أيوب
١
إنه سجن بلا قضبان. وبلا ذنب أيضًا. عليَّ من الآن فصاعدًا أن أحمل جسمي بعد أن حملني خمسين عامًا. حيثيات الحكم تبلورت في مرثية طبيب الأسرة صبري حسونة إذ يقول: لا مجال للخداع، سيطول بك الرقاد، الكورتيزون فعَّال، ولكنه لا يخلق المعجزات، المسكِّنات والمهدئات فعَّالة أيضًا في مقاومة النوبات، ولكن عليك أن تتزود من الصبر، لا تتصوَّر أن حجرة نومك زنزانة. كلَّا لديك الراديو والتلفزيون والجرائد والمجلَّات، معك الهانم وآنسة نبيلة، ووفيق مشهود له بالكفاءة، أصدقاؤك كثيرون ولن يتخلَّوا عنك، المهم أن تُسلِّم بالقضاء وأن تنحِّي عنك العناد والحسرة، والله معك.
لست أسير حجرة فحسب. الحقيقة أنني أسير الفراش. حتى الحمام أُحمَل إليه كطفل. أعاني الألم على فترات ولكني أتجرَّع العبودية طيلة الوقت. إني محتجٌّ لحد التمرد. أضرب كفًّا بكفٍّ. لا أدري متى أذعن للقضاء. الصدمة شديدة تدهم النفس بعنفها وقسوتها ولامبالاتها. لماذا؟ لماذا؟ أين الحياة الثرية الحافلة؟! أين تلال الأموال الطائلة؟ أين المكانة المرموقة؟ في الخزائن والذكريات ولا شيء معي. ويجيء الأطباء من الداخل والخارج. يُجمعون على حكم لا استئناف له. يناقشون الأسباب وما تراءت لي إلا ضربة عابثة، ويبقى اليأس والمفاصل المتورمة، ويتفشَّى اليأس والأسى. ويل لعابر العواصم الكبرى من أغلال مستحكمة.
•••
حول الفراش الوثير ذي المرآتين المتقابلتين تجلس أفكار ونبيلة ووفيق. في الأعين نظرة حزينة مواسية. بؤرة تستورد العطف بعد أن كانت تصدِّره. لا يفارق أحد منهم الحجرة ولكن حتى متى؟ إنه رقاد يبدو ألَّا نهاية له. والحياة هي الحياة لا أكثر ولا أقل. قلت متجاهلًا انفعالاتي الجيَّاشة: أمر ربنا، فلنواجه الأمر بشجاعة وبساطة.
فقالت أفكار: رأيي أن نسافر إلى الخارج.
فقلت بشجاعة لا أشعر بها: لم ينصح أحد بذلك، جئنا بأكبر أخصائي عالمي وأخذ الشيء الفلاني.
– لا شك توجد في الخارج استعدادات لا تتوفَّر هنا.
فقلت باسمًا: المسألة أنك تؤمنين بالخارج.
وقالت نبيلة بصوت متهدِّج: قلبي معك يا بابا.
الكلمة اللطيفة ممَّن نحب مثل الكورتيزون وأنجع. قلت: أسأل الله أن يكفيكم شر المرض.
وفيق متجهم الوجه ولكنه متمالك لأعصابه. كما ينبغي لرجال الأعمال. والولد سر أبيه. قال: ستنهض معافًى، إنها محنة صبر وتصبُّر.
فابتسمت له فقال مستطردًا: لك أن تطمئن تمامًا إلى سير العمل في المكتب.
– طمأنينتي من هذه الناحية كاملة.
– وسوف أرجع إليك عند كل خطوة.
– لا يهمني من ذلك إلا أن أراك كثيرًا.
فقالت أفكار: أقترح أن نتناول طعامنا هنا معًا.
فقلت: الإفطار فحسب أما الطبيخ فله رائحة يعافها الإنسان إذا شبع!
وضحكت بلا سبب لأقنعهم باستعلائي على المفاصل ثم قلت: لا يمكن أن تبقوا حولي إلى الأبد، إني أكره أن أكون عبئًا عليكم، فلتسر الحياة سيرتها المألوفة.
إني أستبق المتوقع والمألوف والطبيعي كما يجدر برجل مجرِّب في الخمسين من عمره. لن أطالب الدنيا بما ليس في دستورها. ثم إنني أحبهم.
٢
هرع الزوار إلى قصري من كل ناحية. اكتظَّت مواقف السيارات بشارع المعتصم بجاردن سيتي. المقاولون وتجَّار الجملة والموزعون وأصحاب مكاتب الاستيراد والتصدير وبعض المسئولين. كنت محورًا دائرًا لكون هائل، فأمسيت مركزه الجامد ولو إلى حين. يقبِّلون الجبين ويجودون بنظرات المودة والرثاء. ثم تتضارب الأقوال:
– لم يعد شيء على الطب بمستعصٍ …
– أقرب مثل ابن أختي، اعتقدنا أن حال مفاصله مزمنة، وهو يمشي اليوم مثل جواد السباق!
– كيف تكون لنا ليالٍ قمرية والقمر غائب!
– اعتبرها هدنة سترجع بعدها فارس النضال المرموق.
– ولكن لا تنسَ أنك أهملت نصح طبيبك باستهتار غير محمود.
تمتمت: العمل والحياة …
– والصحة؟ أليس لها حق أيضًا؟
فقلت متأفِّفًا: الحق أنه عقاب لا أستحقُّه …
– لا تعترض على قضاء الله …
فقلت مستدركًا: أحمده على أي حال.
– ليكن ذلك من قلبك.
– كيف لنا بإدراك حكمته!
– عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.
تتابعت الشعارات الدينية من قوم لا يحفلون من الدين إلَّا بقشوره. أنا مثلهم أيضًا. طالما ندَّدت بإلحاد أعدائنا وأنا سكران. ما أعجب أن يتبادل أناس الأكاذيب وهم يعلمون أنهم يكذبون. الأدهى من ذلك أن بعضهم لا يفطن إلى كذبه. ولم تخدعني حرارة مودتهم. زميلنا إبراهيم جندية المشلول منذ عام مَنْ ذا يذكره اليوم؟ وقتنا — نحن رجال الأعمال — لا يتسع للوفاء. ولن أطالب الدنيا بما ليس في دستورها. إننا نقدِّس الوقت والنظام. وندرك تمامًا أبعاد حياة العمل ومقتضيات العصر. سوف يطول الرقاد. غالبًا حتى النهاية. إنها الوحدة بلا صديق!
٣
من جنون الحركة إلى جنون السكون، هذه هي الرحلة. اليوم بسنة كما تقول الأغنية. الآن أسمع الأغاني لأول مرة. لا استيعاب لها بَعْدُ فما زال الشعور مكتظًّا بالاحتجاج والضجر. لكنه سماع لا يخلو من اكتشاف على أي حال. في الماضي كنت أعطي الأغنية من انتباهي ما أعطيه الشحاذ وهو يردد شعاراته. رغم اهتمامي بالغناء في صدر الشباب. ثمة عادات جديدة مقبلة. وتدخل زكية بجسمها القصير البدين المتحدي لتنظيف الحجرة. أقول لها: افتحي النوافذ ليدخل الهواء والشمس.
نحن في أواخر الربيع، سيقبل الصيف ولكن لا مصيف ولا انتفاع بجهاز التبريد. تقول زكية: ليتني بدلك يا سيدي.
كذبة حلوة وما أكثر الأكاذيب. أشرئبُّ بعنقي ناظرًا من النافذة فأرى النيل وشاطئه الآخر. النيل يجري بسمرته الشاحبة والشمس تغطي مساحة منه ببراءتها الفضية. أراه أيضًا لأول مرة. الباص النهري يتحرك حاملًا القادرين على الحركة. أناس يسيرون على الشاطئ والحمام يطير أسرابًا. السيارات تتتابع في حركة متصلة. كل شيء يسير إلا الشجر. طابور الجازورينا ثابت رغم شموخه ولكن دون مبالاة ولا ملل. لما أقبلت أفكار في روبها الفضي قلت لها: انقلي الساعة إلى خارج الحجرة.
رفعت من فوق حاملها الرخامي بصندوقها المذهَّب وبندولها المتحرك. وُضِع تلفزيون ناشيونال مكانها، كما جيء براديو فوق التابل دي نوي. حُملت إليَّ الجرائد والمجلات، عربية وإنجليزية وفرنسية. إني أقرأ أيضًا لأول مرة. كنت قبل ذلك متصفحًا للعناوين لا تجذبني إلا أنباء السوق والأسعار والأوراق المالية. بالمقارنة النسبية فإني أسمع وأرى وأقرأ والبقية تأتي. وأحاول أن أتذكَّر أحيانًا. رؤى قديمة لم يبقَ منها إلا ذكريات شاحبة. لعل أفكار نسيتها تمامًا. متى أقترن حقًّا بالحياة الجديدة؟!
