الفصل الثاني
ما من داعٍ أبدًا لتعلم القراءة ما دامت رائحة اللحم تصل إلى مسافة كيلومتر. لا سيما وأنك إذا كنت تقطن في موسكو، وفي رأسك أدنى قدر من المخ، فلا بد أن تتعلم القراءة شئت أم أبيت، بل ومن غير أية دورات، فليس بين ستين ألفًا من كلاب موسكو من لا يستطيع تجميع حروف كلمة «سُجُق»، إلا إذا كان كامل العته تمامًا.
وفيما بعد سارت الأمور بنجاحٍ أكبر؛ فقد حفظ حرف «ﺔ» من «السمكة الرئيسية» في زاوية الشارع مخفايا، ثم حرف «ﻛ» لأنه كان يسهل عليه أن يأتي كلمة «السمكة» من آخرها ما دام ثمة شرطي يقف عند أول الكلمة.
كانت مربعات القرميد الصغيرة التي تزدان بها الزوايا في موسكو تعني دائمًا وحتمًا «ﺟ-ب-ن». وكان الحرف الذي يشبه حنفية السماور السوداء ويتقدم الكلمة، يشير إلى اسم الملك السابق تشيتشكِن، وإلى جبال الجبن الهولندي الأحمر، وإلى الباعة الوحوش الذين لا يطيقون الكلاب، وإلى نشارة الخشب على الأرض وجبن باكتشين العفن والكريه الرائحة.
حين كانوا يعزفون على الهارمونيكا أنغامًا تفوق «عايدة الغالية» قليلًا، وتفوح رائحة السجق، فإن الأحرف الأولى على اليافطات البيضاء كانت تتجمع على نحوٍ مريح جدًّا لتشكل كلمة بذﻳ … «الأمر الذي كان يعني: «لا تتفوهوا بكلماتٍ بذيئة ولا تعطوا إكرامية.»
كانت المعارك تنشب هنا بالكرباج أحيانًا، ويضربون الناس بالقبضات على وجوههم، ولكن، للحقيقة. كان ذلك يحدث في حالاتٍ نادرة، إلا أنهم كانوا دائمًا يضربون الكلاب بالفوطات أو بالجزمات.
إذا كانت أفخاذ قديمة من لحم الخنزير المدخن تتدلى في الشبابيك. وكان ثمة ثمار اليوسفي … عاو-عاو … عا … فتلك مواد غذائية، وإذا كانت زجاجات قاتمة فيها سائل رديء … خا– إم-خم-ور-خمور … الإخوة يليسييف سابقًا …
هذا السيد المجهول الذي جر كلبًا إلى باب شقته الباذخة في الطابق الثاني، ضغط على زر الجرس، فرفع الكلب عينه حالًا ليرى لافتةً كبيرة سوداء، معلقة على جانب باب عريض ذي زجاج معشَّق زهري اللون، وعليها كتابة بحروفٍ ذهبية، وسرعان ما ركَّب الحروف الثلاثة الأولى «با، را، أو-برو»، ثم تلاها حرف تافه منفوخ معقوف، لم يفهم الكلب ماذا يعني، ففكر متعجبًا: «أيعقل أنه بروليتاري؟ إن ذلك مستحيل» — رفع أنفه عاليًا فتشمم معطفه الفرو ثانيةً وقرر واثقًا: «كلا، لا أثر لبروليتاريٍّ هنا، ما هي إلا كلمة علمية، ولكن الله أعلم ماذا تعني.»
انبثق من وراء الزجاج الزهري ضوءٌ فجائي بهيج زاد من إبراز اللافتة السوداء، ثم انفتح الباب على مصراعيه بكامل الهدوء، فظهرت أمام الكلب وسيده امرأة شابة جميلة ترتدي مئزرًا أبيض اللون، وعلى رأسها قطعة دانتيلا، غمرت الكلب نفحة دفء إلهي، وفاحت من تنورة المرأة رائحةً كالسوسن.
ففكر الكلب: «يا للروعة إما هكذا، أو لا.»
– تفضل يا سيد شارك — دعاه السيد ساخرًا، فتفضل شارك بكل احترامٍ وهو يهز ذيله.
كان المدخل الثري يغص بعددٍ هائل من الأشياء، وسرعان ما انطبعت في ذاكرته مرآة تتصل بالأرض تمامًا، وقد انعكست فيها فورًا صورة شارك آخر مُعذَّب ومُهلهل، وكذلك قرون وعلٍ رهيبة في الأعلى، وعدد لا يُحصى من معاطف الفرو وواقيات الأحذية، وظليلة مصباح ثمينة، وضوء، كهرباء تحت السقف.
– من أين جئت بهذا، يا فيليب فيليبَفِتْش؟ — تساءلت المرأة وهي تبتسم وتساعده على خلع معطفه الثقيل المصنوع من فراء ثعلب قاتم السواد يبعث بريقًا يميل إلى الزرقة — عجبًا! ما أردأه!
– إنك تتفوهين بهراء، أين الرداءة؟ — تساءل السيد بصوتٍ صارم متقطع. وحين خلع المعطف تبدَّى ببذلةٍ سوداء من جوخٍ إنكليزي، وعلى بطنه تتدلى سلسلة ذهبية تبعث ألَقًا بهيجًا هادئًا.
