تغيير في الاتجاه
كان الخريف قد نشَر على ستوكهولم أوراقه الأولى وإن لم يَكتمِل بعدُ اصفرارُها. وكان ذلك علامة على رحيلي مِن هنا. أعدتُ لسفين مفاتيح الشقة في صمتٍ كامل. هكذا بلَغَت مدة إقامتي نهايتها. عدت إلى باريس حيث كانت الوكالة التي أشتغل بها قد برمَجَت لي كل شيء: المحاضرات العمومية والمُناظرات والندوات المُغلَقة. خمسة أسابيع مشحونة بالعمل وموزَّعة على أشهُر مُتعدِّدة ستستقبلني. ولينا؟ اختفَت مع خطيبها. أما ألبرتو فقد وعدتُه بزيارته في الشتاء المقبل.
كنتُ جالسًا في الطائرة أحلم في شرودٍ حين قطع عليَّ إقلاع الطائرة حلمي، أنا المسافر العاشق. كانت الطائرة الآن قد استوَت فوق البحر. لا شيء يرتج في قلبي. كل شيء هادئ. كنتُ قد رتبت وثائقي وكتبي في الحافظة. نهضتُ وتناولتُ منها كتابًا لمؤلِّف مغمور، هل كنتُ تلقَّيتُ هذا الكتاب كرسالة شخصية؟ المهم أن قراءته ستُصاحبني حتى مطار «بواسي» الفرنسي. وبما أن عنوانه: «تغيير في الاتجاه» فقد أثار فضولي، وبدأت في قراءته بعد أن عدلت من وضعية مقعدي ووجَّهتُ مصباح القراءة تجاهي.
باعتباري إنسانًا فأنا عازب جغرافي، هجر غابته التي وُلد فيها ليتَّجه إلى المدينة الكبرى. وباعتباري رُوحًا فأنا مُمثِّل مسحور.
اسمي بيرتيل، وُلدت في «تورندهايم». ابنٌ لحارس غابة ورث هذه الحرفة أبًا عن جدٍّ. أما أنا فلم أَرِث شيئًا. في العشرين من عمري هاجرتُ إلى ستوكهولم. عشتُ البطالة ثم اشتغلت كمياوم. والآن أسكُن على حسابي الخاص في «غوبانغن». أعمل بنَّاءً، متوحِّد في صمتٍ صاخبٍ وعجيب.
أوسكار وزوجته أولَّا دخَلا حياتي في نهاية هذا الصيف، دعياني مرة، على الأقل كي يجعلاني تحت المراقبة، ألَيسا جيرانًا لي؟ غالبًا ما كنتُ أمكث للمبيت عندهما، كنتُ أريد أن أختبر هذا الصمت المثير الذي يُسمرني في مكاني.
أظنُّ أنهما كانا الآن يَبحثان فيَّ عن رفيقٍ وَلُوعٍ بالخمرة، جالس إلى الأبد أمام زجاجة سنابس، غارق في صمتٍ مُطلَق، وبما أن أولًا كانت مشتعلة بمداعباتها فقد أهدَتني «رفيق» حبها؛ وذلك ما تقبَّلتُه بحميمية وإن لم أكن مؤمنًا به إيمانًا عميقًا.
وربما لأنهما وجداني مغنمًا في وحدتي، تبنَّياني كشبحٍ للبيت أكثر جاذبية من قطٍّ نائم في حكايات الحوريات. انتظَرْنا جميعًا عيد ميلاد المسيح ومعه سقوط الثلج والعُزلة قرب النار والطقوس الشتوية. بروتوكول فارغ بجمال إغفاءاته، هل حدث لي أن أطلقتُ مواءً؟ نعم، أظنُّ ذلك. فكيف نطلب من شبحٍ للبيت المسحور أن يكون خاليًا من الدهشة؟ كيف أكون قطًّا دون أن أكونه؟
كنتُ أحبُّهما وأعز اهتمامهما بوحدتي العميقة ونُقصان تجربتي. كنتُ مُلاحظًا أنظر إليهما يتحرَّكان بين الجدران والممرات والأبواب ويَعبُرانها بدون تغيير في الاتجاه. كانت نافذة غُرفتي تطلُّ على حديقة صغيرة رائعة الجمال. وكنتُ أطلُّ في الفراغ، في عز الشتاء، ومن غير عنفٍ أو قسوة.