العادة تحتوي «المصيبة» فتمتص حرارتها. أجل أبت الأسرة أن تصطاف هذا العام وأصمَّت آذانها عن سماع إلحاحي. عدا ذلك قد شُغِل وفيق بالمكتب ولكنَّه يلقاني يوميًّا أكثر من مرة. أفكار ونبيلة تتردَّدان على النادي من آنٍ لآنٍ وتستقبلان الصديقات ولكنهما تمضيان جانبي وقتًا لا يُستهان به. زيارات الأصدقاء تقلُّ يومًا عن يوم. التليفون يحل محل الزيارة كثيرًا. اختفى أناس تمامًا كأنما لم ألقهم إلا في إحدى محطات السفر. وحدي أكثر ساعات النهار والليل. أسمع، أشاهد، أقرأ، أتصبَّر. متى تشملني العادة بسحرها العطوف؟! متى يخلِّصني أنس التلفزيون والراديو والفكر من الوحشة؟ متى تعوِّضني عن السوق والرحلات والسهرات؟ متى أنسى عالم السحرة الحائزين لخاتم سليمان؟ متى أنسى إلهام المال المفعم بالسيادة؟ ألا يكفي أن يحظى وفيق بالحيوية والانتشار؟ ألا يكفي أن تضيء أفكار ونبيلة غشاء المجتمع الحريري وتقتنيان كل ثمين وجميل؟
عجيبة الحياة، مخيفة الحياة، محيِّرة الحياة …
٤
مضت الحياة الجديدة تفرض عليَّ ذاتها كواقع يجب التسليم به. لم يفارقني الشعور بالعبودية ولكن استجابت نفسي للرؤية والسماع والقراءة، بل اكتسبت عادات التفكير والتأمُّل والحلم وإن ناوشتها كثيرًا أحلام اليقظة. ألفت الرچيم والدواء وداويت نوبات الألم بالمسكِّنات والمهدئات. بات وفيق همزة الوصل بيني وبين العمل. فما زال يصدر عني الاعتماد والتوجيه. واشتدَّ حرصي على متابعة العمل باعتباره باب الأمل الأخير.
وجاءني مرة بحساب البنك عن أموالي السائلة البالغة خمسة ملايين من الجنيهات فخطر لي أن أسأله: متى يشبع الناس من اكتناز المال؟
فأجاب وهو يرفع حاجبيه الكثيفين: لا حدَّ للنجاح، وما قيمة الحياة بلا عمل؟
هكذا ربَّيته منذ الصغر. تخرَّج في التجارة مثلي. نجحت في تنشئته كابن رجل يعبد العمل لا كابن مليونير. وهو يسهر في كل ليلة في الهرم، ولكنه لا ينفق كالمجانين. يملك سيارة مرسيدس طراز ٧٨، ويتكلَّف في الليلة عشرين جنيهًا ولكنه يغضب لإنفاق مليم في غير موضعه الضروري. إنه صديق ولا يخفي عني شيئًا. وطالما سهرنا وشربنا معًا. وقد داخلني قلق لدى أول عهده بالسهر فإني أكره التبذير وحسبنا ما تبدِّده أفكار ونبيلة ذات اليمين وذات اليسار. يومها قلت له: تمتَّع بحياتك ولكني أكره أن يبدد السفه ما يجمعه العرق والمغامرة.
فقال لي بوضوحٍ مريحٍ: أوافق على رأيك تمامًا.
وسرعان ما تبين لي «عقله». ترامى إليَّ أن أصدقاءه يطلقون عليه على سبيل الدعابة «النتن». لم يسرني ذلك بطبيعة الحال ولكن كان أحب إليَّ من أن يُعرف بالمُسرف أو المجنون. وحذَّرته مرة قائلًا: النساء … النساء!
فقال لي مطمئنًا: إني أتجنَّب العلاقات الدائمة أمَّا العابرة فلا ترهق عادة.
– وإذا دهمك الحب؟
فقال بسخرية: إني لا أعترف بالحب.
لم آخذ قوله مأخذ الجد رغم أني لم أعرف له حبًّا واحدًا. تزوَّجت أنا عن حب. أجل لم تلعب المرأة دورًا في حياتي ولكني عرفت الحب. هذا الفتى جررته معي إلى ساحة العمل منذ سن المراهقة. نشأ عاشقًا للعمل والمال. وأغراني قوله بأن سألته: متى تفكر في الزواج؟
فأجاب ببساطة وحسم: لن أتزوَّج.
فسألته مستنكرًا: ألا ترغب في الذرية؟
فأجاب ببساطة: كلَّا.
– إنه لأمر غريب يا وفيق.
– لِمَ؟ ماذا ينقصني؟ اللذة في العمل، وأختم يومي بشي من الشراب والرقص واللهو!
لا اهتمام له بشي بعد ذلك. لا السياسة ولا الدين ولا … ولا … إني على الأقل ذو إلمام بشكليات الدين، أمَّا هو فقد نسي كل شيء. لعل أفكار هي الوحيدة بيننا التي ما زالت تملك نظامًا من العقائد الموشاة بالخرافات. أخيرًا سألته: أأنت راضٍ عن نفسك؟
فأجاب بارتياح: نعم، العمل تاج الحياة.
٥
جاءتني أفكار ساحبةً نبيلة من يدها، جلستا وهي تقول: أشكو إليك ابنتك!
تساءلت باسمًا: جنحة أم جريمة؟
ردَّدت عيني بينهما. صورتان متماثلتان لكن الأم أجمل. جمالها متوسط، فهي سمراء صغيرة القسمات معتدلة القامة ملفوفة الجسم. نبيلة تماثلها لولا الذقن العريض الذي استعارته منِّي. قالت أفكار: إني أعتبرها جريمة.
– ما هي؟
– للمرة الثالثة ترفض عريسًا دون حجة مقنعة.
فقالت نبيلة: هذا شأني وحدي.
فقلت برقة: أوافقك تمامًا، ولكن مَن العريس؟
فأجابت أفكار: شاب، مهندس، أبوه مستشار.
– من النادي؟
– نعم.
– مواصفات مقبولة ولكننا لم نسمع رأي المتهمة؟
فقالت نبيلة: لا يعجبني وكفى.
فتساءلت أفكار: ترى مَن يحوز إعجابك؟
فقلت بهدوء: سنعرفه في حينه.
– إنها لم تعد صغيرة.
فقلت: بنت عشرين صغيرة في هذا الزمن، وهل يخشى على ابنة مليونير من البوار؟!
أفكار رغم تطبُّعها بالحياة العصرية ما زالت أسيرة الرواسب الماضية. تزوَّجتها وهي في المرحلة الثانوية، فعشنا ما لا يقل عن عشرة أعوام حياة كاتب حسابات بالأشغال بين الثامنة والسابعة. ست بيت ممتازة كانت. مخلصة مدبرة ممن خلقن ليسندن الرجال. المرأة الجديدة من صنع يديَّ. العصرية المولعة بالأضواء والاقتناء والقمار. أردت أن أجعل منها امرأة ثانية فأفلتت من يدي وخلقت من نفسها امرأة ثالثة. ثم تولَّت بنفسها صنع نبيلة. القصر يضيق بمشترياتهما على سعته. يعيشان في النادي وقد ترجع نبيلة بسيارتها بعد منتصف الليل. إني واثق فيها ثم إن يد الزمان تغمض عيني. تبدَّى جنون نبيلة في مساعدتها لصديقاتها الفقيرات على عهد دراستها الجامعية التي لم تتمها. لم أرفض الفكرة ولكني حرصي الطبيعي راقبها بقلق. يومًا قالت لي: بابا، صديقة في حاجة ماسة إلى خمسمائة جنيه.
فزعت وقلت: الناس تحتاج إلى جنيه أو اثنين لا إلى خمسمائة، إنك بسذاجتك تجعلين من نفسك هدفًا للجشع، يوجد فارق بين الشعور الإنساني وبين الكفر بقيمة المال.
فقالت بإصرار: أسرتها في حاجة ملحة؛ إذ إنها مضطرة إلى إخلاء شقة في عمارة قديمة آيلة للسقوط، وقد وعدتها بالمساعدة.
هكذا دفعت بالمشكلة في منطقة الكرامة فغلى دمي وقلت: لا تعدي بشي ليس في يدك الوفاء به، أو ارجعي إليَّ أولًا، وتذكَّري أن أباك رجل لا دولة …
أفكار أيضًا ضعيفة من هذه الناحية غير أن مساعداتها تختص غالبًا بأهلها الفقراء. ولم يسؤني ذلك لما فيه من حفظ كرامتنا في النهاية، ولم تخلُ حياتي أنا من مساعدات من هذا النوع أيضًا. ولكن لزوجتي نزوات مظهرية سخيفة كما أنها تؤمن بالنذر وتتبرع لصندوق السيد البدوي أحيانًا بحماقة.
•••
في حياتي الجديدة أُتِيح لي — رغم همي الثقيل الرابض — أن أسمع وأن أرى وأن أقرأ وأن أكتشف مسرات جديدة. أتيح لي أيضًا أن أفكِّر وأن أتذكَّر. لكن وجدتني أبعد ما يكون عن الرؤية الواضحة. بل وقعت في حيرة معتمة كئيبة ممَّا جعلني أتلهَّف أكثر على الشفاء البعيد، أو المستحيل. وقلت لنفسي: ليس أفظع من أن يُخَلَّى بين الإنسان ونفسه.
