الربيع القادم
١
إنه يوم عادي، ولكن سرعان ما انقلب فاجتاحته عاصفة هوجاء. وتذكر ربة البيت أن تاريخه يخلو من الهزات العنيفة. مسراته عادية ومتاعبه عادية، وغوصه في عسر المعيشة مضى وئيدًا، خطوة بعد خطوة، بلا طفرات، وهوَّن منه بعض الشيء أن الجميع يشاركونه في العناء ويتبادلون الشكوى. إلى ذلك فهي ربة أسرة تحظى بمزايا لا يستهان بها، فالأب ناظر مدرسة ثانوية، وهي كانت مدرسة أولى بالثانوية حتى وقت قريب. واستمرارها في العمل كان مسلَّمًا به لولا إصابتها بارتفاع في ضغط الدم، واقتران بخروج خادمتها عنايات فضل الله من خدمتها منذ أشهر للزواج من ابن عمها. وعنايات لبثت في بيتها عشرة أعوام مذ بلغت السابعة عقب وفاة والدها وحتى استردتها أمها، وهكذا حملت جمالات — ربة البيت — الأعباء وحدها وقد تعذَّر الحصول على خادم إما لندرته أو لارتفاع أجره ارتفاعًا غير محتمل. لم يخلُ بيتها فيما مضى من خادم، أما اليوم فعليها أن تنهض وحدها وأن تلاطف أيضًا ما استطاعت ضغط الدم. تستيقظ مبكرة على رنين المنبه لتعد الإفطار لزوجها محمد فتحي ولأبنائها الثلاثة، زغلول (طالب طب) ورمضان (ثانوية عامة) ومحمود (الثانية الثانوية). وعندما يغادرون البيت تعكف على تنظيفه وترتيبه ثم تذهب للتسويق من سوق المنيل غير بعيد من شارع العاصي حيث تقوم عمارتهم، ثم ترجع لتعد الغداء. ويضايقها بصفة خاصة تنظيف الأواني والأوعية وغسل الحمام والمطبخ، ولم تجد ما تستعين به في ذلك سوى قفاز من البلاستيك. ولم يبقَ من اليوم ما تهبه للقراءة إلا وقت قصير تتصفح فيه الجريدة أو كتابًا من المكتبة التي كوَّنتها — هي وزوجها — منذ أيام اليسر. أجل كانت الحياة يسيرة واعدة، وكان ثمة مرتَّبان ينفقان عليها، ثم أخذ الغلاء يدب ويزحف ويتمطى وينجلي عن وحش لا يرحم، وسرعان ما عجز مرتب الزوج ومعاشها عن ترويضه، فاضطر محمد فتحي إلى إعطاء دروس خصوصية رغم مخالفة ذلك للتقاليد، وودت هي أن تفعل مثله لولا ضيق وقتها بعد ذهاب عنايات. وتوجَّست خيفة من المستقبل وتساءلت متى يكبح الغلاء وهل يفلت من يدها الزمام؟ وهل يمكن أن تطالب زغلول ورمضان ومحمود بمزيد من التقشف؟! وليس من النادر أن يعرب محمد فتحي عن عذره فيقول: إني رجل بيت مثالي، من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت، كل ما يجيئني من نقود أسلمه لك عدا ثمن السجائر والمواصلات …
ويردف ذلك عادة بتحية يزجيها إليها فيقول: والحمد لله أنك يا جمالات امرأة حكيمة مدبرة، البلد في حاجة إلى وزير مالية في مثل حزمك ودقتك، لا مليم يتبدد هباءً في بيتنا.
وإنها لكذلك حقًّا. وكثيرًا ما تُرمَى بالبخل ولكنها ترفض الصفة قائلة إنه الحرص والحكمة في مواجهة زمان عبوس. ألا يكفي أنها تبدو أكبر من سنها (خمسين عامًا)، بل أكبر من زوجها الذي يكبرها في الواقع بخمسة أعوام. لقد ازداد وزنها، فقدت رشاقة عُرفت بها أيام الشباب، وخددت التجاعيد جانبَي فيها، وحالت نضرة بشرتها، وإنها لتغبط الرجل على صحته وتتهمه — في نفسها — بمداهنة الهموم ومدافعتها ما استطاع عن باله. من ذلك أنها تتابع أبناءها بالملاحظات والنقد، أما هو فيقول: أبناؤنا يسرون الخاطر يا جمالات، لنحمد الله العلي القدير، حياتهم مستقيمة، تفوقهم في الدراسة ملحوظ، متجنِّبون للانحرافات التي نسمع عنها هذه الأيام …
ثلاثتهم من أبناء الثورة، ولكنهم ثمرة تربيتها قبل ذلك، ثمرة تربية أخلاقية حازمة، ودور الأب في ذلك لا يقل عن دورها. لم تستحوذ عليهم عاطفة سياسية بمثل ما استحوذت عليهم رغبتهم الصادقة في التفوق. وهم يعتبرون أنفسهم منتمين إلى الثورة على مدى أطوارها، ولكنهم لو سئلوا عما يعنيه ذلك فلعلهم لا يجدون جوابًا خيرًا من أن يقولوا إنهم ليسوا من اليسار أو التيار الديني المتطرفين. ولم يفت جمالات أن تقيِّم هذا الموقف. إنها — كمربية أصيلة — تهتم بتقييم المبادئ كما تهتم بميزانية البيت، وهي تناقش زوجها في كل شيء. والرجل يقول: موقفهم باهت، لعلنا لا نختلف عنهم كثيرًا يا جمالات، ولكن تذكَّري المحاكمات كي تحمدي الله على ذلك …
ويقول أيضًا: المهتمون بالسياسة اليوم قلة، أما الأكثرية فمنهمكة في طلب اللقمة … سوف يكونون أطباء ممتازين ومواطنين صالحين، وهذا خير من أي سياسة …
وتغري جمالات نفسها فتقول: إن السفينة يجب أن تبلغ مرفأ السلام قبل أن تعصف بها الرياح.
وكان يوم من أيام فبراير ضاعفت قوة الريح فيه من البرد، وغشيت العمارات المتلاصقة في الخارج غلالة هابطة من الغيم.
٢
دقَّ جرس الباب. فتحت فرأت أمامها أم عنايات. لا يبدو من السواد الذي يكتنفها إلا وجه مدبوغ وعينان ذابلتان. أدخلتها مرحبة، متسائلة في سرها ترى هل فشل مشروع الزواج؟ وهل جاءت تسعى لإرجاع البنت إلى خدمتها؟
– أهلًا يا أم عنايات، ما أخبار العروس؟
تربَّعت المرأة فوق الكليم القديم في المدخل — الأثاث كله قديم — وتمتمت: أخبار لا تسر يا هانم.
– لمَ كفى الله الشر؟
تجهَّم وجه المرأة وأغمضت جفنيها منذرة بالبكاء فسألتها جمالات: ماذا دهاك؟
قام ابن عمها بالواجب، أصبح الفرح قريبًا، لكن حسدونا يا هانم.
تساءلت بقلق: ماذا حصل للبنت؟
– اختفت، هربت، دفنت رأسي في الطين، هذه هي الحكاية …
– هربت؟!
– نعم، لا تفسير لذلك في قريتنا، إلا أنها هربت بعارها …
فقالت جمالات بقلق: عنايات!
– ابن عمها زين الرجال، لا تفسير آخر، وأكثر من شخص يطالب بغسل العار!
اضطرب رأس جمالات بالخواطر المتلاطمة السريعة وتمتمت: يا له من خبر!
والمرأة دافنة عينيها طيلة الوقت في الكليم. تمطَّى قلق جمالات. ماذا جاء بالمرأة؟ قالت: لعلك توهمت أنك ستجدينها هنا؟
– إنها لم تعرف مكانًا آخر.
– ولكن بيتنا معروف لديك ولا يصلح للهرب.
– رأسي حائر، لا أدري كيف أتصرف …
– إني مقدرة لذلك، ومندهشة، فعنايات مستقيمة لا شك في ذلك …
– تربت عندك، عند أحسن الناس.
أثار القول أعصابها، ولكنها قالت بهدوء: كانت دائمًا موضع رعايتي، وعُرفت في الخارج بالاستقامة …
فترددت الأم ثم قالت: ربما كان أحد في الخارج …
ولكنها قاطعتها: لا أظن ولا أتصور.
– أمري لله.
– هل نجري تحقيقًا في السوق؟ الحق أنها لم تتأخر مرة دقيقة أكثر من المتوقع.