– انتظِر، لا تدُرْ، فيت … لا تدُرْ، أيها الأحمق الصغير، إحم! … هذا ليس ردﻳ … توقف، يا للشيطان … إحم! آ-ا. هذا حرْق، أيُّ وغدٍ حرقك؟ آ؟ قف بهدوء؟ …
«طباخٌ مجرم، طباخ!» — نطقت عينا الكلب الشاكيتان وأطلق عواءً ضعيفًا.
– زينا — ناداها السيد آمرًا — خذيه إلى غرفة الكشف فورًا، وهاتي لي المريلة.
شرعت المرأة تُصَفِّر وتفرقع بأصابعها فتبعها الكلب بعد ترددٍ قصير، وصلا معًا إلى ممرٍ ضيق باهت الإضاءة، فعبرا بابًا برَّاق الطلاء، وبلغا نهاية الممر، ثم انعطفا يسارًا فوجدا نفسيهما في وكرٍ مظلم أثارت رائحته الكريهة نفور الكلب فورًا، وبعدئذٍ انشق الظلام عن نهارٍ باهر، بل وانبثق الضياء ساطعًا شديد البياض في جميع الجهات.
– إي، كلا … — شرع الكلب يعوي في خياله — عفوًا، لن أسلم نفسي! فهمت، فليأخذهم الشيطان مع سُجقِّهم. لقد استدرجوني إلى مصحةٍ للكلاب، وسيجبرونني الآن على تجرُّع زيت الخروع، ويقطِّعون خاصرتي كلها بالسكاكين، رغم أنه لا يجوز أن تُمس مسًّا!»
– إي، كلا، إلى أين؟ — صرخت تلك التي نوديت باسم زينا.
تملَّص الكلب وكوَّر جسمه ثم ضرب الباب فجأة بخاصرته السليمة ضربةً هزت الشقة كلها، وبعدئذٍ ارتد إلى الوراء ودار في مكانه مثل مغزال، فقلب على الأرض سطلًا أبيض اندلقت منه كتل قطنية. وأثناء دورانه كانت تدور معه الجدران المرصوفة بخزائن فيها أدوات لمَّاعة، ويتقافز مئزر أبيض ووجه نسائي مشوَّه.
– إلى أين، أيها الشيطان الأشعث؟ — راحت تصرخ زينا.
– يا للعين!
«… أين السُّلَّم الاحتياطي عندهم يا ترى؟ … فكَّر الكلب، ثم اندفع كتلةً واحدة وصدم الزجاج عشوائيًّا، ظنًّا منه أنه الباب الثاني. تطايرت سحابة من الشظايا مصحوبة بصوت انكسار ورنين، وسقط وعاءٌ زجاجي كروي فانسكب منه سائل نتن أحمر صبغ الأرض كلها في الحال وفاحت رائحته. وهنا انفتح الباب الحقيقي.
– توقف، أيها البهيمة! — صرخ السيد وهو يقفز في مريلته التي لم يلبس بعد إلا أحد كُميها، وأمسك الكلب من ساقيه. زينا، أمسكي هذا النذل من تلابيبه!
– يا … يا ناس، يا لهذا الكلب!
اتسعت فتحة الباب واقتحمها شخصٌ آخر من الذكور أيضًا ويرتدي مريلة. أخذ يدوس الزجاج المكسَّر دون أن يندفع صوت الكلب، بل توجه إلى الخزانة وفتحها فامتلأت الحجرة برائحةٍ حلوة منفِّرة ، ولما انثنى الشخص ببطنه فوق الكلب تلقَّاه هذا بعضة مشتاق فوق ربطة الحذاء. ندَّت عن الشخص أنَّةٌ ولكنه لم يتوانَ؛ فقد سيطر السائل المثير للغثيان على تنفُّس الكلب ودار كل شيء في رأسه، ثم ارتخت أرجله ورحل إلى مكانٍ مجهول بخطًا عوجاء مواربة، «شكرًا، بالطبع — فكَّر الكلب وهو يحلم ويسقط مباشرة على الزجاج الحاد — وداعًا يا موسكو! فلن أرى بعد الآن تشيتشكِن والبروليتاريين وسجق كراكَف. إنني راحلٌ إلى الجنة جزاءً لي على طول صبري الكلبي.
«أخوتي، أيها السفاحون، لماذا تعاقبونني؟»
وهنا انقلب على جنبه وهمد نهائيًّا …
•••
عندما بُعث من جديد كان رأسه يدور قليلًا، وشيء من الشعور بالغثيان في بطنه. أما خاصرته فكأنها لم تكن. لقد كانت صامتة صمتًا حلوًّا. فتح الكلب عينه اليمنى الأسيانة ورأى عبر طرفها أنه مشدود بأربطة الضماد شدًّا قويًّا حول بطنه وخاصرتيه، ففكر بضبابية»، ومع ذلك؛ فقد فعلها أولاد الكلب، ولكن بمهارة، للإنصاف.»