٦
رباه … مَن هذا الزائر الجديد؟
نظرت نحوه بذهول وهو يقترب في خطاه الوئيدة، تسبقه نظرة مفعمة بالمودَّة والأسى. تغيَّر كثيرًا ولكنِّي عرفته من أول نظرة رغم أنه تعمَّد أن يحجب عني اسمه. كهل يماثلني في العمر، خفَّ وزنه ولكنَّه بادي الصحة، وجدَّ عليه الصلع والنظَّارة الطبية. هتفت: غير معقول! دكتور جلال أبو السعود!
فتحت ذراعي وأنا أقول: كيف ظهرت من جديد على سطح الأرض؟ بالحضن والقبل!
تعانقنا وتبادلنا القُبَل. كان اليوم جمعة والوقت أصيلًا والزمن أواخر الصيف. قدَّمت إليه زوجتي وابنتي وابني ثم قلت لهم: دكتور جلال أبو السعود، رفيق المولد والدراسة، كنَّا زميلَين في الأولية والإعدادية والثانوية، دخل الطب ودخلت التجارة، كنَّا نذاكر معًا رغم اختلاف دراستنا، جمعتنا صداقة وأفكار …
أخذت شهيقًا لأهدئ انفعالي وهم يتصافحون ثم يجلسون، وواصلت حديثي: عقب تخرُّجه انتقل إلى الأقاليم، تراسلنا عامًا أو عامين …
فقاطعني: خمسة أعوام …
فتمتمت في حياء: ثم شُغل كلانا بحياته …
فقال باسمًا: من حسن الحظ أن الإنسان يحظى بقلب وذاكرة …
– صدقت، ولكن كيف أسعدتني بهذه الزيارة؟
– نُقلت منذ قليل مديرًا لمستشفى الحميات بالعباسية، ثم علمت بمرضك أول أمس من الدكتور صبري حسونة، فجئت أزورك وأصل ما انقطع …
– أهلًا … أهلًا … لا تتصور كم أني سعيد!
– وددت أن ألقاك في صحة جيدة مثلي!
فقلت ضاحكًا: أدامها الله عليك، أما عني فإني في سجن كما ترى وكأنما رُددت إلى الحال النباتية.
فقال جادًّا: قد يطول ولكنه لم يَعُدْ مؤبَّدًا، الطب يصارعه ويصرعه.
فقلت ضاحكًا: رجعت قهرًا إلى عصر الثقافة.
– رُبَّ ضارة نافعة.
وقالت أفكار: لتكن هدنة من إرهاق مستمر.
فقال جلال: أحيانًا يمر الإنسان بتجربة مُرَّة ولكنه يذكرها فيما بعد بالخير.
فقلت باسمًا: كلام جميل، ما علينا، كم أنجبت من الأبناء؟
– ثلاث بنات، كبراهن متزوجة ولم تُتم تعليمها. والأخريان بكلية الطب.
وأعلنت زوجتي عن رغبتها في التعرف على أسرته فالتحما في حديث جانبي سرعان ما غاب عني في انفعال طارئ. فجأة توقف كل شيء عن الحركة فيخيَّل إليَّ أنني أسمع دبيب الزمن وهو يجدُّ في سيره. أجل الزمن يسير وهذا صوته. بل المؤكَّد أنه لم يتوقف لحظة عن السير فأين كان يختبئ؟ متى وكيف بلغت الخمسين، ومتى وكيف اقتُلع شعر رأس جلال؟ كنَّا أطفالًا وغلمانًا وشبانًا بلا شك وهذا جلال شاهد على ذلك، يا لها من انتباهة مرهقة حقًّا. وإذا به يسألني وقد لاحظني فيما بدا: أين أنت؟
فقلت ضاحكًا: معك!
– حذارِ من الأفكار المثبطة.
– ثق من أنني في دور النقاهة منها.
– يسعدني أن أسمع ذلك.
وتبادلنا نظرة طويلة، ثم خطر لي خاطر وجدت فيه مهربًا من انتباهتي المزعجة فقلت: أطباء كثيرون يرفضون الترقية من أجل العيادة.
فقال بهدوء: كنت دائمًا طبيبًا طول الوقت.
فسألته بدهشة: تعني أنك لم تفتح عيادة؟
فحنى رأسه بالإيجاب، فقلت: أعجب ما سمعت!
– كيف تعجب وأنت تعرفني حق المعرفة؟
– كنت مثلك أيضًا ولكنها الحياة.
فابتسم صامتًا فقلت مخاطبًا أسرتي المستمعة: دكتور جلال من عشَّاق الثقافة منذ نشأته، آمنا معًا في ماضينا بأنه أيًّا كان عمل الإنسان فالثقافة يجب أن تستمر كمعين دائم لإنسانيته الحقة … وقد طبَّق ذلك عمليًّا.
عند ذاك سأله وفيق: هل العيادة تتعارض مع الثقافة؟
– أعرف أطباء لا يجدون وقتًا لتصفُّح الصحف.
– ولكنهم يؤدُّون خدمة إنسانية لا تقدَّر بثمن.
– إني أؤديها في المستشفيات على خير وجه.
– ولكنك لن تكوِّن ثروة مثل زملائك؟
– المعيشة معتدلة ولكن لا ينقصها شيء هام … ثم إن لي ثروة من نوع آخر.
فقلت له: إني أفهمك ولكن تضحيتك جسيمة.
فقال بهدوء: كانت لحظة الحسم عسيرة، ولكني اخترت ولم أندم.
فسأله وفيق بارتياب: ألم تندم حقًّا؟
– لماذا أندم؟ إني أقوم بواجبي الإنساني، لا ينقصني شيء، حياتي ثرية جدًّا، إن يكن ثمة من يرثون لي فإني أرثي لهم أكثر، ولكن معذرة أنا لم أجئ لأتحدَّث عن نفسي.
ولكن وفيق قال بإصرار أدركت بواعثه: ألا توافقني على أن العمل هو هدف الإنسان الأعلى؟
فابتسم. صمت مليًّا. ثم قال مخاطبًا ابني: إنك تستدرجني إلى حديث طويل لا يتفق مع أغراض الزيارة، فدعني إلى مناجاة والدك بعد غياب ربع قرن.
فقال وفيق: أبي يهمه ولا شك أن يعرف رأيك.
فحركت رأسي موافقًا وأنا ألاطم أمواج الانتباهة المزعجة. عند ذاك قال الدكتور جلال: العمل ضرورة ولكنه ليس الهدف.
– إذن فما الهدف؟
– لعله التحرر من ضرورة العمل.
وحل صمت ولكن بدا من تألق عينيه أنه يمنحنا فرصة لاستيعاب قوله قبل أن يستمر فيه، وقال: مثلًا، مهنة الطب ضرورة ما بقي المرض، فإذا قهرنا الأمراض امَّحت ضرورة الطب … هدف الإنسان الفراغ الثري!
فقلت ضاحكًا: إذن فقد حقَّق لي المرض الهدف المنشود!
فقال جادًّا: لقد أوصلك إلى الطريق الذي يجب أن تلتزمه في حالتي المرض والشفاء.
ثم التفت إليَّ وفيق قائلًا: دعني أشرح لك رأيي، بماذا يتميَّز الإنسان عن الحيوان؟ بالعقل والروح، فعمله الإنساني الجدير به حقًّا يجب أن يكون عقليًّا أو روحيًّا، ولكن حضارته بدأت بالسعي نحو الطعام، بدأت بالصيد مثل الحيوان، تاريخ الحضارة هو تاريخ العمل. ولكنه أيضًا تاريخ التحرر من العمل درجة بعد درجة، حرر يديه باختراع الآلة ومضى في ذلك السبيل الطويل حتى بلغ مرحلة المصنع الأوتوماتيكي الذي يعده بأقل عمل وأكبر فراغ، فلا تتصوَّر أبدًا أن الزراعة أو الصناعة أو تكديس المال يمكن أن تكون أهدافًا في ذاتها، إنها مراحل من الضرورة يمارسها الإنسان ليبلغ حريته ويمارس إنسانيته.
إني على أي حال أكثر استعدادًا لتلقي هذه الأفكار من أسرتي التي تجلَّي الذهول في أعينها. وتجسد الانفعال في وجه وفيق فقال: يا له من خيال! أحدثك يا دكتور عن حياتنا الواقعة فتحدثني عن حياة لن تتحقق أبدًا، إني أتحدث باسم أربعة آلاف ملايين من البشر ربعهم مهدَّد بالمجاعة!
فقال جلال بهدوء: لا يغيب عني ذلك، إني أعرف أن العمل ضرورة حيوية، ولكني أريد أن أنبهك إلى أنه ليس الهدف، هذه الحقيقة تغيب عن كثيرين، بل تغيب عن الرسالات التي خُلقت من أجل تحقيقها كالليبرالية والاشتراكية، ولكن هدف آلاف الملايين يجب أن يكون واحدًا.
أردت أن أخفف من توتر الجو، وألطِّف من انفعال وفيق قبل أن ينسى نفسه، فضحكت عاليًا وقلت: توهَّمت أني مريض وإذا بي سوبرمان العصر.
فقال جلال: أرجو ذلك.
فسألته: ألممت بنشاطي رغم البُعْد؟
– بفضل الصحف، شذرات من الأنباء عن رحلات ومعارك مع اليساريين، وتخيَّلت الباقي.
– دعني أقرأ لك أفكارك، قلت لقد غرق في جمع المال وعبادته، نسي ولا شك أيامنا الماضية، وانحدر إلى الأمية وهو لا يدري!
