ميخائيل بولغاكَف (١٨٩١–١٩٤٠م)
وُلد ميخائيل بولغاكف سنة ١٨٩١م في مدينة كييف، حيث تعلَّم وأصبح طبيبًا،
أدركته ثورة أكتوبر ١٩١٧م وهو في السادسة والعشرين من
عمره. وبنشوب الحرب الأهلية في الإمبراطورية الروسية
القيصرية المنهارة وجد نفسه سنة ١٩١٩م في صفوف البيض؛
أعداء الثورة، يعمل طبيبًا عسكريًّا في جبهة القوقاز،
وفي مدينة غروزني
الشيشانية التي أصبحت اليوم أشهر من أن تُعرَّف، هل كان
تعاونه مع البيض اختيارًا أم نتيجة ظروف وملابسات،
طوعًا أم تجنيدًا؟ تصعب الإجابة اليوم بغياب الوثائق
والشهادات، سيما وأننا لا نميل إلى التخمين والتبسيط
المُجحف في النظر إلى أمورٍ على هذا القدر من
التعقيد.
كان لميخائيل
بولغاكَف شقيقان ضابطان حاربا في صفوف البيض
ثم هاجرا، مع فلول المهزومين، إلى أوروبا الغربية. أما
بولغاكَف نفسه —
الطبيب والكاتب — فقد كان أحد كثيرين أصيبوا بوباء
التيفوئيد الفتَّاك سنة ١٩٢٠م إصابة ظُن أنها قاتلة،
لكنه شُفي وانضم إلى صف الثورة في نيسان/أبريل ١٩٢٠م،
تاركًا مهنة الطب، ناذرًا نفسه للأدب، وفي خريف ١٩٢١م
انتقل إلى موسكو وألقى بنفسه في ما يمكن أن نسميه —
دونما خوف من تهويل — حربًا ضروسًا في الثقافة/الحياة
الروسية بشتَّى جوانبها وتجلياتها … كان خصومه من
الأدباء هم الأقوى من الناحية السياسية، يرون في الأدب
منبرًا أيديولوجيًّا صريحًا وصداميًّا قبل كل شيء، وما
كان لبولغاكف وأمثاله
من الموهوبين الشرفاء إلا أن يتجاوزوا هذه الشرنقة
الضيقة ليقفوا مع الحق والحياة/مع الفن المبدع، دون أن
يغضُّوا الطرف عن الانتهاكات والضلالات والأخطاء، دون
أن يسمحوا للتيار بجرفهم حيث شاء. كان بولغاكف إنسانًا متماسك
الشخصية، ثاقب النظر، شجاعًا بتعقُّل، جدَّد في الأدب
ولاقى التقدير مثلما لاقى الإنكار والويلات. كان قلمه
متهكمًا، ساخرًا، لاذعًا … فلم يزدد معسكر خصومه إلا
تعنتًا وسبابًا وتهويشًا، يوم أصدر مجموعة قصصية
(«الشيطانيات» ١٩٢٥م) مبنيَّة — في تقنيتها — على
الفنتازيا المُرة والنقد العميق لجوانب بالغة الأهمية
في الإنسان والحياة — يومذاك — على السواء.
في مطلع سنة ١٩٢٥م أيضًا كان قد أنجز قصته الطويلة
«قَلْبُ كلب» التي
حذَّره أصدقاؤه من نشرها، فبقيت أكثر من ستين سنة بعيدة
عن متناول يد القارئ الروسي، حيث لم تُنشر في روسيا إلا
سنة ١٩٨٧م، ومنذ ذلك التاريخ تكرر نشرها مرارًا يصعب
حصرها، وذلك في مرحلةٍ لا تقل تعقيدًا عن مرحلة
كتابتها، ما جعل كثيرين من القراء لا يرون فيها أكثر من
نبوءةٍ سياسية، إبداعية، سوداء، نفَّاذة لا
تُضاهى.
لقد انفجرت خلافات بولغاكف مع خصومه أشد انفجار بسبب نشاطه
المسرحي في أهم مسارح موسكو
(مخات)، ولا سيما مسرحيته «أيام عائلة توربين» التي حضرها
ستالين نفسه خمس عشرة مرة، ولم يحمِه من حملة الخصوم
وتهجماتهم والتحريض العلني عليه لا دفاع لونَتشارْسكي ولا تقدير
غوركي ولا العمل مع
ستانسلافسكي، فمُنعت
المسرحية أخيرًا من العرض.
سنة ١٩٣٠م بلغ العداء ضده حدًّا لا يُحتمل، فتوجه إلى
الحكومة السوفييتية برسالةٍ أسفرت عن مكالمةٍ هاتفية
أجراها معه ستالن في
بيته في ١٨ نيسان/أبريل، كانت موجزة ودقيقة. قال له
ستالن: «لقد استلمنا
رسالتك، وقرأناها مع الرفاق، وستتلقى إجابةً حسنة
عليها.»
ثم سأله ستالن:
«لعلنا، حقًّا، نسمح لك بالهجرة؟»
فأجاب بولغاكَف
بوضوح: «لقد فكرت طويلًا في المدة الأخيرة: هل يستطيع
كاتبٌ روسي أن يعيش خارج وطنه؟ ويبدو لي أنه لا
يستطيع.»
رد عليه ستالن:
«أنت على حق. إنني أفكر مثلك.»
وأنهى المكالمة.
لم يعد بولغاكَف
مجهولًا للقارئ العربي بعد ترجمة روايته الشهيرة
«المعلم ومرغريتا».
ولعل ترجمة «قلْبُ
كلْب» تكون خطوة إلى الأمام في إضاءة صورة
هذا الكاتب الروسي الذي يمثل جزءًا هامًّا من خريطة أدب
وطنه الذي رفع رايته عاليًا كلٌّ من دستيفسكي وتلصتوي وتشيخف وغيرهم
…
د. نوفل نيوف