كان كل شيء في الشقة أملسَ ونظيفًا ودقيق الترتيب. كل شيء كان مصقولًا في بيتٍ مِن البلور. كنتُ أتساقط ثلجًا. والشتاء جعل شَعري يتناثَر بنُدفِه الخفيفة. الشتاء مدَّد أصابعي. بردٌ وسُخونة جعلاني ملفوفًا بقطرات مطرٍ تُصيب عينيَّ اللتَين تَنحجِبان أكثر فأكثر خلال الليل.
هكذا جعلتْني خمرة السنابس أصم، غير حاسٍّ بتبدُّل الفصول. كنتُ أنزلق نحو اللاواقع، نحو رُوح البيت اللاواقعية، ظللتُ مُغلفًا بوحدتي التي أتقاسَمُها مع الآخرين من غير عناء، لذا بنَيتُ لنفسي بلدًا جديدًا؛ حيث أوسكار وأولَّا ضيفَا ليلي المشمس.
لم أكن مُرتبطًا بأيٍّ منهما ولا مُنفصلًا عن أيهما. كلُّ شيء يتمُّ في أوانه: الأكل والحديث وأعمال الإصلاح المنزلي حول البيت وفي العتبة وعلى المدخَنة. كانت النار تَنبثِق مِن داخل فضاءٍ خرافي.
وبما أني لا أمتلِك سوى طموحٍ بسيطٍ فإني كنتُ أنتظر، وأنتظِر صخبَ النوم أكثر من أي شيء آخر. لهذا بالضبط كنتُ أحلم بالشامات والتوت البرِّي. كانت الغابة صاغية للنجوم، والنُّجوم واهبة نفسها لأيادي العرَّافات. لقد أسقطتُ أشجارًا بجُذوعها في أكثر الأنهار هيجانًا. ذقتُ الزبد المُتناثِر في الرِّبح ومشيتُ نحو المدينة عاريًا من أجدادي.
يا له من احتفال! كنتُ أنتشي مُتعة بين أولَّا وأوسكار. هل كان الشرود الذي يغزُوني آتيًا إليَّ من حياة ماضية؟ من شتاءٍ عجيبٍ مُنغرِس في طُفولتي الصُّغرى؟ أما الطفولة الكُبرى فهي صرخة، صمت ودوار. كنتُ يتيمًا من مُعتقدي الوحيد. لم أخف. هل ظنَّت رُوحي الغابوية أنها أحرَقَت كل شيء في طريق عودتها، هل أكون قد تحجَّرت على صخرة مِن جليد؟ أو قريبًا مِن شتاءٍ متأخِّر، قبل ذوَبان الجليد وانفجار البحيرة الطاهرة؟ أرى نفسي كما لو كنتُ مَجازًا مُفكرًا، جامدَ الحركة، قبل وداع الطيور.
ثم جاء الرعبُ يومًا، ضدًّا على انتظاري، بدأتُ أضطربُ، كان أوسكار يُجهِش بالبكاء في الوقت الذي كانت فيه أولَّا مُنهمِكة في حَبكِ الصوف. كانت تَنسج بينَنا ما تبقَّى فيها مِن شهوة. شهوة كانت متغيرة ومتنامية حسب الفصول. فأنا أغدو متحجرًا كتمثالٍ حين أعيش شتاءً طويلًا. كان أوسكار يبكي بحنانٍ وأنا غارق في أحلامي.
