الفسكونت المشطور
١
كانت الحرب تدور ضد الأتراك. وامتطى خالي الفسكونت مداردو دي تيرالبا جواده عبر سهل بوهيميا متجهًا إلى معسكر المسيحيين، يتبعه حامل الترس واسمه كورتسيو.
تحلق طيور اللقلق على ارتفاع منخفض في أسراب بيضاء وهي تشق السماء القاتمة وهواءها الساكن.
سأل مداردو كورتسيو قائلًا: ما كل هذه اللقالق؟ وإلى أين تتجه؟
انضم خالي حديثًا للحرب؛ فقد تطَّوع توًّا إرضاءً لبعض الدوقات من جيراننا المشاركين في تلك الحرب. تزود بحصان وحامل درع من آخر قلعة من القلاع التي لا تزال تحت سيطرة المسيحيين، وسار في طريقه ليقدم نفسه إلى قيادة الجيش الإمبراطوري.
أجابه حامل الترس مغتمًّا قائلًا: تطير صوب ساحة المعركة، ستصطحبنا طوال الطريق. سبق وسمع الفسكونت مداردو أن تحليق طائر اللقلق يبشر بالحظ السعيد في تلك البلاد، وأراد أن يظهر فرحته برؤيتها، ولكنه شعر رغمًا عنه بالقلق.
فسأل: ما الذي يجعل طيور المستنقعات تتجه إلى ساحة المعركة يا كورتسيو؟
أجابه حامل الترس قائلًا: لقد أخذت هذه الطيور أيضًا تأكل لحوم البشر منذ أن أحرقت المجاعة الحقول وتسبب الجفاف في نضوب الأنهار. وحيثما توجد الجثث اتخذت طيور اللقلق والنعام والبجع مكان الغربان والنسور.
كان خالي في ذلك الوقت في مقتبل الشباب؛ وهي مرحلة تتسم فيها المشاعر بالاندفاع والاضطراب فهي لم تتحدد بعد إن خيرًا أم شرًا، فهي مرحلة تتسم كل تجربة جديدة فيها، وإن كانت كئيبة وغير إنسانية، بالقلق ودفء الحياة وحبها.
كان وجهه شاحبًا، ولكن عينيه تلمعان وهو يسأل قائلًا: لكن أين ذهبت الغربان؟ والنسور؟ والطيور الجارحة الأخرى؟
حامل الترس جندي أسمر اللون ذو شارب، لا يرفع عينيه أبدًا. أجابه قائلًا: لقد قضى الطاعون عليها هي أيضًا بسبب قيامها بنهش الموتى المصابين بالطاعون، وأشار بسهمه تجاه بعض الأعشاب السوداء، التي يتضح بعد نظرة فاحصة أنها ليست أعشابًا، بل ريش وأرجل طيور جارحة تيبست.
استطرد كورتسيو: وهكذا لا يمكن معرفة من مات أولًا: الطائر أم الإنسان؟ ومن الذي هجم على الآخر ليفترسه.
هربًا من الطاعون الذي يقضي على الناس سارت عائلات بأكملها نحو الريف وهناك حصدها الموت حصدًا.
وسط أكوام من الهياكل العظمية، المتناثرة في السهول الجرداء، تظهر أجساد رجال ونساء عارية ومتورمة من آثار الطاعون، ما لم يكن له تفسير في البداية وهو أنها مغطاة بالريش، وكأن ريشًا أسود وأجنحة قد نمت في أذرعها الرفيعة وأجنابها، ولكنها لم تكن سوى جيف الطيور الجارحة ممتزجة بأشلائهم.
تمتلئ الأراضي بآثار معارك وقعت، وبدأت خطى الجوادَين في الإبطاء بسبب تعثرهما في السير وجموحهما.
سأل مداردو حامل الترس قائلًا: ماذا يحدث لجوادينا؟
فأجابه: يا سيدي، لا شيء يثير اشمئزاز الحصان أكثر من نَتَن أمعائه.
تغطت أراضي السهل الذي يعبرانه بجيَف خيولٍ بعضها منبطح على ظهره وأطرافه متجهة للسماء، والبعض الآخر منبطح على وجهه وفاه مدفون في التراب.
سأل مداردو قائلًا: ما سبب سقوط الكثير من الخيل في هذه المنطقة بالذات؟
ففسر كورتسيو الأمر قائلًا: عندما يشعر الحصان بالإصابة في بطنه يحاول أن يمنع أمعاءه من التدلي، فتلجأ بعض الجياد إلى لصق بطنها بالأرض … وتلجأ أخرى … إلى الاستلقاء على ظهورها لمنعها من التدلي. وعلى الرغم من ذلك لا يتأخر الموت عن حصدها.
– إذن فالجياد هي أكثر ضحايا هذه الحرب؟
– يبدو أن سيوف الأتراك العريضة قد صُنِعَت خصوصًا لتشق بطونها بضربة واحدة. ولسوف ترى هنالك جثث الرجال، فالموت يحصد الجياد أولًا ثم الفرسان … واستطرد قائلًا: ها هو المعسكر هناك.
وعند أطراف الأفق لاحت أعالي أكثر الخيام ارتفاعًا وأعلام الجيش الإمبراطوري والدخان. وأثناء تقدمهما راكضَين رأيا أن جثث الذين سقطوا في المعركة الأخيرة نُقلت ودُفنت. تظهر فقط بعض الأطراف وخاصة الأصابع وقد وضعت فوق الأكوام.
قال خالي مداردو: من حين لآخر يرشدنا أحد الأصابع إلى الطريق، ما معنى هذا؟
– سامحهم الله، يقطع الأحياء أصابع الموتى لانتزاع خواتمهم.
– مَن هناك؟
قالها حارس يرتدي معطفًا مغطًّى بالعفونة ونواقع المسك كلحاء شجرة في مهب الريح.
هتف كورتسيو قائلًا: يحيا التاج الإمبراطوري المقدس.
فرد الحارس: وليمُت السلطان. ولكني أتوسل إليكما أن تسألاهم عندما تصلان إلى مركز القيادة متى سيقررون إرسال البديل، فساقاي على وشك أن تصيرا جذورًا ضاربة في الأرض.
أخذ الجوادان يجريان هربًا من سحابة الذباب التي تحيط بالمعسكر وتطن فوق جبال من الفضلات.
قال كورتسيو راشمًا علامة الصليب: إنها أجساد أبطال، فضلات الأمس ما زالت ملقاة أرضًا، ولكنهم الآن في السماء.
وعند مدخل المعسكر، مرَّا بجانب صف من أعمدة الأروقة تقبع أسفلها نساء بدينات ذوات شعر مجعد، يرتدين أردية طويلة من البروكار وهن عاريات الصدور، استقبلنهما بالصيحات والضحكات البذيئة.
قال كورتسيو: إنها أروقة العاهرات، لا يوجد جيش لديه مَن هن على هذا القدر من الجمال.
وظل خالي يركض ووجهه ملتفت إلى الخلف ينظر إليهن.
أضاف حامل الترس: احترس يا سيدي! إنهن قذرات ومصابات بالطاعون لدرجة أن الأتراك لا يريدونهن ولا حتى كسبايا حرب، فلسن مليئات بالقمل والبراغيث والبق فحسب، ولكن فوقهن تصنع العقارب والسحالي جحورها.
ثم مرَّا بعد ذلك أمام وحدات مدفعية الميدان.
في المساء يطهي جنود المدفعية حصتهم من المياه واللفت على برونز المنجنيق والمدافع الملتهب بسبب كثرة إطلاقها أثناء النهار.
وبدأت عربات الكارو المليئة بالتراب تصل تباعًا وجنود المدفعية يأخذون في غربلته.
أخذ كورتسيو يشرح قائلًا: البارود على وشك النفاد، لكن أرض المعركة متشبعة به حتى إنه من الممكن استعادة بعضه متى شاء أحد ذلك.
ظهرت بعد ذلك إسطبلات الخيول حيث الأطباء البيطريون في عمل مستمر، والذباب يحيط بهم، في محاولة لضم جلد ذوات الأربع وذلك بخياطته أو ربطه بأربطة وضمادات من القطران المغلي، بينما الخيول كلها تصهل وترفس حتى الأطباء أنفسهم.
ثم ظهرت بعد ذلك ولمسافة طويلة مخيمات جنود المشاة. كان وقت الغروب، وأمام كل خيمة جلس الجنود واضعين أرجلهم الحافية في أوعية خشبية مليئة بالمياه الدافئة. وكعادتهم في حالة استعداد لأي إنذار مفاجئ نهارًا أو ليلًا. فحتى في ساعة الحمام الخاص بأقدامهم يرتدون الخوذات ويمسكون بالحراب في قبضتهم. أما الضباط فيجلسون في خيام أكثر ارتفاعًا على هيئة أكواخ، يضعون المساحيق تحت إبطهم ويُروحون بمراوح من الدانتيل.
قال كورتسيو: إنهم لا يفعلون ذلك تشبهًا بالنساء، بل يريدون إثبات أنهم يشعرون بالارتياح تمامًا في صرامة الحياة العسكرية.
أما فسكونت تيرالبا فقد دخل على الفور ليَمثُل أمام الإمبراطور. وفي جناحه المليء بالسجف والغنائم، وقف الإمبراطور يدرس خطط المعارك القادمة على خرائط جغرافية. تغطت الموائد بالخرائط المفتوحة والإمبراطور يغرس فيها دبابيس يأخذها من فوق وسادة يقدمها له أحد القادة.
اكتظت الخرائط بالدبابيس إلى حد أنه لم يعد ممكنًا فهم أي شيء منها، ولقراءة أي شيء يجب نزع الدبابيس ووضعها مرة أخرى وبين عملية النزع والوضع، يضع الإمبراطور ومعه الماريشالات الدبابيس بين شفاههم ليحرروا أيديهم، فيتحدثون بأصوات أشبه بالعواء.
وما إن رأى الإمبراطور الشاب الذي ينحني أمامه حتى أصدر عواء ينم عن التساؤل، وسرعان ما نزع الدبابيس من فمه … فقدموه إليه قائلين: إنه فارس وصل توًّا من إيطاليا يا صاحب الجلالة. إنه فسكونت تيرالبا، من إحدى أعرق العائلات في جنوة.
– ليُعينْ ملازمًا على الفور.
دقَّ خالي مهمازيه آخذًا وضع الاستعداد، بينما قام الإمبراطور بالرد عليه بتحية ملكية فانطوت الخرائط وتدحرجت إلى أسفل.
