكتب، أتحدث وأُترجِم، وأنا الحاكي الذي كتب الحكاية. فهل انغلَقَ هذا المربع السحري على نفسه؟
•••
جاء صوت ألبرتو ليَكسِر انغلاق تلك الدائرة. تلفنَ لي ورجاني الالتحاق به للتو. استقبَلَني بحفاوة كبيرة وحدَّثني لأول مرة بحميمية حقيقية: جيرار أيها الصديق، إن المرء لا ينسى آداب بلده الأصلي. تصوَّر، إننا لا نسمح لأنفسنا بطموحات كبرى في بلد غريب. ففي الخارج، نكون، نحن الإيطاليِّين، نَزِقين. إننا نمارس هذه الطلاقة حسب أذواقنا. نعمل ونتظاهر بالعمل. نضحك ونتظاهَر بالضحك. وأنت أيها الصديق الذي يُسافر عبر العالم، هل لاحظت العادات الغريبة للسكَّان الأصليين لكل بلد؟ هل انتبهت إلى الطريقة التي يُنصت بها اليابانيُّون ويصمتون؟ فالياباني يسمع، ومنذ آلاف السنين، بأذنه اليسرى، أي الأذن الصينية، وهو أصمُّ من الأخرى أي الأذن الكورية.
– والثالثة يا ألبرتو؟
– إنه يحتفظ بها لنفسه … اسمح لي على الانزعاج. لن أتماطل كثيرًا في الاعتذار لك.
– لا تهتمَّ لذلك. لن تُصدقني إذا اعترفت لك بأنك أسديت لي خدمة جلَّى. فأنا منهار الأعصاب. وأنت تملك فن القادر دومًا على وضع نفسه في موقع السامع. أي الاهتمام بحالتي، إلى أين يسير مشروع فيلمك؟ هل يتقدَّم؟
– آه، نعم، رونيي ديكارت والموت. الفكر المتجمِّد. أنا محتاج إلى رؤية توضح ذلك بدقَّة. على السينمائي أن يُنجز فيلمه بعد الفنَّان التشكيلي، وعلى شاكلته. فالرسَّام يَملك كل وقته، كل وقته، على الأقل ظاهريًّا. إنه يضع لمساته الأخيرة على العمل ويُؤلف بين عناصره أو يفكك بينها. أما أنا فعليَّ إدارة طاقم التصوير. إنها آلة مالية ثقيلة الوزن، توليف بين الأبناك وهو شيء معقَّد للغاية؛ فتصوير شريط سينمائي يتمُّ بسرعة، لكن بالإمكان الإخفاق في كل شيء.
– أنت تشكو من السرعة، لكن سرعة التلفزة شيطانية.
– نعم. يَلزم للعمل فيها أن تكون ممثلًا جيدًا وبالوراثة.
على عادته غيَّر ألبرتو موضوع الحديث بغتة.
– هل سبق لك أن اطَّلعت على ساعات اسكندنافية؟
– الضروري منها.
– كيف ذلك؟
– ثلاث أو أربع ملاحم.
– السَّاغا حكاية مدهشة. وقصصها تتبدَّل باستمرار، سواء في الأدوار أو الشخصيات، أو في المناظر الطبيعية الحية والميتة أو التي تُقاوم الموت أو في المناظر الشبحية. لقد أصاب بورخيص حين قال: الساغا تقنية سينمائية؛ ففيها يتم الانتقال من مقطع إلى آخر بدون أيِّ رابط. تُصبح الشخصية بطلًا وإلهًا، ثم شبحًا أو إنسانًا، عملاقًا أو قزمًا، لا يُهمُّ. ولا أحد يعرف السبب في ذلك. إنَّ هذا التقطيع ملائم جدًّا للسينما.
تابع ألبرتو فكرتَه من غير أن ترمش عيناه: لي نظرية حول السينما أعتقد أنها شخصية: على المخرج أن يتخيَّل في البدء أن كل شيء ميت، أن يُمرِّر هذا الوهم في مخيلته قبل النوم. بعدها يكتب خطاطة مُفصَّلة. وبعد أن يكون كل شيء جاهزًا، السيناريو والتمويل والطاقم، سيُصوِّر المُمثلين كي يرى ما تبقى فيهم.
– يا لها من نظرية غريبة! لم أفهم.
– ماذا؟! تصور ديكارت في السويد. إنه شخص غريب الأطوار ويبدو متشبثًا بفِكره: يأتي إلى السويد ويموت فيه. كل شيء يُساهم في غربته؛ الملكة والديوان الملكي والبلد. إنه مُنهَك. لذا يقرر الموت. وأنا أهرع لنَجدته ثلاثة قرون بعد ذلك. سأقوم بتصوير هذا القرار وتتكفَّل الكاميرا بالسفر عبر الزمن.