كنتُ أخرج بالليل بدون وجهة محدَّدة، مُتسكعًا من حانة إلى حانة في مدينة تحجُب عني وجهها إلى درجةٍ تغدو معها مجالًا لحقيقتي الرائعة. أصبحَت دهشتي حادَّة مرةً أخرى. الصيف على وَشكِ الانتهاء، وكنتُ أخلط بين السنوات والقرون وتواريخ ميلادي. لم أكُن أحمقَ أو مهبولًا كما يُقال، بل مُرتويًا من تمنِّياتي. وأُولاها كما قال القسُّ الكبير شامان الغابة والثلج، هي أن أكون ملكًا للحياة، مُغطًّى بشجرة الرند وبالكثير الأكثر من الأوراق. وتلك الأوراق سقطت عند قدمي، جمعتها، ثم جاء دور الثلج والجليد على السهول وفي قِمَم الجبال والغابات المُكفَّنة، كنتُ أتزحلَق على الجليد أو الثلج وحيدًا أو مع زملاء العمل أو العطالة المطولة. هكذا وجدتُ نفسي أصعد أكثر فأكثر نحو الشمال، الشمال الكبير. أنا أتسلَّقُك دون أن تتجمَّد يداي، بعد سقطتي هناك قُرب القرية.
بعد أن أصبحت شامانيًّا (أو يساريًّا، قد أكون أخطأت في السمع) أعلن راغنار، ابنهما، أمامنا إلغاء الانتحار ونهاية مُراقبة الولادات وإلغاء الحياد وأعوام القحط. كان يَملك دراجة نارية أعارها لي مرة. انزلقتُ بها في الليل بسُرعة أربعين كلم في الساعة، وسط ضبابٍ كثيف. تجمَّدَت أطرافي خلال الطريق. في عيد القدِّيسة لوسْيا، تنكَّرتُ خلال الاحتفال في زيِّ الخطيب الأبدي، منَحُوني شراب المحبَّة. واختطفت المرأة الأولى وهي عروس. كان أنفي قد ازرقَّ مِن البرد، وكان أنفها ورديًّا، كل شيء في الجنة كان ملوَّنًا والجبال المُغطَّاة ثلجًا كانت كذلك. يَحدُث أن أُغني في الجنة إذا ما كانت الجنة شمسًا باردةً فوق ثلج راقص. كنت ثلجًا مدرارًا مثقلًا بوزنه، تركت على جسدها وبين فخذيها وضحكاتها الصارخة آثارًا، لا أدري أين، في ذلك الزمن البعيد، كادَت إحدى يدَيها، بل أحد أظافرها الذهبية المصبوغة أن تتجمَّد من البرد. قُدتها إلى بيئتها حيث أنا عشيقها السري، مجهول ومحجوب. أقضي ليلةً معها، وها أنا قد تخلَّصت من دهشتي.
مع الوقت تقوَّس ظهر أوسكار. أعتقد أنهم لكي يُقوِّموه وضعوا عليه لوحًا من خشب. وحين يُصبح ثملًا، يخفُّ اللوح، أحيانًا كان يُزيحه ويضعه تحت السرير، يا لها من عادة غريبة!
كانت أُولَّا امرأةً ذات طبع صوفي. حين كانت تُناديه «غورو» (شيخي الروحي) كان يُجيبها للفور غورًا (شيختي)! تلك كانت صرخة زواجهما ومُتعتهما، صرخة شِبه حيوانية وشِبه نباتية بين الغابات والمَغاور والبحيرات الشاطئية والنجوم. ولا شكَّ أن الأمر لا يزال كذلك. على الأقلِّ هذا رأيي وتلك رؤيتي للوجود الأول للجنس الإنساني.
أمسكَ أوسكار جذلًا بِنايِهِ، وبدأ يعزف لنا لحنًا آتيًا مِن أزمان سحيقة لا يستطيع أي سويدي يستحق هويتَه الأسطورية، أن ينشده. أحسست وأنا أنصت لتلك الأناشيد أني أستبدل قارَّةً بقارَّة وعصرًا بعصر. لا أتذكَّر الآن الموضوعات الرئيسية لتلك الأناشيد ولا تناميها الإيقاعي، لكنَّها كانت تمتدح باستمرار ملذَّات الجنة المُغطاة بالثلج.