– «من إشبيليا إلى غرناطة … في غبش الليالي الهادئ» — انطلق بالغناء فوقه صوتٌ شاردٌ ورديء.
تعجَّب الكلب، ففتح كلتا عينيه على سعتهما ورأى على بُعد خطوتين منه قدم رجلٍ على مقعدٍ أبيض. كانت فردة البنطلون والسروال الذي تحتها مثنيين. وكان اللحم الأصفر العاري ملطخًا بالدم اليابس واليود.
«أيها الأولياء! — فكر الكلب — يبدو أنني أنا الذي عضضته. هذه فعلتي أنا، آخ، كم سيجلدونني!»
– «تترامى أغنيات العاشقين: وصليل السيف أيضًا!»
لماذا أيها الشحاذ عضضتَ الدكتور؟ آ؟ لماذا كسرت الزجاج؟ آ؟
– عو-و-و — هرَّ الكلب شاكيًا.
– حسنًا، ابقَ مستلقيًا ما دمت قد صحوت، أيها المعتوه.
– كيف تيسَّر لكم، يا فيليب فيليبَفِتْش، استدراج هذا الكلب العصبي؟
– سأل صوتٌ ذكوري طيب، وسقط السروال التريكو الداخلي إلى الأسفل، ثم فاحت رائحة تبغ، ورنَّت في الخزانة زجاجات صغيرة.
– بالملاطفة، أيها السيد. تلك هي الطريقة الوحيدة الممكنة في التعامل مع الكائن الحي، فمن المستحيل أن تفعل شيئًا بواسطة الإرهاب مع الحيوان أيًّا كانت درجة التطور التي بلغها. ذلك ما أكدته وأؤكده وسأؤكده، فَهُمْ عبثًا يظنون أن الإرهاب سوف يساعدهم. كلا، يا سيدي، لن يساعدهم، أيًّا كان نوعه، سواء في ذلك الإرهابُ الأبيض أو الأحمر أو حتى البني! فالإرهاب يصيب الجهاز العصبي بشللٍ كامل، يا زينا! لقد اشتريت لهذا الوغد بقيمة روبل وأربعين كوبيكًا من سجق كراكوف، حاولي أن تطعميه كي يكف عن التقيؤ.
سمع رنين شظايا الزجاج أثناء الكناسة، وأجاب صوتٌ نسائي قائلًا بدلال: سجق كراكوف! كان يجب، يا سيدي، أن تشتري له نفايات ببضعة قروش من دكان اللحم، فأنا الأجدر بأكل سجق كراكوف.
– جرَّبي فقط، وسأريك الأكل! إنه سمٌّ لبطن الإنسان. أنت فتاة ناضجة، إلا أنك مثل الطفل تجرِّين إلى فمك ما تصادفين.
إياكِ! وأحذرك بأن أيًّا منا، أنا أو الدكتور بورمنتال، لن يهتم بك إذا ما بدأ المغص في بطنك … «كل من يقول بأن هناك من تضاهيك …»
إذ ذاك راحت رناتٌ متقطعة رقيقة تتناثر في الشقة كلها، بينما كانت أصواتٌ بعيدة تترامى من المدخل، رن جرس الهاتف، فاختفت زينا.
رمى فيليب فيليبَفِتْش لُفافته في السطل وزرَّر مريلته، ثم شذب شاربيه الكثَّين أمام مرآةٍ في الجدار ونادى الكلب: فيت-فيت. لا بأس، لا بأس. هيا إلى العلاج.
نهض الكلب على أرجله الرخوة فتمايل وارتجف، إلا أنه سرعان ما أصلح وضعه ومضى يتبع المريلة الخفاقة على فيليب فيليبَفِتْش. اجتاز الكلب الممر الضيق مرةً أخرى، ولكنه شاهده الآن مُضاء من الأعلى بالكهرباء. وعندما انفتح الباب اللمَّاع دخل مع فيليب فيليبَفِتْش إلى مكتبه الذي بهر عينيه بنظافته. لقد كان يتوهج كله بالضوء قبل كل شيء؛ إذ كان النور مشتعلًا تحت السقف المزين وعلى الطاولة والجدار وفي زجاج الخزائن. كان الضوء ينسكب على عددٍ كبير من الأشياء التي تبيَّن أن أمتعها بومةٌ ضخمة واقفة على غصنٍ في الجدار.
– استلقِ — أمره فيليب فيليبَفِتْش.
انفتح الباب المزخرف قبالته ودخل الرجل المعضوض الذي اتضح الآن في الضوء أنه شابٌّ جميل جدًّا وله لحية صغيرة محدَّبة، فسلَّم ورقةً وقال: الزائر السابق …
ثم اختفى حالًا دونما جلبة. أما فيليب فيليبَفِتْش ففتح مريلته وجلس وراء مكتب ضخم، فبدا في الحال فائق الأهمية والاعتبار.
«كلا. إن هذا ليس مشفًى. لقد وقعت في مكانٍ آخر — فكر الكلب محتارًا، واستلقى على رسوم السجادة قرب أريكة جلدية ثقيلة — أما هذه البومة الكبيرة فسوف نتفاهم بشأنها …»
انفتح الباب بلطف، ودخل رجلٌ أثار في الكلب من الذهول ما جعله ينبح ولكن بحياءٍ كبير …
– اسكت! أوه، يصعب عليَّ أن أعرفك، يا حبوب.