وعلى الرغم من تعبه في تلك الليلة، تأخر مداردو في النوم، فسار ذهابًا وإيابًا بالقرب من خيمته وهو يستمع إلى صوت الحراس وإلى صهيل الخيل وأصوات بعض الجنود الذين يتحدثون أثناء نومهم. ثم أخذ ينظر إلى نجوم بوهيميا في السماء، ويفكر في الرتبة الجديدة التي حصل عليها، وفي معركة الغد وفي الوطن البعيد وفي احتكاكة نباتات الغاب في جداول المياه. لم يكن في قلبه حنين أو شك أو خوف، فالأشياء بالنسبة له ما زالت كاملة لا نقاش فيها كما كان هو أيضًا كاملًا. ولو استطاع أن يتنبأ بالمصير البشع الذي ينتظره لرآه أيضًا طبيعيًّا وكاملًا بالرغم من كل ما به من آلام. وامتد بصره ليصل إلى أطراف الأفق الليلي، حيث يوجد معسكر الأعداء ووقف وهو يعقد ذراعيه فيمسك كتفيه بيديه سعيدًا بما لديه من ثقة مصحوبة بحقائق بعيدة ومتنوعة، وفرحًا أيضًا بوجوده وسط هذا كله. يشعر بدماء تلك الحرب الضروس المتدفقة، التي تسيل في ألف جدول على الأرض، تصل إليه، فيتركها تلمسه دون أن يشعر بأي حنق أو رحمة.
٢
بدأت المعركة في تمام العاشرة صباحًا. ومن فوق سرج الحصان أخذ الملازم مداردو يتأمل مدى انتشار القوات المسيحية المتأهبة للهجوم وأخذ يمد وجهه لرياح بوهيميا التي أخذت تنشر رائحة الحبوب وكأنها منبعثة من جرن مترب.
عندئذ قال له كورتسيو الذي كان بجانبه وهو يحمل علامات رتبة الجاويش: لا يا سيدي، لا تنظر للوراء.
وحتى يفسر لهجته الحاسمة التي تحدث بها أضاف بهدوء: يقولون إن هذا يجلب سوء الحظ قبل بداية المعركة.
في الحقيقة لم يرد كورتسيو أن يصاب الفسكونت بالهلع إذا أدرك وهو ينظر للخلف أن الجيش المسيحي ليس سوى ذلك الصف الواقف، وأن قوة الدعم ليست سوى شرذمة من عساكر المشاة المصابة في أقدامها.
ولكن نظر خالي بعيدًا، إلى السحابة المقبلة عند الأفق، وأخذ يفكر: «ها هم، تلك السحابة تتبع الأتراك، الأتراك الحقيقيين، أما هؤلاء الواقفون بجانبي يمضغون التبغ فهم جنود المسيحية الشجعان، وهذا البوق الذي ينطلق الآن ما هو إلا إشارة الهجوم، أول هجوم في حياتي … وهذا الانفجار والاهتزاز، وهذه الكرة المغروسة في الأرض والتي ينظر إليها المحاربون والجياد دون اكتراث هي أول قذيفة عدو أقابلها في حياتي. ليت ذلك اليوم، الذي سأقول فيه: «هذه هي القذيفة الأخيرة»، لا يأتي أبدًا.»
أخذ الفسكونت يركض فوق السهل شاهرًا سيفه وعيناه تنظران إلى الراية الإمبراطورية التي تختفي وتظهر بين الدخان المتصاعد بينما تدور قذائف المدفعية الصديقة في السماء فوق رأسه. تفتح قذائف العدو ثغرات في الجبهة المسيحية وتكون سحبًا مباغتة من التراب.
أخذ يفكر: سأرى الأتراك … أخيرًا سأرى الأتراك.
لا شيء يسعد الإنسان أكثر من أن يكون له أعداء ثم يرى أنهم في الحقيقة مثلما يتخيلهم.
ورأى الأتراك. كان اثنان منهم قادمين تمامًا من أمامه. يمتطيان جوادين مدرعين ويمسكان الدرع الصغير المستدير من الجلد، وملابسهما مخططة بأسود وأصفر في لون الزعفران. ها هو غطاء الرأس والوجه البرونزي اللون والشاربان يشبهان شاربَي شخص يطلقون عليه في تيرالبا اسم «ميكي التركي». قُتل أحد التركيين أما الآخر فقد قتل أحد المسيحيين. وبدأ الأتراك يظهرون بأعداد كبيرة، ودار القتال بالسلاح الأبيض. وما إن رأى الفسكونت اثنين من الأتراك حتى بدا وكأنه قد رآهم جميعًا. فهم أيضًا جنود وكل ما معهم من مهمات الجيش.
ووجوههم عنيدة وصلبة مثل وجوه الفلاحين. والآن يمكن لمداردو بعد أن حقق أمنيته في رؤية الأتراك أن يعود مرة أخرى إلينا في تيرالبا قبل أن ينتهي موسم هجرة طائر السمان إلا أنه بقي للقتال. وهكذا أخذ يجري متحاشيًا ضربات السيوف العريضة إلى أن وجد تركيًّا سائرًا على قدميه فقتله. وعندما أدرك كيفية القتل ذهب ليبحث عن فارس يمتطي جوادًا. وليته ما فعل. لأن قصار القامة هم المؤذون. يذهبون أسفل الجياد بسيوفهم العريضة ويشقون بطونها.
وفجأة توقف حصان مداردو فاتحًا ساقيه. فقال الفسكونت: ماذا تفعل؟
فوصل إليه كورتسيو وأشار إلى أسفل وقال: انظر.
تدلت أحشاء الحصان كلها أرضًا. ونظر الحيوان المسكين إلى أعلى، إلى سيده، ثم خفض رأسه كمن يريد انتزاع أحشائه. ولم تكن هذه إلا محاولة بطولية فقدَ بعدها الوعي ثم نفق. وأصبح مداردو دي تيرالبا دون جواد.
قال له كورتسيو: خذ حصاني يا سيدي الملازم.
لكنه لم ينجح في إيقافه لأنه سقط من فوق سرجه، بعد أن جرحه سهم تركي وجرى حصانه بعيدًا.
صرخ الفسكونت وهو يقترب من حامل الترس الملقى فوق الأرض متألمًا: كورتسيو …
فقال له حامل الترس: لا تفكر في يا سيدي، أتمنى فقط أن يكون ما زال هناك خمر «الجرابا» في المستشفى، لأن لكل جريح صحنًا واحدًا فقط.
وألقى خالي مداردو بنفسه وسط الحشد. فمصير القتال غير موثوق فيه. فوسط هذا الارتباك يبدو أن المسيحيين هم المنتصرون. وبدا من المؤكد أنهم اخترقوا صفوف الأتراك واستولوا على بعض المدافع.
واندفع خالي مع محاربين عظماء آخرين حتى أسفل بطاريات المدفعية الخاصة بالعدو، بينما يحركها الأتراك حتى يصبح المسيحيون في مواجهة النيران.
يدير اثنان من جنود المدفعية الأتراك مدفعًا ذا عجلات. ويبدوان مثل رجُلي فضاء بسبب بطئهما ولحيتيهما، والملابس المدرعة التي تغطيهما حتى أقدامهما. قال خالي في نفسه: الآن أصل إلى هناك وأتولى أمرهما. وبكل حماس، وبسبب قلة خبرته، لم يكن يعرف أن الاقتراب من المدفع يجب أن يكون من الجانب أو من الخلف. قفز أمام فوهة المدفع والسيف في يده وهو يعتقد أنه بذلك يخيف رجلَي الفضاء … ولكنهما أطلقا طلقة مدفع في صدره. عندئذ طار مداردو دي تيرالبا في الهواء.
في المساء، بعد أن حلت الهدنة، قامت عربتان بجمع أجساد المسيحيين من ميدان المعركة … عربة للجرحى والأخرى للموتى. حيث يتم الفرز الأول في ميدان المعركة.
– هذا سآخذه أنا والآخر خذه أنت …
وعندما يبدو أنه يمكن إنقاذ شيء ما يضعونه على عربة الجرحى، أما الأشلاء فتوضع فوق عربة الموتى لتدفن بعد الصلاة عليها.
وأما كل ما هو غير واضح المعالم فيترك طعامًا للطيور الجارحة. وفي تلك الأيام، ونظرًا للخسائر المتزايدة، صدرت أوامر بمحاولة زيادة عدد الجرحى. وهكذا اعتبروا ما تبقى من مداردو ضمن الجرحى ووضع بذلك فوق العربة.
أما الفرز الثاني يتم في المستشفى، فبعد المعارك تشهد مستشفيات الميدان فظائع أقسى من المعركة نفسها. يوضع صف طويل من النقالات فوق الأرض يرقد عليها هؤلاء المنكوبون، وحولهم يتحرك الأطباء بعنف وهم ينتزعون من بعضهم البعض الملاقيط والمناشير والإبر وأدوات البتر وبكرًا من الخيط … وما دام الموت غير مؤكد فإنهم يصنعون المستحيل لإعادة كل جثة للحياة … انشر هنا وخط هناك واحشُ الفتحات، يقلبون الأوردة كالقفازات ويعيدونها إلى أماكنها، وبداخلها خيوط أكثر من الدماء، ولكنها في نهاية الأمر مرقعة ومغلقة. وعندما يموت أحد المرضى فأي شيء يتبقى منه سليمًا ونافعًا يُستخدم في إصلاح أعضاء شخص آخر … وهكذا. وكانت الأمعاء هي التي تسبب ارتباكًا شديدًا، فبمجرد أن تنفك من الصعب جدًّا إعادتها إلى مكانها.
وعند رفع الملاءة بدا جسد الفسكونت مشوهًا بشكل فظيع، ينقصه ذراع وساق، وليس هذا فقط، ولكن كل ما بين الذراع والساق من جذع وحوض أيضًا طار من طلقة المدفع التي أصابته إصابة مباشرة، ومن الرأس لم يتبقَّ سوى عين وأذن وإحدى الوجنتين ونصف أنف، ونصف فم ونصف ذقن ونصف جبهة، ومن النصف الآخر لرأسه لم يكن هناك سوى بقايا متسلخة. باختصارٍ لم يتبقَّ منه سوى نصفه، الجزء الأيمن، الذي تم الاحتفاظ به بالكامل دون أي جرح صغير فيما عدا التمزق الرهيب الناتج عن انفصال الجزء الأيسر الذي تفتت.
قال الأطباء بسعادةٍ بالغة: يا لها من حالة رائعة.
إن بقي على قيد الحياة فقد يتمكنون من إنقاذه، والتفوا حوله، بينما أخذ الجنود المساكين المصابون فقط بسهم في أذرعهم يتساقطون موتى بسبب تسمم دمائهم. أخذوا يخيطون ويلصقون ويعجنون: ولا أحد يدري ماذا كانوا يفعلون. والنتيجة أنه في اليوم التالي فتح خالي عينه وفمه واتسعت فتحة أنفه وتنفس … فقد قاوم التكوين الجسدي القوي لأفراد عائلة تيرالبا الموت. وأصبح مداردو الآن حيًّا مشطورًا.
٣
عندما عاد خالي إلى تيرالبا، كنت أبلغ من العمر سبعة أو ثمانية أعوام. عاد في الليل والجو مظلم؛ كنا في شهر أكتوبر والسماء ملبدة بالغيوم.
أثناء النهار جمعنا العنب، ومن بين صفوف الكرم نشاهد اقتراب أشرُع أي مركب تحمل العلم الإمبراطوري في البحر الرمادي. وفي ذلك الوقت كنا كلما لمحنا مركبًا نقول: إنه السيد مداردو. لقد عاد. وليس هذا لأننا كنا في شوق لعودته، ولكن لمجرد رغبتنا في شيء ننتظره.