أنا مُلزم بقول ما يلي وحكيِه بأمانة: كان أوسكار يضع القِرفة في الخمرة على طريقة أهل لابونيا؛ فالنَّكهة تُضيف دائمًا شيئًا من السعادة. سمعتُه يتكلَّم بصوتٍ عالٍ مُعتبرًا نفسه — يا للغرابة — محاربًا أعزل وسليل العاهرة المقدَّسة. كانت أُولَّا تَبتسِم، فهي كانت مُومسًا مقدَّسة من غير أن تكون معترفًا بها، ولا تمنح نفسها إلا لي أنا الهمَجي النازح من الشمال. فهي التي استضافتني وأنا في عز محنتي.
كانت أُولَّا، مِن جهتها، تتجرَّع شراب «الصافْت» مثلجًا مع قطعة سُوكِرْكُولا مغموسة في قشدة بالتوت البرِّي، أو العكس، لم أَعُد أتذكَّر جيدًا تلك الوصفة. مرة حكَت لنا حكاية واقعية، ذات يوم، تأثَّرت السويد بكاملها بمصير كلبِ صيدٍ قصير. نعم كلب قصير القوائم، وأصابتها الرأفة العُظمى لمُصابِه. لكن، لا الصليب الأحمر (المُحايد واللوثري كما نعلم) ولا مصلحة الإطفاء ولا صور التلفَزة الوطنية استطاعت أن تُنجد الكلب.
يا لها من قصة عجيبة! ربما أصاب أُولَّا التأثُّر أكثر من الفتيات الذهبيات في مدينة بروما. صرَّحَت لنا بذلك ببساطة مشُوبة بالصرامة وعزَّة النفس. وإليكم ما حدَث. حين كانت تسمَع نباح كلبٍ وسط ليلِ سُكرٍ ومُنادَمة، كانت تتذكَّر بقلبٍ حنون ذاك الكلب المفقود، المصلوب بين الصخور، وتُفكر في رُوحه الضائعة في الإشاعات الخرافية. وأُولَّا؟ امرأة كأنها منحوتة بأيادي فلاحين من الجنوب، اختطَفَها أوسكار وهي ابنة السادسة عشرة. في عزِّ الصيف، خلال حفلة موسمية. كان شابًّا ممتلئًا حماسًا وعدوانية. كان خطرًا على المُراهقات والقدِّيسات المزيفات المُحترفات رغبةً والمُداوَرات لعيونه الساحرة، كان يصعق ويسحق بجُنونه الوثني. روَّضَته أُولَّا بفنِّها الحسَّاس وبحِيَلِها في التحوُّل الشبَقي والغذائي، وبالمُنادمة الرُّوحية أحيانًا.
أراه أمام عيني الآن، حيًّا كمُحاربٍ خرافي، بحُسنٍ شبيهٍ بحُسنِ إريك فون سيدوف الرائع. ورث خشونته عن أجداده، الأقدَمين، واحترق برَمادِهم. رماد مُتناثِر في حقول القمح وزهور النقل. حين ينام؛ حيث هو على سرير الراحة، كان يأخُذ شكلَ ظبيٍ ضخمٍ مشدود إلى جريهِ من جبلٍ وعرٍ إلى آخر. كانت نظراته لا تُقابل نظراتِ أُولَّا، نظراته كانت تستدير.
في تلك الأثناء دخل راغنار (ابنه الوحيد) الشقة في عجَلة اختفى معها بسُرعة خاطفة في إحدى الغرف. كان راغنار يقوم بتمريناتِ جازٍ على آلة الباتري، في تلك الضاحية التي لم يَعِش فيها ربما أي إنسان أسود. آلة باتري في عمارة؛ حيث يأتي الثلج النفَّاث ليَرقُص فوق الأسطح مأخوذًا بإيقاع صورتها الجهنمي. كانت الموسيقى (؟!) تُهشِّم النوافذ وتصدَع الحيطان وتكسر الأبواب طابقًا بعد طابق حتى القَبو. العمارة بكاملها تتحطَّم. وكُنا نضع صماماتٍ كي لا نسمع فرقعات الصنوج.
