السلطان
١
من فوق قمة المقطم لاحت قمة القاهرة مثل خلايا النحل، بيوتًا وعمائر متلاصقة متلاحمة، تمرق من بينها المآذن والقباب، يغطِّيها الأصيل بستار رمادي نعسان.
توقَّف السلطان نوح عن متابعة السير، التفت نحو تابعة منصور وقال: اذهب، ثم عد قبيل الفجر.
ولكن منصور لم يبرح، وقف واجمًا حائرًا، فقال السلطان: اذهب فقد أزف ميعاد العبادة.
وأخرج منصور من عباءته بلطة يلمع الموت في نصلها. رمى بها تحت قدمي السلطان، وقال بحزن: كُلِّفت بقتلك يا مولاي!
فرمقه السلطان بذهول فواصل الرجل: كان المتفق عليه أن أتوارى حتى يجثم الليل ثم أزحف نحوك لأطيح برأسك!
فاصفرَّ وجه السلطان غضبًا مثل الشعاع الغارب، وتساءل: مَن؟
– الملكة!
– يا للشيطان! لها شركاء يا منصور؟
– القائد كرداش … والوزير عقبة …
– يا للفظاعة، قصر من الرمال، عاصفة من الظلم تبغي اجتياح رجل كرَّس حياته للعدل!
– إنه الطمع في أرزاق العباد يا مولاي!
استدار السلطان وهو يتمتم: لأنكِّلنَّ بالمجرمين!
فقال منصور بانكسار: لن تستطيع الرجوع يا مولاي!
– ماذا قلت؟
– عيونهم منتشرة، وخناجرهم مشهرة.
– ما أحب العباد سلطانًا كما يحبونني …
– لذلك دبروا مؤامرتهم ليزعموا بعد ذلك أنك اختفيت، فإذا رجعنا اكتشفوا خيانتي لهم فانقضُّوا علينا كالشياطين.
– أنهزم تاركًا رعيتي تحت رحمتهم؟
– اهرب … اختفِ تمامًا عن الأعين، لقد تظاهرت بخيانتك لأنقذك، دعني أرجع لأبشِّرهم بقتلك ودفنك!
فاشتد امتقاع وجه السلطان وراح يقول: الملكة، الأفعى، الجباه التي تنحني وهي مثقلة بالنفاق والغدر، الألسنة التي تلهج بالثناء وهي تنقع بالسم، الجسد الذي يذعن للحب وهو يتراقص فوق موجة من الفسق المضمر، كيف جرى ذلك كله من وراء ظهري؟!
فقال منصور بأسًى: ما أشد حزني يا مولاي!
– دع الحزن فما أملك الآن سواه، وسوف تفجر الطبيعة في غشاوته شواظًا من نار الغضب والانتقام.
– اختفِ يا مولاي، اذهب إلى أقاصي الصعيد أو إلى بر الشام، إليك هذه الصرة من الذهب!
لبث السلطان جامدًا وهو يتحوَّل إلى شبح تحت أهداب الليل فقال منصور جزعًا: لا وقت لديك، اهرب قبل أن يسعى إليك القدر.
فتأوَّه قائلًا: أودع الحياة بلا دفاع، أتطوع للموت، أهيم مطارَدًا بلا رعية، تاركًا ورائي رعية بلا سلطان، مفسحًا المكان للمجاعة والأوبئة.
أكب منصور على يد مولاه فبللها بدمعه، ثم غاص في الظلام.
٢
أقام السلطان نوح في أطراف المدينة فيما يلي المقابر. لم يكن يعرف وجهه إلا المقربون وقلة من الرعية الذين شاهدوه في مواكب المواسم، فتنكَّر ما وسعه التنكُّر واستثمر الذهب في تجارة الغلال، فكان يتاجر نهارًا، ويعتكف ليلًا ليتفكَّر في الانتقام من أعدائه أو ليواصل عبادته التي شغف بها أيام ملكه.