وفي تلك المرة، خمنا كالمعتاد، وتأكدنا من وصوله في المساء عندما صرخ شاب يُدعى فيورفيرو يعصر العنب في المعصرة الخشبية قائلًا: آه … ها هو هناك! كان الجو يميل إلى الظلمة، وفي نهاية الوادي رأينا صفًّا من المشاعل الموقدة وبعد أن عبر الجسر، استطعنا أن نميز وجود نقالة محمولة على الأيدي. ولم يعد هناك أدنى شك؛ فهو الفسكونت العائد من الحرب.
انتشر الخبر في أرجاء الوادي، واجتمع جمع في فناء القصر: الأقارب والخدم، جامِعو العنب والرعاة والرجال القائمون على الحراسة. لم يغب أحد سوى والد مداردو، الفسكونت المسن أيولفو، جدي، الذي توقف منذ فترة عن الخروج إلى فناء القصر، فقد تخلى عن لقبه لصالح ابنه الوحيد قبل أن يذهب للحرب؛ وذلك لتعبه مما يجري حوله في العالم.
وقد صار حب جدي الأوحد هو حبه للطيور التي يربيها في قفص كبير داخل القصر، حتى إنه أدخل سريره في هذا القفص وأغلقه على نفسه ولم يكن يخرج منه صباحًا أو مساءً. يقدمون له وجباته مع علف الطيور من خلال مشربية حديدية في القفص، ويقتسم أيولفو كل شي مع تلك المخلوقات، ويقضي الساعات وهو يربت على ظهر الفازان واليمام في انتظار عودة ابنه من الحرب.
لم أرَ قط أناسًا بهذه الكثرة في فناء قصرنا، فقد ولى ذلك الوقت الذي سمعت عنه فقط قصصًا عن الحفلات والحروب بين الجيران. ولأول مرة أدركت كيف أن الأسوار والأبراج لم تعد سوى أطلال، وكيف أن الفناء الذي اعتدنا أن نقدم فيه الحشائش للماعز ونملأ المعلف للخنازير، قد أصبح موحلًا. وأثناء الانتظار تناقش الجميع في حالة عودة الفسكونت مداردو منذ أن وصلت أخبار جراحه الخطيرة التي أصابه بها الأتراك. ولكن ما من أحد يعرف بالتحديد لو أصبح مشوه حرب أو عاجزًا أو مجرد مصاب بجراح طفيفة. والآن جعلتنا رؤية تلك النقالة نفكر فيما هو أسوأ.
ها هي النقالة توضع على الأرض، لتسمح برؤية بريق حدقة عينه وسط الظلال السوداء. همَّت المربية العجوز سيباستيانا للاقتراب منه، ولكن يدًا من وسط تلك الظلال امتدت في حركة تشير بالرفض القاطع. ثم تراءى الجسد فوق النقالة وهو يتحرك بزاوية وفي تقلص. وأمام عيوننا وقف مداردو دي تيرالبا على قدمه، مستندًا على عكاز ويرتدي عباءة سوداء تغطيه من قمة رأسه حتى الأرض، ومن الجانب الأيمن تميل للخلف فتكشف نصف الوجه ونصف الجسد المستند على العكاز، بينما الجانب الأيسر كله مخبأ ومغطى في أطراف ثنايا هذا اللباس الواسع.
أخذ ينظر إلينا ونحن نقف في دائرة حوله دون أن ينبس أحدنا بكلمة؛ ولكنه ربما لم يكن ينظر إلينا إطلاقًا بعينه المحدقة، بل يريد أن يبعدنا عنه فحسب. هبت موجة رياح من البحر وأصدر فرع مكسور من قمة شجرة التين أنينًا، وارتفعت عباءة خالي ونفختها الرياح وشدتها كالشراع فبدت كأنها اخترقت جسده. بل إن الجسد لم يكن موجودًا مطلقًا والعباءة فارغة كعباءة شبح.
وبنظرة فاحصة رأينا أن العباءة ملتصقة ومربوطة بسارية علم، وهذه السارية هي كتفه، وذراعه، وأحد جانبيه، وساقه، كل ما كان منه مستندًا على عكاز؛ أما الباقي فلم يكن موجودًا!
تراقب الماعز الفسكونت بنظراتها الثاقبة الخالية من أي تعبير وقد استدارت كل منها في اتجاه مختلف وهي متلاصقة وظهورها تشكل وضعًا غريبًا لزاويا قائمة.
أما الخنازير — وهي أكثر حساسية وتأهبًا — صرخت وأخذت تفر هاربة وبطونها تتصادم. وعندئذ لم نستطع نحن أيضًا إخفاء شعورنا بالخوف، فصرخت سيباستيانا المربية وهي ترفع ذراعيها: يا ولدي المسكين!
غضب خالي من انطباعنا، فحرك طرف العكاز فوق الأرض إلى الأمام وبحركة مثل حركة الفرجار أخذ يدفع نفسه ليصل إلى مدخل القصر. وهناك على سلالم المدخل جلس حاملو النقالة وقد عقدوا أقدامهم. كانوا رجالًا نصف عراة، يرتدون أقراطًا ذهبية، رءوسهم حليقة إلا من ذؤابة خصلة في الخلف.
فنهضوا وقال أحدهم — ذو ضفيرة في رأسه — ويبدو أنه قائدهم: نحن ننتظر أجرنا يا سيدي.
أجاب مداردو وكأنه يضحك: كم؟
قال الرجل ذو الضفيرة: سيادتكم تعرفون كم يبلغ أجر نقل رجل فوق نقالة …
أخرج خالي كيسًا من حزامه وألقاه ليرن عند قدمي الحمال الذي أمسكه، وما إن قدر وزنه حتى هتف قائلًا: ولكن هذا أقل بكثير من المبلغ المتفق عليه يا سيدي.
قال مداردو والرياح ترفع أطراف عباءته: النصف …
وعبر من جانب الحمَّال وأخذ يصعد الدرج في قفزات صغيرة على قدمه الوحيدة، ثم دخل من الباب الكبير المفتوح على مصراعيه الذي يؤدي إلى داخل القصر، ودفع بخبطات من عصاه المصراعين فانغلقا بقوة، وبعد ذلك أغلق باب المدخل المفتوح واختفى من أمام أعيننا.
ومن الداخل أخذنا نستمع إلى صوت قدمه وعصاه وهما يتحركان في الممرات تجاه جناح القصر الذي به مقره الخاص، ومن هناك أيضًا سمعنا الأبواب تنغلق وتوصد بعنف.
كان أبوه ينتظره خلف المشربية الحديدية داخل قفص الطيور، ولكن مداردو لم يمر حتى أمامه ليصافحه، بل أغلق على نفسه حجرته وحده، ولم يرغب في الظهور أو الإجابة حتى على المربية سيباستيانا التي أخذت تقرع الباب مدة طويلة وهي تواسيه.
سيباستيانا العجوز سيدة ضخمة ترتدي الملابس السوداء وتغطي رأسها، وجهها متورد خالٍ من التجاعيد فيما عدا تلك التي تكاد تخفي عينيها، فهي من أرضعت كل شباب أسرة تيرالبا الحاليين تقريبًا، وذهبت إلى الفراش مع شيوخها، وأغلقت عيون جميع موتاها.
والآن فإنها أخذت تتحرك ذهابًا ومجيئًا إلى مقصورة كل منهما، ولم تعرف كيف يمكنها مساعدتهما.
وفي اليوم التالي، ولأن مداردو لم يُعطِ أية إشارة على أنه ما زال حيًّا، فإننا استأنفنا جمع العنب، ولكن دون بهجة. وفي الكرم لم يكن أحد يتحدث إلا عن مصيره، ليس لأنه قريبًا من قلوبنا، بل لأن الموضوع جذاب وغامض. ولم يكن في القصر سوى المربية سيباستيانا تترقب أي ضوضاء بإنصات.
أما أيولفو العجوز، الذي توقع أن يعود ابنه تعيسًا ومتوحشًا هكذا، سبق ودرَّب طيرًا من أقرب طيوره إلى قلبه، طائر الصرد، ليحلق حتى جناح القصر الذي يسكنه مداردو، والذي كان مهجورًا آنذاك، ليدخل من نافذة حجرته. وفي ذلك الصباح، فتح العجوز الشباك للطائر وراقبه حتى وصل إلى نافذة حجرة ابنه، وعاد بعد ذلك ليضع العلف لطيور العقق وللطيور المغردة وهو يقلد أصواتها. وبعد قليل سمع صوت شيء يُلقى على حديد القفص. أطل العجوز إلى الخارج، وعلى طرف القفص رأى طائره مقتولًا، فضمه بين يديه؛ أحد جناحيه مقطوع وكأن أحدًا حاول أن ينتزعه، وإحدى ساقيه مقطوعة بفعل ضغط إصبعين عليها، وإحدى عينيه مفقوءة. فضم العجوز الطائر إلى صدره وأخذ يبكي.
وفي اليوم ذاته رقد في فراشه، ورأى الخدم من وراء المشربية أن حالته سيئة، ولكن أحدًا لم يستطع أن يعالجه لأنه أغلق على نفسه وخبأ المفاتيح، أخذت الطيور ترفرف حول فراشه. ومنذ أن رقد أخذت ترفرف جميعًا ولم ترد أن تتوقف أو تكف عن الضرب بأجنحتها.
وفي صباح اليوم التالي رأت المربية عندما دخلت إلى القفص أن الفسكونت أيولفو قد فارق الحياة. وقفت الطيور كلها فوق فراشه، وكأنها فوق جذع شجرة وسط مياه البحر.
٤
بعد وفاة والده، بدأ مداردو يخرج من القصر. كانت سيباستيانا المربية هي أيضًا أول من أدرك هذا، ففي صباح أحد الأيام وجدت الأبواب مفتوحة على مصراعيها والحجرات خالية. فخرج فريق من الخدم للحقول لتقفي آثار الفسكونت.
أخذ الخدم يجرون بحثًا عنه ومرُّوا أسفل شجرة كمثرى سبق ورأوها في المساء مليئة بفاكهة لم تنضج بعد.
قال أحدهم: انظر إلى أعلى!
فرأوا ثمار الكمثرى تتدلى وخلفها سماء الفجر وامتلَئوا رعبًا، ذلك لأنها لم تكن كاملة، العديد من الثمار مشطورة طوليًّا، وما زالت كل واحدة تتدلى من ساقها. وتَبقَّى من كل ثمرة الجزء الأيمن فقط (أو الأيسر حسب موقع الناظر، ولكنها جميعًا من الجانب نفسه) أما الجزء الثاني فقد اختفى؛ قُطع أو ربما قُضم.
قال الخدم: لقد مر الفسكونت من هنا. فمن المؤكد أنه بعد أن أغلق على نفسه ولم يذق الطعام أيامًا شعر بالجوع هذه الليلة وتسلق أول شجرة قابلته وأكل ثمارها.
وأثناء سيرهم رأى الخدم نصف ضفدعة فوق أحد الأحجار تقفز حية وذلك للخاصية التي تتميز بها الضفادع.
واستمر الخدم قائلين: نحن في الطريق الصحيح.
ثم فقدوا الأثر، لأنهم لم يروا بين الأوراق أنصاف شمام فعادوا للوراء حتى عثروا عليها.
