اللقاء
تجلَّت القاهرة لعينيْه آية في الأضواء والبهجة الصخب. إنه يفد إليها لأول مرة وعمَّا قليل بعد أربعة أيام على وجه التحديد — يلحق به أبوه، ليقوما بأهم زيارة في حياته، زيارة السيد عبد الرحمن فاضل لطلب يد كريمته. أبوه يراه كفئًا للبنت الجميلة، فهو زراعي ومربٍّ للعجول، وذو مال، وفضلًا عن ذلك فأبوه مزارع أصيل، وصديق للسيد عبد الرحمن فاضل وجار قديم له في القرية قبل أن يهجرها الرجل إلى المدينة، وقد أعجبته البنت ليلة لمحها في الاحتفال بالمولد النبوي بالقرية، وبارك أبوه إعجابه وتمنَّى له الخير في رحاب آل فاضل، بادر بالانتقال إلى الهرم، دار حول فيلا آل فاضل، تملَّى طرازها العربي العريق، تملَّاها بإعجاب ووَجْدٍ، وتلقى دفقة من أحلام الورد … سار في المدينة ساعات مستكشفًا ثم آوى إلى مقهى الأمراء أسفل الفندق، إنه فتى يحسن تربية العجول، ويحب الغناء ويستحق أحيانًا الملامة، جلس في المقهى تائهًا في أحلام متشابكة حتى انتبه إلى جذبة نظرة مجهولة تناجيه بلطفها الخفي.
التفت فرأى رجلًا يتطلَّع نحوه باهتمام في الأربعين لعله، ربعة واضح القسمات، يتميز بسيما السجود في جبينه وشامة في ثغرة ذقنه. ولما تلاقت عيناهما دنا بكرسيه من مجلسه وقال: لا مؤاخذة، كلانا وحيد، تلعب عشرة؟
كان قد ضاق بوحدته فابتسم مرحبًا، صفق الرجل طالبًا النرد وهو يقول: محسوبك جبريل الصغير من رجال الأعمال.
– تشرفنا، فؤاد صاوي، مزارع.
لعبا بمهارة وسماحة. في أثناء ذلك عرف الرجل على وجه التقريب أسباب وفود الفتى إلى القاهرة. ولما أزف موعد الغداء دعاه الفتى مجاملة، ولكن الرجل قبِل الدعوة، ثم دعا الفتى إلى العشاء فلم يجد بدًّا من القبول. ذهب به الرجل إلى تافرنا. هكذا انزلق إلى صداقة جديدة بلا أسف. اعترف بأن ثمة تجاذبًا قويًّا يدنيه من الرجل ويدني الرجل منه، هذه الأمور تحدث، لِمَ لا؟ تناولا شاورمة وسلطة خضراء ونبيذًا أحمر. بعث النبيذ الدفء والإلهام، في جو بارد ورذاذ متقطع تعلن عن حباته اللؤلؤية المنسابة فوق زجاج النافذة … وثرثرا طويلًا فيما يشبه الطرب. ثم زقزقت عصافير النشوة في القلب، فانسابت الأهواء من طرف اللسان كسلسبيل السماء. قال جبريل: إني رجل غني والحمد لله وكثير الذرية.
– حالي رضا، أسوأ، ما فيها أني أعشق العجل وأنا أربيه فيبقى منه في القلب أسًى بعد بيعه.
فقال جبريل ضاحكًا: إنك من أهل الخطوة خطوة، أما البهجة الحقيقية ففي المغامرة والطفرة!
– ما عملك على وجه التحديد؟
– المغامرة.
– زدني إيضاحًا.
– صبرًا، حتى متى تبقى في القاهرة؟
– لمدة ثلاثة أيام أُخر.
– ألم تسمع عن يوم بألف سنة؟
وتكلم عن رحلة تستغرق يومين يجني من ورائها ثروة صغيرة، فسأله فؤاد: ألا يعرضني ذلك لقبضة القانون؟
– لا خوف على صاحب السمعة الطيبة والصحيفة البيضاء من السوابق!
وحدَّثه عن سيدنا موسى وهجرته الأولى من مصر، ثم قال: لولا ذلك ما صار نبيًّا!
فضحك فؤاد وقال بتوتر وشى باهتمامه، وقال: ولكني سأصير مهرِّبًا!
– لا تنخدع بالأسماء.
شجعه بمثال سيدنا يونس وجوف الحوت، فقال فؤاد بلسان متعثر من الشراب: إنه السجن وليس الحوت!
فعاد يذكِّره بسيدنا يوسف وكيف أفضى به السجن إلى الوزارة، ثم قال مداعبًا: الدولة تستورد فتسمى ذلك تجارة خارجية، فإذا حاكاها فرد سمَّت ذلك تهريبًا.
ومضى به إلى ملهى لوك الليلي … شربا مزيدًا من الخمر. شاهد رقصة شرقية من أفراح.