وتسربت أنباء اختفائه مثل رائحة يتعذَّر كتمانها. عمل المتآمرون على نشرها فمضت من لسان إلى لسان ومن حي إلى حي. وأنهاها إليه بعض عملائه من التجار. أما سمعت عمَّا يقال من اختفاء السلطان نوح؟ الناس حيارى محزونون يتساءلون، يقال إنه كان يمضي الليل متعبِّدًا فوق جبل المقطم، هل باغته وحش؟ هل اغتاله قاطع طريق؟ هل اعتزل في كهف مثل الرهبان؟ أمَّا عن أحزان الملكة وحيرة الوزير والقائد فحدِّث ولا حرج، ليتك ترى الناس وهم يتجمهرون في الطرقات؟ ما أشد الأسى على المحبوب الغائب!
ثم أُعلن النبأ بصفة رسمية فنادى به المنادون، ونُصِّب ولي العهد — ابن السادسة — سلطانًا، وعُين الوزير عتبة وصيًّا، كما عُيِّن القائد كرداش وزيرًا وقائدًا.
تلقَّى نوح الأنباء كالمطارق فوق رأسه. سمع نعيه على كل لسان. تبخَّرت شخصيته في الهواء. عاشر الموت وهو حي. عجز عن دفع زحفه تمامًا. من مات في وعي الخلق فقد مات. هذا هو الموت الذي بدا له غامضًا فيما مضى. ليست الحياة قلبًا يخفق أو دمًا يجري ولكنها معنى يتردد في وعي الناس. وقد مات نوح. ولم يعد التفكير في الانتقام مجديًا. لقد حل آخر محله فوق العرش، واغتصب غريب فراشه، وأدَّت رعيته ضريبة الحزن والدموع عليه. لم يعد لرجوعه معنًى. سيهدم عالمًا أعيد بناؤه وتكوينه. وها هي الأعوام تمضي مؤكِّدة موته، مقوِّضة لدنياه، ومن الخير له أن يبذل ليله كله للعبادة، وأن يسلِّم للمقادير، وأن يمهِّد طريقه إلى أعتاب الله ورحابه.
وجاءته أنباء جديدة ذات لون داكن ضارب للصفرة. لم يكن السلطان وحده الذي اختفى، ولكن ها هو طعم الحياة يتغيَّر، ووجهها يتجهم، يعسر ما كان يسيرًا، ويمر ما كان حلوًا، ويضن ما كان مبذولًا، ويغلو ما كان رخيصًا، والمعاملة تسوء، والشدة تضرب، والجبروت يستفحل، والظلم يغشى. ورجع الناس يتذكَّرون سلطانهم الفقيد، ويترحَّمون على عهده، ورجع نوح يشعر بالحياة تدب في أوصاله ولو في صورة ذكرى، ولكن فيضًا من شائعات مدبرة اجتاح العباد بغية تشويه سمعته. قيل إنه كان مهملًا، وإنه كان يتعبَّد على طريقة الرهبان، وإنه كان شاذًّا مدنَّسًا، وإنه جُنَّ جنونًا كاملًا حتى دعا أهل بيته إلى عبادته. وارتاب أناس في حقيقة ما يذاع، وصدَّقه آخرون، وحدثت بلبلة ضاعفت من محنة الشدة والبلاء. وجزع نوح واكتأب، لقد رضي بالموت، ولكنه عانى ما هو أفتك من الموت.
٣
وفي السنة الخامسة عشرة من اختفائه زاره صديق يدعى طالب. كان يلهث من الانفعال والبهجة، وسرعان ما ارتمى على أريكة وهو يقول: قلب المدينة ينبض ببعث جديد.
فسأله نوح بهدوء صار طبعه من طول التعبد: ماذا حصل لقلب المدينة؟
– ألم تعلم؟ السلطان نوح لم يمت …
– فاقتلع هدوءه اضطراب طارئ وتمتم: نوح لم يمت!
– إنه حي ويسعى بين الناس …
– مستحيل يا طالب.
– هي الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان!
– أرأيته بنفسك؟
– أجل.
– أكنت تعرف صورته من قبل؟
– طالما رأيته في الأعياد …
– ووجدته أنه هو هو؟
– بنصه وفصله! وقد تعرَّف عليه كثيرون …
– يا للعجب!