عاد الصمت ليعمَّ المكان، وتمَّ تشغيل التلفاز، أخذ كلُّ واحد مكانه واندمج كل شيء في نظام الصخب وإشاعات العالم، حكاية بعد حكاية. وفي قلب الصورة التلفزية ظهرت شمس منتصف الليل.
كنتُ صامتًا وجالسًا بالقُرب من المدفأة أتأمل مشاهدَ ومناظرَ من البلد. كانت تأتي إليَّ كل مساء. تقترب الغابات وعوضَ أن تصعد نحو الشمال كانت تنزلق بين عيني، برياحها وجليدها وعواصفها وأضوائها وندائها الفضي.
كان أوسكار ينحني أكثر فأكثر نحو الأرض. هل كان يتخيَّل نفسه زقًّا مليئًا بالسنابس. ولتقويم اعوجاج ظهره وُضعَ له لوحٌ خشَبي آخر أكثر صلابة بسبب انحنائه نحو أُولَّا بلُطفٍ وبسبب معاكسته لها أثناء تحركها.
كان يغيب عن البيت، مثله في ذلك مثل ابنه؛ فقد ورثَ عنه هذا الأخير عشق الفتيات المتنكِّرات في شكل غلمان. ولم يَنفلِت راغنار أبدًا من هذا الإرث. كانت تبدو عليه ارتعاشة زائفة لليدَين وتشنُّج مُفتعَل للكتفَين. حين كان يُوقع على الباتري، كان جسد الأب يقف متخشبًا أمام الاستدارة المُكتملة للأم. كان راغنار يتخطَّى الدائرة العائلية، فيرتعش مسارُه بحضوري، لكن مَن لم يَعِش ذلك؟
كنا نحبُّ بعضنا البعض. والحب كان شمسًا حريرية ولمسة قلب. حبٌّ يرتاح قرب جسدَينا وشَعرنا المضفور باللحظات الأكثر نسيانًا.
ربما كان أوسكار سعيدًا. ما مهنته؟ فهو سليلُ عائلةٍ عريقة من مسَّاحي الأرض في «جامتلاند». غيَّر المِهنة والمدينة والزوجة. وقد أذاقته هذه الحركية غير العادية من الإهانة القاسية الكثير … هو والسويد؟ أنا وبلدي؟ لكن كل شيء كان مثبتًا سلفًا في الخريطة الجديدة للبلد وفي أرشيفات الصورة والصوت. وهذا ما أقرؤه في الجرائد.
كان قليل الحديث عن مِهنته الجديدة. ولم يَسبِق لأوسكار أن تحدَّثَ عن أيَّة مِهنة أخرى. لم أره أبدًا يستقرُّ يومًا ولو لمجرَّد لحظة في إطار مهني محدد.
اعتقدتُ أنه يقترب من عمر التقاعد. كنتُ ابن الثلاثين وكان عمرُه ضعف عمري، وابنه في الثامنة عشرة. وأُولَّا لم يكن في وَجهِها تجاعيد. وهو ما كان يَكفي لخلق (أو تحطيم) سعادة عائلة ليست بمتوسِّطة الحال وليسَت بفقيرة؛ عائلة وحيدة تملك ضمانًا اجتماعيًّا إلى آخر أيامها. وهذا ما شجَّع فيَّ رُوح المقاولة والمطالبة بالأجر، باعتباري عازبًا جغرافيًّا.
وأمام صمت أوسكار هذا، لجأتُ إلى اختلاق سيرة حياته. كنتُ أحكي له قصته الشخصية، وكان يجد مُتعة خاصة في الإنصات لي من غير أن يُعارضني في أية نقطة أو أيِّ حدث. كان بالأحرى يشجعني بهزة من كتفه أو بابتسامة لا تشوبها القسوة الماكرة ولا يصاحبها صفاء النظرة المُزعج. وحين وصلت إلى تلك المرحلة من حكايته (أما حكايتي فقد أصابها الغرق). كنت أستطيع السكن لدَيه من غير أن أعكِّر عليه بداية تقاعُده. ظللتُ حائرًا. كان يمر أمام عيني بحكمة سكِّير. وبفضل مشيته الواثقة والآلية اكتشفت هذه المدينة وظلها الخفي.