وهكذا مضوا من الحقول إلى الغابة. وفي الطريق رأوا نبات عيش الغراب مقسومًا نصفين، فطر بوليطس وكمأة، ثم بوليطس آخر أحمر وسام، وكلما تقدموا في المسير كلما وجدوا عيش الغراب يظهر من الأرض بنصف ساق ويفتح فقط نصف مظلة. وبدت النباتات مشطورة بضربة قاسمة، وأما النصف الآخر فلا أثر له … حتى ولو بذره. توجد أنواع كثيرة من عيش الغراب: فقع الذئب، فقع صالح للأكل، غاريقونيات، وعدد السام منها يساوي تقريبًا عدد غير السام.
تتبع الخدم هذا الأثر المبعثر حتى وصلوا إلى مرج يطلق عليه اسم «مرج الراهبات» حيث توجد بِركة آسنة وسط الحشائش. كان الوقت سَحرًا، وعلى حافة البركة انعكست هيئة مداردو الهزيلة المغطاة بالعباءة السوداء على وجه المياه حيث تطفو نباتات عيش غراب بيضاء وصفراء ورمادية اللون.
وكانت كمية عيش الغراب التي تطفو هي نصف ما جمعه، وبدا عيش الغراب كاملًا وهو مبعثر فوق سطح المياه الشفافة، والفسكونت يتأمله. واختبأ الخدم على الضفة الأخرى من البركة ولم يجرءوا على التفوه بكلمة وهم ينظرون لعيش الغراب الذي يطفو حتى أدركوا أنه ليس سوى عيش الغراب الصالح للأكل … ولكن أين عيش الغراب السام؟
إذا لم يلقه في البركة فماذا فعل به يا ترى؟ أخذ الخدم يجرون عائدين إلى الغابة، ولكنهم لم يذهبوا بعيدًا. ففي طريق العودة قابلوا طفلًا صغيرًا يحمل سلة وبداخلها أنصاف عيش الغراب السام.
كنت أنا هذا الطفل. في تلك الليلة بينما ألعب وحدي حول مرج الراهبات بعث الخوف في نفسي بأن أبزغ فجأة من بين الأشجار، قابلت خالي وهو يقفز على قدمه في المرج على ضوء القمر ومعه سلة معلقة في ذراعه.
صرخت قائلًا: مرحبًا يا خالي! وكانت المرة الأولى التي نجحت في أن أقولها له، ولكنه لم يسعد لرؤيتي.
قال لي: إنني أجمع عيش الغراب.
– وهل وجدت شيئًا منه؟
قال خالي: انظر، وجلسنا على ضفة تلك البركة، وأخذ ينتقي عيش الغراب فيلقي ببعضه في الماء ويترك البعض الآخر في السلة.
قال وهو يعطيني السلة وبها عيش الغراب الذي اختاره هو: خذه واطلب أن يقلوه لك.
وددت أن أسأله لماذا توجد أنصاف عيش غراب فقط في سلته، ولكنني أدركت أن هذا السؤال غير مهذب، وجريت مبتعدًا بعد أن شكرته. وفي طريقي لأطلب قلي النباتات قابلت هذا الفريق من الخدم، وعرفت عندئذ أن كل ما معي من عيش الغراب كان سامًّا.
وعندما قصوا ما حدث للمربية سيباستيانا قالت: إن الجانب الشرير من مداردو هو الذي عاد، ترى ماذا سيحدث اليوم في القضية؟
تعقد اليوم قضية ضد عصابة من قُطاع الطرق قبض عليهم حراس القصر في اليوم السابق. قطاع الطرق هؤلاء أشخاص من بلدتنا، ولذلك على الفسكونت أن يحكم في أمرهم.
انعقدت الجلسة وجلس مداردو معوجًّا على كرسي الحكم. وهو يقضم أحد أظافره.
أتوا إليه بقُطاع الطرق مقيدين، وكان رئيس العصابة هو ذلك الشاب المدعو فيورفيرو، أول من رأى النقالة أثناء عصر العنب. ثم جاء رافعوا الدعوى، وكانوا مجموعة من الفرسان من توسكانا يعبرون غاباتنا متجهين إلى بروفنسا عندما هجم عليهم فيورفيرو وعصابته وسرقوهم. دافع فيورفيرو عن نفسه قائلًا: إن هؤلاء الفرسان جاءوا للصيد غير المشروع في أراضينا، وقال إنه أوقفهم وجرَّدهم من سلاحهم لأنه اعتقد أنهم صيادون جائرون لم يقم الحراس بإيقافهم.
وهنا يجب أن نذكر أن الهجمات من جانب العصابات انتشرت جدًّا في تلك الأعوام ولذلك كان القانون رحيمًا. ثم إن أراضينا مناسبة لأعمال العصابات هذه، حتى إن بعض أفراد عائلتنا ينضمون لتلك العصابات، خاصة في الأوقات الصعبة. ولن أتحدث عن الصيد الممنوع فهو أبسط الجرائم التي يمكن تخيلها.
كانت المربية سيباستيانا على حق في مخاوفها؛ فقد حكم مداردو على فيورفيرو وكل عصابته بالموت شنقًا بتهمه السرقة. وبما أن الذين تعرضوا للسرقة متهمين بدورهم بالصيد غير المشروع فقد حكم عليهم أيضًا بالشنق. ولمعاقبة الحراس، لأنهم تدخلوا متأخرين، ولم يقوموا بمنع عمليات الصيد غير المشروع أو السرقة حكم عليهم هم أيضًا بالموت شنقًا.
وكان المجموع حوالي عشرين شخصًا. هذا الحكم القاسي سبب الذعر والألم لنا جميعًا، ليس فقط بسبب هؤلاء السادة المحترمين القادمين من توسكانا الذين لم يسبق لأحد أن رآهم من قبل، ولكن أيضًا بسبب قطاع الطرق والحراس المحبوبين من الجميع. وطُلب من السيد بيتروكيودو صانع السروج والنجار أن يقيم المشنقة: كان عاملًا جادًّا وعبقريًّا ويقوم بعمله بإتقان. قام وهو جد متألم، لأن اثنين من المتهمين من أقاربه، بصنع مشنقة متفرعة كالشجرة، تصعد أحبالها كلها معًا وذلك عن طريق رافعة واحدة. آلة كبيرة جدًّا ومصنوعة بعبقرية إلى درجة أنه من الممكن شنق عدد أكبر من المحكوم عليهم في المرة الواحدة، حتى إن الفسكونت انتهز الفرصة ليشنق عشر قطط، بشنق قطة بين كل متهمَين.
واستمرت الجثث المتيبسة وجيَف القطط تتدلى لمدة ثلاثة أيام، وقبل انقضاء هذه المدة لم يستطع أحد أن ينظر إليها.
ولكننا سرعان ما أدركنا المشهد الخطير الذي توحي به تلك الجثث، وأيضًا اختلف تقديرنا للموقف اختلافًا بيِّنًا حسب تعدد أحاسيسنا، حتى إننا شعرنا بالألم من أن نقرر إنزالها وأن نفكك تلك الآلة الضخمة.
٥
كانت أسعد الأوقات بالنسبة إلي حين أتجول في الغابات مع الطبيب تريلاوني باحثًا عن قواقع حيوانات بحرية تحجرت. والطبيب تريلاوني إنجليزي وصل إلى شواطئنا ممتطيًا برميل نبيذ بوردو بعد غرق سفينته. عمل طبيبًا على السفن طيلة حياته، وقام برحلات طويلة وخطيرة، ومن بينها تلك الرحلات مع القبطان كوك الشهير، ولكنه لم يرَ أي شيء في العالم لأنه يقضي الرحلات دائمًا جالسًا في قاع السفينة مستغرقًا في لعبة «الورق». وعندما وصل إلى شاطئنا، اعتاد بسرعة على النبيذ المسمى «كنكروني»، أكثر أنواع النبيذ قوة في منطقتنا، ولم يكُن يستطيع الاستغناء عنه، حتى إنه يحمل دائمًا على كتفه زمزمية مليئة به. بقي تريلاوني في تيرالبا وأصبح طبيبنا، ولكنه لم يكن يهتم بالمرضى، بل يهتم باكتشافاته العلمية، التي تجعله دائم التجوال في الحقول والغابات نهارًا وليلًا، وأنا معه.
اكتشف في البداية مرضًا يصيب صرار الليل؛ مرض لا يصاب به سوى صرار الليل بنسبة واحد في الألف، ولا يسبب أي ضرر، ولكن الطبيب تريلاوني أراد أن يعثر عليها جميعًا ويجد لها العلاج المناسب. وبعد ذلك اهتم بالعلامات التي تدل على أن أرضنا مغطاة كلها بمياه البحر، ولذلك كنا نذهب حاملين الفخاريات والسليكون، والتي قال الطبيب إنها كانت سمكًا في وقت ما. وفي نهاية الأمر فإن اهتمامه الأكبر انصبَّ على الأنوار التي تنبعث من المقابر. يبحث عن طريقة ليمُسِك بها ويحفظها، ولهذا قضينا الليالي متحفزين في جبانة بلدتنا في انتظار أن تشتعل تلك الأضواء الغامضة بين القبور في الأرض وفي الحشائش، وعندئذ نحاول أن نجتذبها نحونا وأن نجعلها تجري وراءنا لنضعها دون أن تنطفئ في أوعية نجربها من حين لآخر: أكياس، قِنينات، أوعية حفظ النبيذ مليئة بالتبن، سخانات، مصافٍ. اتخذ الطبيب تريلاوني أحد الأكواخ القريبة من المقابر مسكنًا له، وكان هذا الكوخ يومًا ما مسكن الحانوتي، حيث من المعتاد في تلك الأزمنة المليئة بالمجاعات والحروب والطاعون أن يخصص رجل لهذه المهنة فقط. وهناك أقام الطبيب معمله ووضع بداخله الأواني بجميع أشكالها ليضع فيها الأضواء وشباكًّا مثل شباك صيد الأسماك لصيدها، إلى جانب الأنابيق والأفران. وفي المعمل يفحص كيفية خروج تلك الأضواء الشاحبة من أرض القبور ومن تحلل الأجساد. ولكنه ليس من ذلك النوع الذي يمكنه أن يجلس لمدة طويلة متعمقًا في دراسته؛ فسرعان ما يتوقف ويخرج، فنذهب سويًّا بحثًا عن ظواهر طبيعية جديدة.
كنت حرًّا كالهواء، لأنني بلا أبوَين ولا أنتمي لطبقة الخدم أو طبقة السادة. وانضممت لعائلة تيرالبا بعد اعتراف متأخر، ولكنني لم أحمل لقبها ولم يهتم أحد بتربيتي. فأمي ابنة الفسكونت أيولفو وأخت مداردو الكبرى، ولكنها لطخت شرف العائلة عندما هربت مع صياد جائر للحيوانات صار فيما بعدُ أبي.