انحنى الداخل لفيليب فيليبَفِتْش بكثيرٍ من الاحترام والحرج.
– خي-خي! إنك ساحرٌ وعراف، يا بروفيسور — نطق بارتباك.
– اخلع بنطلونك، يا حبوب — أمره فيليب فيليبَفِتْش ونهض.
«يا عيسى الإله — فكَّر الكلب — يا له من نموذج!»
كان الشعر على رأس هذا النموذج أخضر تمامًا، بينما شعر قذاله يشف عن لونٍ تبغيٍّ صدئ. وكانت التجاعيد تنتشر في وجه النموذج. غير أن لون وجهه كان زهري اللون مثل وجه طفل. كانت رجله اليسرى لا تنثني فيضطر لجرِّها عبر السجادة، ولكن رجله اليمنى كانت تنط كدُمية أطفال. وعلى صدر جاكيته الرائع كان يتدلى حجرٌ كريم يشبه العين.
أثار المنظر اهتمام الكلب فاختفى إحساسه بالتقيؤ.
– تياو، تياو! — أصدر الكلب نباحًا ضعيفًا.
– أسكت! كيف نومك، يا حبُّوب؟
– هم — همهم فيليب فيليبَفِتْش باهتمامٍ وهو يحدق في بؤبؤَي الضيف.
تمكن الزائر أخيرًا من فك الزر وخلع بنطلونه المقلَّم. ظهر تحت البنطلون سروال طويل لم يرَ مثله من قبل أبدًا. كان لونه قمحيًّا غامقًا وقد طُرزت عليه بالحرير قطط سوداء، وتنبعث منه روائح عطور.
لم يحتمل الكلب منظر القطط فأطلق نباحًا، جعل الشخص ينط.
– آي!
– سأجلدك! لا تخف. إنه لا يعض.
«أنا لا أعض؟» — تعجَّب الكلب.
أسقط الزائر من جيب بنطلونه على السجادة ظرفًا صغيرًا عليه صورة حسناء مسبلة الشعر، نط الشخص، ثم انحنى؛ فالتقطه، وتضرَّج وجهه بالحمرة.
– لكن عليك أن تنتبه — قال فيليب فيليبَفِتْش محذرًا، متجهمًا ومهددًا بإصبعه — ومع ذلك إياك والإفراط!
– إنني لا أفرط — غمغم الشخص مرتبكًا، وهو يتابع خلع ثيابه — فأنا، يا عزيزي البروفسور، من قبيل التجربة لا غير.
– وماذا؟ ما هي النتائج؟ — سأله فيليب فيليبَفِتْش بصرامة.
نفض الشخص يده بنشوة.
– لا مثيل لذلك منذ خمس وعشرين سنة، أقسم بالله يا بروفيسور؛ فقد كانت المرة الأخيرة في سنة ١٨٩٩م بباريس في ريو دي لابا.
– ولماذا اخضرَّ شعرك؟
انقبض وجه الزائر.
– الصبغة اللعينة! لا تستطيع يا بروفيسور أن تتصور ماذا وضع لي هؤلاء، العطر بدلًا من الصبغة، انظر فقط — كان الشخص يغمغم وهو يبحث بعينيه عن المرآة — يجب أن يُصفعوا! — أضاف محتقنًا بالغضب — فماذا أعمل الآن يا بروفيسور؟ تساءل بنبرةٍ باكية.
– همْ، احلق على الصفر.
– لكن يا بروفيسور — هتف الزائر شاكيًا — سينمو شعري الأشيب مرة أخرى، وفوق ذلك سيتعذَّر عليَّ الذهاب إلى العمل، وهذا هو ثالث يوم لا أذهب فيه. آخ، يا بروفيسور، ليتك تكتشف طرقًا لإحياء شباب الشعر أيضًا!
– ليس فورًا، ليس فورًا يا عزيزي — غمغم فيليب فيليبَفِتْش.
انحنى وشرع يتفحص بعينيه البراقتين بطن المريض العاري: وماذا؟ رائع، كل شيء على خير ما يرام، حتى إنني، إذا ما توخينا الحقيقة، لم أتوقع مثل هذه النتيجة. الصحة عربون السعادة … ارتدِ ثيابك يا عزيزي!
– «مغرمٌ أنا بتلك التي هي أحلى من الجميع!» — أنشَدَ الزائر بصوتٍ هادر كمقلاة، وراح يرتدي ثيابه مبتهجًا، وبينما كان يرتب هندامه وينط ناشرًا رائحة العطور، عدَّ لفيليب فيليبَفِتْش رزمةً من الأوراق المالية البيضاء ، وطفق يشد على كلتا يديه بلطف.
– بوسعك أن تغيب عني أسبوعين — قال فيليب فيليبَفِتْش — ولكن، مع ذلك، أرجوك، كن حذرًا.
– بروفيسور! — هتف من وراء الباب بصوتٍ تغمره النشوة — كن مطمئنًّا تمامًا — ثم ضحك بخبثٍ واختفى.