فضحك وقد تورَّد وجهه حياءً ثم قال مجاملًا في الغالب: أثرت إعجابي ولكنه إعجاب لم يخلُ من أسف!
فتساءل وفيق: ألا يستحق الإعجاب الخالص من يصبح مليونيرًا في أقل من خمس سنوات؟
هز رأسه هزة غامضة فقلت من فوري: لست غبيًّا كما تعلم، دعني أقرأ أفكارك مرة أخرى على ضوء فلسفتك، قلت عني لذاتك أنني ضيَّعت حياتي في سبيل استيراد سلع كمالية عاقبتها الحتمية تخريب الاقتصاد الوطني وخدمة الطبقة الجديدة وتعذيب عامة الشعب، ولا يمثِّل هذا الاستيراد إلَّا مزيدًا من الاستعباد بخلاف العمل الإنتاجي الذي يمثل الضرورة والتحرير معًا، أليس كذلك يا جلال؟
فضحك وجهه بلا صوت وركبه حرج الموافقة الصامت. عند ذاك هتف وفيق متناسيًا أصول المجاملة: هذا ما يردِّده المخربون!
فقلت ملطفًا من وقع كلامه: ليسوا وحدهم، صبرًا، لكن اللوم لا يقع علينا بقدر ما يقع على من أذنوا بذلك.
فقال جلال وكأنما يستثقل نفسه: دعنا من التفصيلات، اعتبر — إذا شئت — رأيي حلمًا خياليًّا، من الناس من يأنس إلى الأحلام ليتزوَّد بقوة يواجه بها قسوة الواقع، إنما أردت أن أهوِّن لك من شأن الحياة التي انقطعت عنها وأزين لك الحياة التي حبست فيها، فهي ليست شرًّا خالصًا كما قد تتوهم، ما هي إلا مرحلة عابرة إن شاء الله، ويمكن أن تجد فيها من المسرات الشيء الكثير.
فشكرت له مودته، ثم خضنا معًا — باتفاق شعوري خفي لنتفادى من حدة وفيق — ذكريات مشتركة قديمة، فشرَّقنا وغرَّبنا في متعة صافية ساعة نادرة من الزمان.
٧
خلَّفت الزيارة وراءها رجَّةً. قالت أفكار: لم أفهم كلمة واحدة مما قال هذا الرجل.
على هذا بدت منفعلة كالآخرين. وتظاهرت بالمرح وهي تتساءل: أهذا شأن أصدقائك القدامى جميعًا؟!
فقالت نبيلة: إنه شخص جديد ومثير.
فسألها وفيق بحدة: ماذا تعنين؟
فقالت ساخرة: ليس جريمة أن يقول إن الحياة ليست المال فحسب!
فقال لها وفيق: دليني على فعل واحد في حياتك لا تعتمدين فيه على المال، كلامك يدل على أنك تعبدين المال، ولكنك تتنكَّرين لقيمته.
فقالت بعناد: إني معجبة به!
وتدخَّلتُ في الحديث قائلًا: دعها وشأنها، ساءتني حدتك يا وفيق.
فقطَّب قائلًا: إنه شيوعي حاقد.
– إني أعرف صديقي خيرًا منك.
– من أين لك أن تعرفه بعد انقطاع ربع قرن؟
– لقد أراد أن يعزيني عن السجن.
– لم تكن في حاجة إلى تعزيته.
– شعر ولا شك بضيقي وكربتي.
– إني أفهمه تمامًا يا بابا ولا تخدعني فلسفته، لقد جرَّب أن يثرى من المهنة ففشل، وما أكثر العفة المتولدة عن العجز!
فهتفت أفكار: صدقت، سأبخِّر القصر غرفة غرفة، لا يحتمل أحد أن يصير قرينه في الفقر مليونيرًا من غير أن يحرقه الحسد.
فضحكتُ قائلًا: الأفضل أن تعقلي فلسفته وتقلعي عن التبذير!
فقالت لي: أتريد أن تدعم حرصك بفلسفته؟ هيهات أن يجوز ذلك علينا!
ولما خلت الحجرة استبد بي الانفعال دون شريك. استعدت أقواله وأدمت التفكير فيها حتى قلت: لن أذوق النوم حتى أتناول المهدئ.
عاودتني الانتباهة فرجعت أنصت إلى صوت الزمن الجاري. رجعت أتساءل أين كان يختبئ. متى أنسى الكدر لأكتشف المتعة المتاحة؟ متى أسمع الأغنية فلا أسهو عن شيء من إيقاعاتها؟
٨
خفت ألَّا يجيء جلال أبو السعود مساء الجمعة التالية فتلفت إليه. وقلت لأسرتي منبهًا: سأستدرجه إلى الحديث إياه، فمن كره منكم ذلك فلا يحضر.
وجاء في الميعاد فاستُقبل بحرارة صادقة وكاذبة. ورحنا نتناول الشاي والحلوى. وفي أثناء ذلك نقَّل عينيه بين أفراد أسرتي وتساءل: ماذا قلتم عني بعد ذهابي في الجمعة الماضية؟
فقالت أفكار: كل خير يا دكتور.
فشكرها مبتسمًا. إنه ذكيٌّ وحسَّاس ولذلك قلت له: إني أسعد بحديثك وهو يهمني جدًّا، وهم متفقون معي!
فقال ببساطة صادقة: المهم أن تنعم بمزايا حياتك المتاحة.
– لديَّ الكثير كما تعلم ولكن يحز في نفسي الشعور بالسجن وانصراف الزملاء عن زيارتي!
فقال وفيق بحدة: إنهم أوغاد.
فقلت بعجلة: كلا يا بني، إنهم رجال أعمال.
ثم مخاطبًا جلال: أنت نفسك لو كنت صاحب عيادة لما وسعك أن تزورني مرتين متتاليتين.
فقال جلال: يسرني أن تعالج أمورك بروح واقعية!
– كل شيء طيب لولا إحساسي الأليم بفقد الحرية.
– خيل إليَّ أنه همَّ بالكلام ثم عدل عنه فقلت له: لا تكبت الكلام فقد دعوتك لتتحدث ولأسمع.
فتساءل وهو ينطر نحو أسرتي: ونكدِّر صفو أعزَّة؟!
فقالت أفكار: تكلَّم يا دكتور، نريد أن نسمع مثله وأكثر.
فابتسم وقال: الأمر لله يا عبد الحميد، ماذا قلت عن الحرية؟
– تكلمت عن إحساسي الأليم بفقدها.
– لكنك لم تفقد حريتك بسبب المرض!
– ؟
فقال بهدوء: لكي تفقد شيئًا يجب أن تملكه أولًا وأنت لم تملك حريتك قط!
فضحكت قائلًا: حذارِ من المبالغة فإنك لا تعرف ما يعنيه أن يكون الإنسان مليونيرًا.
– حقًّا؟!
– كان بوسعي أن أفعل ما أشاء، أن أتغدى في روما وأتعشى في باريس إذا أردت.
– أين الإرادة الحرة في ذلك؟ وراء كل فعل منها نزوة متحكِّمة!
تخيَّلت فتور أفكار وحماس نبيلة السطحي واستفزاز وفيق فلم أنظر ناحيتهم. قلت أستدرجه: بهذا المنطق نهدم فكرة الحرية من جذورها.
فقال بثقة: الحرية وهمٌ يتراءى لخيال الإنسان العادي، وهو إنسان ميكانيكي في أغلب الأحوال.
– قد يصدق كلامك على غمار الناس، ولكن يوجد أناس يمثِّلون القوة الفعَّالة المؤثرة في المجتمع.
فابتسم قائلًا: اسمح لي أن أذكِّرك بالأشياء التي تقيِّد حرية الإنسان، لا لأنها مجهولة لمثلك ولكن لأننا نتناساها عادة في زحمة الحياة والغرور.
تنحنح ثم واصل: إنها تبدأ عملها في بطن الأم، بلا استئذان أو مشاورة، فتقرر لنا طولًا ولونًا وملامح، وأجهزة تنفس وهضم وأعصاب ذوات خواص محددة، وغرائز، وبعض الأمراض أحيانًا، يتم ذلك كله قبل أن نرى نور الدنيا.
تذكَّرت تلك الحقائق وكأنها اكتشاف جديد، أما وفيق فقال باستهانة: نحن نسلِّم بذلك ولكن لا أهمية له!
فقال جلال: عندما يخرج الوليد إلى الدنيا تتسلَّمه أسرته، ثم تتكاتف على صبِّه في قالب جاهز من القيم والأذواق والتقاليد والعقائد وهو يتشكَّل بلا قدرة على الإدراك أو النقد أو الاختيار، أنت نفسك يا وفيق بك هل كان لك رأي في الصورة التي صورت بها؟
فتساءل بعناد: أي خطأ في ذلك؟
وقلت أنا: الوليد يتحول بذلك من حيوان إلى كائن حضاري!
– نحن نناقش فكرة الحرية، تذكَّروا ذلك من فضلكم!
– تفضل!
– ثم تتلقَّاه المدرسة لتُحكم حوله قالبًا جديدًا يهبه في النهاية عملًا ورؤية للدنيا والأشياء، وينضم إلى المدرسة في عملها المجتمع كله ممثَّلًا في أحزابه وجمعياته ونماذجه البارزة، الجميع طامعون في حريته ولو فعلوا ذلك باسم الحرية نفسها.