أما أنا فقد وُلِدتُ في كوخ الصياد الجائر، في الأراضي الجرداء أسفل الغابة، وبعدها بقليل قُتِل أبي في إحدى المشاجرات، وقضى مرض البلاجرا على حياة أمي التي بقيت وحيدة في ذلك الكوخ البائس. عندئذ ذهبت لأعيش في القصر بعد أن رق قلب جدي أيولفو، وتولت تربيتي المربية الكبيرة سيباستيانا. أتذكر أن مداردو، في صباه، وأنا صغيرًا، عمري ليس سوى أعوام قليلة، كان يتركني أشاركه اللعب كأننا على نفس المستوى، ثم أخذت الهوة تتسع بيننا كلما كبرنا، وبقيت أنا في عِداد الخدم. والآن وجدت في الطبيب تريلاوني رفيقًا لم أجد له مثيلًا من قبل.
يدفعنا عشقه لأضواء المقابر للسير مسافات طويلة ليلًا لنصل إلى مقابر البلدان القريبة حيث يمكننا أن نرى هناك أضواءً أجمل لونًا وحجمًا من أضواء مقابرنا المهجورة. ولكن تبًّا لنا إذا اكتشف سكان تلك البلدان تجوالنا هذا، ففي إحدى المرات اعتقدوا أننا لصوص مقابر، فقامت مجموعة من الرجال المسلحين بالمناجل والمذراة بمطاردتنا لعدة أميال.
هربنا في أماكن وعرة حيث مساقط المياه وبينما أنا والطبيب تريلاوني نقفز فوق الصخور، وصلَت إلينا أصوات الأهالي المتقدين غضبًا وهم يقتربون خلفنا. وفي منطقة يُطلَق عليها اسم «قفزة جينيا» حيث يوجد جسر صغير مصنوع من جذوع الأشجار فوق هوةٍ سحيقة، بدلًا من أن نعبر هذا الجسر اختبأنا أنا والطبيب على صخرة على طرف حافة الهاوية، في الوقت المناسب، حيث أصبح الفلاحون خلفنا تمامًا. لم يتمكنوا من رؤيتنا وأخذوا يصرخون: لكن أين ذهب هذان الشقيان؟ وجروا واحدًا تلو الآخر فوق الجسر. بعدها سمعنا صوت دوي هائل وابتلعهم الشلال الذي يصب في مجرى المياه وهم يصرخون.
أما أنا وتريلاوني فقد تحول الرعب الذي سيطر علينا إلى راحة لنجاتنا من الخطر، ثم تحول مرة أخرى إلى رعب للمصير الفظيع الذي لقيه مطاردونا. جرُؤنا بالكاد أن نطل وأن ننظر إلى أسفل في الظلام حيث اختفى الفلاحون. وعندما رفعنا أعيننا رأينا بقايا الجسر الصغيرة؛ كانت الجذوع متماسكة، ولكنها منقسمة في المنتصف وكأنها قد نُشِرَت، ولم يكن لدينا تفسير آخر لتعرض هذا الخشب الضخم لقطعٍ دقيق كهذا.
قال الطبيب تريلاوني: إنني أعرف من ارتكب هذا …
وفهمت أنا أيضًا بدوري.
وبالفعل وصل إلى أسماعنا صوت حوافر، وعلى حافة الهاوية ظهر جواد يمتطيه فارس مغطى بعباءة سوداء. كان الفارس هو الفسكونت مداردو الذي أخذ يتأمل، بابتسامة باردة مثلثة الشكل، النتيجة المأساوية لفخه … والتي من الجائز أنه لم يتوقعها؛ فمن المؤكد أنه أراد قتلنا أنا والطبيب، ولكنه على عكس ما أراد أنقذ حياتنا.
وبملء الرعب رأيناه يجري مبتعدًا فوق حصانه النحيف الذي يقفز فوق الصخور وكأنه ابن عنزة.
في تلك الفترة كان خالي يتجول دائمًا فوق صهوة جواده؛ فقد جعل صانع السروج بيتروكيودو يعد له سرجًا خاصًّا يُمَكنه من أن يؤمن نفسه فوقه بحزام في أحد جانبيه وبوزن مضاد في الجانب الآخر، وعلق سيفًا وعكازًا بجانب السرج. وهكذا يمتطي الفسكونت حصانه وعلى رأسه قبعة مزينة بالريش عريضة الحواف، يختفي نصفها أسفل جناح العباءة التي ترفرف دائمًا.
وحينما يصل صوت طرقعة حوافر حصانه إلى الأسماع، يفر الجميع بصورة أسوأ مما يحدث عند عبور جالاتيو المجذوم؛ فيبتعدون بأولادهم وحيواناتهم، ويخشون على زرعهم، لأن شر الفسكونت يعم الجميع ويظهر من لحظة لأخرى في أعمال لا يتوقعها أحد ولا تفسير لها.
ولم يمرض قط، فلم يحتج إلى علاج الطبيب تريلاوني. وفي مثل هذه الحالة لم أكن أعرف ما سيكون عليه تصرف الطبيب، فهو يفعل المستحيل ليتجنب خالي، وليتجنب مجرد سماع أي حديث عنه. فعندما يحدثه أحدهم عن الفسكونت وعن قسوته، يهز الطبيب تريلاوني رأسه ويمد شفتيه وهو يتمتم: أوه، أوه، … تؤ … تؤ … تؤ … تمامًا كما يفعل عندما يحدثه أحدهم بكلام غير لائق. وليغير الموضوع يبدأ رواياته عن رحلات القبطان كوك … وفي إحدى المرات جربت أن أسأله كيف يستطيع خالي — في رأيه — أن يعيش مشطورًا هكذا. ولكن الإنجليزي لم يستطِع أن يقول لي سوى: أوه … أوه … تؤ … تؤ …
وبدا لي أن حالة خالي لا تُشَكِّل أي اهتمام لدى الطبيب من وجهة النظر الطبية، ودفعني هذا لأن أفكر أنه صار طبيبًا بسبب ضغط عائلته فحسب، أو لأسباب اجتماعية، وأن هذه الدراسة لا تهمه على الإطلاق … وربما يرجع عمله طبيبًا بحريًّا فقط لبراعته في لعبة الورق، ولذلك فإن أشهر البحارة وعلى رأسهم القبطان كوك اتخذوه رفيقًا للعب.
وذات ليلة في حين كان الطبيب تريلاوني يصطاد أضواء المقابر بشبكته في جبانتنا القديمة رأى أمامه مداردو دي تيرالبا يصحب جواده ليرعى في المقابر. ارتبك الطبيب وارتعب بشدة، فاقترب منه الفسكونت وسأله بنطقه المعيب جدًّا الصادر من فمه المشطور: هل تبحث عن فراشات ليلية يا دكتور؟
أجابه الطبيب بصوت خفيض: أوه يا سيدي اللورد … أوه … أوه، أنا لا أبحث عن فراشات، ليس بالضبط فراشات يا سيدي … بل عن أضواء المقابر؟ أضواء المقابر.
– نعم، أضواء المقابر، كثيرًا ما تساءلت أنا أيضًا عن مصدرها.
أجابه تريلاوني وبصوت أكثر اطمئنانًا بسبب تلك النبرة الطيبة: إن هذا بكل تواضع هو موضوع دراساتي منذ فترة يا سيدي …
فقلص مداردو بابتسامةٍ نصف وجهه المثلث ذا الجلد المشدود كالجمجمة وقال: إنك كدارس تستحق كل مساعدة، وللأسف، فإن هذه الجبانة المهجورة ليست بيئة جيدة لأضواء المقابر، ولكنني أعدك أنني سأحاول مساعدتك في الغد قدر استطاعتي.
وكان الغد هو اليوم المحدد للمحاكمات، وحكم الفسكونت بالموت على حوالي عشرة فلاحين، لأنهم حسب تقديره، لم يقوموا بتسليم الحصة الواجب تسليمها للقصر من المحصول. ودُفِنَت جثث الموتى في تربة المقابر العامة، وأصبحت الجبانة تطلق كل يوم كنزًا هائلًا من الأضواء. امتلأ الطبيب تريلاوني رعبًا من هذه المساعدة، على الرغم من أنه وجدها مفيدة جدًّا لدراساته.
أثناء تلك الأحداث المأساوية أتقن السيد بيتروكيودو فن إقامة المشانق إتقانًا كبيرًا. وأصبحت الآن من روائع أعمال النجارة والميكانيكا، لا المشانق فحسب، بل أيضًا الدعامات وآلات الرفع، وأدوات التعذيب الأخرى التي ينتزع الفسكونت مداردو بها الاعترافات من المتهمين.
كثيرًا ما كنت أذهب لمتجر بيتروكيودو لأن مشاهدته وهو يعمل بكل مهارة وشغف شيء رائع. ولكن الألم دائمًا ما يعتصر قلب صانع السروج. فما يصنعه هي مشانق للأبرياء … وكان يفكر فيقول: ماذا يمكنني أن أفعل حتى أحصل على أوامر بتصنيع آلات عبقرية كهذه ولكن هدفها مختلف؟ كيف يجب أن تبدو الآلات الجديدة التي يمكنني أن أصنعها بسهولة؟ ولكن نظرًا لأن أسئلته تبقى دائمًا بلا إجابة، يحاول طردها من ذاكرته، منكبًّا على صناعة آلات أكثر جمالًا وعبقرية على قدر استطاعته. وكان يقول لي أنا أيضًا: يجب أن تنسى الهدف الذي تصنع لأجله، انظر إلى حركتها الميكانيكية، ألا ترى كم هي جميلة؟
أنظر لهندسة بناء الدعامات، وحركة هبوط الحبال وصعودها، وعملية الربط بين الآلات الرافعة والبكر، وأحاول بشدة ألا أتخيل الأجساد المتألمة فوقها. ولكنني كلما حاولت ذلك وجدت نفسي أفكر فيها. وأقول لبيتروكيودو: كيف؟ كيف أفعل هذا؟
فيجيبني: وكيف أفعل هذا أنا يا ولدي، ماذا أفعل؟
وبالرغم من الآلام والمخاوف، كانت لتلك الأوقات جانبها المفرح. وأجمل الساعات عندما ترتفع الشمس في السماء ويصبح البحر ذهبي اللون، ويغني الدجاج بعد أن يضع للبيض، وعلى الطرقات يُسمع صوت بوق المجذوم. يمر المجذوم كل صباح يستجدي لرفقاء مرضه. يُدعى جالاتيو، ويعلق في رقبته بوق صيد، وبصوته يعلن عن قدومه من بعيد. وعندما يسمع السيدات البوق، يضعن على حافة السور بيضًا أو قثاءً أو طماطم وفي بعض الأحيان أرنبًا صغيرًا مسلوخًا، ثم يهربن للاختباء مصطحبات أطفالهن؛ لأنه لا يجب أن يبقى أحد في الطرقات وقت عبور المجذوم. فالجذام مُعدٍ عن بُعد، بل إن مجرد رؤية المجذوم خطر.
يتقدم جالاتيو ببطء على الطريق الخالي يسبقه نفير البوق، وعصاه الطويلة في يده ويرتدي رداءه الطويل الممزق يكاد يلمس الأرض. شعره طويل ملبد أصفر اللون، ووجهه أبيض مستدير، أتلفه الجذام قليلًا بالفعل.
يجمع الهبات ويضعها في جرابه ويهتف شاكرًا تجاه منازل الفلاحين المختبئين، يهتف بصوته المعسول، مرددًا بعض التلميحات المضحكة أو الخبيثة.