تطاير في الشقة رنينٌ سريع، ثم انفتح الباب اللمَّاع ودخل المعضوض فناول فيليب فيليبَفِتْش ورقةً وأعلن: الإشارة إلى العمر غير صحيحة، لعله ٥٤-٥٥. دقات القلب ضعيفة قليلًا. ثم انصرف وأعقبته سيدة باذخة ترتدي قبعةً شديدة الميل إلى الجانب وعُقدًا براقًا في جيدها الذابل المجعد. كانت كتلتان سوداوان رهيبتان تتدليان تحت عينيها، بينما كانت وجنتاها حمراوين كوجنتَي دمية. وكانت شديدة الاضطراب.
– سيدتي! كم عمرك؟ — سألها فيليب فيليبَفِتْش بنبرةٍ مفرطة الصرامة.
خافت السيدة، بل وشحب لونها تحت طبقة الحمرة.
– أقسم لك يا بروفيسور، ليتك تعرف مصيبتي! …
– عمرك كم يا سيدة؟ — كرر فيليب فيليبَفِتْش بمزيدٍ من الصرامة.
– أقسم بشرفي … طيب، خمس وأربعون …
– يا سيدة! — زمجر فيليب فيليبَفِتْش — المرضى ينتظرونني، لا تعطليني، من فضلك، فلستِ وحدك!
ارتفع صدر السيدة على نحوٍ عاصف.
– سأقول لك وحدك، بوصفك نجمًا في العلم، ولكنني أقسم … يا للهول! …
– كم عمرك؟ — سألها فيليب فيليبَفِتْش بغضبٍ وجئير، فلمعت نظارتاه.
– واحد وخمسون! — أجابت السيدة متشنجة من الخوف.
– اخلعي سروالك يا سيدة — نطق فيليب فيليبَفِتْش بارتياحٍ وأشار إلى سريرٍ أبيض عالٍ في الزاوية.
– أقسم يا بروفيسور — غمغمت السيدة وهي تفك مشابك حزام على خصرها بأصابعٍ ترتجف — هذا اﻟ موريتس … إنني أعترف لك كما في الكنيسة …
– «من إشبيليا إلى غرناطة …» — أنشد فيليب فيليبَفِتْش بشرودٍ، وضغط على مفتاح صنبور في المغسلة المرمرية، فعلا صوت الماء.
– قسمًا بالله! — راحت السيدة تقول وبقعٌ حيةٌ تنضح على وجنيتها من تحت لطخات الزينة — أعرف أن هذا آخر عشقٍ لي. يا له من سافل! آه أيها البروفيسور! إنه مقامرٌ غشاش، وموسكو كلها تعرف ذلك. وهو لا يستطيع أن يفوت أية خيَّاطة نسائية سافلة. إنه فتِيٌّ على نحوٍ شيطاني — كانت السيدة تغمغم وهي تخلع من تحت تنورتها المنشَّاة قطعة دانتيلا مجعدة.
غامت الدنيا تمامًا في عينَي الكلب واختلطت الأشياء في رأسه.
«فلتذهبوا إلى الشيطان — فكَّر بضبابيةٍ وقد توسَّد يديه وغفا من العار — بل ولن أحاول أن أفهم ما هذا الشيء؛ لأنني في جميع الأحوال لن أفهم.»
أيقظه رنين الجرس فرأى فيليب فيليبَفِتْش وقد ألقى بأنابيب لماعة في وعاء.
كانت السيدة المبقعة تضغط على صدرها بيديها وتنظر نظرة رجاء إلى فيليب فيليبَفِتْش وقد قطب حاجبيه وجلس خلف الطاولة يكتب شيئًا ما.
– سأضع لك حالِبَي قردة يا سيدتي — أعلن ثم أنظر إليها بصرامة.
– آه، يا بروفيسور، حالِبا قردةٍ حقًّا؟
– نعم — أجاب فيليب فيليبَفِتْش بإصرار.
– متى موعد العملية؟ كان الشحوب يكلل السيدة وهي تتساءل بصوتٍ ضعيف.
– «من إشبيليا إلى غرناطة …» حم … يوم الإثنين، تعالي إلى العيادة منذ الصباح، سيهيئك مساعدي للعملية.
– آه، لا أريد المجيء إلى العيادة، ألا يمكن إجراؤها عندك، يا بروفيسور؟
– إنني لا أجري عمليات عندي إلا في الحالات القصوى، فذلك مكلفٌ جدًّا؛ أي خمسمائة.
– موافقة، يا بروفيسور!
علا خرير الماء من جديد، وخفقت القبعة ذات الريش، ثم ظهر رأس أصلع مثل صحن، وعانق هذا الرأس فيليب فيليبَفِتْش. كان الكلب نعسًا بعد أن تجاوز حالة التقيؤ، وأخذ يتمتع بالدفء وبخمود الألم في خاصرته، حتى إنه أخذه الشخير وقُدِّرَ له أن يرى في نومه جزءًا من حلم طيب؛ فقد خُيل له أنه انتزع قبضة ريش من ذيل البومة … ثم انطلق فوق رأسه نباحٌ متقطعٌ مذعور.