– وسرعان ما التفَّ حوله المظلومون …
– وماذا فعل السلطان الشاب «المتوكل»؟
– القتال محتدم بين الفريقين، بين المتوكل ونوح، وما زال رجال نوح يقاتلون في جماعات متفرقة، ولكنهم ينهكون جيش السلطان …
فتمتم نوح في حيرة: قتال بين الأب وابنه!
– الابن يزعم أن الآخر دجَّال دعيٌّ!
– ولكن نوح يعرف أن غريمه هو ابنه …
فقال طالب بحماس: في سبيل العدل يهون كل شيء!
٤
زُلزِلت نفس نوح فسلَّته من عزلة العبادة إلى خضم الدنيا. سمع اسمه يتردَّد على ألسنة العباد، سمع الحناجر وهي تهتف به، وتستنجد به على ما تعاني من جور وظلم. خُيِّل إليه برهة أنه بُعث، أنه حي، أن قد مات الموت، ولكنَّه سرعان ما باخ وانهزم، فأدرك أن الحي رجل آخر، لعله دجَّال أو مجنون أو داهية، وأنه جاء ليوكِّد موته هو إلى أبد الآبدين.
وقال له طالب: قم بنا إلى معسكره خارج باب الفتوح لمبايعته …
تاقت نفسه إلى رؤيته فمضيا معًا في غلس الظلام حتى انضما إلى جموع لا حصر لها، ووقفا في طابور طويل، مقدمته أمام خيمة السلطان وذيله عند مشارف الصحراء. ومثل بين يديه فوجده يماثله في الطول، ولكنه أدق في البناء، تضيء عيناه بنور قوي، وتتسم قسماته بالنبل. تطامن لتقبيل يده ثم قال: نبايعك من جديد كما بايعناك أول مرة.
فقال السلطان المبعوث: فليؤيِّد الله المؤمنين.
– ليكن النصر على يديك.
– أسبق لك أن مارست القتال؟
– كنت جنديًّا قبل أن أصير تاجرًا.
– إذن تنضم إلى قواتنا.
٥
قال نوح لنفسه إن الرجل سلطان حقيقي لا شك في ذلك. وبقدر ما هو سلطان بقدر ما أنا ميت. أعدمت نفسي اتِّقاء الموت، واتَّخذ هو هوية غير هويته متحديًا. ولم يعد لي من أمل في الوجود إلا تحت جناحه. هذه هي لعبة الحياة والموت التي خسرت فيها حياتي. وإنه لرجل مخلص ينطلق بكل قواه وراء العدل المفقود. ينطق وجهه بالنبل والصراحة والعزم. وإن تَصدق فراستي فيه فما أهمية أن يكون السلطان الحقيقي أو لا يكون؟
ونازعته نفسه إلى الرجوع إلى عزلته ولكنه سرعان ما خجل من ضعفه فقرر أن يصير جنديًّا في جيش السلطان وأن يجعل من الجهاد عبادته.
٦
وتوثَّب الجيشان للقتال. وكالعادة المتَّبعة في تلك الأزمان تقدَّم القائد كرداش متحدِّيًا السلطان لنزاله. وكلما تطوَّع لمقاتلته فارس صرعه. وكان السلطان الجديد زعيمًا أكثر من مقاتلًا، فخرج للقتال السلطان الحقيقي. ولم يعرفه كرداش، تبادلا ضربات عنيفة، وتمكَّن نوح من خصمه فجندله. ووقف فوق رأسه وهو ينزف، وقال: مت أيها الخائن، ألم تعرفني بعد؟
ورنا إليه كرداش ببصر معتم فعجز وجهه عن التعبير عن ارتياعه فغمغم: أنت! لا … لا …
وفاضت روحه.
والتحم الجيشان، وكان السلطان الشاب يقود جيشه بمهارة أثارت إعجاب نوح. وتواصل القتال حتى غابت الشمس وراء الأسوار، فتراجع كل فريق إلى معسكره.
٧
في اليوم التالي برز السلطان الصغير من بين الصفوف مطالبًا بالنزال. وخرج لنزاله فارس فدارت معركة شديدة تابعها نوح بقلب خافق. وجد نفسه يتمنَّى السلامة لابنه. وشعر بالإثم لتمنِّياته … غشيته كآبة ثقيلة. ولمَّا انتصر الصغير أغمض نوح عينيه كأنما يفر من عذابات هذا العالم.