أُعجب الفتى بالراقصة، طالبه جبريل بتأجيل ذلك إلى ما بعد الرحلة.
قام فؤاد بالرحلة. رجع عند ظهر اليوم التالي. ربح من ورائها ما يربحه عادة في عام من بيع العجول. احتفلا بالنجاح في لوك. قال فؤاد: بوسعي الآن أن أبتاع شبكة فاخرة ونادرة.
فقال جبريل ملاطفًا: والبقية تأتي.
فتمتم فؤاد بحرارة: أفراح …
– عظيم، أهي من طراز عروسك؟
– كلا.
– هذا أفضل فعليك أن تشبع من أشياء كثيرة قبل أن تهب حياتك للعروس.
وبنفوذه جاءه جبريل بالراقصة ثم غادرهما إلى مكتب مدير الملهى. استحضر فؤاد لهما الشراب وهام في السمر. وهيأ له السكر أن أفراح بحيرة زمردية في مركزها نافورة تنفث السعادة. ولكن اقتحم المجلس ظل ثقيل. رجل متهور سكران يزعم أنه صاحب حق أقدم. سرعان ما تطايرت الكئوس فوق المنضدة محطمة … وتأرجحت الشموع المتلألئة في الأركان بفعل اللكمات المتبادلة. انسحبت أفراح وَجِلَة مثل حية عقب معركة خاسرة، وجاء جبريل مهرولًا وهو يصيح: ولا حركة ولا كلمة!
ثبت أنه مسموع الكلمة، تأبط ذراعه ومضى به وهو يجفف له دمًا يسيل من ثنيتَيه … أسعفه في صيدلية.
اقترح عليه أن يوصله إلى الفندق، ولكن فؤاد قال: ما زلت مصمِّمًا.
– هه؟
– أفراح؟
– ليكن ذلك في ليلة أخرى.
– ليلتي هذه فرصتي الأخيرة.
مضى جبريل الصغير نحو تليفون الصيدلية وهو يتمتم: لك ما تشاء!
استقبل والده في محطة مصر. استقلا تاكسي مضى بهما إلى الفندق، لحظ الرجل ابنه ثم تساءل: شفتك متورمة؟
فأجاب وهو مستعد لذلك: وقف التاكسي فجأة أول يوم لي هنا فارتطمت بحافة المقعد الأمام!
– أظنها بسيطة؟
– وممكن نؤجِّل اللقاء.
– كلا، وقت عبد الرحمن فاضل مشغول دائمًا … زرت مصلحة المساحة كما كلَّفتك؟
أجاب بحرج: شغلني الحادث، كان وجهي كله متورمًا.
فصمت الرجل في ضيق.
جلس بجانب أبيه في حجرة الاستقبال بفيلا الهرم. بدا متوتر الأعصاب فهمس له أبوه: تكلم بطلاقة لتحوز الثقة.
وأزيحت الستارة. برز من ورائها الرجل في عباءة بنية. برأس كبير مغطًّى بطاقية من الصوف الأبيض. نهضا لاستقباله وسرعان ما أصيب فؤاد بدهشة غير متوقَّعة. دهشة بلغت حد الذهول وجاوزته. خُيِّل إليه أنه يرى جبريل الصغير نفسه … حتى صوته تردد وهو يقول: أهلًا … أهلًا، كيف حالك يا شيخ صاوي؟
– بخير ما دمت بخير يا بيه، هذا ابني فؤاد.
وتمت المصافحة دون أن تبدر من عبد الرحمن فاضل بادرة واحدة تنم عن رؤيته للشاب قبل ذلك. حدق فيه بذهول. ساوره الشك. لعلها صورة أخرى! لعله مجرد شبه وليس تماثلًا. ولكنه هو هو. كلا طبعًا. إنه توهُّم وأثر من الليلة الماضية. مَن يقطع في ذلك برأي قاطع؟!
ونظر السيد إلى فؤاد وقال ببساطة: أذكر طفولته.
فقال الشاب بحنان: تلك الأيام الطيبة لا تُنسى!
هو جبريل الصغير، كلا، هذا رجل آخر جاد ووقور ولا أثر للافتعال في حركاته. ما أحوجه إلى صفاء الذهن. ما زالت بقية من الخمر في معدته لم تُهضَم بعد. وقال الأب مخاطبًا السيد: لعلك بخير وعافية.
– الأمور تسير بعون الله، ولكن يندر أن نعثر على مخلوق جدير بالثقة.
– هذه هي المشكلة!
– وكما عرفتني فأنا لا أقرر البطش إلا عند الضرورة القصوى!
– نبلٌ عُرف عنك منذ القدم!
– والوسطاء ألعن، ولكن هل يسعني أن أقوم بكل شيء بنفسي؟
– غير معقول ولو كان ممكنًا!