في ذلك الزمان انتشر مرض الجذام في القرى القريبة من البحر، وبالقرب منا تقع قرية صغيرة تدعى براتوفونجو، يسكنها المجذومون فقط، وطالما حرصنا على أن نرسل لهم العطايا التي يجمعها جالاتيو. وعندما يصاب أحد سكان القرى المطلة على البحر أو الفلاحين بالجذام يترك أسرته وأصدقاءه ويذهب إلى براتوفونجو ليقضي هناك ما تبقى من حياته منتظرًا أن يلتهمه المرض. وكنا نسمع أخبار الحفلات الكبيرة عند استقبالهم لوافد جديد؛ ومن بعيد يمكن الاستماع إلى عزف وغناء قادم من منازل الجذام حتى وقت متأخر من الليل.
تُحاك القصص عن براتوفونجو، بالرغم من أن أحدًا من الأصحاء لم يذهب إلى هناك. ولكن جميع الشائعات تتفق على أن الحياة فيها عبارة عن جلبة مستمرة. وقبل أن تصبح البلدة ملجأً للمجذومين كانت وكرًا للعاهرات؛ حيث اعتاد أن يذهب إلى هناك بحَّارة من كل جنس ومن كل دين؛ ويبدو أن النساء هناك ما زلن يحتفظن بالعادات الإباحية لتلك الأزمنة … لا يعمل مرضى الجذام في الحقول، فيما عدا كرم عنب، يجعلهم النبيذ الناتج عنه في حالة من الانتشاء طوال العام. والمهمة الكبرى التي تشغل مرضى الجذام هي العزف على آلات غريبة من اختراعهم: آلات الهارب معلقة في أوتارها أجراس كثيرة، والغناء بطبقات صوتية مرتفعة جدًّا، ورسم البيض بكل لون بفرش الرسم كأنهم في عيد فصح مستمر. وهكذا فإنهم بانهماكهم في الموسيقا العذبة — بين أكاليل من الياسمين الموضوعة حول وجوههم المشوهة — ينسون المجتمع الإنساني الذي انفصلوا عنه بسبب المرض.
لم يرغب أي طبيب من بلدتنا قط أن يهتم بمرضى الجذام. وعندما استقر تريلاوني بيننا، تمنى البعض أن يُكرس علمه لعلاج ذلك المرض المنتشر في منطقتنا.
كنت أنا أيضًا أشاركهم نفس الآمال بطريقتي الطفولية: فمنذ مدة رغبت بشدة أن أندفع حتى أصل إلى براتوفونجو وأحضر حفلات مرضى الجذام، ولو أن الطبيب انكبَّ على تجربة عقاقيره على هؤلاء المنكوبين، لسمح لي مرة من المرات باصطحابه إلى داخل البلدة. ولكن، لم يحدث أي شيء من هذا؛ فالطبيب تريلاوني يهرب بخطوات سريعة بمجرد سماع بوق جالاتيو بل ويبدو أنه أكثر الجميع خوفًا من العدوى. في بعض المرات حاولت أن أسأله عن طبيعة ذلك المرض، لكنه يجيب بإجابات ليتهرب بها كما لو أن كلمة «جذام» وحدها كافية لتسبب له الضيق.
في الحقيقة لا أعلم لماذا كنا متمسكين باعتباره طبيبًا؛ فهو شغوف جدًّا يهتم بالحيوانات، وخاصة أصغرها، وبالحجارة، وبالظواهر الطبيعية؛ أما الكائنات البشرية وأمراضها فتملؤه بشعور الاشمئزاز والفزع. يصاب بالرعب من رؤية الدماء، ويلمس المرضى بأطراف أصابعه فقط، وأمام الحالات الخطيرة يضع منديلًا من الحرير المبلل بالخل فوق فمه. ويخجل ويحمر وجهه كالصبية الصغار عندما يرى جسدًا عاريًا. فإذا كان جسد امرأة، يخفض نظره ويبرطم. ويبدو أنه خلال رحلاته الطويلة عبر المحيطات لم يعرف نساءً قط. ولحسن الحظ ففي تلك الفترة تقوم القابلات بعمليات الوضع في بلادنا لا الأطباء، وإلا فمن يدري ماذا كان سيفعل.
وخطرت ببال خالي فكرة إشعال الحرائق. ففي قلب الليل يشتعل فجأة مستودع تبن ملك فلاحين بؤساء، أو شجرة جافة أو غابة بأكملها. وفي ذلك الوقت يستمر انتقال دلو المياه من يد إلى يد لإخماد الحريق حتى الصباح. والضحايا دائمًا هم هؤلاء الفقراء المساكين الذين راجعوا الفسكونت بشأن بعض أوامره التي تزداد ظلمًا وقسوة أو بشأن الضرائب التي ضاعفها. وبما أنه لم يسعد بحرق الممتلكات فقط، فقد أخذ يحرق المنازل أيضًا؛ يبدو أنه يقترب ليلًا ويلقي بمشاعل محترقة فوق الأَسقف، ثم يهرب بحصانه، ولكن أحدًا لم ينجح أبدًا في القبض عليه متلبسًا. في إحدى المرات توفي عجوزان، ومرة أخرى بقيت جمجمة صبي كأنها سلخت. وهكذا تزايدت كراهية الفلاحين له. ومن ألد أعدائه العائلات التي تدين بالهوغونية والتي تقطن البيوت الريفية في تل جيربيدو، هناك يتناوب الرجال الحراسة ليلًا لتجنب الحرائق.
ودون أي سبب مفهوم، ذهب ذات ليلة حتى وصل إلى منازل براتوفونجو والمصنوع أسقفها من القش وهناك ألقى بالقطران والنيران. ولمرضى الجذام صفة حميدة؛ هي أنهم إذا حُرِقوا لا يشعرون بالألم. وإذا أمسكت النيران بهم وهم نيام فإنهم لن يستيقظوا. ولكن أثناء قفزه مبتعدًا سمع الفسكونت من البلدة عزف آلة الكمان يرتفع؛ فسكان براتوفونجو سهارى منغمسين في اللعب، أصيبوا جميعًا بحروق، ولكنهم لم يشعروا بألم، واستمروا يستمتعون كعادتهم … وسرعان ما أطفأوا الحريق، وحتى منازلهم — ربما لأنها محقونة هي أيضا بالجذام — لم تحدث بها سوى خسائر طفيفة بسبب الحريق.
وتحول شر مداردو أيضًا ضد ممتلكاته الخاصة؛ القصر.
فقد تصاعدت النيران من الجناح الذي يسكن فيه الخدم واشتعل، بين صرخات مَن سُجِن بالداخل، بينما شوهد الفسكونت وهو يركض مبتعدًا في الريف … هدفت محاولته أن تودي بحياة مرضعته وأمه البديلة سيباستيانا. فبالتسلط الراسخ الذي تتمسك به جميع النساء على أولئك الذين ربينهم وهم أطفال؛ لم تتورع سيباستيانا أبدًا عن لَوم الفسكونت في كل مرة يرتكب فيها حماقة، حتى على الرغم من اقتناع الجميع أن طبيعته قد تحولت إلى طبيعة قاسية مريضة لا يمكن إصلاحها. تم إخراج سيباستيانا وهي حزينة خارج الحوائط المحترقة، وعليها أن تمكث في الفراش عدة أيام لتشفى من حروقها.
وفي مساء أحد الأيام، فُتِح باب الغرفة التي ترقد فيها، وظهر الفسكونت بجوار فراشها.
قال لها مداردو وهو يشير إلى الحروق: ما هذه البقع الموجودة على وجهك يا مربية؟!
فأجابته في سلام: إنها آثار خطاياك يا بُنَي.
– إن جلدك قد ازرق وتغير، ماذا بك يا مربية؟
– إنه ألم طفيف يا بني، بالنسبة لما ينتظرك في الجحيم إن لم تتب.
– يجب أن تشفي بسرعة؛ لا أريد أن يعرف الجميع عن هذا المرض الذي أصابك.
– لست أبحث عن زوج لأهتم بجسدي. ولكن يكفيني ضميري اليقظ. ليتك تستطيع أن تقول الشيء نفسه.
– ومع هذا فإن عريسك ينتظرك ليأخذك معه. ألا تعرفين هذا؟!
– لا تسخر من السن المتقدمة يا بني، أنت الذي خسرت شبابك.
– أنا لا أسخر، استمعي يا مرضعة، فخطيبك يعزف أسفل النافذة.
فاسترقت سيباستيانا السمع فوصل إلى أسماعها صوت بوق المجذوم من خارج القصر.
وفي اليوم التالي أرسل مداردو لاستدعاء الطبيب تريلاوني … وقال له: إن هناك بقعًا مشكوكًا في أمرها ظهرت على وجه خادمتنا العجوز ولا نعرف كيف. والجميع يخشون أن يكون مرض الجذام. يا دكتور … إننا نعتمد على نور علمك.
انحنى تريلاوني وهو يبرطم: هذا واجبي يا سيدي.
ثم استدار وخرج كمن يفلت من القصر، أخذ معه برميلًا صغيرًا من نبيذ «الكنكروني» واختفى في الغابات. ولم يَرَه أحد بعد ذلك لمدة أسبوع. وعندما عاد كانت المرضعة سيباستيانا قد أُرسلت بالفعل لمدينة الجذام.
غادرت سيباستيانا القصر في أحد الأيام وقت الغروب، وهي ترتدي السواد وقد غطت وجهها وحملت على ذراعها صرة وضعَت فيها حاجياتها. فهي تعرف أن مصيرها قد تقرر؛ ويجب عليها الذهاب إلى براتوفونجو. تركت الحجرة التي وضعوها فيها حتى تلك اللحظة ولم يكن هناك أحد لا في الردهة ولا فوق الدرج. هبطت الدرج، وعبرت الحديقة وخرجت إلى الحقول؛ بدا كل شيء مهجورًا، يبتعد الجميع ويختبئون أثناء عبورها. سمعت صوت بوق صيد يصدر نداءً مكونًا من نغمتين فقط؛ وعن بعد على الدرب يقف جالاتيو رافعًا آلته عاليًا نحو السماء. سارت المربية بخطوات بطيئة، بينما الدرب يتجه صوب الشمس وقت الغروب، يسبقها جالاتيو بمسافة، ويتوقف كل فترة كأنه يتأمل الحيات الضخمة وفحيحها بين أوراق الشجر، يرفع بوقه ويبدأ في عزفٍ حزين. تنظر المربية إلى الحقول والشواطئ التي تهجرها، وتشعر بوجود الناس الذين يبتعدون عنها خلف السياج، ثم تعاود سيرها.
ووصلت وحيدة وهي تتبع جالاتيو عن بعد، إلى براتوفونجو، وأغلقت أبواب البلدة خلفها، بينما بدأت نغمات القيثارات والكمان ترتفع.