واستمر السلطان الشاب في تحديه للأبطال، وتكرَّر انتصاره حتى قال السلطان الجديد لنوح: اخرج له فإنك فارس مدرب!
فتردَّد نوح غارقًا في جيشانه، فقال له السلطان بنبرة آمرة: اخرج والله ناصرك.
فلم يجد نوح مفرًّا من الخروج.
ولم يعرف السلطان الشاب أباه، ولم يفطن إلى ما يتصارع في صدره من الانفعالات المتضاربة، وقال له بحقد: أنت قاتل كرداش، وسوف تدفع ثمن جنايتك.
والتحم الأب وابنه، الابن يندفع لقتل أبيه، والأب يتلقى ضرباته بمهارة ويفسدها بحذق متجنبًا في الوقت نفسه إصابته. ولكنَّ مهارة الابن أوقعته في مركز حرج فقد صمَّم ضربة قاتلة عرفت طريقها إلى مقتل أكيد فلم يجد الأب بدًّا من مبادرته بضربة أطارت سيفه وتركته أعزل.
توقَّف السلطان الشاب متوقِّعًا الضربة القاضية، وتردَّد نوح، على حين هدرت الأصوات من جيش السلطان الجديد: طيِّر رقبته!
ولكن نوح شُلَّ تمامًا، فهجم جنود ابنه ليحموا سلطانهم والتحم الجيشان في قتال مرير حتى غروب الشمس.
٨
واستُدعي نوح إلى لقاء السلطان، فسأله بجفاء: لِمَ لَمْ تقضِ على عدونا وعدوك؟
فقال نوح معتذرًا: لا أقتل الأعزل يا مولاي!
فقال بغضب: بل أهدرت حقك، وأبحت دماء المئات من رجالنا!
لم يشكَّ نوح في صدق قوله، وغاص في الحزن والكآبة!
٩
وعاد الجيشان إلى الاشتباك في اليوم الثالث. وعند الظهيرة رجحت كفة السلطان الجديد، ووقع السلطان ورجاله في الأسر. ودخل الجيش المنتصر المدينة دخول الظافرين فاستقبله الخلق بحماس وسعادة.
وأمر السلطان فزجَّ في السجن بالسلطان الشاب والملكة وكبار رجال الدولة.
واستدعى السلطان الجديد نوح وقال له: أنت أيضًا ستوضع في السجن حتى يبت القاضي في أمرك …
فتساءل نوح ذاهلًا: ألا يشفع لي ما أبليت في القتال؟
– لا تشفع لك إلا براءتك!
١٠
هكذا جمع السجن بين الجميع وهم مكبَّلون بالسلاسل. وكان أول من عرف نوح تابعه القديم منصور الذي أنقذه من الغدر، والذي صار بعد ذلك حاجبًا مكافأةً له على جريمته الوهمية. نظر نحو سيده بذهول ثم هتف بفرح: مولاي!
فحدَّق الجميع به حتى عرفوه، وسرعان ما ارتعدت فرائصهم. وصاح منصور بسلطانه الشاب: هذا أبوك يا مولاي، هذا سلطان مصر الحقيقي!
وراح نوح يقلب عينيه ما بين الملكة والوصي القديم وابنه، ثم قال: أجل إني أبوك، غدر بي رجالي وأمك وأنت لا تدري.
فتمتم السلطان الشاب: أبي!
– أجل، إني أبوك نوح، ضحية الخيانة والغدر.
– ولِمَ كبَّلوك بالسلاسل مثلنا؟
– جزاء امتناعي عن قتلك!
فقال الابن بتأثر: طالما حيَّرني ذلك!
– ولكن لا مفر من الجزاء.
وراح نوح يردِّد عينيه بين الملكة وسائر الرجال الذين خانوه ثم قال متهكِّمًا: انعموا بعاقبة الخيانة!
وأومأ بلحيته إلى شخصه وقال: ولأنعم بعاقبة الغفلة!