وأنا نفسي، باعتباري ظلًّا لماضيَّ الأكثر إظلامًا، هل أكون بالنِّسبة له غير انعكاس لشفافيته؟! غالبًا ما كان لا يفهم ما أحكيه له. لذا كان يَحني رأسه علامة على التواطُؤ والصداقة. كان لصمته الكثير من القوة الغامضة المحنَّطة تحت جليدٍ هشٍّ والمتراكمة داخل نظرة تكاد لا تتحرَّك.
كنت أراقبه في مسوخاته. وذات يوم، بينَما كنتُ أتصفَّح إحدى المجلات، دخل أوسكار ومعه فتاة مرحة. كانت أولَّا قد خرجت إلى سوق الحي. أبنَتُ بدَوري عن رغبتي في الخروج. ألحَّ عليَّ أوسكار في المكوث بجانبه لمُصاحبته والفتاة في نزهة داخل البيت. وصَل ضيوف آخَرُون. وأُولَّا أيضًا. ما الذي حدث؟ لا شيء. فذاكرتي لا تَحتفِظ بغير صورة نافذة مفتوحة. كانت السماء مرصَّعة بالنجوم. انحنى أوسكار في الفراغ ثم تراجع. لم أتحرَّك من مكاني. هل أعاد نفسه إلى الحياة بنفسه، أم أن هدوئي هو الذي جمَّد يأسه. المُهم أن شيئًا لم يحدث.
أظنُّ أنه في الغد فقَدَ عقلَه، على الأقل لمدة يوم مشهود. لم يكن قد فقَدَ توازُنه بعدُ. والغريب في الأمر أنه ظل محافظًا على هدوء غريب. كان ينحني من النافذة بطريقة مُغايرة وبمرونة جسد شبه مُنكسِرة. وعلى وجهِه ارتسمت ابتسامة خاطفة أسرع من سكِّينٍ ضاع في الظلام. كانت مشيتُه تُحاكي شكل الأشجار المُجاورة للبيت. أدركت أن تلك طريقته في استعراض ألَمِه ومحاكاته أمامي، أمام عيني ذاتهما. أفي هذا يكون خلاص المرء؟ كانت مُكابَدته قاسية، لكني لم أُلاحظ أيَّ أثر لذلك على ملامحه. كان يقتل نفسه من غير أن أسمع صراخ احتضاره. يَدفن نفسه حيًّا من غير أن أحضر موكب جنازة. يا لَلعبقرية! كانت المقبرة التي نراها قرب حديقة الكنيسة تُشكِّل جزءًا من فضاء واقعي محسوس جدًّا. لكن لا واقعيَّتهما معًا كانت تبدو لي مُبهمة. لم أحسَّ بوجود أي ثَمِل. هل أهرب؟ كان أوسكار جامدًا في مكانه، ثم بدأ يَقترب من أولَّا كما لو كانت خطواته تتَّجه إلى الوراء، مُستسلمًا لسرِّها، سرِّهما الذي لم أستطع وُلُوجه أو مراقبة حبكته. وهي؟ كانت تتألم بشكلٍ آخر. كانت باسمة وذات نظرة ساخرة.
اختلط عليَّ الأمر، لماذا كان يتوجَّب عليَّ فهم ما يخصُّهما لوحدهما؟ وما الذي كان يعنيني منهما؟ لم أكن قد استوعبت جيدًا علاقتهما بالرغم من أنها شغلتني كثيرًا في تلك اللحظات من حياتي. وقبل أن أرحل عنهما استنفرت قوة الملاحظة والإبهام لديَّ: آكُل بدون أن آكُل، وأتحدث إليهما كبرعم نما قبل أوانه. كنتُ غريبًا عن المدينة، ضائعًا من فرط فضولي.