– الأمر لله وهو المطلع …
بلغ الضيق بجمالات حد الغضب. ترامي إلى مشمها رائحة طعام يحترق. هبَّت مسرعة إلى المطبخ فوجدت البامية قد جف ماؤها وشاطت. نسيت همومها وراحت تعالج الموقف بسخط إضافي. ولما رجعت إلى المدخل — وإلى الهموم — وجدت المرأة واقفة مرتبكة، فقالت لها: ابقي للغداء.
وقررت أيضًا — بلا أدنى ارتياح — أن تهبها أجرة الرجوع إلى بيتها. وطيلة الوقت لم يخلُ رأسها من الفكر.
٣
ما هذا الذي حدث؟ متى وكيف ومَن؟ أم عنايات امرأة حائرة معذبة مكسورة الجناح، ولكنها تشير بأصبع الاتهام. ما حدث قد حدث وعنايات أمانة في عنقها. جاءتها وهي بنت سبع. ثمة مسئولية ولا شك. لا توجد قضية ولا توجد محكمة ولكن يوجد ضمير، وهي تستطيع أن تعصف بأي اتهام يُوجَّه إليها، ولكن كيف السبيل إلى إسكات بلابل العذاب الخفي؟ لا تفسير للهرب إلا شيء واحد. القرية صادقة في ظنونها. الجريمة وقعت والبنت في خدمتها. تتابعت في مخيلتها صور زغلول ورمضان ومحمود. تنهدت مغمغمة: لكنهم أبنائي!
طنَّت الجملة في باطنها مثل شعار بالٍ. عنايات جميلة. نضجت في بيتها قبل الأوان. فطنت في وقتها إلى تحذيرات جمالها الناضج. آمنت أنه من الأفضل إرجاعها إلى أمها. لم تنفِّذ فكرتها لشدة حاجتها إليها. وصادف ذلك ورود طلائع المرض. وأيدت سلبيتها بأن أم البنت أرملة وحيدة وفي حاجة إلى النقود. وأنها لن تستطيع على أي حال الاحتفاظ بها في بيتها. بنت رائعة فحتى الطهي أحسنته. في القرية يركزون المسئولية في الضحية. إنها هي أيضًا ضحية.
•••
اجتمعت الأسرة حول السفرة في منتصف الثالثة. لا يشغل بالهم إلا القضاء على الجوع عقب نهار برد وعمل مرهق. وجوههم مستبشرة. يبدو أن وجهها يقول شيئًا ما، فها هو محمد فتحي زوجها يتساءل: ما لك؟
قالت وهي تبتسم: يوم بارد كئيب.
فقال محمود ضاحكًا: ولكن طعامك لذيذ.
ها هم حولها، زغلول رصين لدرجة البرودة، حتى ليوصف بأنه إنجليزي … ذقنه مدبب وعيناه جاحظتان قليلًا ورأسه كبير بشكل ملحوظ. عاقل جدًّا، شغَّال جدًّا، محترم جدًّا، مترفِّع عن المهاترات، ربما أخطأ أحد أخويه في حقه ولكنه لا يخطئ، حتى المزاح البريء لا يميل إليه. رمضان كبير القسمات واضحها، عملاق في حجمه، مارس الملاكمة والمصارعة، ولكنه والحق يقال مهذب، غاوي مناقشة ولكن المناقشة تهمه أكثر من الرأي نفسه، مغرم بالقراءة، يود أن يتفوق على زغلول نفسه، محمود أجمل الثلاثة وجهًا، ممشوق القوام، محب للأناقة والغناء، طيب القلب وحيي وذكي وصديق لزغلول. الأول طالب طب والآخران يحلمان باللحاق به وتَعِدُ قدرتهما بذلك. من منهم؟ سلوكهم آية في الاستقامة، لا تتخيلهم في صورة أخرى حتى لو كانت ظروفهم المادية أحسن. ثلاثتهم يصلون ويصومون بلا إثارة من تعصب أو هَوَس. متوجون بالتهذيب والاعتدال والنشاط. لا تتصور بحال أن الجاني أحدهم ولكن وساوسها لا تنام. الأب لا يدري بما يمزقها. إنه يتناول طعامه في صمت وتركيز، عملاق أيضًا، شاربه الغليظ يتحرك فوق شفته تحية لأجيال خلت. عما قليل يشاركها همومها. إنه مثلها ذو ضمير، ومثلها أسهم في تربية الثلاثة. ما جدوى ذلك كله؟ متى يجود القدر بالبراءة والراحة؟!
•••
لم تسنح الفرصة لإثارة الموضوع إلا عندما جمعتهما حجرة النوم للقيلولة. تبيَّن لها أنه كان يراقبها أكثر مما قدَّرت فسرعان ما قال بجدية: جمالات، لست كعادتك.
فقالت بنبرة اعتراف: ملاحظتك في محلها تمامًا.
رنا إليها متسائلًا في اهتمام وهو يشعل كليوباطرة، فقالت: زارتني اليوم أم عنايات وأخبرتني أن عنايات هربت قبل الزفاف!
ردد قولها ببطء وهو يغوص فيه بحذر وإشفاق. تبادلا نظرة طويلة مثقلة بالشك، ولكنه لم ينبس، فقالت جمالات: أنت تدري كيف يفسرون ذلك في القرية، ولعله التفسير الوحيد المقبول، وهو يعني أنها ستظل عرضة للقتل في أي وقت، وأنها في جميع الأحوال قد ضاعت …
فتساءل كالمتهرب: لعلها أملت أن تجدها عندنا؟
– قالت ذلك …
– تفكير غير سليم.
– إنها تتصرف بوحي من اليأس ولكن يوجد اعتبار آخر!
– اعتبار آخر!
– محمد، يضايقني تغايبك في المآزق، ثمة اتهام موجَّه لبيتنا …
فتمتم بقلق: ساء ظنها.
واضح من نبرته أن الهم قد ركبه، إنها لم تعد وحدها، قالت: هذه المآسي محتملة الحدوث كما تعلم.
فقال بصوت ضعيف: الأولاد عقلاء.
– وهم أيضًا مراهقون.
– إنهم نماذج طيبة جدًّا لجيلهم.
– ولو.
فتساءل بقلق: ماذا عندك؟
– لا شيء على وجه اليقين.
– أحيانًا ألمح وقوفهم في النوافذ ولكن ماذا نتوقَّع؟
– طبعًا توجد بنات الجيران، إني أقنع عادة بإرشادات عامة أضمنها حديثي وكأنها غير مقصودة لذاتها.
– عين الصواب، هل علموا بالمأساة؟
– كلا بعد.
– هل يجدي النبش والتحقيق؟
– لا أردي.
أطفأ الرجل سيجارته وتساءل بضيق: ألا يمكن أن ننسى الموضوع؟
رغم أنها تمنت ذلك إلا أنها قالت: المسكينة أهدرت حياتها.
– ليس في وسعنا أن نفعل شيئًا، هل في وسعك ذلك؟
– ليته كان ممكنًا، المساعدة غير ممكنة، ولكنَّ الراحة أيضًا مستحيلة …
– افترضي أنك عرفتِ الجاني فهل يهبنا ذلك أملًا جديدًا؟
– من العدل أن يعرف ما جنته يداه …
صمت متفكِّرًا ثم قال: يا له من كابوس!
– هو ذلك تمامًا.
– فنفخ قائلًا: لا داعي لأن نسبق الحوادث …
فقالت بإصرار: بل يجب أن يعرف الأمر، أن يعرف الخبر على الأقل …
– إنك تنبشين عن المتاعب.
– لقد وُجِدتْ رغمًا عن إرادتي …
فقال مقطبًا: اعتمدي في ذلك على نفسك!
– أنت تحاول الهرب.
– هربت أم لم أهرب ستدركني الحوادث حيث أكون.
فقال بوضوح: فلنؤجل الحديث إلى عطلة الجمعة.
٤
وجاء يوم الجمعة. تبدَّى محمد قلقًا كئيبًا، أما جمالات فكانت أقدر على حبس انفعالاتها. وعقب الإفطار تهيأ الإخوة إلى حفلة الساعة العاشرة بالسينما. وبصوت مرتفع قالت جمالات مخاطبة زوجها: زارتني أم عنايات التي تركتنا لتتزوج من ابن عمها، وأخبرتني أن البنت هربت قبل الزفاف.
انتبه زغلول ورمضان ومحمود باهتمام، اتجهت أبصارهم نحو أبيهم وهو يتساءل متجنبًا نظراتهم: هربت؟ ما معنى ذلك؟
فقالت جمالات: لا معنى لذلك في القرية إلا أنها هربت لتخفي عارها!