– حتى خطر لي مرة أن أصفِّي عملي وأرجع إلى القرية.
– يسعدنا رجوعك ولكن بلا قهر!
فقال متأسفًا: الأولاد متعلقون بالمدينة.
وفجأة التفت نحو فؤاد متسائلًا: ما لك يا بني؟
فتراجع فؤاد إلى أعماقه وقال: لا شيء يا سيدي.
– ولكنك تنظر إليَّ نظرات غريبة!
فتشجَّع فؤاد لعله ينجو من عذاب حيرته.
– الحق … الحق … ألك توأم يا سعادة البيه؟
ضحك الرجل وهتف الشيخ صاوي: يا لجهلك يا فؤاد … الدنيا كلها تعلم أن البيه وحيد أبويه.
وسأله عبد الرحمن فاضل: أعرفت شخصًا يماثلني لهذه الدرجة؟
– أجل … ولكن لعلي واهم!
وقال الأب مجاملًا: عبد الرحمن بك لا مثيل له!
ولكن السيد سأل فؤاد: من هو ذلك الشخص؟
– يدعى جبريل الصغير وهو من رجال الأعمال.
فهتف عبد الرحمن فاضل: عليه اللعنة! لم يقل أحد قبلك إن بيننا أي شبه.
فتساءل الأب بقلق: ما لعينيك يا فؤاد!
وتمتم فؤاد حائرًا: أعترف بأني مخطئ!
فالتفت عبد الرحمن فاضل نحو الشيخ صاوي وقال: كيف نسيته تمامًا يا شيخ صاوي؟ (ثم ضاحكًا) كانت لك به علاقة لا تُذكَر بخير، أنسيت؟ الرجل الذي كان يعمل عندي ثم طردته بعد ضبطه متلبسًا باختلاس؟
تورَّد وجه الشيخ صاوي وقال: اللعنة … الآن أتذكره.
فرجع عبد الرحمن فاضل إلى فؤاد متسائلًا: أيدعي أنه صاحب أعمال؟ فماذا أكون أنا؟ ما هو إلا نصَّاب. مهرب. قوَّاد، كيف عرفته يا بني؟!
تلاشى فؤاد في حمأة الهجوم، اضطرب لدرجة أن اختفى التماثل بين الرجلين. وبادر الشيخ صاوي يقول مدافعًا عن ابنه: لمْ يعش في القاهرة أكثر من أربعة أيام.
لبث عبد الرحمن ينظر إلى فؤاد منتظرًا الجواب على سؤاله، فقال فؤاد: عرفته معرفة سطحية في مقهى الأمراء. تبادلنا حديثًا عابرًا ثم افترقنا.
تنهَّد الشيخ صاوي في ارتياح. فكَّر فؤاد بأن أباه مذنب مثله وإلا فما معنى علاقته القديمة بجبريل الصغير؟ أما السيد عبد الرحمن فاضل فقال للشاب بهدوء مريب: الصدق أولى بالشرفاء!
– أقسم …
ولكنه قاطعه: ولا تقسم بالله باطلًا!
اصفرَّ وجه فؤاد. لاح شبح الفشل لعيني الشيخ صاوي. استمسك الشيخ بآخر خيط للأمل وقال: اللعنة على جبريل وسيرته. ما من أجل ذلك جئنا، ألمْ يحدثك الشيخ مندور عن دوافع زيارتنا يا عبد الرحمن بيه؟ فؤاد ولد طيب!
فقال عبد الرحمن فاضل بالهدوء نفسه: كلا …
تلاقت عينا فؤاد بعيني السيد فومضت الحقيقة حتى أعمته. وقال السيد ببرود: ليس بالولد الطيب ولكنه مهرِّب، فاسق، معربد …
هتف الشيخ الصاوي: يا ألطاف الله!
خيَّم صمت معذب. تجسدت الإهانة كما تجسَّد اليأس من الخطوبة … كيف يتكلم الرجل بهذه الثقة؟!
من وحي استنتاج أم من وحي الوقائع؟ أله عين دائمة ترصد حركات جبريل فرصدته هو ضمنًا؟!
وهل هو تماثل أو تشابه أم لا هذا ولا ذاك؟!
وتساءل الأب في أسًى: أليس لديك ما تدافع به عن نفسك؟
فتمرد فؤاد على وضعه وقال لأبيه: أُهنت يا أبي بما فيه الكفاية ويستحسن الآن أن نذهب!
فقال عبد الرحمن فاضل بصلابة: أنت المهان وأنت المهين!
ثم التفت إلى الأب قائلًا بنبرة لينة: آسف يا شيخ صاوي.
غادرا الفيلا صامتينِ يتجنبان الكلام، يتجنب أحدهما الآخر، يغوصان في حيرة بلا قرار ويشعر كلاهما بالذنب.