– إنني واسع الشهرة في موسكو يا بروفيسور، فماذا عليَّ أن أفعل؟
– أيها السادة — صرخ فيليب فيليبَفِتْش مستنكرًا — لا يجوز هكذا! يجب أن تتمالكوا أنفسكم، كم عمرها؟
– أربعة عشر يا بروفيسور … أنت تعرف أن الفضيحة ستهلكني. وسوف أُكلَّف بمهمةٍ خارجية خلال أيام.
– لكنني لست محاميًا، يا حبُّوب … انتظر سنتين ثم تزوجها.
– إنني متزوج يا بروفيسور.
– آه أيها السادة، أيها السادة!
كان الباب ينفتح فيتعاقب الأشخاص وترنُّ الأدوات في الخزانة، بينما فيليب فيليبَفِتْش يعمل بلا توقف.
«شقةٌ فاجرة — فكَّر الكلب — ولكن ما أحسنها! فلأي شيطانٍ يحتاجني؟ أحقًّا سيدعني أقيم فيها؟ يا له من غريب الأطوار! كان في وسعه بطرفة عين أن يحصل على كلبٍ رائع يثير الدهشة! ولكن، ربما أنا جميلٌ أيضًا. يبدو أنه حظي السعيد! أما البومة فسخيفة … وقحة.»
استيقظ الكلب نهائيًّا في آخر المساء عندما انقطع رنين الجرس، في اللحظة نفسها التي اجتاز البابَ زوَّارٌ متميزون، كان عددهم أربعة دخلوا معًا، جميعهم في سن الشباب، وجميعهم يرتدون ثيابًا متواضعة للغاية.
«ماذا يريد هؤلاء؟» — فكر الكلب مستغربًا، استقبل فيليب فيليبَفِتْش هؤلاء الضيوف بامتعاضٍ يزيد كثيرًا عما قبل؛ فقد وقف عند المكتب ونظر إلى الداخلين نظرة قائد إلى الأعداء، كان منخرَا أنفه الباشقي يعلوان وينخفضان، بينما تجمَّع الداخلون فوق السجادة.
– عبثًا أيها السادة تتجوَّلُون دون واقيات أحذية في مثل هذا الطقس — قاطعه فيليب فيليبَفِتْش مؤنبًا، أولًا، ستصابون بالزكام، وثانيًا. لقد وسختم لي السجادات، وكلها فارسية.
صمت ذو الكومة، وحدَّق الأربعة بفيليب فيليبَفِتْش مشدوهين. استمر الصمت بضع ثون، ولم يقطعه إلا نقر أصابع فيليب فيليبَفِتْش على صحنٍ خشبي مزخرف فوق الطاولة.
– أولًا، نحن لسنا سادة — نطق أخيرًا أكثر الأربعة يفاعًا، وكان شبيهًا بالدُّرَّاقة.
– أولًا — قاطعه أيضًا فيليب فيليبَفِتْش — أرجُلٌ أنت أم امرأة؟
صمت الأربعة مرة أخرى، وفغروا أفواههم. وفي هذه المرة صحا الأول ذو الكومة.
– ما الفرق، يا رفيق؟ — سأل بتكبر.
– إنني امرأة — اعترف الفتى الدُّرَّاقي ذو السترة الجلدية، واحمر بقوة، ثم ولسببٍ ما، احمر أحد القادمين احمرارًا بالغًا. وكان أشقر يعتمر قبعة فرو عالية.
– في هذه الحالة تستطيعين أن تَبقَي في قبعتك. أما أنت يا سيدي الكريم، فأرجوك أن تخلع غطاء رأسك — قال فيليب فيليبَفِتْش بوقار.
– لست سيدك الكريم — اعترض الأشقر بحدةٍ وهو يخلع قبعته العالية.
– نحن جئناك — بدأ الأسود ذو الكومة من جديد.
– قبل كل شيء، من هؤلاء اﻟ «نحن»؟
– نحن الإدارة الجديدة لعمارتكم — رد الأسود بغضبٍ مكبوت — أنا شفوندر، وهي فيازِمْسكَيا، وهما الرفيقان بِستروخِن وجاروفكِن. هؤلاء نحن …
– أنتم الذين أسكنوكم في شقة فيودَرْ بافلفيتش شابْلِن؟
– نحن — أجاب شفوندر.
– يا إلهي. لقد ضاعت عمارة كالابوخوفسكي! — هتف فيليب فيليبَفِتْش بقنوطٍ وبسط ذراعيه.
– ما لك، يا بروفيسور، أتضحك؟ –— انزعج شفوندر.
– ما لي وللضحك؟! إنني في منتهى اليأس — صرخ فيليب فيلببفتش — فماذا سيكون الآن مصير التدفئة المركزية؟
– أنت تسخر، يا بروفيسور بريوبراجينسكي؟
– ما القضية التي جئتموني من أجلها؟ تكلموا بأسرع ما يمكن، إنني الآن ذاهبٌ لأتغدى.
– من انطرح على من؟ — صرخ فيليب فيليبَفِتْش — حاوِل أن تعرض أفكارك على نحوٍ أوضح.