وحلَّ صمت ثقيل حتى قال زغلول: ربما وُجِد وراء ذلك سبب آخر.
فسألته أمه: أي سبب؟
– لعل العريس لم يعجبها.
– هذا يحدث في السينما.
فقال رمضان: أو هربت مع آخر.
– لو صح ذلك لعُرف في الحال، وعلى أي حال فستظل مهددة بالقتل.
فتساءل محمود: ما زالت تلك التقاليد مرعيَّة؟
– وستظل مرعية طويلًا.
فقال زغلول: يا له من سوء حظ، كانت بنتًا طيبة …
فقالت جمالات: الطيب عُرضة للخداع.
أدركت جمالات أنهم يشعرون تمامًا بالتهمة المعلقة فوق رءوسهم. قال رمضان: نحن لا ندري شيئًا عما يحدث في الخارج.
فقالت جمالات بقوة: ما يحدث في الخارج يتردد صداه في الداخل!
فتساءل محمود: ماذا تعنين؟
فهدأت نوعًا وهي تقول: أعني أن … أعتقد أن البنت بريئة …
– إذن فلماذا هربت؟
إنه هو الذي يحقق! على ذلك تمنت من الأعماق براءتهم. وتمتمت: الله أعلم!
وضاق صدر زغلول بالمناقشة فنهض وهو يقول: صدقت، إنه أمر مؤسف ولكن ما الحيلة؟ وقد آن لنا أن نذهب …
ولما خلا لهما المكان نظرت إلى زوجها قائلة في عتاب: لم تتفوه بكلمة.
– إني حزين، هل أفادك ما فعلت؟
– هو الواجب.
– هل خرجت بانطباع ما؟
– يلوح لي أنهم أبرياء.
– أرجو ذلك.
– مضت ترفع أواني الطعام وهي تقول: عيبنا أن لنا ضمائر.
فقال بسخرية: أفنينا العمر في تربية الضمائر.
فرجعت من المطبخ وهي تقول: يقال إن زماننا بلا ضمير.
– في كل عصر مضى قال عنه أهله ذلك.
– أتعني أن الضمير خرافة؟
– كلا، ولكنه درجات، وأرفعه شأنًا الضمير الذي يردف القول بالعمل فهو نادر جدًّا في كل عصر، هبي أنك عرفت أن ابنًا من أبنائك هو الجاني فماذا كنت تفعلين؟
فتساءلت متحدية: هل تتوقع أن أبلغ الأمر للشرطة؟
– دعينا من الأساطير.
– توجد سبل كثيرة للتكفير عن الأخطاء أو إصلاحها.
– إنها تتطلب قدرًا كبيرًا من الشجاعة.
– أعلم ذلك …
– عظيم.
– لكن شعوري يحدثني بأنهم أبرياء.
فتمتم بسخرية: إنك تنشدين الراحة.
فقالت بحدة: كلا …
فقال متنهدًا: ثمة أناس يولدون للضياع.
– لعلك تشير إلى دور المجتمع؟
فهز رأسه بالإيجاب، فقالت: نحن ننشد الراحة بأي سبيل.
فقال في ضجر: إني مغتم من أجلهم قبل كل شيء.
– وأنا مثلك، ولكنني مغتمة من أجل البنت أيضًا …
– لست وحشًا كما تعلمين، أأنت واثقة من براءتهم؟
– أين مني ليت؟!
– هل نمضي إلى الأبد على هذه الحال الجنونية؟!
فصمتت جمالات في غاية من التعاسة ثم تمتمت: ليتنا نعثر عليها لنفعل ما نستطيع من خير.
٥
المتاعب الطارئة — رغم حدتها — تهون إذا انتظمتها سلسلة المتاعب القائمة. إنها تصارع كل يوم متاعب اللحوم والمواصلات والتليفون والمجاري، فأوشكت أن تألف مأساة عنايات. غير أن أم عنايات رجعت ذات ضحًى. ولم تكن وحدها، فها هي تسوق أمامها عنايات نفسها! يا لها من مفاجأة فجرت الأزمة كأعنف ما يكون الانفجار. اجتاحتها انفعالات متضاربة. تجهَّم المستقبل — مثل السماء — بالسحب. ها هي عنايات أمامها كما تمنَّت، ولكن أي ازعاج أثارته! رغم كل شيء رحبت بهما قائلة: الحمد لله!
قالت الأم: أولاد الحلال دلوني عليها، فررت بها لأنقذها من الموت، ولم أجد لها مأوًى آمَن من بيتك!
حاولت أن تقرأ شيئًا وراء الوجه المدبوغ، ولكنه بدا جامدًا لا يبين. إنها محاصرة. لا تستطيع أن ترفضها ولا تود أن تقبلها. قالت: سيهتدون إليها هنا …
– آخر مكان يتصورون وجودها به، فضلًا عن ذلك فهم يجهلونه، لا ترسليها إلى الخارج، قلبك كله رحمة يا ست …
نظرت إلى عنايات فأجهشت في البكاء. ذبل جمالها واتسخ. وهي خجلى تعيسة لا تستطيع أن ترفع عينيها. وسحبت جمالات الأم من يدها إلى المطبخ، ثم قالت لها بحزم: أريد أن أعرف ما تعرفين.
فقالت الأم بحرارة: لا أعرف شيئًا.
– تمكرين بي؟
– لم يكن لديَّ وقت، تسلمتها وطرت بها قبل أن ينتبه إلينا أحد.
– ولكنك قرَّرتها؟
– أبدًا وحياتك.
فقالت بإصرار: لا أقبلها حتى أعرف.
فتساءلت الأم بانكسار: هل ترسلينها للموت؟
فلعنتها في سرها وقالت: ستُحمِّلني من الهم ما لا يطاق.
– ربنا ستار وقلبك كله رحمة.
فقالت بوضوح: إذا أزعجنا أحد من القرية فلن أسمح بأن أجعل من بيتي مسرحًا لمعارك.
فقالت الأم بيقين: لن يكون ذلك.
وسرعان ما غادرت الأم البيت وكأنها تفر.
٦
جلست جمالات في المدخل وعنايات قاعدة على الأرض بين يديها. قالت لها: لا شك تذكرين رعايتي لكِ؛ لذلك لم أُصدِّق.
فأحنت رأسها ولم تنبس فقالت: طبعًا هربت لسبب، ما هو؟
ثابرت على صمتها فقالت جمالات: ليكن الأمر كما ظنوا، صارحيني مَن هو؟
غاصت في الصمت أكثر.
– يجب أن أعرف، هذا ضروري جدًّا لإنقاذك.
– راحت تنشج، فقالت جمالات: لا … تكلمي … لا بد أن أعرف.
بإزاء إصرارها همست عنايات: لا أحد.
– إذن لماذا هربت؟
– لا أريد أن أتزوج.
فقالت بريبة: لكنه زوج مناسب.
– لا أريده.
– تحلفين على ذلك؟
هزت رأسها بالإيجاب: توجد أكثر من وسيلة لمعرفة الحقيقة.
فلم تنبس، فقالت بحدة: كذبك واضح، أريد الحقيقة يا عنايات …
فرجعت تهمس: لا أحد.
– لعلك تحبين رجلًا آخر؟
هزت رأسها نفيًا، فهتفت جمالات: إنك تعبثين بي يا بنت.
فنشجت مرة أخرى.
– كفِّي عن ذلك، أريد الحقيقة، لماذا تخفينها، لقد ربيتك مذ كنت بنت سبع، أنسيت ذلك؟
فغمغمت بانكسار: لا أحد.
– ما عيب عريسك؟
فلاذت بالصمت.
– أهو عجوز؟
هزت رأسها نفيًا: أليس ابن عمك؟
فهزت رأسها بالإيجاب.
– هل به عيب؟
فلم تنبس، فصاحت: أقلعي عن هذا الخرس، أنا لا أصدقك، ولا بد من الحقيقة.
ولكنها لاذت بالصمت ونشجت للمرة الثالثة، فحنقت عليها متمنية في الوقت نفسه أن تكون صادقة. تساءلت: إذن لم يعتدِ عليك أحد؟
فهزت رأسها بالإيجاب. تتمنَّى أن تصدقها، ولكن من أين لها اليقين؟ ورأت الاكتفاء بهذا القدر من الاستجواب مؤقتًا. قامت وهي تقول: خذي راحتك ونظِّفي نفسك والله يتولانا برعايته.