خذلني الطبيب تريلاوني بشدة؛ إذ لم يحرك إصبعًا حتى لا يُحكَم على المربية سيباستيانا بالذهاب لمدينة الجذام، بالرغم من أنه يعلم أن تلك البقع لم تكن جذامًا. وهذا دليل على الجبن، وشعرت لأول مرة بمناهضتي الطبيب. وبالإضافة إلى هذا، لم يأخذني معه عندما هرب إلى الغابات، برغم معرفته مدى فائدتي له في صيد السناجب والبحث عن توت العليق. الآن لم يعد الذهاب معه للبحث عن أضواء المقابر يعجبني، وكثيرًا ما صرت أتجول وحدي بحثًا عن صحبة جديدة.
وأصبح الأشخاص الذين يجذبونني الآن هم الهوغونيين الذين يسكنون تل جيربيدو. هربوا من فرنسا حيث كان الملك يمزق أجساد كل من يتبعون ديانتهم إربًا. وعند عبورهم الجبال، فقد الهوغونيون كتبهم وأدواتهم المقدسة، ولم يعد لديهم الآن كتاب مقدس يقرءونه أو قداس يتلونه، ولا ترانيم ينشدونها أو صلوات يبتهلون بها. وشأنهم شأن كل من عانى الاضطهادات وعاش وسط أناس من ديانة مختلفة، ملأهم الشك؛ إذ لم يرغبوا في أخذ أي كتاب ديني، أو الاستماع إلى نصائح حول طريقة ممارسة طقوسهم. وإذا جاء أحد لتفقدهم بصفته أخ هوغوني مثلهم، يخشون أن يكون مبعوثًا متنكرًا للبابا، فينغلقون على أنفسهم بالصمت. وهكذا أخذوا يزرعون أراضي تل جيربيدو الوعرة، وينهكون أجسادهم في العمل رجالًا ونساء من قبل الفجر وحتى الغروب، على أمل أن تنير نعمة الله طريقهم.
ونظرًا لقلة معرفتهم بكل ما هو خطيئة، يضاعفون في الممنوعات حتى لا يخطِئوا. وصاروا يراقبون الواحد الآخر رقابة صارمة متوجسين من أية حركة صغيرة قد تحمل في طياتها أية نوايا سيئة … ولأن ذاكرتهم مضطربة بشأن خلافات كنيستهم، فإنهم يمتنعون عن ذكر اسم الله أو عن أي تعبير ديني آخر، خوفًا من التحدث بأسلوب فيه تدنيس للمقدسات. وبالتالي لم يتبعوا أية قاعدة طقسية، وربما لم يجرءوا على صياغة أفكارهم حول المسائل الإيمانية، بالرغم من احتفاظهم بهيئة تدل على التأمل وكأنهم دائمو التفكير.
وبمرور الوقت، اكتسب نظام زراعتهم المرهقة قيمة تُعادِل قيمة الوصايا. وأصبح هذا هو الحال أيضًا بالنسبة لعاداتهم في التقشف التي أُجبِروا عليها، وبالنسبة لفضائل الأعمال المنزلية للمرأة.
كانوا عبارة عن عائلة كبيرة مليئة بالأحفاد وزوجات الأبناء، جميعهم طوال القامة بارزو المفاصل، يعملون في الأرض وهم يرتدون دائمًا ملابس عيد سوداء أزرارها مشدودة، وقبعات ذات حواف عريضة متدلية يرتديها الرجال، وكوفيات بيضاء ترتديها النساء.
كان للرجال لحًى طويلة، ويحملون دائمًا على أكتافهم بنادق الصيد وأحزمة الذخيرة. ولكن يقال إنه ما من أحد أطلق عيارًا، إلا على العصافير، لأن الوصايا تمنع ذلك.
ومن فوق الدرج الجيري حيث تنمو بالكاد بعض الكروم وبعض الحنطة الواهنة، عادة ما يرتفع صوت حزقيال العجوز صارخًا دون توقف، وقبضتاه مرتفعتان نحو السماء، وهو يرتعش بلحيته البيضاء التي تشبه لحية الماعز، ويدير عينيه أسفل قبعته الأسطوانية المنتفخة قائلًا للأفراد المنهمكين في العمل:
فليحل بكم الطاعون والمجاعة!
هيا يا يونان أسرع بتلك الفأس!
هيا يا سوزانا انزعي الحشائش!
هيا يا طوبيا انشر هذا السماد!
يصدر ألف أمر وألف لوم بنبرة الحاقد الذي يوجه كلامه إلى مجموعة من الكسالى الفاسدين. وفي كل مرة بعد أن يأمر صارخًا بالألف أمر الذي يجب عليهم فعلها — وحتى لا يذهب الحقل إلى التهلكة — يقوم بتنفيذها بنفسه طاردًا الجميع من حوله وهو يصرخ دائمًا: فليحل بكم الطاعون والمجاعة.
أما زوجته فلم تكن تصرخ أبدًا، وتبدو — بخلاف الآخرين — مؤمنة بتدين سري، واثقة منه حتى أدق تفاصيله، ولكنها لم تتحدث عنه مع أحد.
يكفيها أن تنظر بدقة بحدقتي عينيها الكبيرتين، وأن تنطق بشفتيها المشدودتين لكي تختفي الابتسامات النادرة من على شفاه أفراد العائلة ولتعود التعبيرات جادة وحادة.
– ولكن هل هذا مناسب يا أختي راشيل؟
– وهل يبدو لك أن هذا مناسب يا أخي هارون؟
في إحدى الأمسيات وصلت إلى تل جيربيدو بينما يؤدي الهوغونيون الصلاة. لم يكونوا ينطقون بشيء أو عاقدين أيديهم أو راكعين، يقفون في صفوف في الكرم، الرجال من ناحية والسيدات من ناحية أخرى، وفي المقدمة يقف حزقيال العجوز ولحيته تتدلى فوق صدره. ينظرون إلى الأمام، وقد ضموا قبضاتهم التي تتدلى من أذرعهم الطويلة ذات المفاصل البارزة، ورغم أنه يبدو عليهم الاستغراق فإنهم لم يفقدوا إدراكهم بما يدور حولهم، فقد مد طوبيا يده ونزع شرنقة من فوق إحدى الكروم، وسحقت راشيل حلزونًا بكعب حذائها، وحتى حزقيال نفسه خلع قبعته ليخيف العصافير التي هبطت على الحنطة.
ثم بدءوا ينشدون مزمورًا. لم يتذكروا الكلمات وإنما اللحن فقط، وحتى هذا لم يتذكروه جيدًا، فغالبًا ما ينشز أحدهم عن اللحن، أو ربما ينشزون جميعًا بشكل دائم لكنهم لم يتوقفوا أبدًا. وعندما ينتهون من فقرة يبدءون على الفور في الأخرى دون أن ينطقوا الكلمات.
شعرت أن أحدهم يشدني من ذراعي، كان الصغير عيسو الذي يشير إلي بأن ألتزم الصمت وأن أذهب معه.
وعيسو في نفس سنِّي، وهو آخر أبناء العجوز حزقيال، وكل ما أخذه عن والديه هو تعبير الوجه الجامد والمتوتر فقط، ولكنه تعبير ينم عن خبث وقح. ابتعدنا ونحن نزحف في الكرم بينما يقول لي: أمامهم نصف ساعة أخرى، يا للملل! تعالَ أريك جحري.
جحر عيسو سري. يختبئ فيه حتى لا يجده ذووه فيرسلوه ليرعى الماعز أو ليجمع الحلزون من فوق الخضروات … فهو يقضي نهاره بلا عمل، بينما والده يبحث عنه في الحقول وهو يصرخ.
لدى عيسو خزين من التبغ، ويوجد غليونان من الخزف معلقان على أحد الحوائط. ملأ أحدهما، وأراد أن أدخن. وعلمني كيف أشعله. وبدأ ينفث دخانًا بملء فمه بشراهة لم أرَها من قبل في غلام. كانت المرة الأولى التي أدخن فيها، فأحسست بالتعب على الفور وتوقفت. وليكسب عيسو ثقتي قام بإخراج زجاجة من خمر الجرابا وصب لي كأسًا جعلني أسعل وأشعر بتقلص في أمعائي، أما هو فكان يشربها كالماء.
وقال: من الصعب جدًّا أن أسكر.
فسألته: ولكن من أين حصلت على كل هذه الأشياء التي تحتفظ بها في الجحر؟
فقال عيسو وهو يشير مفتخرًا بأصبعه: مسروقة.
فقد نصَّب نفسه زعيمًا لعصابة من الأولاد الكاثوليك الذين ينهبون القرى المحيطة. ولم يكتفوا بتجريد الأشجار من ثمارها فحسب، بل يدخلون إلى المنازل والحظائر. وينطقون بالسباب بطريقة أكثر حدة ويكررونه أكثر من المعلم بيتروكيودو؛ وكانوا يعرفون كل السباب الكاثوليكي والهوغوني ويتبادلونه فيما بينهم.
استرسل قائلًا: وأقترف أيضًا خطايا أخرى كثيرة، أشهد شهادة زور، وأنسى ري الفاصوليا بالمياه، ولا أحترم أبي وأمي، وأعود إلى المنزل في وقت متأخر من الليل.
وحاليًّا أريد أن أرتكب جميع الخطايا الموجودة، حتى تلك التي يقولون إنني لست كبيرًا بدرجة كافية لأفهمها.
فسألته: كل الخطايا … حتى القتل؟
فرفع كتفيه: حاليًّا القتل لا يناسبني ولا يفيدني.
فقلت، ليكون لدي شيء أفتخر به مع عيسو: يقولون إن خالي يقتل ويدفع للقتل رغبةً في الاستمتاع.
فقال: إنها متعة المعتوهين.
ثم بدأ الجو يرعد وبدأت تمطر خارج الجحر.
فقلت لعيسو: لا بد أن أهلك سيبحثون عنك.
أنا لم يبحث أحد عني قط، ولكني دائمًا أرى آباء الأولاد الآخرين يبحثون عنهم، وخاصة عندما تسوء حالة الجو، وطالما اعتقدت أن هذا شيء مهم.
فقال عيسو: لننتظر هنا حتى تتوقف الأمطار، ولنلعب بالنرد.
وأخرج النرد وصفًّا من العملات. ولكنني لم أكن أملك نقودًا فلعبت على ما أملك من مزامير، وسكاكين ومقالع، وخسرتها كلها.
وفي النهاية قال لي عيسو: لا تيأس … فأنا أغش في اللعب.
وخارج الجحر اشتد الرعد والبرق والأمطار. وغرق جحر عيسو، فوضع التبغ والأشياء الأخرى في مأمن وقال: ستمطر سيولًا طوال الليل، من الأفضل أن نجري ونحتمي بالمنزل.
وأغرقتنا المياه والأوحال إلى أن وصلنا إلى منزل العجوز حزقيال.
وكان الهوغونيون جالسين حول المائدة على ضوء مصباح، يحاولون تذكر بعض أحداث الكتاب المقدس دون التأكد من حقيقة معناها ومغزاها، ويحاولون أن يقصوها كما يبدو لهم أنهم قرءوها في الماضي.
وعندما ظهر عيسو معي على عتبة الباب صرخ حزقيال وهو يضرب على المائدة حتى أطفأ المصباح: فليحل بكم الطاعون والمجاعة!