ظلَّ كل شيء في الشقة محافظًا على نظافته ويسير بعناية وبشكل صحي. كل واحد كان ينام كما العادة. ملفوفًا في لذة الماضي، كان أوسكار يشخر أو يتنفَّس بحدة. أما أولَّا فقد كانت تحيك الصوف على عادتها. كنتُ أحسب الساعات. وعقارب الساعة كانت في صالحهما نظرًا للهدوء الذي يسود الأجواء. كنتُ أترقَّب انفجارات وصرخات أو تهليلات مهموسة من طرفِ شخصٍ مجهول.
أيضًا وأيضًا، لم يَحدُث ما يُزعج عيني أو سمعي الأكثر حميمية. بدأ الخوف يَغزُوني في هذا الاتجاه أو ذاك، وأحسستُ بالضياع مسكونًا بمرض يستعصي على الفهم والعلاج. إنهم صُوَر، وأنا شبح عائد من بلاد الموتى. بدأتُ أحسُّ أكثر فأكثر بالخطر المُحدق بي.
شربَ أوسكار حتى الثمالة القصوى. آنَذاك، نهضت أولَّا وجلسَت في مكان أوسكار الذي كان منبطحًا على الأرض. كان من اللازم البدء من جديد ومُداوَرة الألم. ولو لم يكن بينَنا تلك الصداقة الغريبة لكنتُ طويتُ الصفحة. كان أخي إلْمير قد نصحني بذلك في التلفون. عاتبني لكوني أبذر كرمي. وضَع أوسكار مريلةً على عنقه. وجلس بهدوء ليبحث عن الشمس في شاشة التلفاز.
بدأ يُعلِّق على الأحداث المستجدة في العالم: فلسطين، البرسترويكا، نزع السلاح، حرب لبنان، كما لو كان مداره البحري يجري بسرعة الضوء. نام يومًا قرب التلفاز؛ فقد صعَقَته الصورة الأخيرة التي تلقَّاها، وتناثَر عقله المحطم في لجَّة النقط المضيئة. وانغلقت الشاشة على جثة.
هكذا مات أوسكار في التلفاز، كما نقول عن رجلٍ تعيس: إنه مات في الخيبة. رغبت أولَّا بدورها في الموت. مُدعية أنها تريد الالتحاق بأوسكار هناك حيث تحتفظ يد الله بمشهد رجعة المسيح. لكنها لم تفعل ذلك. ظلَّت من غير زوج أو ولد أو نوم. هل بدأت تهذي بكل شيء وقد هيَّجها رُوح الأصبعيات؟
نعم، بدأت تقوم بهذا الطقس، إنه ملامسة الكائنات التي تُلاقيها في الطريق. كان ذلك نسجًا لذكرياتٍ تحياها من جديد بألقٍ بالغ. غدَت يدُها قوية ولونها حيويًّا، وبدَت شابَّة بفعل الموت المُفاجئ لأوسكار. استعادَت فتنتها. كانت يدها أرقَّ وأرهفَ من قناعٍ نباتي، ويدها بدأت تنفتح للأمطار والدموع وخرير المياه. كان شيءٌ ما غير محدَّد الملامح قد غزاها وتوغَّل ليَطال نظام بيتها. تغيَّر وضعُ المرايا واللوحات والأثاث وغدَت بدون متكأ. أصبحَت أُولَّا تحتاج لمجهود خارق كي تُبدل أثاثًا أو تضع الزبدة على قطعة خبز. كانت تترنَّح كما لو كانت في أرجوحة وليد. ذهبت للاعتراف لدى القسِّ لكنه كان قاسيًا تجاهها، وبما أن المواساة لم تَعُد تُفيد فيها فقد أصبحت صعلوكة داخل بيتها تاركة للتلفزة تنظيم البيت وسرعة الزمن نحو النسيان المُطلق للذات. سكرت هي أيضًا بالسنابس. وعاشت في الخيال طفولتها وخطوبتها ولذاتها العالقة بذاكرة التلفزة. أحبَّت الأفلام والمسلسلات. وبسرور بالغ وإلهام مُتواصل غيَّرت من لونها متعجبة لكونها غدَت ميدوزا تبتلع الصور بسرعة خارقة. كانت ميدوزا حزينة سقطت على وجه الأرض من قرن إلى قرن، عند صلاة العصر أو صلاة السحر، في قرية مهجورة قرب كنيسة القس. إلهة في لحظة الموت، مُثبتة على شاشة النواح.