– انطرحت قضية التضييق.
– يكفي! لقد فهمت! هل تعرفون أن القرار الصادر في ١٢ أغسطس الجاري يقضي باستثناء شقتي من جميع أنواع التضييق والتقسيم؟
– معلوم — أجاب شفوندر — ولكن الاجتماع العام بعد أن درس قضيتك توصل إلى استنتاجٍ مفاده أنك على وجه العموم والإجمال تشغل مساحة فائقة الاتساع، فأنت وحدك تعيش في سبع غرف.
– إنني وحدي أعيش وأعمل في سبع غرف — أجاب فيليب فيليبَفِتْش — وأرغب بامتلاك غرفة ثامنة؛ فهي ضرورية لي كي تكون مكتبة.
تخدَّر الأربعة.
– ثامنة! إ-خي-خي — قال الأشقر المجرد من غطاء الرأس — أما شيء رائع.
– إنه شيء لا يُوصف! — هتف الفتى الذي تبيَّن أنه امرأة.
– إن عندي غرفة استقبال — انتبهوا — وهي أيضًا مكتبة؛ ثم غرفة طعام ومكتب ٣؛ غرفة كشف ٤؛ غرفة عمليات ٥؛ غرفة نومي ٦؛ وغرفة الخدم ٧. وبالجملة، لا يكفي … وعلى كل حال، هذا ليس هامًّا، فشقتي واسعة، وهذه نهاية الحديث، هل أستطيع الذهاب لأتناول الغداء؟
– عفوًا — قال الرابع الشبيه بخنفساء قوية.
– عفوًا — قاطعه شفوندر — نحن جئنا لنتكلم بشأن غرفتَي الطعام والكشف تحديدًا. إن الاجتماع العام يرجوك أن تتخلى، طوعًا وطبقًا لنظام العمل، عن غرفة الطعام، فليس عند أيٍّ كان غرفة طعام في موسكو.
أصاب فيليب فيليبَفِتْش ما جعل وجهه ينضح بحمرةٍ شفافة، ولكنه لم ينبس ببنت شفة، وظل منتظرًا ما سيأتي بعد.
– وبخصوص غرفة الكشف أيضًا — تابع شفوندر — فيمكن دمج غرفة الكشف مع المكتب على نحوٍ رائع.
– أوهو — نطق فيليب فيليبَفِتْش بصوتٍ غريب — وأين عليَّ أن أتناول الطعام؟
– في غرفة النوم — أجاب الأربعة بصوتٍ واحد.
اكتست حمرة فيليب فيليبَفِتْش بظلالٍ رمادية قليلًا.
– أن أتناول الطعام في غرفة النوم — بدأ يتكلم بصوتٍ مخنوق — وأقرأ في غرفة الكشف، وأرتدي ثيابي في غرفة الاستقبال، وأجري العمليات في غرفة الخدم، وأستقبل المرضى في غرفة الطعام؟ من الممكن جدًّا أن ذلك ما تفعله آيسيدورا دونكان. لعلها تتغدى في المكتب، وتذبح الأرانب المنزلية في الحمام. ربما … ولكنني لست آيسيدورا دونكان! — زأر فجاة وانقلبت حمرته صفرة — سأتغدَّى في غرفة الطعام، وأقوم بالجراحة في غرفة العمليات! انقلوا ذلك إلى الاجتماع العام، وأتوجه إليكم بألطف الرجاء أن تعودوا إلى أعمالكم وتتيحوا لي إمكانية تناول الغداء في المكان الذي يتناول الغداء فيه جميع الأسوياء، أي في غرفة الطعام، وليس في فسحة المدخل أو في غرفة الأطفال.
– عندئذٍ، يا بروفيسور — قال شفوندر المضطرب — فإننا، نظرًا لرفضك العنيد، سوف نقدم شكوى ضدك إلى الجهات العليا.
–آها — نطق فيليب فيليبَفِتْش — هكذا؟ — واتَّخذ صوته نغمة احترام مريبة — أرجوكم أن تتريثوا دقيقةً واحدة.
«يا له من رجل — فكر الكلب بإعجاب — إنه يشبهني تمامًا، أووخ، سيكيل لهم الآن، أوخ، سيكيل، لا أعرف بعدُ بأية طريقة، ولكنه سيكيل لهم ضربة … اضربهم! ليتني أعض الآن هذا الطويل الساقين من العِرق الذي بين ركبتيه وأعلى الجزمة … ر-ر-ر …»
قرع فيليب فيليبَفِتْش جرس الهاتف، ثم رفع السماعة وقال فيها: من فضلك … نعم … أشكرك … أعطني بيوتر ألكساندرفتش من فضلك. أنا البروفيسور بريوبراجينسكي. بيوتر ألكساندرفيتش؟ سعيد جدًّا أنني وجدتك. أشكرك، إنني معافًى. بيوتر ألكساندرفيتش، إن عمليتك قد أُلغيت. ماذا؟ أُلغيت كليًّا. شأنها شأن باقي العمليات الأخرى. إليك السبب: إنني سأتوقف عن العمل في موسكو وفي روسيا بالجملة … فقد دخل إلى عندي الآن أربعة، بينهم امرأة ترتدي ثياب رجل، واثنان منهم مسلحان بمسدسات، ومارسوا عليَّ الإرهاب في شقتي بهدف سلخ جزء منها.