٧
رجع الرجال إلى البيت فتناولوا غداءَهم. الشقة باردة مثل الخارج أو أكثر، ولكن إحكام إغلاق نوافذها حماها من عواصف أمشير، فلم يقتحم الداخل إلا زفيف رياحه. هذا البيت لا يحب الشتاء وخاصة أمشير. توارت في أثناء ذلك عنايات في المطبخ، فلم ينتبه لوجودها أحد. وطيلة الوقت جعلت جمالات تتأهب لإلقاء الخبر. رددت في أعماقها بإصرار «لا أحد». حل سعيد لم يجرِ لها في بال. لمَ لا؟ البنت بريئة ولأمر ما كرهت الزواج فهربت. إنه لا يصدَّق ولكنه غير مستحيل. لعلها تحب شخصًا آخر. إن صح تخمينها فهي تحب صبي الكوَّاء، فهو شاب وسيم ويخطر عادة في البلوفر والبنطلون. وبعد الفراغ من الطعام مضت إلى حجرة الجلوس وهي تشير إليهم أن يتبعوها. جلسوا على الكنب العتيق. توقَّعوا أمرًا، وقال محمد فتحي الأب: لو تمطر السماء يصفو الجو وتهدأ العاصفة.
نظرت صوب التلفزيون والراديو الصامتين فوق حاملهما الخشبي، وقالت ببساطة: عنايات هنا …
شخصت الأبصار. شخصت إليها باهتمام واضح. باتت عنايات بؤرة الإثارة وهدفها. ولم ينبس أحدهم بكلمة. انتظروا المزيد بوجوه مفصحة عن الاهتمام وحده. قصت عليهم قصة رجوعها وخطة أمها، ثم قالت بارتياح: حققت معها فأسفر التحقيق عن لا شيء، زوبعة في فنجان كما يقولون …
تساءل محمد فتحي: ماذا تعنين؟
– لا جناية ولا جانٍ …
تمطَّى الصمت حتى شمل الكون، تساءل الأب: لمَ كان الهرب إذن؟
فأجابت بسخرية: العريس لا يعجبها!
– هل يصدِّقونها هناك؟
– ما زالت حياتها معرضة للخطر، ولعلها معلقة بشخص ما. لعله صبي الكوَّاء، سأعرف كل شيء في حينه …
تمتم الأب: عادت المشاكل إلى بيتنا!
– قد تتزوَّجه وينتهي الأمر.
فقال الأب بامتعاض: كان من الخير ألا نقبلها.
– لم يكن بوسعي أن أطردها إلى الموت.
– قد يسعى إليها الموت هنا …
– إذا تزوَّجت انتهى كل شيء بسلام.
وقلَّبت عينيها في الوجوه ثم قالت: لقد تصرفت في نطاق ما نؤمن به من مبادئ، فلا تلمني.
٨
عاشت جمالات في قوقعة الطمأنينة قانعة بمصارعة المعيشة. رغم كل شيء تابعت عنايات بعين يقظة. لبث في أعماق قلبها شك مثل دودة خفية. كلما حاولت استدراجها سمعت عبارة عنيدة «لا أحد». اضطرت مرة إلى أن تسألها: لعله صبي الكوَّاء؟
فهزت البنت رأسها نفيًا.
– هل ترفضين الزواج إلى الأبد؟
فلم تحِرْ جوابًا ومضت في عملها. وكانت عنايات تنام في الطرقة المؤدية إلى المطبخ فوق شلتتين متلاصقتين تحت بطانية خشنة. ومرة في جوف الليل وجمالات راجعة من الحمام تلقَّت من إحساسها رسالة خفية بأن الطرقة تموج بحياة حذرة مكتومة. توقَّفت وأطفأت النور وذابت في الظلام بقلب خافق. أشفقت من الإقدام وعجزت عن الذهاب. امتلأ رأسها بأفكار مثل الظلام. هل يمكن أن يتسلل أحد من الخارج وهم نيام؟ أي شيطانة! وأي تعاسة تقتحمها من جديد! وقبل أن تتخذ قرارًا رأت في الظلمة التي ألفتها عيناها شبحًا يتسلل من مدخل الطرقة ماضيًا نحو حجرة الأولاد. تلاشت أحلامها تحت صاعقة الحقيقة. صاعقة محقت أي أمل. جسَّدت الاتهام وقذفت به في وجهها. تركته يذهب وهي مشلولة تمامًا. لم يهُنْ عليها تفجير الفضيحة ولا إرعابه ولا حتى مواجهته. ثمة طرق أخرى توصِّل للحقيقة. وسوف توصل الحقيقة إلى الجنون. وبلا تردد اتجهت نحو الطرقة. أسدلت ستارة مدخلها وأضاءت المصباح. فتحت عنايات عينيها فزعة ولم تكن نامت بعد. نهضت مرتعدة ووقفت مستسلمة للأقدار. حدجتها جمالات بنظرة صارمة وسألتها: مَن؟
ولمَّا ترددت لطمتها على وجهها قائلة بانفعال شديد: انطقي …
فاندفعت تهمس في فزع: زغلول!
– يا للداهية! يأبى الداء إلا أن يصيب مقتلًا. اضطربت أنفاسها.
– زغلول!
لاذت بالصمت منهارة تمامًا: هو الجاني؟
هزت رأسها نفيًا … ما معنى هذا.
– ليس هو؟
أحنت رأسها بالإيجاب.
– مَن الآخر؟ انطقي …
وهزتها بعنف مكررة: انطقي …
فهمست: سيدي محمود …
– عرفت الاثنين في وقت واحد؟
فصمتت، ولكنه الصمت المغني عن الجواب … فتساءلت الأم: وهل يعلم أحدهما بما يفعل الآخر؟
هزت رأسها نفيًا، ثم قالت بنبرة باكية: على رغمي … لم أستطع صدهم … جاءوا كلهم …
– رمضان أيضًا؟
– نعم … على رغمي …
– أنت فاجرة!
بسطت راحتيها في يأس وأجهشت في البكاء.
٩
لما رجعت إلى الحجرة وجدت محمد فتحي يغطُّ في نومه. على ضوء المصباح السهاري رأت الساعة تدور في الواحدة صباحًا. لن يغمض لها جفن ولكنَّها أشفقت من إيقاظه. انتظرت في عذابها حتى الفجر ثم نادته: معذرة، عليك أن تشاركني سهادي …
فتح عينيه ثم تساءل: ماذا أيقظك؟
– إني في حاجة إليك …
طار النوم وحل محله قلق ثم تساءل: الموضوع نفسه أم شيء جديد؟
– نفسه!
تزحزح جالسًا وهم يتمتم: لم يطمئن قلبي أبدًا.
وصبَّت عليه الحقيقة صبًّا لتتخلص من قبضتها الخانقة حتى أسند رأسه إلى راحتيه وهو يقول: كارثة!
وتبادلا النظر في حيرة فتركها حتى تساءلت: كيف نتصرف؟
– ليتك ما سمحت لها بالبقاء؟
– ما كان ذلك ليخفف من الجريمة.
وإذا به يقول في خشونة: جمالات، الكلام عن الأخلاق شيء والسلوك الأخلاقي شيء آخر تمامًا، وقد حرصنا طيلة عمرنا على الاستقامة، فلم يرسب في تاريخنا ما نخجل منه، وأنشأنا أبناءنا على مثالنا.
فتساءلت في أسًى: وما النتيجة؟
– لم تصادفنا تجربة بهذه القسوة، كيف نتصرف؟ لنكن واقعيين، لقد وقعت جريمة ولكن لن نعدم لها الأعذار الطبيعية المناسبة.
– ليكن، ولكن المهم في تصرفنا بعد ذلك.
فقال بنبرة لم تخلُ من غيظ: هذا صحيح، فما التصرف الصحيح؟ إنه واضح، وهو أن يتزوج محمود من البنت التي شاركه فيها أخواه وهم لا يعلمون، بذلك نسترها ونكفر عن خطيئتنا وننقذها من الموت، فهل أنت قادرة على الحل الصحيح؟
أرخت جفنَيها في ذل وانكسار، فقال: هذا هو الواجب، الكلام سهل أما الواجب فهذا هو، وهو كفيل بهز مستقبله ويجعلنا مضغة أفواه المحبين قبل الكارهين، إني أعرف تشددك وتقواك، عظيم، افعلي ما ترينه صوابًا …
ها هو يلقي عليها الحمل. كأنما يتحداها. يخيِّرها بين الذل والجريمة. وهي تمقت الجريمة ولكنها تجزع أمام الحل الصحيح. هذه هي الحقيقة التي تصفعها. وعوضًا عن الإجابة دمعت عيناها. ولم يتراجع عن خطه فقال: ما جدوى الدموع؟ القرار عسير، خذي مهلة كافية للتفكُّر …
فقالت بصوت ضعيف: الأمر لا يخصني وحدي.