مددتُ لها يدي وأنا أصمَتُ من تمثالٍ أثري، كانت يدًا ملائكية. نظرت إليَّ وقد أصبحت تُشبه الموت، غزاني الهلع أنا الملك اللاآدمي. صفقتِ البابَ ريحٌ قوية. هل كان من اللازم أن أهجر البلد؟ وها أنا ذا الآن بعيد، متَّجه نحو الجنوب.
أدركت أني اختلقتُ هذه الحكاية كي أقلب الصفحة. فجدِّي لأبي هو الذي علَّمني فنَّ الخرافة؛ ذلك أنه ليس من أسطورة مآلها الانمحاء، كما قال لي، وليس من صمت يسحقُه السواد، وليس من سوادٍ يغدو صفاءً، وليس من صفاء يتفرَّع في زهور الخليج، ولا مِن خليج يَروي الأرض ولا من أرض تنفتح للقبور ذات المُعجزات ولا من قبر يتطايَر نحو السماء؛ نعم، نعم ليس من سماء تتعدَّد حتى تَنثُر كل شيء في ثرياها، ولا من ثُريا تدور بشكلٍ لا نهائي حول نفسها، ولا من لا نهائي يَنبثِق من تعب الحياة، ولا من حياة تُلغي الموت. ثم غام الانهيار في زُرقة السماوات. كانت الريح قد لطَّفت من رؤية الكون مبيَّنة عن علامات كثيرة تحملها طيور مُغردة بفرح. قطرات مطرٍ كانت تلمَع وفُسيفِساء الغابة وقع تحت ضربة ساطور. لا تَحترِقي محبوبتي العزيزة! اترُكي الناس يقتربون من النار والموت من احتراقه. يتعفَّر النور والمناظر الطبيعية تغبرُّ معها الأشجار المُزهرة أو المقطوعة حبيبتي العزيزة اللازوردية، يا خطيبة قناعي، لقد اختلقتُ خرافتك حتى يطويَني النسيان، أنا حاكي الألغاز المُلائمة لمكري، لا حي ولا ميت: كل شيء مخبوء في ذاكرتي الأثرية؛ الغابة والبرد القارس؛ فأنا ممهور بالفرح المُشتعل. أنا الآن أمام حقيقتي، أتفرج عليها، مفتونًا وأكثر دهاءً من ديزا ساحرة جول. حبيبتي العزيزة: لا تنطوي على نفسك. لماذا؟ لا أدري، اسمعي. إليك أتحدث بدون وساطة. أعرض عليك لغزًا وأحلُّه أمامك، باللمسة الرقيقة لعينيك وفي ظلِّ حاجبَيكِ. حين تهربين بعد عناقنا في الفجر المُطلِّ علينا، أنهَض يا محبوبتي الغالية مع ضوء الصباح. وأسهر بثقة نفسٍ على قوة الحسرة العظمى.
•••
ذكَّرتني هذه الحكاية التي تركتني ساهمًا بمربعي السحري أيَّ كشَّافٍ أساطير أنا لا أدرك كل ما يخترقه ذاك المربع من لا عقلانية، لكن ما أعرفه هو أنه قد أرسل قوة مغناطيسية همَّشتني أنا جيرار نامير راوي هذه الحكاية.
سويتُ مقعدي، أطفأت النور وفتحت ثقب تهوية. عادت الحكاية إلى ذهني كعلامة أخروية. هل كنت أرتعش؟ وفيما أنا أُحدق في السماء وألفُّها بنظري عبر منحنى النافذة، خُيِّل إليَّ أني أسمع صوت ألبرتو يهمس لي: تأكَّد أننا في سماء حساب وبأن رحلتنا، أنا وأنت، لم تكن مُمكنة بغير هذه المفارقة بين المادة وولادتنا للنور، فهل تصغي إليَّ؟