فقال وفيق بإصرار: ولكن سرعان ما يجيء حين فيعرف الشاب الاختيار والرفض بل والتمرد والثورة.
– لست أنكر ذلك، ولكني أقصر حديثي الآن على القوى المتربصة بحريتنا … ثم يجيء دور قوى جديدة خارج المجتمع، منها البيئة، وأثرها معروف في النشاط والكسل، في القوة والضعف، في الإيجابية والسلبية.
وتريث لحظات وهو يبتسم ثم استطرد: هناك الأرض نفسها، الكرة الأرضية، فهي بجاذبيتها وحركتها تحدِّد له وزنًا وأسلوبًا في الحركة وحدودًا لا يمكن تجاوزها، هناك أيضًا الشمس وأشعتها وانفجاراتها الموسمية، بل هناك النظام الشمسي كله فيما نعرف من آثاره وما نجهل، ولك أن توسع تصورك حتى يشمل الكون كله ما ظهر منه وما غاب، الكون كله يؤثر في حريتنا ويكون لذلك نتائجه في سلوكنا وتصوراتنا، أما الإنسان الغافل فقد يعتقد أنه حرٌّ حرية مطلقة، أو أنه لا يؤثِّر فيه إلا عقدة أُوديب، أو عوامل اقتصادية، ثم تجيء بعد ذلك قوى غريبة خارجة عن التصنيف المنطقي، تبدو عارضة لا معقولة، نسميها مصادفات أو ما شئت من أسماء، ولكنها مع ذلك قد تقلب الحساب رأسًا على عقب في لحظة خاطفة، وهي لا حصر لها، مقابلة غير متوقَّعة، ضياع رسالة في البريد، حادث قطار أو سيارة، وسقوط جسم فجأة إلخ إلخ، فهل تستطيع أن تتجاهل القوى المؤثرة في حرية الإنسان وبالتالي في مصيره؟!
صمتنا صمتًا ثقيلًا. ثم ندَّت عن نبيلة ضحكة رقيقة. ضحك وفيق أيضًا ضحكة باردة. تجلَّى حياء ناعس في وجه أفكار. قلت باهتمام حقيقي: إذن فأنت ترى يا دكتور أن الإنسان حجر أو حيوان على أحسن الفروض؟
فبادرني جادًّا: أبدًا، إني أبعد ما يكون عن ذلك.
– ولكن منطقك يسوقنا إلى ذلك؟
– إني أحصي القوى المؤثرة لكي نعد لها ما يتطلبه الدفاع من صبر ومثابرة وعلم.
– كأن الحضارة أنشأها الكون لا الإنسان!
– بل أنشأها الإنسان بفضل ظمئه الخالد للحرية، كما قلت، إنه لم يتحرك بإغراء اللقمة ولكن ليتحرر من الجوع، الحضارة معركة مستمرة بين الحرية والقوى المؤثرة، الآلة تحرير من عبودية السخرة، الدواء تحرير من المرض، العلم تحرير من الجهل، الطيارة تحرير من الجاذبية، السرعة تحرير من الزمن، كذلك المذاهب، فالدين تحرير للروح، الإقطاع كان تحريرًا من الفوضى، الليبرالية كانت تحريرًا من الإقطاع، الاشتراكية تحرير من الليبرالية، معركة مستمرة بلا نهاية …
وتفكَّر قليلًا ونحن نتابعه بعواطفنا المتناقضة ثم قال: المأساة، ولعلها ليست بمأساة، أنه ما من جديد يجدُّ إلا ويجيء معه بقدر من الحرية وقدر من الاستعباد الجديد، فالآلة تحرِّر اليد وقد تأسر الروح، السلع الجديدة تُشبع وتُمتِّع وقد تحجب عن الإنسان مصيره، الإقطاع حرَّر من قطَّاع الطرق وفرض الرق، الليبرالية حرَّرت المواطن من الحكم المطلق وجاءت بالاستغلال الاقتصادي، الاشتراكية حرَّرت الإنسان من الاستغلال وسيطرت عليه بالبيروقراطية أو الدكتاتورية، ولذلك فلا نهاية للمعركة ولا للابتكارات ولا للمذاهب حتى يظفر الإنسان بحريته الكاملة ويصبح قولًا وفعلًا سيد مصيره، لذلك علينا دائمًا وأبدًا أن نكون مع كل جديد بقدر ما يَعِدُ من حرية، وأن نكون على استعداد للتخلي عنه كلما جدَّ جديد أفضل أو رجحت كفته السالبة.
ونقَّل ضوء عينيه بين وجوهنا ثم ابتسم بارتياح ومضى يتساءل: ولكن ما دور الفرد — كفرد — في هذه المعركة لكي يحرِّر إرادته ويحسن الاختيار؟
وبعد لحظات من الصمت أجاب: عليه أن يقتنع بأن «الذاتية» هي سبيل العبودية، وأن الموضوعية هي سبيل الحرية، الاختيار الحر يقوم على الموضوعية، وإلا أَذْعَنَّا إلى غريزة ونحن نتوهم أننا نمارس عاطفة، أو سايرنا عاطفة ونحن نعتقد أننا نلبي العقل، ولكي يحدث الانسجام والتوازن بين الغرائز والعواطف والعقل فلا بد من تربية الإرادة تربية تبلغ بها ذروة القوة، وبكل إنسان سليم من الصبر ما يستطيع به أن يربي إرادته ويتغلَّب على ضعفها وتراخيها، في الإنسان قوة كامنة تضارع قوة الذرة.
وأغمض عينيه قليلًا ثم فتحهما قائلًا: أتذكَّر النظرة الذاتية للكون التي جعلتنا نتصور أننا مركزه؟ أتذكَّر النظرة الذاتية للمجتمع التي تغريك بالدفاع عن طبقتك وأنت تتخيل أنك تدافع عن الإنسانية؟ أتذكَّر النظرة الذاتية إلى المرأة التي تدفعك إلى الإيمان بسيادة الرجل وأنت تعتقد أنك تبشِّر بطبيعة الأشياء؟ اتَّجهْ نحو الموضوعية متحرِّرًا من أي عبودية، عند ذاك تمارس الاختيار الحر، وتمضي في سبيل السيادة الحقيقية، وتقترب خطوة خطوة من طريق الأشواق الأبدية المضنون به على غير الأحرار.
٩
قالت أفكار وهي تتثاءب: أكون مجنونة لو حضرت مجلسه بعد الليلة.
وقالت نبيلة: إنه مثير ولكنَّه سيتقلب مضجرًا.
وقال لي وفيق: إنه مجنون فيما أرى، ما رأيك بصراحة؟
فقلت متظاهرًا بالمرح: لم يَعُدْ لي من تسلية سواه.
فقال بحنق: لقد أجنَّه الفشل، كان الله في عونك.
أثارني حديثه لدرجة لم أقدِّرها. لم تكن لتحدث في ظروف أخرى. عدت أسمع صوت الزمن. فيما مضى كنت شريكه في الاطلاع والفكر. اليوم أصبحت مجرد مستمع ذاهل. ماذا أكون وماذا تكون أسرتي؟ أحرار أم عبيد؟ بدا السؤال مضحكًا. السوق، المكتب، النقود، الثرثرة، التحف، القمار. هل أمضي من المرض إلى احتقار الذات والأهل؟ ترى هل يمكن تربية الإرادة؟ هل يمكن تربية الإرادة بالإرادة؟ التغيير أهم من القراءة والرؤية والسماع. إني أسمع وأرى وأقرأ ولكن ما جدوى ذلك؟ هل يجاوز التسلية العابرة وقتل الوقت؟
وامتعضت امتعاضًا شديدًا. عزَّ عليَّ قلقي واضطرابي. بوسعي أن أنسى ما سمعت، أن أقطع الصلة الجديدة، أن أهزأ منه. ولكن وراء السطح المحتدم قبعت لهفة تتشوَّق إلى عودته. لقد جلا الصدأ عن نفسي وبُعث الشخص القديم.
– ألا يُعَدُّ صوته إغاثة للمريض من وحدته؟
١٠
انفعلت انفعالًا سعيدًا متجدِّدًا بزيارات جلال أبو السعود الدورية. وسعدت بصفة خاصة لانفرادي به بعد أن أضربت الأسرة عن شهود مجالسنا. وعاصرنا الخريف بجوه المنعش، وشمائله العذبة، وألوانه البيضاء، ونفثاته الموحية، فهو ربيع وطننا بلا شريك، ولدى أول زيارة انفراديَّة قلت له دون حذر من رقباء: والله زمان!
فألقى نظرة على الحجرة الخالية وتمتم ضاحكًا: هرب المستمعون!
– هذا أفضل.
فقال بأسًى: يندر أن يطيب حديثي لأحد ولكني لا أكف عن الكلام.
ذلك ما أُعِدُّه من حسن حظي. إنه يتحدَّث عن تجربة شخصية حميمة، عن معركة يخوضها بكل قوته، وبتصميم رائع على تحدي اليأس.
وذات مرة قلت له: أتذكَّر الحكمة التي قرأناها معًا في ماضينا «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»؟
فحنى رأسه الأصلع بالإيجاب فقلت: أحاديثك المثيرة أعادتها إلى وعيي.