فقال بلا تردد: إن أردت رأيي فاعلمي أني رجل واقعي كما أني أخلاقي.
فانتظرت في امتثال، فقال: ممكن أن نزوِّجها من ابن الحلال بعد اتخاذ الاحتياطات الطبية الواجبة.
صمتت مغلوبة على أمرها، ولم تخلُ من سخط عليه وعلى نفسها معًا. وشعرت بخجل كإنسان جُرِّدَ من ملابسه فجأة. أما محمد فواصل قائلًا: لا مفر في هذه الحال من إبقائها حتى نبلغ بها بر السلامة، ولكن عليك أن تخترقي الحاجز بينك وبين الآثمين.
– ألا تقوم أنت بهذه المهمة؟
فقال بحسم: بل أنت، والأفضل أن تزعمي لهم أنني لم أعرف شيئًا.
– لماذا؟
– هو الأفضل …
– فتفكَّرت وقتًا ثم قالت: إنه الحل الممكن، ولكنه ليس الأمثل، أمرنا لله، وهو سيعرِّينا جميعًا نحن وأبناءنا ويفضح ضعفنا الحقيقي …
– سيدركون أننا نضحي بالسلوك النقي من أجل مصلحتهم.
– وسيدركون أيضًا أننا كاذبون، صناعتنا الكلام لا أكثر ولا أقل …
فتساءل في عصبية: أليسوا المسئولين عن الجريمة؟
– ونحن المسئولون عن الحكم.
فقال بضيق: تصرفي إن استطعت على مستوى مبادئك.
فهتفت: كأنما تسعى لإذلالي …
فخفف من نبرته قائلًا: معاذ الله، كلانا غارق في مصرف واحد!
وتبادلا نظرة خلت من الروح والثقة وأُترعت بالأسى.
١٠
الصباح يفتتح يومًا مفعمًا بالمعاناة. ما زال البرد قارسًا والرياح عاصفة. وتنظر من وراء زجاج النافذة المغلقة فترى الطريق ممتدًّا حتى المنعطف، لا شجرة به، الريح تنشر الزبالة فوق أديمه، وجه الطوار متشقق متعدد الفجوات، والناس يترنحون هنا وهناك. لقد انصرفوا جميعًا، وعنايات تعمل في المطبخ، وهي تفكِّر في المواجهة التي ستتم بينها وبين أبنائها منفردين، إنها الكآبة والحرج. وكانت بدأت بالبنت فقالت لها بحزم حاد: حذار أن تذعني لأحدهم، كفى ما كان، وسنجد لمشكلتك الحل المناسب …
من آن لآخر جعلت تراقبها وهي منهمكة في عملها. ترى ماذا يدور في رأسها؟ تبدو خالية البال كأن الموت لا يتهدَّدها. بل أخذت النضارة تلوح في وجهها الأسمر ووجنتيها البضَّتين. كما رثت لها حنقت عليها. مأساتها مأساة من يواجهن الحياة بلا مال ولا عِلم. وتذكَّرت ضيقها إزاء الغلاء المتصاعد وكيف تهبط أسرتها درجة بعد درجة. إنها تلبي طلبات الأبناء بنسبة لا تزيد عن خمسين في المائة، ولولا جديتهم وتسلط روح العمل عليهم لانفجرت أزمات وأزمات.
وهي تمر بالبنت قالت هذه: ستي.
فتوقَّفت متسائلة، فتساءلت البنت: هل تريدين أن أذهب؟
فقالت بعصبية: لم أقل ذلك قط.
فتمتمت: أشعر بأني غير مرغوب فيَّ …
– انتبهي لعملك ونفِّذي ما أوصيتك به.
اتجهت إليها بكل جسمها وقالت بصوت منخفض: عرضوا على أمي أن أعمل في شقة مفروشة!
يا لها من مفاجأة. تساءلت في استنكار: ألا تفهمين ما يعنيه ذلك؟!
فقالت بصراحة لم تتوقَّعها: لن يكون أسوأ مما أنا فيه، ويمكنني أن أقتصر على السهر في الشقة!
وقالت جمالات بامتعاض شديد: سنجد لك مصيرًا أحسن!
فقالت بصوت حزين دل على أنها ليست خالية البال كما بدت لعينيها: لا يوجد لي مصير حسن!
عند ذاك دق جرس الباب فذهبت جمالات لترى من القادم.
وكان القادم هو محمود.
١١
– ماذا أرجعك؟
مضى بها إلى حجرة الجلوس وهو يشير: تخلَّفت عن المدرسة لأحدثك على انفراد.
أجلسها إلى جانبه، فجلست متوقعة أن تسمع اعترافًا و — ربما — حلًّا من نوع ما. قال: لا أستطيع أن أحتمل أكثر مما احتملت.
فنظرت إلى الأرض بوجوم رافضة أن تتظاهر بما ليس فيها، فقال: الموضوع يتعلق بعنايات!
فلم يتغير من حالها شيء، فاعترف قائلًا: لقد كذبت عليك، هناك اعتداء وأنا المعتدي …
وتفرَّس في وجهها ليرى أثر كلامه ثم قال: أدرك الآن أنك عرفت الحقيقة.
– أجل.
– شد ما تعذَّبت عند سفرها مع أمها، لن أغفر لنفسي تقاعدي عن مساعدتها، كان الموقف أكبر من شجاعتي، وتضاعف العذاب عندما علمت بهربها …
فقالت بهدوء: لا يداخلني شكٌّ في ذلك.
– أعتقد أن والدي يعرف أيضًا.
– نعم.
– إنها تنتظر أحد مصيرين، الموت أو السقوط.
– ربما يوجد طريق ثالث.
فتساءل بلهفة: ما هو؟
– أريد أن أستمع إليك أولًا.
فتردد قليلًا، ثم قال: نحن قوم ذوو ضمائر حية.
– هذه هي المشكلة.
فتشجع قائلًا: الواجب يقضي عليَّ بأن أحميها حتى أتزوج منها …
خفق قلبها منذعرة وسألته: هل تدري ما يعنيه ذلك؟
– طبعًا بكل أبعاده، وأدري أيضًا ما يعنيه الغدر، وقد لُقِّنت على يديك — ويدي أبي أيضًا – مبادئ لا يجوز أن تُنسى.
انحبست الاعتراضات في حلقها وتورَّد وجهها حياءً، أما هو فتساءل: أليس كذلك.
فلم تجد بدًّا من أن تقول: بلى.
وجفلت من أن تشير له إلى ما تم الاتفاق عليه بينها وبين محمد فتحي، فرددت في نفسها «إذا بليتم فاستتروا». سيقع ما كانت تحذره إلا إذا انبرى أبوه لإنقاذ الموقف. تخيَّلت عنايات زوجة لمحمود وأمها حماة له فغاص قلبها في صدرها. غاص قلبها رغم أنها تتذكر تمامًا أن جدتها لأمها لم تكن ترتفع درجة واحدة عن أم عنايات، وأن جد زوجها كان فرَّاشًا في مدرسة! وإذا بمحمود يقول: ولكن توجد مشكلة أخرى.
حدجته بنظرة مستطلعة، فقال بحياء وتلعثم: إني في حكم الخاطب.
– خاطب؟!
– يوجد اتفاق لم يُعلن بعد بيني وبين فردوس سمير جارتنا.
ذُهلت جمالات حقًّا. إنها تعرف فردوس، كريمة المرحوم سمير المعلم، وهي صديقة حميمة لأمها جارتها منذ ربع قرن. أسرة طيبة ومحترمة، بِكْريُّها طبيب في الأرياف، وفردوس فتاة تكبر محمود بخمسة أعوام، لم تتم تعليمها، ذات ثروة محترمة، ولكنها سيئة الحظ لأنها عاطلة من الجمال، لا حظَّ لها منه رغم أناقتها المبالغ فيها، كما أنها تترك في نفس محدثها ما يثير السخرية لتصوُّرها أنها محدثة لبقة واسعة الاطلاع. سألته بدهشة: هل تحب فردوس؟
فقال بمزيد من الحياء: المسألة أنني استجبت لتوددها، لم أدرِ كيف أرفضها …
– يا لها من خطوبة غريبة!