– عفوًا، يا بروفيسور — بدأ شفوندر وقد تبدل لون وجهه.
تجمَّد الأربعة. كان الثلج يذوب على جزماتهم.
– ما العمل … ذلك كريهٌ جدًّا بالنسبة لي أيضًا … كيف؟ آ، كلا، لن أوافق بعد الآن على ذلك. لقد نفد صبري، هذه ثاني حادثة منذ شهر أغسطس. كيف؟ هم … كيفما شاء. على الأقل، ولكن بشرطٍ واحد هو أن تكون ورقة من النوع الذي لا يستطيع بوجودها لا شفوندر ولا أيُّ غيره حتى ولو مجرد الاقتراب من باب شقتي، ورقةٌ حاسمة، فعلية، حقيقية! ضمانة. على ألا يذكر حتى اسمي. طبعًا. لقد مت بالنسبة لهم، نعم، نعم، من فضلك. من؟ آها … لكن تلك قضيةٌ أخرى، آها … حسنًا. الآن سأعطيه السماعة. من لطفك — توجَّه فيليب فيليبَفِتْش إلى شفوندر بصوت أفعى — سيتكلمون معك الآن.
– اسمح لي يا بروفيسور — قال شفوندر بانفعالٍ تارة وبانطفاءٍ تارة أخرى — لقد حرَّفت كلامنا.
– أرجو ألا تستعمل مثل هذه التعابير.
تناول شفوندر السماعة بارتباكٍ وقال: إنني أستمع. نعم … رئيس لجنة السكن … لقد طبَّقنا التعليمات … ذلك هو الوضع عند البروفيسور، وهو وضعٌ استثنائي تمامًا … إننا نعرف أعماله … لقد أردنا أن نُبقي له خمس غرف كاملة … لكن، حسنًا … ما دام الأمر كذلك … حسنًا …
علَّق السماعة واستدار وقد احمَرَّ تمامًا.
«كيف أهانهم! يا له من رجل! — فكر الكلب بإعجاب — هل ترى يعرف كلمة سحرية ما؟ بوسعك الآن أن تضربني، لك ما تشاء، إلا أنني لن أخرج من هنا.»
فتح الثلاثة أفواههم وراحوا ينظرون إلى المُهان شفوندر.
– يا للعار! نطق هذا بوجل.
– لو كان ثمة الآن جلسة نقاش — بدأت المرأة تتكلم مضطربة ومشتعلة بالاحمرار — لكنتُ أثبتُّ لبيوتر ألكساندرفتش …
– آسف، ألست تريدين فتح هذا النقاش الآن حالًا؟ — سألها فيليب فيليبَفِتْش باحترام.
اتقدت عينا المرأة.
– إنني أفهم سخريتك، يا بروفيسور، سوف نخرج الآن … ولكن أنا، بوصفي مدير القسم الثقافي للعمارة …
– م-دﻳ-رة — صوَّبها فيليب فيليبَفِتْش.
– أريد أن أعرض عليك — وهنا أخرجت المرأة من عبِّها بضع مجلات ملونة ومبللة بالثلج — شراء بضع مجلات لصالح أطفال ألمانيا، بنصف روبل للواحدة.
– كلا، لن أشتري — أجاب فيليب فيليبَفِتْش بإيجازٍ بعد أن مال بنظره إلى المجلات.
ارتسم على الوجوه استغرابٌ كامل. أما المرأة فقد كللتها في الحال حمرةٌ قانية.
– ولماذا ترفض؟
– لا أريد؟
– ألا تشفق على أطفال ألمانيا؟
– لا مبالٍ بهم.
– تبخل بنصف روبل؟
– لا.
– لماذا إذن؟
– لا أريد.
صمتوا.
– هل تعرف يا بروفيسور — تكلمت الفتاة بعد أن تنهدت بصعوبة — لو لم تكن نجمًا أوروبيًّا، ولو لم يدافع عنك على أنكر وجهٍ (شدَّها الأشقر من طرف سترتها ولكنها انتفضت) أناسٌ لا أشك في أننا سنكشف هويتهم، لتوجَّب أن تُعتقل.
– لأي شيء؟ — سألها فيليب فيليبَفِتْش بفضول.
– أنت تكره البروليتاريا! — قالت المرأة بحرارة.
– نعم، أنا لا أحب البروليتاريا — وافق فيليب فيليبفش بأسًى وضغط زرًّا، فَعلا رنينه في مكانٍ ما وانفتح الباب على الممر.
– زينا! — صرخ فيليب — هاتي الغداء. أتسمحون يا سادة؟ — خرج الأربعة من الغرفة صامتين، واجتازوا غرفة الاستقبال صامتين، وفسخة المدخل صامتين، إلى أن سُمِع إغلاق الباب الرئيسي خلفهم بثقلٍ ورنين.
نهض الكلب على رجليه الخلفيتين وأدَّى لفيليب فيليبَفِتْش صلاةً ما.