فقال باهتمام: أعتقد أننا فهمناها على غير حقيقتها.
– لكنها واضحة تمامًا.
– لا أوافقك، يجب أن تكون دعوة للموت في هذه الحياة التي نحياها!
فقلت ضاحكًا: فال الله ولا فالك.
فقال جادًّا: لن يعزينا انتباه ما بعد الموت عن الغفلة الطويلة في حياتنا.
ففكَّرت في قوله تمشِّيًا مع رغبتي في المشاركة ونبذ دور المستمع السلبي، أما هو فمضى يقول: علينا أن نموت في هذه الحياة.
– لا أتصورك قائلًا أبدًا.
– في عنق كل منَّا جريمة قتل عليه أن يرتكبها.
فقلت لأقنعه بأنني بت أفهمه: تعني أن يقتل نفسه!
– إذا وُفِّق إلى قتل نفسه المستعبدة تحرر ووُهب الانتباه!
•••
وفي زيارة أخرى بادرني بسؤال عجيب: أتذكَّر نفسك التي آخَتْني في عهدنا القديم؟
فقلت من فوري: طبعًا.
– أشك في ذلك، كان شخصًا آخر تمامًا، في خلاياه وشكله ووزنه وفكره ورؤيته.
– إني أتذكره على أي حال كلما أردت ذلك.
– أشك في أنك تتذكَّره تمامًا، ولقد تتابع عليك مئات الأشخاص المختلفين لا يكاد يجمعهم إلا اسم «عبد الحميد حسني».
فقلت وأنا لا أدري مقصده: هذا طبيعي جدًّا.
– الطبيعي أن يكون الإنسان «أنا» واحدًا.
– وهو كذلك بمعنًى من المعاني.
فابتسم لحيرتي ثم قال: انتبهت ذات يوم — وكنت في أول الطريق — إلى تعدُّد شخصياتي، فسجَّلت بعضها في مذكرة اليوميات.
قاطعته متسائلًا: لك يوميات؟
- (١)
في الصباح الباكر، نزاع حاد مع زوجتي بسبب المصروف، اتهام مني لها بالإسراف واتهام منها لي بالجهل. رميتها بالتمرُّد فرمتني بالرجعية، الحالة النفسية انفعال غضب … ذاتية … كذب … ميل إلى الاستبداد … خوف من المستقبل بلا أساس … إرادة مشلولة … عقل أسير … عاطفة عمياء … عاطفة في قبضة غريزة …
- (٢)
قبيل الغداء بمستشفى ميت غمر، حديث مع زميلة طبيبة مولِّدة شكَت إليَّ زوجها وعُقَده، ظهر فيَّ «أنا» جديد، حديث مني عن الرجل والمرأة في ضوء حقوق الإنسان، شعارات عصرية مبهرة، الحال النفسية هادئ مرتب الأفكار … كذاب لإرضاء الزميلة … خائف من تهمة التخلف … خيالات جنسية عارية …
- (٣)
العصر، في حجر الأطباء، بروز «أنا وطني» مائة في المائة، حملة على الاعتداء الثلاثي، تأييد للثورة في محنتها، دفاع عن حكمها الدكتاتوري، تبرير الدفاع بأن لقمة العيش أهم من الحرية لدى تسعين في المائة من الشعب، الحال النفسية خوف من الغازات الجوية، كذب فيما يتعلق بالحرية، العقل مكبوت، الإرادة مفقودة، تمزق بين حب الوطن ورفض أسلوب الحكم.
- (٤)
المساء في النادي مع زميل منحدر من أسرة إقطاعية، تبلور «أنا» رابع، تصريح مني بأن الغزو وإن يكن شرًّا في ذاته فلن يخلو من خير إذا حرَّرنا من عصابة الضباط، موافقة على رأي الزميل بأن الحكم البريطاني كان أفضل من حكم الثورة، الحال النفسية كذب ونفاق وخوف وتمزق وحزن عميق.
وهكذا يا عزيزي، كل أنا شخص جديد في عواطفه وأقواله وأفكاره ورؤيته للحقيقة، فالإنسان مفقود الوحدة فريسة للكذب والخوف، لذلك يعيش إنسانًا بلا إنسانية …
فقلت منفعلًا غاية الانفعال: على هذا الأساس فإن الفرد في الواقع شعب كامل!
– نطقت بالصواب … ولكن لا بد من التسجيل لتتجسد الحقائق، لا تعتمد على التذكُّر، فهو وهم كالحرية المزعومة وكالصديق المزعوم، وعندما تتجسَّد الحقائق يعبئ الإنسان إرادته لتغيير ذاته، ولخلق الانسجام والتوافق بين الغريزة والعاطفة والعقل، ليؤدي كل وظيفته الطبيعية بلا كبت ولا طغيان على الآخرين …
فسألت باهتمام شديد: هل تكفي الإرادة لإحداث هذه المعجزة؟
فقال بهدوء: ثمة شرط أساسي، أن يحدد الإنسان لنفسه غاية عليا!
– لا يخلو إنسان من غاية.
– وهمٌ جديد يا عزيزي عبد الحميد، الغالبية العظمى من البشر لا تعرف لها غاية عليا، أجل لكل أنا غاية قريبة، وهي غايات متضاربة تخضع لميكانيكية الحياة اليومية، ولا بأس بها ولا ضرر منها إذا هيمنت عليها غاية عليا، ولا وحدة للإنسان إلَّا بهذه الغاية المنشودة!
فسألته بشغف: وما هذه الغاية يا ترى؟
– عليك أن تجيب على السؤال بنفسك، لقد اجتهدت من جانبي واخترت الحرية كما قلت لك.
فكَّرت فلم اقتنع وقلت: الإنسان يتميز بالعقل فيجب أن تكون الحقيقة هي غايته العليا.
فقال باسمًا: لا اختلاف بيننا في الواقع، ألم أقل إن الحرية والحقيقة الموضوعية شيء واحد؟ ألم أقل إن الذاتية هي العقبة الكئود في سبيل الحرية؟ فالعقل الحر وحده هو القادر على معرفة الحقائق.
فقلت وكأنما أخاطب نفسي هذه المرة: يلزمني اطلاع كثير وتفكير أكثر.
الأهم أن تبدأ فورًا بتربية الإرادة، فلا اطلاع ولا تفكير بلا إرادة، إن ضعيف الإرادة يطَّلع ويفكِّر أيضًا ولكنه يتشتَّت في أحلام اليقظة، انتهز فرصة السجن فهي نادرة خاصَّة لرجل مثلك، والطريق ليس باليسير، هو قضاء كامل على حياة زائفة ممتدة طولًا وعرضًا وعمقًا، هو اختيار كلمة أو سلوك أو اختيار على ضوء غاية عليا محددة، وستواجه به أهوالًا لا تخطر بالبال، وتطالب بتضحيات لا حصر لها ولا حد، بدءًا من تعاملك مع أسرتك وزملائك وانتهاءً إلى مواقفك من النظم والدولة والطبيعة وما وراء الطبيعة.
وشملنا صمت غير قصير، ثم ابتسمت في حيرتي وسألته: هل وصلت؟
فأجاب بنبرة محايدة: كلا، ولكني أحرز نجاحًا يومًا بعد يوم.
ثم متسائلًا في أسًى: وما قيمة وصول فرد واحد أو عدة أفراد بين آلاف الملايين من البشر؟
– دعنا من الخيال.
– ولكن لا قيمة لخلاص تحظى به قلة.
فقلت له على سبيل التعزية: قد يحدث التطور المعجزة.
فقال بازدراء: التطور الحقيقي لا يجيء إلَّا من الداخل.
فقلت ضاحكًا: ستُمحى المجموعة الشمسية قبل أن يحقق آلاف الملايين التطور الذي تحلم به.
فقال محتجًّا: لم يوجد شيء عبثًا.
فسألته استجابة لخاطرة طارئة: هل تفكِّر في نشر يومياتك؟
فحنى رأسه موافقًا، فسألته: متى؟
– لم أحدد الوقت بعد، سأنشرها عندما يسعني أن أحدد الوقت بحرية.
– ماذا تعني؟
فقال باسمًا: عليك أن تفهم ما أعني بنفسك، ولا أهمية لذلك.
فلم أشأ مضايقته. وخطر لي خاطر فقلت: يذكِّرني طريقك بالتصوف؟
فقال بسرعة: كلا، التصوف أرستقراطي وطريقي شعبي، التصوف مقاماته التوبة والفقر والتقوى والتواكل … إلخ، أما طريقي فمقاماته في الحرية والثقافة والعلم والصناعة والزراعة والتكنولوجيا والحزبية والعقيدة، التصوف يجعل من الشيطان العدو الحقيقي للإنسان أما الطريق فعدوه يشمل الفقر والجهل والمرض والاستغلال والطغيان والكذب والخوف …
فضحكت وقلت: لعلك تعدُّني ضمن الأعداء؟
فضحك مثلي ولاذ بالصمت.