– والأدهى من ذلك …
وتوقَّف مرتبكًا فتساءلت: هل يوجد ما هو أدهى من ذلك؟
– تورَّطت معها …
فقاطعته: يا خبر أسود …
– لا أعني ذلك، أعني أنني اقترضت منها بعض النقود.
فكررت في عصبية: لا أصدق أذنيَّ …
– قروض اضطررت إليها …
– ما مقدارها؟
– الحق أنها مستمرة!
– مستمرة؟! أأنت في حاجة إلى ذلك؟
– ماما، كيف غاب عنك ذلك؟
– نحن نشقى لنوفر لكم حياة كريمة.
– أعرف ذلك، ولكن لولا نقود فردوس لأرهقتنا المعيشة إلى درجة عدم الاحتمال أنا وزغلول ورمضان.
– يا للمصيبة، أهما شريكاك في ذلك؟
– نعم …
– ألم يعترض أحدهما؟
– لقد شجَّعاني على ذلك.
– شجَّعاك على خداع بنت سيئة الحظ لسلب نقودها؟
فبادرها بحرارة: ليس في الأمر خداع، صدقت نيتي على الزواج منها في الوقت المناسب، وقال لي أخواي إن المال ميزة مثل الجمال، وإن فردوس على خلقٍ ومن أسرة طيبة!
– يا للعار يا محمود، تخطب فتاة سرًّا لتنفق عليك!
– إنها قروض سأردها في المستقبل، ولولاها لحدثت لك أنت وأبي متاعب كثيرة …
ألصقت راحتها بجبينها وهتفت: إني في حاجة إلى طبيب …
فصمت مستسلمًا لوجوم كئيب حتى سألته: وكيف أخطأت مع الأخرى؟
– بلا إرادة … ولكنني أعترف لك بأنني أحب عنايات!
– ما شاء الله، وهل علم أخواك بجنايتك؟
– كلا.
– لعل لديهما حلًّا فريدًا!
– ماما، إني معذَّب، لا أستطيع أن أتخلى عن عنايات، كما أنه يعزُّ عليَّ جدًّا أن أهجرَ فردوس …
ونظر إليها في تعاسة مستوهبًا النصيحة، حتى ندت عنها ضحكة عصبية وقالت ساخرة: ما عليك إلا أن تتزوج من الاثنتين …
فقال بلهفة: يهمني جدًّا رأيك.
فقالت بحيرة: أمك احتارت واحتار دليلها! ماذا يقول لك ضميرك؟
– يملي عليَّ أن أكون إلى جانب أشد الاثنتين حاجة إليَّ …
– ومَن عسى أن تكون؟
– عنايات فيما أعتقد.
– ثم يقال إنك سرقت فتاة طيبة وخدعتها!
– أهون من أن أترك أخرى للموت أو السقوط …
– ستوجد على أي حال تضحية بفتاة بريئة …
وساد صمت ثقيل مرهق للروح حتى تساءل محمود: أليس هو الصواب يا ماما؟
فقالت بنفاد صبر: حسبي أنني ربيت ضميرك، وعليك أن ترجع إليه وحده!
١٢
هكذا انضاف إليها واجب ثقيل آخر هو مواجهة زوجها قبل مواجهة زغلول ورمضان. تذكرت أيامًا خالية حرصت فيها على الاستئثار بحل المشكلات. كانت مشكلات هينة حقًّا، أما اليوم فكم تتمنَّى لو أن زوجها كان أكثر إيجابية! وقد عاد زغلول ورمضان متعبين، ولكن مرحين أيضًا لا يدريان شيئًا عما يتجمع وراءهما من سحب، أما محمد فتحي فبدا وكأنه يتقدم في العمر. وتساءل رمضان عن تخلُّف محمود عن الذهاب إلى المدرسة، فأجابت أمه بأنه متوعك. وتناولوا الغداء في جو لم يفلح جهد في تبديد كآبته. وفي حجرة النوم قالت جمالات لزوجها: لديَّ مزيد من الأخبار المزعجة …
ورمته بالجديد منها بغير مبالاة. وراح الرجل يفكر ويضرب على كفٍّ بكف، ويقول: لن أدهش لو تكشَّف بيتي عن عصابة إرهابية للاغتيالات الدولية …
فسألته بوضوح: أتستطيع أن تقنعه باقتراحك الأول؟
فهز رأسه باقتضاب: كلا.
إنه لا يريد أن يتلقى درسًا في الأخلاق على ابنه وتلميذه.
– قالت: الحق إننا أصغر من الأخلاق التي نعلِّمها.
– أي حل الآن لن يعفينا من سوء السمعة …
– ما أكثر الخاطئين، ولكن ذوي المبادئ وحدهم هم الذين يدفعون الثمن …
فابتسم ابتسامة ساخرة ولم ينبس، فثارت ثائرتها وقالت: إنك تخجل من مواجهة ابنك باقتراحك …
– بل اقتراحنا، فقد وافقت عليه أنت أيضًا …
وكالعادة سارع إلى ملاطفتها، فقال بهدوء: لا ترهقي ذاتك بالندم، فلنطارد التعاسة معًا، المسألة أنه كان لنا حلم وتبدد …
لكن سخطها تمطَّى حتى شمل كل شيء. نالت عنايات أرقى نصيب منه، فهي التي — بضعفها لا قوتها — زلزلت الأسرة وعرَّتها. ونال زوجها نصيبًا لا يستهان به لضعفه وسلبيته. ولكنها لم تتجاهل أنها المسئولة عن ذلك. بقوة شخصيتها وذكائها حولته من شريك إلى أسير. وطالما سعدت بذلك واستمتعت بقوتها بلا حدود. اليوم تشعر بوحدتها، فتُنحي عليه باللائمة وتكيل له التهم.
١٣
رغم أن الغداء لم يهضم، والجو لم يهدأ ولم يلطف، فإنها لم تشعر بالبرد، بل شعرت بأن رأسها يشتعل، تمنت أن يهطل المطر. شارع العاصي يتحول في أعقاب الأمطار إلى برك ومستنقعات ومع ذلك تمنَّت أن يهطل المطر، وتلبية لإشارتها لحق بها زغلول ورمضان بحجرة الجلوس. رتَّبت في ذهنها ما يقال وما لا يقال وسرعان ما لاحظت أنهما لا يخلوان من قلق. لا مفر من أن يعلما بقرار محمود وبدواعيه. فيما يتعلق بعنايات وفيما يتعلق بفردوس. لن تشير من قريب أو بعيد إلى خطئهما أو خطيئتهما ولكنهما لن يتورطا فيها مرة أخرى دون حاجة إلى تنبيه. وفي تقديرها أن عنايات تحب محمود، وأن ضعفها وحده هو المسئول عن استسلامها لزغلول ورمضان. هكذا قصت عليهما قصة محمود وقراره. لمست اضطرابهما وضيقهما. تطايرا في الهواء رغم المحاولة المستميتة للتظاهر بالحياد والثبات والبراءة. وهي محيطة بأزمتهما بكافَّة أبعادها، بمشاعرهما نحو أخيهما الذي اعتديا على من ستصير زوجة له، ونحو النقود التي سيفقدونها لقطع العلاقات مع فردوس. لم تشعر نحوهما بعطف إذ رأتهما مستحقين للعقاب. ختمت قصتها بقولها: اعتدنا أن نناقش مشكلاتنا معًا.
وسأل زغلول: هل علم أبي بالقصة؟
– كان لا بد أن يعلم.
تبادلوا نظرات حائرة. قال زغلول: إنه قرار خطير جدًّا.
– أجل، ولكن هل عندك حل أفضل؟
لم يحيرا جوابًا، فقالت: علاقته بفردوس خطأ لا مبرر له وإنكما تتحمَّلان تبعة ذلك مثله أو أكثر.
فقال زغلول مدافعًا عن نفسه: كان صادق العهد في الزواج منها.
– ومسألة النقود؟
فقال رمضان بجرأة: لم نجد من الإنصاف أن نطالبكما بما تعجزان عنه.
فقالت بحدة: لم نقصِّر أبدًا.
– أجل، ولكن الممكن كان دون المطلوب.
– اعتقدت أنكما قادران على مواجهة الموقف بما يتطلَّبه من تضحية.
فقال زغلول: بذلنا ما نستطيع، أكرر أن القرار خطير جدًّا.
وإذا برمضان يقول: ماما، نحن لم نعد ندري بيقين ما الصواب وما الخطأ!
فتساءلت بانزعاج: ما معنى ذلك؟
– أصارحك يا ماما أنه بإزاء ما صادفنا من مشكلات تناقشنا — أنا وزغلول — في ماهية الأخلاق التي نشأنا عليها …
فسألته وهي تتفرَّس في وجهه: هل رابك منها شيء؟
– تساءلنا إلى أي درجة تصلح لهذا العصر!