•••
استمرَّ حديثنا إلى وقتٍ متأخِّر من الليل. هكذا بدأ تمرين تعليمي آخر. تمرين آخر في فكِّ السحر، ركنَت إليه نفسي. ظلَّت صداقتنا على حالها. ولن أُصدق أبدًا أن صداقة مثل هذه ستتوقَّف يومًا. وإذا ما غاب عني ألبرتو فإني سأثير دائمًا، كدليلٍ على وفاء صداقتي، شطحات هذا الفكر العميق.
خفَّفَت عذوبتُه معاناتي؛ فهي تُلائم حقًّا إصراري على طرد الأرواح الشريرة من داخلي عبر الاستعانة بنظراتي. لقد كشَف لي ألبرتو عن بعض أوهامي، علَّمني كيف أتجاوز الكرم أو الجحود، القُربان الذاتي وقانون التقاسم. علمني (أو أني انصعت لأتعلَّم) أن ما لا يقبل الاقتسام بين الأصدقاء أيضًا منَّة نادرة. إنه انعتاق من عواطفنا الخائبة.
تُضيء مُفارقات الصداقة الحب من الداخل، وهي تعين صدعه وفوضاه. هناك بين الحب والصداقة، سواءٌ في هذا الاتجاه أو ذاك، جسورٌ للعبور. بعض النساء يَعبُرنها في نشوة، وأخريات بمُعجم الحب الذي يَمتلكنَ. به يُسمين الأشياء، فأن يُصبح عشيقٌ قديم صديقًا، بعد أن كان مجهولًا لأنه كان متخفيًا عن الأنظار، شيء لم يَقتل الرغبة أبدًا. هناك أناس أكثر دهاء يتحدَّثون عن المحب والمحبة. لكن ممَّ تُعاني النساء؟
غالبًا ما أقول لنفسي إن الشكوى النسوية تعود إلى الخوف. إنها لكارثة أن تكون المرأة مهجورة! لكن من طرف مَن؟ فالهجر يُعمق الوحدة. وتعود المرأة للصرخة الأولية. من يقدر على هذه المفارقة؟ لكني ألاحظ أن تلك الصرخة شرط لكلمة جديدة، وربما كانت شرطًا لكلِّ نشيد، وبدوري أقوم بالطرز والنسج.
لهذا لستُ ضدَّ أيِّ حب في روعته أو ضعفه، ولا ضد أيَّة صَداقة في وفائها المشاغب. وليس الممرُّ آمنًا من حالة إلى أخرى. كان ألبرتو يُساهم بطريقته الخاصة في فكِّ سحري. كان يقوم بالتعيين والتحديد، ويفتحني على تجربته المتفردة.
نعم. نعم، لكن لا شيء يضمن إفلاتنا من أهوال الصداقة. مرةً أتاني هذا الحلم حول تزوير الصداقة. رأيتُ فيما يرى النائم صديقًا قديمًا (من هو؟) على شكل سمكة هرنقة نَتِنة وإن كانت ما تزال حية، ومُملحة في قِطَع بصلٍ مُحلاة. كان يختفي هناك. يُدير رأسه حين يتمُّ الكشف عنه في تلك الوضعية، ويا لها من وضعية! كان يقفز مِن وعاءٍ زجاجيٍّ إلى آخر أشبه ما تكون بالأوعية المتَّصلة. وللتوِّ غدا شظايا زجاجية رُمي بها في بحيرة. فقط كان هذا التظاهر بالإغماء هو الذي جعله يبقى على قيد الحياة.
وبما أنَّ ذاك الصديق يعشق السرقات: وخاصةً سرقة الأفكار والكلمات والنساء فإنه يُقلد كل ما تقع عليه عيناه وكل ما يقع في أذنه. كم هو مِضياف! بالإمكان ملاحظة ذلك في تدُلِّلِه وفي شاربه الذي يُشبه شارب الكواسر.
ذلك كان هو حلمي، وحين أفقت قلت لنفسي: «يا لها من خدعة.»
لكن إذا كانت هذه الصداقة قد خابَت، فذلك لأني عانيت منها كحيوان، أما كروح فإنها تبدو نبتة جاحدة ينبغي شذَّبها مع النباتات الطفيلية.
إني أُكرِّر ذلك، فهذه الحكاية ليست رواية ذات مفاتيح.