١١
أوَّل عهدي بالمرض نشدت التوافق مع الواقع، وقهر الضجر بالرؤية والسمع والقراءة، أي بالتسلية والمتعة والفكر. أجل فكَّرت كثيرًا ولكنه كان تفكيرًا يستهدف جلاء الحقائق وتذكُّر الوقائع ولا غاية وراء ذلك. وباقتحام جلال أبو السعود لحياتي انبثق منها تفاعل كيماوي ولع بالتغيير وحلم به قبل كل شيء. لم آخذه مأخذ الجد من بادئ الأمر فلم أخشَ عواقبه، وتصورت أنني سأتخلى عنه عند لوح الخطر. ولكن فكرة التغيير مضت تلاعبني لعب القط بالفأر، بهرتني مثل نجمة الصباح. وعقدت مقارنات خيالية بين أسرتي وبين حلم جلال فشعرت بما يشبه الغثيان. إنهم ثمرة حياتي وتربيتي لُعنت الشجرة والثمرة. وساءلت نفسي في قلق محموم: أأنا جاد حقًّا؟!
أولئك المولعون بالتحف والثرثرة والمال ولع الأطفال بالحلوى كيف أحادثهم عن غاية عليا؟!
وهتفت بضيق شديد: أيتها الحياة المحيرة، لا أدري أينا ضحية لصاحبه.
وكلما ألح عليَّ الأرق تساءلت: أأنا جاد حقًّا؟!
•••
وفي زيارة لجلال أقدمت على خطوة جديدة وهامة، بعد تردُّد معذب طويل كُنَّا نطرق باب الشتاء، وقد أمطرت السماء مطرة خفيفة واحدة قلت لجلال: فليسامحك الله على ما فعلت بي.
فضحك قائلًا: لا تُخجل تواضعي!
فرمقته بتحدٍّ وقلت: أريد أن أطلع على يومياتك.
فرفع منكبيه استهانة وقال: أكثرها لا يختلف عن يومياتك التي لم تدوَّن، الأفضل أن تسجل ذكرياتك!
– ألم تقل إن التذكُّر وهم؟
– ولكن الوهم ينقشع بتربية الإرادة.
– ولم تضنَّ بها؟
– لديَّ أسباب، وقد أُطلعك عليها في ظروف أخرى.
لم ألح عليه أكثر. وركَّزت على النية التي أنتويها. قلت: يخيل إليَّ أنني راغب في دخول تجربتك!
فثقبني بنظرة جامعة بين الحذر واللهفة ثم تمتم: حقًّا؟
فقلت مبادرًا: أنا لا أكذب أبدًا.
وسرعان ما تذكَّرت حديثه عن الكذب والخوف فقهقهت على رغمي وقلت كالمعتذر: في الأقل فيما يتعلق بهذه الرغبة!
لم تغض نظرة الحذر من عينيه فتساءلت: لمَ تشك فيَّ؟
فقال بهدوء: هذه الرغبة تُسبق عادة برغبة أخرى.
– ما هي؟
– أن تعترف بخبايا حياتك التي تؤرقك.
فهتفت من فوري: هذا ما يلح عليَّ، هذا ما صارعته حتى صرعني.
فقال بارتياح: انتظرت طويلًا أن أسمع منك ذلك حتى كدت أيأس منك، أشهر مرَّت وأنا أنتظر!
– لم أتصوَّر أن يكون للاعتراف كل هذه الأهمية.
– بل إنَّه يقطع بأنك دخلت التجربة وأنت لا تدري وأن إرادتك بدأت تعمل …
فشملني سرور صبياني أما هو فواصل: كُنَّا شابين مجتهدين فقيرين، هدفهما عمل يوفر الرزق. وثقافة تُثري الحياة، ماذا حدث بعد ذلك؟
قلت بلا تردُّد: توظفت، تزوجت، أنجبت، واصلت حياتي الثقافية، حققت الحلم كما ترى …
لم يعلق بكلمة فقلت: ثم قدمت استقالتي من الوظيفة.
لزم صمته دون دهشة أو تساؤل فأدركت أنه يأبى مساعدتي ليتوكَّد من صدق رغبتي. قلت: الحقيقة أنني اضطررت إلى الاستقالة.
لم يتأثَّر حياد وجهه فقلت: كنت مراجعًا بحسابات الأشغال، وكان مقاولًا ممن يتعاملون مع الوزارة، ندَّت عنه كلمة فوجدتني أمام إغراء لم يُعرض لي من قبل، اقتلعني من مستقر حياتي، اكتشفت أنني أنطوي على رغبات أخرى غير الثقافة والسعادة البريئة، ثمة حياة أفضل، ترددت طويلًا ثم مددت يدي، وكان لي منطقي أيضًا المستمد من مناخ فاسد، وتوهمت أنني أطبقه بحرية كاملة.
حولت عيني إلى الأمام وقلت: الانحدار لا يعرف التوقُّف، فاحت الرائحة، لا أطيل عليك، اضطرُّوني إلى تقديم استقالتي على سبيل العطف …
عطفت إليه عيني فكأنما لا يسمع ما يقال، قلت: وجدتني مهدَّدًا بالجوع فكدت أجن لولا أن ألحقني المقاول بمكتبه.
هل أكتفي بهذا القدر؟ ماذا يعني عن التراجع؟ وساد الصمت حتى قال بلا اكتراث: عرفت قبلك مشقة الصدق.
كأنما يقرأ أفكاري. وقلت مستهترًا: اعترضتني أزمة لعينة … (ثم بعد صمت) … عشق المقاول راقصة أجنبية، لم يكن من الميسور في ذلك الوقت أن تمد إقامتها في مصر ما لم تتزوَّج من مصري … (ثم بعد صمت) … قبلت أن أتزوج منها سرًّا نظير هبة مالية محترمة.
شعرت بإعياء فطال صمتي حتى تساءل: بتلك الهبة فتحت مكتب الاستيراد؟
فقلت بنبرة مرهقة: بدأت بالتهريب نظرًا لتشدد القوانين في تلك الأيام، ثم فتحت المكتب بعد ذلك، ثم انفجر النجاح بعد الانفتاح حتى بلغت ثروتي السائلة خمسة ملايين من الجنيهات.
شملنا صمت ثقيل فوجدت تعزية في صفحة وجهه الذي لم يخرج عن حياده التام. وقال بهدوء: أشياء تحدث كثيرًا ما تحدث، أما الاعتراف بها فلا يحدث أبدًا.
فتمتمت: إنها نسَّافة مثل الديناميت …
– الديناميت لا يهم من يرغب في دخول التجربة، وسوف تجد في يوميَّاتي خطايا كثيرة.
– هل تأذن الآن في اطلاعي عليها؟
– لا علاقة بين هذا وذاك، ستجدها بين يديك في الوقت المناسب لا قبل ذلك …
فشبكت يديَّ في بعضهما وقلت: أخاف على أسرتي من قرارات قد أتخذها يومًا فيرونها جنونية.
فقال باسمًا: عندما تصبح قادرًا على اتخاذها فلن تزعجك المخاوف.
– يجب أن أصمد حتى النهاية.
– في الإنسان قوى لا حدود لها، ثق من ذلك.
فقلت متأسِّفًا: مرضي يشككني أحيانًا في قيمة رغبتي، أريد أن أختبر نفسي وأنا صحيح معافًى …
– تفكير تستحق من أجله الثقة ولكن المرض وحده لم يكن ليغيِّرك …
فداخلني ارتياح وسألته: أمن الصواب أن أسألك الإرشاد عند الضرورة؟
– كان لي مرشد أيضًا، المعاونة هامة وضرورية.
– فازددت ارتياحًا ثم خطر لي خاطر فسألته: هل نجحت مع أسرتك؟
– لدرجة كبيرة، لا تنسَ أن النساء تستغرقهن الغايات اليومية، ولكنهنَّ في النهاية يشاركن الرجال في أعماقهنَّ الإنسانية.
– أظن أنه يجب أن أربي نفسي أولًا قبل أن أكر عليهم؟
فهز رأسه نفيًا وقال: من الضروري أن تسبقهم بالرغبة والخطوات الأولى، ثم عليك أن تشركهم في التجربة، فالمقاومة الأولى مُهِمَّة جدًّا باعتبارها مقوِّيًا لا غنى لك عنه، ثم يجيء التعاون المثمر، تذكَّر دائمًا أن عملنا تعاوني وليس فرديًّا.
فتمتمت في حيرة: إنهم في وادٍ بعيد … بعيد …
– انتشلهم من الفراغ وادفعهم إلى العمل، هذه هي الخطوة الأولى …
فتساءلت في دهشة: أنسيت ما قلت مرارًا عن التحرُّر من العمل؟
فقال بوضوح: نحن في مرحلة العمل، ولن نتحرَّر من العمل إلَّا بالعمل، والفراغ المنشود هو الفراغ المثمر الحافل بالعمل الإنساني، وقد أقنعت زوجتي — وهي تماثل زوجتك في تعليمها — بالعمل عضوًا في جمعية رعاية الأيتام، ابنتي الكبرى ست ومربية وهو عمل، أما الأخريان فستكونان طبيتين.
– المشكلة العسيرة هي وفيق فهو يعتقد أن عمله غاية الغايات.
فقال بأسًى: إذا اعتبرنا العمل نشاطًا منتجًا لخدمة الفرد والجماعة فوفيق عاطل بلا عمل، الأدهى من ذلك أنه يقوم بنشاط مخرَّب، وهو أشبه بتجَّار الحبوب المخدِّرة القاتلة!
بذلك كشف عن رأيه في عملي أنا أيضًا فليس وفيق إلا امتدادًا لي. أُخذت لحد الفزع ولكني قلت: أمره هين رغم ذلك.