فقالت بحدة: مدى علمي أنها تصلح لكل زمان ومكان!
فقال رمضان بأسًى: ما أكثر الذين يستهينون بها وينجحون!
فتساءلت بذعر: هل أقنعتم أنفسكم بأن النجاح هو كل شيء؟!
فقال زغلول بسرعة: كانت مجرد مناقشة استطلاعية.
فواصلت بحدة: تصوَّرا أن نقنع بطرد عنايات، والاستمرار في ابتزاز أموال فردوس حتى يتخرَّج ثم يفسخ الخطوبة، تصوَّرا ذلك!
– كانت مجرد مناقشات مثل لعب الشطرنج.
– لا أريد أن أختم حياتي باليأس.
– هذا مسلَّم به.
وقال رمضان في حيرة: لنا زملاء يخطئون بفكر متكامل، وهم يُرمَون كثيرًا بالانحراف، وطالما غُبِطنا لأننا لم ننحرف، ولكن من نحن؟
فقالت بإصرار: مبادئنا فوق الجميع!
– معذرة، أريد أن أقول إن طمأنينتنا لا تقوم على أساس، يوجد خطأ ما، لِمَ تلوح الحياة بهذه القسوة؟
– لذلك أسبابه، أحد هذه الأسباب الانحلال الأخلاقي.
فتمادى رمضان قائلًا: قد يقتل الإنسان دفاعًا عن نفسه!
فارتفع صوتها وهي تقول: المهم أن يكون على صواب، إنكم لا تقدِّرون تعبنا حق قدره، لقد عملت حتى اضطرني المرض إلى طلب المعاش، أبوكم يعمل عملًا مضاعفًا رغم انحداره إلى الشيخوخة، وتفوقكم ميزة لا يستهان بها فلِمَ الشك والانتهازية؟
فضحك زغلول تلطيفًا للجو وقال: ما زلنا عند حسن ظنك.
سخرت من قوله في نفسها ولكنها قالت: أشكرك، سيكون لنا عودة إلى الحديث، أما الآن فإني أفضيت إليكما بأخطر قرار اتُّخذ في أسرتنا حتى لا تفجآن به غدًا، فما رأيكما؟
وساد الصمت، وتبودلت النظرات، فقالت: حسبت الأمر لا يحتاج لتردد طويل؟
فقال زغلول: ليس التردد نتيجة للشك في صوابه ولكن إشفاقًا من عواقبه!
فقالت ببرود: قدَّرنا ذلك قبل اتخاذ القرار.
– عظيم!
– ماذا تعني؟
– إنه قرار صائب تمامًا.
لقد غادرتهما وهي مليئة بالشك والغم.
١٤
وجدت رب البيت نائمًا. لمحت فوق الكومودينو قارورة البريكتين فأدركت أنه استعان بالمهدئ ليهرب. ما أحوجها هي إلى حبَّة بريكتين! لا شك أن الضغط الآن يتصاعد مثل الجو العاصف حولها. استلقت على ظهرها تحت الغطاء. تحت سطح الماء الساكن تيارات تتلاطم في الأعماق. أسرتها أسرة مثالية ولكن على الورق فقط، وها هي تتمخض عن مفاجآت غريبة وقبيحة. زغلول ورمضان يتملَّصان من قبضتها. الجو الفاسد يتسلل إلى الداخل رغم النوافذ المغلقة. لا جديد في أن يختلف الناس في الصواب، المهم أن ينشدوه لا أن يطرحوه أرضًا. وآمنت بأنها لو خرجت من هذه الأزمة دون مضاعفات صحية فسوف تُكتب في المعمِّرات. ولبثت تعاني يقظة حادة، وترفض في الوقت ذاته أن تمد يدها إلى قارورة البريكتين، فلم تدرِ أنها غفت قليلًا إلا بفضل حلم رأته عن أمها. ولدى استيقاظها شد انتباهها شيء في الخارج. خارج الحجرة حركة وأصوات. ماذا يجري؟ زوجها ما زال يغط في نوم عميق. انسحبت من تحت الغطاء فارتدت الروب وغادرت الحجرة بسرعة. وجدت محمود في الصالة واقفًا شاحب اللون مرتجف الأطراف. حدست في الحال أن وجه الحقيقة الآخر كشف له عن بشاعته كلها أو بعضها.
– ماذا جري؟
ضرب جبهته براحته حتى خُيِّل إليها أنه سيحطمها. مضت به إلى حجرة الجلوس. أضاءت المصباح وحبكت الروب وقاية من برودة شديدة. جلست ولكنه لم يجلس. كررت السؤال، فجعل يذهب ويجيء، ثم قال: عرفت أشياء غاية في القبح!
– ما هي؟
– عنايات لم تكن ضحية كما توهمت ولكنها كانت داعرة!
– ماذا تعني؟
– كانت تعبث بثلاثتنا، أنا وزغلول ورمضان.
– اعترفت لك بذلك؟
– اعترف لي زغلول ورمضان ليحذراني.
آه … إنهما يقصدان إجهاض القرار. وهي تعرف بواعثهما. بعضها أناني وبعضها لا غبار عليه. ورغم إيمانها بأن عنايات مظلومة فإن باطنها لم يخلُ من دبيب راحة. وسألته: ماذا فعلت؟
– قَرَّرتُ الداعرة حتى أقرَّت …
– خفِّض من صوتك أو يصل إلى الشارع، هل دافعت عن نفسها؟
– تدعي أنها استسلمت على رغمها الفاجرة!
– اهدأ.
– فوق طاقتي!
– أرجو أن تنتظرني حيث أنت …
مضت إلى المطبخ.
لكنها لم تجد لعنايات من أثر.
ورجعت إلى محمود متسائلة: هل طردتها؟
فهز رأسه نفيًا، فقالت: لقد ذهبت.
١٥
انسرب الجو العاصف إلى القلوب. الإخوة — رغم الاعتراف المريح للضمائر — فقدوا شعورهم الطبيعي بالبراءة وعزة النفس. جمالات تدرك ذلك وتلاحظه بنفس مكلومة. الأمور الآن تناقش جهرًا، وها هو الأب وزغلول ورمضان يلحُّون على اعتبار الموضوع منتهيًا، أما محمود فقد تبعثرت ذاته. وضاعف من عذابها أنها في صميمها قد ارتاحت إلى اختفاء البنت وهي بريئة من دمها. ولاحظت أن زوجها لا يأبه لأحزان محمود ولكنه يتابعها هي بقلق. وقال لها وهو منفرد بها: لقد رضينا بالحل الصحيح الذي دلَّ على شرف الولد، ثم حصل ما حصل بلا تدخل منا، فلا مسوِّغ للحزن يا جمالات.
فقالت بوجوم: محمود ضائع تمامًا وسيخسر عامه الدراسي!
– خرج الأمر من يدنا ولم يعد في وسعنا شيء.
– لن يغسل ذلك ملابسنا القذرة.
فقال بضجر: فلنتركها للشمس والهواء.
وحدجته بعصبية قائلة: إني أحسدك!
فتغيظ وقال: إني أصرح بما في ذاتك أكثر منك.
فاصفرَّ وجهها من شدة الغضب وهتفت بكبرياء: إني ضمير حي لا يموت.
فهز منكبيه ولم ينبس. إنها واثقة من أنه يتجنب دائمًا مواجهتها في معركة حقيقية. في الوقت ذاته قد تعرت أمامه، بل تعرت أمام نفسها. وقال هو متراجعًا: جمالات، إني أواصل العمل بطريقة تهدِّد صحتي، اعذريني وكوني لطيفة معي ما أمكن.
وتساءلت في نفسها كيف تمضي الحياة إذا أصرت طوال الوقت على احتقار أسرتها ونفسها؟!
١٦
ولاحقت محمود في انعزاله لشعورها بأنه أحوج الجميع إلى الدواء، حذرته قائلة: مستقبلك، لم يبقَ لك إلَّا مستقبلك وهو في خطر.
بدا وكأنه لا يشعر بالخطر. أين حساسيته الشديدة وأين مرحه؟ قالت: يوم أمثالنا لا يقدَّر بثمن.
فقال لها بحزن: رضيت بالتضحية ولكني حُرمت منها.
– أثبتَّ حسن نيتك بلا أدني شك.
– ما الفائدة؟ سأظل المجرم الأول في حياتها.
– لنتركها لرحمة الله.