– كيف؟
– إني صاحب المال، وأستطيع إرغامه على التحول إلى النشاط الإنتاجي!
فهتف: احذف «الإرغام» من قاموسك، لا تتبع طريق الحكَّام الذين يمهِّدون للديمقراطية بمناهج دكتاتورية، أو يحقِّقون العدل بالظلم، إنه طريق سهل لأنه يقوم على القوة لا التربية.
وصمتنا ولكننا واصلنا تبادُل الأفكار بالنظرات حتى اقتحمني خاطر كما يقتحم القذى فقلت: سوف ألقى من المجتمع حرجًا أشد!
فوافقني بهزة خفيفة من رأسه فقلت: طالما عُددت من العمد المرضي عنها.
فقال بوضوح: لن يتيسَّر لك السير إلَّا بقهر الكذب والخوف.
١٢
مضى الشتاء وأنا أحاول لأوَّل مرَّة الكتابة، كتابة المذكِّرات. لم أكن أتذكَّر إلا المعالم التي لا تنسى وهي قليلة، ولكنَّ التداعي استنقذ من العدم كهوفًا مطمورة. وعن سياستي مع أسرتي فقد دأبت على عرض آراء صديقي وكأنما أقصد تسليتهم ليس إلَّا. وأجاريهم في اتهامه بالخبل ولكني أقول أحيانًا: حقًّا إنه مخبول ولكنَّ خبله لا خطر منه، ثم إنَّه لا يخلو من حكمة، أليس من المهم أن يقوِّي الإنسان إرادته ليحظى بحريته الحقيقية؟ وأليس العمل المنتج خيرًا من النشاط الانتهازي؟!
– وأثنى جلال على منهجي، ووصفه بأنه منهج «تَسَلُّلي» ذو أثر فعَّال مع التكرار والصبر، والإصرار حيال ضجر الآخرين.
وقلت له يومًا بشأن مذكراتي: لم أستطع حتى الآن تسجيل واقعة زواجي من الراقصة الأجنبية!
فقال بامتعاض: يسوءُني أن أسمع ذلك، إن كذبة واحدة تقوِّض البنيان من أساسه.
– لا يعلم به إلَّا ثلاثة، المرأة وقد طُلِّقت من زمن وغادرت البلاد، أمَّا أنا والمقاول فلنا مصلحة واحدة في إخفائها، وهي كفيلة إذا عرفت بالقضاء عليَّ في الأسرة والمجتمع.
– التسجيل مهم لتربيتك أنت، أمَّا النشر فلا أهمية عاجلة له.
– قد تطَّلع عليه الأسرة بعد وفاتي؟
– إذا نجحت في تغيير الأسرة قرأتها بعين جديدة لا خوف عليك منها.
بدأت — رغم اهتمامي الظاهر — كمن يمارس تسلية ممتازة في سجنه ولكنَّها مضت تنشب فيَّ أناملها الناعمة بلا توقُّف.
١٣
في ليلة من ليالي الشتاء الملتحمة بالربيع استمعت إلى ألحان شرقيَّة قديمة بعمق وتركيز اكتسبتهما أخيرًا ثم أطفأت النور مستقبلًا نومًا مريحًا. كانت أفكار ونبيلة ووفيق في الخارج كالعادة وسرعان ما استغرقت في النوم. ولكنَّني انتبهت من نومي مكلَّلًا بشعور بأنني لم أنم إلَّا قليلًا وأن الصباح ما زال بعيدًا. طالعتني ظلمة مكثفة بالستائر المسدلة فأغمضت عينيَّ غير أنني سرعان ما فتحتهما استجابة لصوت غريب يشبه الحفيف. تخايل لعينيَّ شبح إلى يمين الباب فتساءلت: أفكار؟
لكنه لم يرد ولم يتحرَّك. عجبت لرؤيته رغم الظلمة الكثيفة، حملقت فيه متلقِّيًا دفقة من القلق والخوف. مددت يدي نحو ظهر الفراش حتَّى عثرت على زر الجرس ثم ضغطت عليه طويلًا وقد ضاعف عجزي من خوفي. سيسمع الخدم، وعسى أن يكون وفيق قد رجع. ولما طال الانتظار تسلَّلت يدي الأخرى نحو زر الأباجورة وضغطت مجازفًا بالمواجهة ولكن المصباح لم يضيء. هل احتاط الشبح وقطع التيار الكهربائي؟ أخرجني الخوف من صمتي فتساءلت: من أنت؟
ثم مستمرًّا بصمته.
– ماذا تريد؟ ليس في الحجرة نقود!
وإذا بشبح ثانٍ يتراءى لي إلى يمينه أطول منه بقبضة يد. اندفعت صارخًا مناديًا وفيق ولكن صوتي لم يخرج. لعله الخوف أو الشلل. وسيطر اليأس. وإذا بثالث يقف إلى يمين الثاني على مبعدة مترين من مقدم السرير، وإذا برابع يتجلَّى رغم الظلمة وهو أضخم الأربعة وأطولهم. امتلأت بوحدتي وعجزي ويأسي المطلق. تساءلت باستسلام: ماذا تريدون؟
فجاءني صوت خُيِّل إلى أنني لا أسمعه لأول مرة يقول: من حفر حفرة لأخيه …
فقلت بحرارة: أي حفرة؟! إني طريح الفراش منذ حوالي العام …
فقال الصوت بغضب: كففت عن الحركة لا التآمر!
– والله لا أدري لقولك معنى …
فقال بحدة: لا تدَّعِ البراءة وأنت عريق في الإجرام.
ووثبوا وثبة واحدة. اثنان إلى يميني ويساري، والآخران فوق الفراش. أيقنت بالهلاك فتوتَّرت أعصابي لأقصى حد. قبض الأوَّلان على ذراعيَّ فاندفعت أقاومهما بعنف لأخلِّص ذراعيَّ، متوقِّعًا في الوقت نفسه هجمة من الأمام. ووقع الهجوم فاستمددت من اليأس قوَّة. خلَّصت ذراعيَّ ورحت أضرب كيفما اتفق في جميع الجهات وأتلقَّى من اللكمات ما لا يُعَدُّ. ازددت عنفًا، ثم بلغت الرغبة في الحياة ذروتها فطرحت عن صدري الرجلين وتبادلت مع الآخرين ضربًا لا يعرف الهوادة. وسقط رَجُلا الفراش على الأرض، ولكن كيف سقطا؟ تبيَّن لي أنني دفعتهما بقدمي!
ذهلت من الفرح رغم كربتي واجتاحني الشعور بالشفاء من العجز.
ازددت قوة وثقة حتى استطعت الوثوب إلى الأرض. وقفت أقاتل بقدرة كالإلهام بعد حدوث المعجزة، ووضح أنهم أضعف مما تصورت وأنهم عزَّل من السلاح. تقهقروا نحو الباب وأنا أتعقَّبهم باللكمات الصادقات حتى بلغنا الصالة الخارجية. ودوَّت صرخاتي الغاضبة وهم يولُّون الفرار.
١٤
شع الضوء فبهر عينيَّ.
وقفت مذهولًا بين أفراد الأسرة والخدم. هتفت نبيلة: شفيت يا بابا!
وتمتم وفيق: كابوس! ولكن شكرًا له!
وقالت أفكار: علينا باستدعاء الطبيب في الحال!
رجعت إلى الفراش ماشيًا في حذر، وشملتني مع الذهول فرحة طاغية، وجعلت أقول: لا أصدق ولا أتصوَّر!
وقهقهت أفكار متسائلة: ماذا رأيت في نومك؟!
١٥
جمعنا لأول مرة بهو الاستقبال. قلت: أكَّد لي الدكتور صبري حسونة أنه كان يتوقَّع لي الشفاء.
فقال جلال أبو السعود: أنا لا أصدِّقه تمامًا.
ثم حدثته بالتفصيل عن الحلم فأوَّله بأنه ترجمة حرفية لآلام الشفاء.
– تأويل معقول فيما أرى …
فقلت بإصرار: أعتقد أن الحلم هو كل شيء.
فتفكَّر قليلًا ثم قال: بين الحقيقة والخرافة خيط رفيع، فاحذر أن تقصفه.
فتساءلت: ألا تؤمن؟
فقاطعني: أود أن تركز على إرادتك الحرة.
فقلت له بإصرار: الأمر يتعلَّق بآمال الإنسان في الحياة وما وراء الحياة.
فقال بهدوء: طريقنا منهج ينتفع به المنتمي واللامنتمي على السواء.
– طالما قنع إيماني بالقشور وأريد أن أعيد النظر في موقفي.
فقال باسمًا: وهي وحدة حتمية إلى إعادة النظر بعد تنقيته من العبودية والذاتية.
فقلت برجاء: أرجو ألا تضجر مني.
– سأنتفع بك بقدر ما تنتفع بي.
وخطر لي خاطر فقهقهت قائلًا: أسرتي سعيدة بشفائي، ولكنها لا تدري شيئًا عما ينتظرها من متاعب.
فضحك قائلًا: العبرة بالخواتيم!
وكنت فريسة للقلق مما بدا أثره في حركات يدي ونبرات صوتي. ولحظت أنه يرنو إلى يدي بعمق فقلت كالمعتذر: إنه ما يسبق الميلاد …