– الموت أو السقوط، هذا ما تبقَّى لها.
– لا شائبة تشوب ضميرك.
وتفكَّرت قليلًا ثم واصلت: ولا تنسَ أنك ملتزم بفردوس!
فتنهَّد قائلًا: كلا.
– كلا؟!
– لقد بادرت إلى إرسال خطاب لها قبل أن يكاشفني زغلول ورمضان بما خفي عليَّ.
– فسخت الخطوبة غير المعلنة.
– اعتذرت بظروف قاسية، وسجَّلت المبالغ التي اقترضتها، واعدًا بتسديدها عند الميسرة.
– وصل الخطاب إليها؟
– يصل اليوم أو غدًا.
– يا له من تصرُّف مرعب.
– ولكنه كان خيرًا من الاستمرار فيه.
– لم يعد كذلك الآن.
– لقد فات الأوان.
– ترى هل تمضي الأمور نحو الأحسن أو الأسوأ؟ قالت: على أي حال عليك أن تسترد صفاء ذهنك وقوة إرادتك لتواصل تقدمك الدراسي …
وتساءلت مرة أخرى تُرى هل تمضي الأمور نحو الأحسن أو الأسوأ؟!
١٧
وجاءت أم فردوس لزيارتها. ما أكثر الزيارات بينهما، ولكنها شعرت بأن هذه الزيارة غير عادية. وجاءت كالعادة أيضًا عصرًا وقد سفعت الرياح الباردة وجهها فاحمرت أرنبة أنفها. وهي تماثلها في السن، لا تخلو من وسامة؛ إذ كان من سوء حظ فردوس أن ورثت خلقة أبيها لا أمها. وغشي جو الزيارة ارتباك خفي وشى بأسرارها، وما لبثت أم فردوس أن قالت: أريد أن أحدثك كأخت.
فقررت أن تواجهها بالصراحة اللائقة فقالت: ما علمت بالأمر إلا منذ أيام قلائل!
– وأنا كذلك وإلَّا ما أخفيت عنك شيئًا.
– كنت سأسر، فردوس ابنتي كما أنها ابنتك، وهي شابة ممتازة، ولعلهما أخفيا الموضوع لشعورهما بأنه سابق لأوانه بعض الشيء.
فقالت أم فردوس بصوت شاكٍ: ولكنه انتهى نهاية غاية في السوء.
تنهدت قائلة: أعلم ذلك.
وبعد فترة صمت مشحونة بالانفعالات تساءلت أم فردوس: ما هي الظروف الخطيرة التي أوجبت القطيعة؟
– لقد صدق فيما قال.
– ألا ترين أنه من الضروري أن أعرفها؟
– بلى، ولكن فيما بعد.
– أهو قرار نهائي؟
فتفكَّرت جمالات مليًّا ثم قالت: أعدك بأنني سأبذل أقصى ما أستطيع.
فقرَّبت منها رأسها وقالت بصوت خافت: اعتبريها مهمة بالغة الأهمية، البنت حالها في غاية من السوء!
– أسفي فوق ما تتصوَّرين.
– إني واثقة من محبتك، وإليك اقتراحًا مستعدة أنا لتنفيذه حال موافقتك، وهو أن نزوِّجها الآن، فردوس غنية، وسيجد محمود في بيتنا مكانًا هادئًا ليتم تعليمه.
فوضحت الدهشة في وجه جمالات، فقالت الأخرى: فكرة وجيهة وحكيمة.
فقالت جمالات بعد تردد: محمود حسَّاس جدًّا!
– لكنه اقتراح لا غبار عليه.
فقالت جمالات بصدق: أعدك بأنني سأبذل أقصى ما في وسعي.
وهما يفترقان همست أم فردوس في أذنها: البنت حالتها سيئة جدًّا!
١٨
داخلتها رقة في غمار القلق والأحزان. اعتادت أن تحب فردوس منذ طفولتها. وهي تعطف عليها دائمًا لخلوها من الجمال ولقعودها في البيت دون أن تتم تعليمها. وهذا الزواج المقترح إذا تم فسيُفسَّر أسوأ تفسير، سيقال إنه زواج اليأس من ناحية العروس والطمع من ناحية العريس. ثم إن خطيئة محمود مع عنايات يمكن الدفاع عنها، أما ما ارتكبه مع فردوس فلا يمكن الدفاع عنه. وقد نبذ محمود عنايات باعتبارها منحلة، فلن تقف عنايات عثرة في سبيل الزواج. محمد فتحي قال أول الأمر: إنه قراره هو …
ولما ألحت عليه جمالات قال: فليتزوج منها، سيضمن مستقبله ويصلح خطأه …
فقالت جمالات متهكمة: ويخفف عنك بعض الأعباء.
فقال بتحدٍّ: عني وعنك.
زغلول قال: إنه موقف مناهض للرومانسية، ولكنه ليس مناقضًا للأخلاق …
وقال رمضان ساخرًا: مع السلامة، حل غاية في التوفيق.
إن ثقتها بزغلول ورمضان لم تتدهور، ولكنها لم تعد تفهمهما تمام الفهم، وعمَّا قليل ربما تلاشى التفاهم بين الجميع. ومن حسن الحظ أن محمود لم يعارض فكرة الزواج. لعلَّه يرى فيه إصلاحًا لخطئه أو تكفيرًا عنه. إن مثله لا تطيب له الحياة بلا تكفير. على ذلك قال لها: سيبقى في النفس جرح لا يلتئم بسبب عنايات …
سيبقى في نفسها أيضًا. لعل سر عطفها عليه أنه يشاركها العذاب، وأنه جاد في تحويل القول إلى عمل، ولكنه كان أيضًا الجاني الأول! فلتنتهِ هذه المحنة التي عرَّتهم جميعًا بلا رحمة. فلتنتهِ ليرجع إلى وسادتها النوم الهادئ وليخفَّ عنها الضغط. وإذا كانت لم تحظَ براحة ضمير كاملة فقد لُقِّنت درسًا في التواضع والأسى. وسرعان ما زفَّت البشرى إلى صديقتها الحميمة أم فردوس، وسرعان ما تم الزواج بلا تكاليف من ناحيتهم غير مؤخر صداق مقداره خمسمائة جنيه.
١٩
واشتدت الزوابع في أواخر الشهر غير أن جمالات قالت لنفسها إنَّ أمشير يلقي تحيات الوداع وعمَّا قليل يهل الربيع بالنضارة والبهجة. وإذا بالبوَّاب يقول لها وهي راجعة من السوق: عنايات تعمل في شقة مفروشة بالعمارة الجديدة عند الناصية …
ارتعد قلبها وغشيتها سحب الأكدار. إنها إحدى النهايتين، وهي تؤجِّل النهاية الأخرى — الموت — ولكنها تؤكدها. وقد ضاق محمد بالخبر ضيقًا شديدًا وقال: بوسعها أن تصون نفسها، فلن يرغمها أحد على الفساد.
أشفقت من التمادي في مناقشته غير أنها تمتمت: سيعلم محمود بذلك عاجلًا أو آجلًا …
فلوح بيده قائلًا: فليعلم، لن يغيِّر ذلك من الأمر شيئًا.
•••
وذات يوم رجع الرجل من عمله في ميعاده، ولكنه كان شاحب الوجه زائغ البصر. خفق قلب جمالات فشخصت إليه ببصرها دون أن تنبس. عند ذاك قال دون أن يشرع في خلع ملابسه: خبر سيئ جدًّا يا جمالات …
فغمغمت فزعة: اللهم احفظنا!
– محمود تزوَّج من عنايات وذهبا معًا!
فهتفت بصوت مبحوح: غير معقول.
– لكنَّه حصل …
– لقد انصرفت نفسه عنها بعد ما توكِّد له أنها …
قاطعها بنفاد صبر: لكنه حصل!
فتساءلت بذهول: وفردوس؟ ومؤخر الصداق؟
– واضح أنه لم يصدر في عمله عن عقل أو منطق.
– ومستقبله ودراسته؟
فقال بأسًى: لم تتح لي مناقشته!
– وكيف يعيش؟ كيف يواجه الحياة؟ هل وجد عملًا؟!
رفع الرجل منكبَيه في يأس وقال: لا معنى لهذه الأسئلة، التصرف جنوني لا سبيل إلى فهمه في نطاق العقل والمألوف.
وفرَّق بينهما صمت ثقيل فراح ينظر إلى صورة زفافهما المعلَّقة بالجدار نظرة خالية من الرؤية، على حين امتد بصرها من الزجاج المغلق إلى السحب الراكضة.