أخذت أسناني تصطك. وهز عيسو كتفيه غير مكترث. أما خارج المنزل فبدا أن كل الرعود والصواعق قد انصبت على تل جيربيدو. وبينما يشعلون المصباح من جديد أخذ العجوز يعدد خطايا ابنه رافعًا قبضتيه، وكأنها أبشع خطايا ارتكبها إنسان، ولكنه لم يعرف منها سوى الشيء اليسير.
تؤيده الأم في صمت، بينما يستمع الآخرون جميعًا من أبناء وأزواج بنات وزوجات أبناء وأحفاد وذقونهم فوق صدورهم ووجوههم مختبئة بين أيديهم. وعيسو يقضم تفاحة كما لو أن هذه الموعظة لا تخصه في شيء. أما أنا فوسط صوت الرعد وصوت حزقيال أخذت أرتعش كورقة شجرة الأسَل.
وتوقف التوبيخ بوصول رجال الحراسة وهم يرتدون الأكياس ليغطوا رءوسهم، وجميعهم مبللون بالأمطار. يتناوب الهوغونيون الحراسة طوال الليل وهم مسلحون بالبنادق والمناجل، والمذرات اتقاءً لغزوات الفسكونت الغادرة، الذي أصبح الآن عدوهم المعلن.
فقال له هؤلاء الهوغونيون: يا أبانا حزقيال. إنها ليلة ليلاء. من المؤكد أن الأعرج لن يأتي. هل يمكن أن نلجأ إلى منازلنا يا أبتاه؟
وسأل حزقيال: ألا توجد أية آثار للمعوق في الجوار؟
– لا يا أبت، إذا استثنينا رائحة الدخان التي تتركها الصواعق، إن هذه الليلة ليست ليلة الأعور.
– إذن فلتمكثوا في المنزل ولتغيروا ملابسكم. ولتأتِ العاصفة بالسلام على وحيد الجنب وعلينا.
والأعرج والمعوق والأعور ووحيد الجنب هي بعض الألقاب التي يشير بها الهوغونيون إلى خالي، ولم أستمع إليهم أبدًا يدعونه باسمه الحقيقي. وفي أحاديثهم هذه يحاولون نزع التكلف مع الفسكونت، وكأنهم يعلمون عنه الكثير، وكأنه عدو قديم لهم. يتبادلون فيما بينهم جملًا مختصرة مصحوبة بالغمزات والضحكات الساخرة: هه هه، الأعرج … فعلًا هكذا، النصف أصم … وكأن جميع أعمال مداردو الجنونية الغامضة واضحة لهم ومتوقعة.
وبينما هم يتحدثون هكذا سمعوا وسط العاصفة طرق قبضة على الباب، فقال حزقيال: من يقرع الباب في هذا الجو؟! فلتفتحوا له بسرعة.
وفتحوا الباب وعلى العتبة وجدوا الفسكونت يقف على ساقه الواحدة، ملتفحًا بعباءته السوداء التي يتساقط منها المياه، وقبعته ذات الريش المبللة بالأمطار.
وقال: لقد ربطت جوادي في حظيرتكم، أستضيفوني أنا أيضًا؟ أتوسل إليكم إنها ليلة سيئة لكل عابر.
ونظر الجميع إلى حزقيال. واختبأتُ أنا تحت الطاولة حتى لا يكتشف خالي أنني أذهب إلى منزل أعدائه.
قال حزقيال: اجلس بجانب النار، إن الضيف في هذا المنزل موضع ترحاب دائمًا.
وبالقرب من المدخل توجد كومة ملاءات من تلك التي يمدونها تحت الأشجار لجمع الزيتون، فرقد مداردو فوقها واستغرق في النوم.
وفي الظلام اجتمع الهوغونيون والتفوا حول حزقيال وهم يهمسون: يا أبت، إن الأعرج أصبح الآن بين أيدينا.
– أنتركه يهرب؟ أنتركه يرتكب جرائم أخرى ضد الأبرياء؟
– ألم تحن الساعة ليدفع هذا المعوق ما عليه يا حزقيال؟
رفع العجوز قبضتيه تجاه السقف وصرخ: فليحل بكم الطاعون ولتنزل بكم المجاعة — هذا إذا كان من الممكن أن نقول عمن يتحدث بكل قوته دون إصدار أي صوت أنه يصرخ — في منزلنا لم يسبق أن تعرض ضيف للخطر، سأذهب لحراسته بنفسي أثناء نومه.
ووقف وبندقيته معلقة على كتفه بجوار الفسكونت النائم.
عندئذ فتح مداردو عينه وسأله: ماذا تفعل هنا يا معلم حزقيال؟
– أحرسك أثناء نومك أيها الضيف. فإن كثيرين يكرهونك.
قال الفسكونت: أعلم هذا، ولهذا لا أنام في القصر لأنني أخشى أن يقتلني خدمي أثناء نومي.
– وفي منزلنا لا نحبك يا معلم مداردو، ولكن في هذه الليلة لك كل الاحترام.
التزم الفسكونت الصمت لبضعة دقائق ثم قال: يا حزقيال أريد أن أعتنق ديانتكم.
لم ينبس العجوز ببنت شفه.
فأكمل مداردو: إنني محاط بأناس ليسوا محلًّا للثقة، أريد أن أتخلص منهم جميعًا، وأدعو الهوغونيين إلى قصري، وستصبح أنت وزيري يا سيد حزقيال، وسأعلن تيرالبا أرضًا هوغونية، وسأعلن الحرب ضد الأمراء الكاثوليك. وستكون أنت وأتباعك الرؤساء، هل توافق يا حزقيال؟ هل يمكنك أن تهديني؟!
كان العجوز واقفًا في سكون بصدره العريض عليه حزام البندقية وقال: لقد نسيت أشياء كثيرة جدًّا عن ديننا ولا أجرؤ على هداية أحد، سأبقى فوق أرضي حسب ضميري، كذلك أنتم فوق أرضكم.
استند الفسكونت على مرفقه: أتعلم يا حزقيال أنني لم أرسل بعدُ لمحكمة التفتيش عن وجود مهرطقين فوق أرضي؟ وأن تقديم رءوسكم لأسقفنا ستجعلني محل رضا رئاسة الكنيسة فورًا؟
فقال العجوز: إن رءوسنا ما زالت ثابتة فوق رقابنا يا سيدي، ولكن يوجد شيء آخر من الصعب جدًّا أن تنزعوه منا.
قفز مداردو على قدمه واقفًا وفتح الباب: سأنام بكل سرور تحت شجرة البلوط هناك فهذا أفضل من منزل أعدائي. وقفز مبتعدًا تحت الأمطار.
استدعى العجوز الآخرين: يا أبنائي، مكتوب أن يأتي الأعرج أولًا ليزورنا. والآن ها هو قد مضى؛ وصار درب منزلنا خاليًا، لا تيأسوا يا أبنائي، ربما يأتي يومًا عابر أفضل منه.
فأحنى جميع الرجال الملتحين والنساء المحجبات رءوسهم.
وأضافت زوجة حزقيال: وحتى إن لم يأتِ فإننا سنمكث في مكاننا.
عندئذ أضاءت صاعقة السماء وتسبب الرعد في اهتزاز قرميد الأسوار وحجارتها. وصرخ طوبيا: إن الصاعقة نزلت على شجرة البلوط! وهي الآن تحترق!
وأسرعوا إلى الخارج بالمشاعل ورأوا الشجرة الكبيرة وقد تفحم نصفها من قمتها إلى جذورها أما النصف الثاني فلم يمسه أذى. ومن بعيد، تحت الأمطار، سمعوا صوت حوافر جواد، وفي ضوء البرق رأوا صورة الفارس النحيل في عباءته.
فقال الهوغونيون: لقد أنقذتنا يا أبانا، شكرًا يا حزقيال.
بدأ النور يزحف في السماء عند المشرق وطلع الفجر.
استدعاني عيسو جانبًا وقال لي بصوت منخفض وهو يُريني حفنة من الأشياء اللامعة: ألا ترى أنهم بُلَهاء، انظر ما فعلته أنا في هذه الأثناء؛ أخذت كل الحلي الذهبية من فوق السرج بينما الجواد مربوط في الإسطبل. ألا ترى أنهم أغبياء لأنهم لم يفكروا بهذا؟
لم يكن تصرف عيسو هذا يروق لي، وتصرفات أقاربه تثير حيرتي. ولذلك فضلت أن أظل وحدي وأن أذهب إلى شاطئ البحر لأجمع الأصداف ولأصطاد سرطان البحر. وأثناء وقوفي على حافة صخرة أحاول إخراج سرطان بحر صغير من جحره، رأيت في المياه الهادئة من تحتي انعكاس نصل سيفٍ فوق رأسي، وسقطتُ من الخوف في البحر. فقال لي خالي وقد اقترب من كتفي: أمسك. وهو يريدني أن أتعلق بسيفه من ناحية النصل.
فأجبته: لا، سأخرج وحدي.
وتسلقت صخرة صغيرة تفصلها المياه لمسافة متر واحد عن باقي المجموعة الصخرية.
فقال مداردو: أتصطاد سرطان البحر؟ أما أنا فأصطاد الأخطبوط.
وأراني فريسته؛ أسماك أخطبوط ضخمة بنية وبيضاء، جميعها مشطورة نصفين بضربة سيف، ولكنها ما تزال تحرك أذرعها.
قال خالي وهو مستلقٍ على وجهه فوق الصخرة وهو يربت على أنصاف الأخطبوط المتقلصة: آه لو أمكن شطر كل ما هو كامل، فيخرج كل إنسان ويتخلص من كماله البليد الجاهل. كنت كاملًا والأشياء جميعها بالنسبة لي طبيعية ومختلطة، وتافهة مثل الهواء؛ كنت أعتقد أني أرى الكل، فلم أكن أرى سوى القشرة. لو صرتَ نصف نفسك، وأتمنى لك هذا يا غلام، فستفهم أشياء تفوق الذكاء العادي للعقول الكاملة، ستفقد نصفك ونصف العالم، ولكن النصف الباقي سيكون أعمق وأكثر قيمة ألف مرة. وسترغب أنت أيضًا في أن يكون كل شيء مشطورًا وممزقًا على صورتك، لأن الجمال والحكمة والعدل موجودة فقط فيما هو مشطور.
فقلت أنا: أوه، يا لكثرة سرطان البحر هنا.
وتظاهرت أنني أهتم فقط بصيدي، وذلك لأبتعد عن سيف خالي. ولم أعد إلى الشاطئ إلا عندما ابتعد بصيده من الأخطبوط. ولكن صدى كلماته أخذ يزلزلني ولم أجد ملجأً من رغبته المحمومة في شطر كل شيء. وأينما التفت أرى تريلاوني وبيتروكيودو، الهوغونيين والمرضى بالجذام تحت السيف الذي يسلطه هذا الرجل المشطور، فهو السيد الذي نخدمه والذي لا نستطيع التحرر منه.
٦
في وقت مبكر من الصباح وأثناء صعود مداردو التيرالبي وهبوطه قافزًا وهو مربوط إلى سرج جواده، ويتفحص الوادي بعين طائر جارح. رأى الراعية باميلا في أحد المراعي مع ماعزها.
قال الفسكونت لنفسه: «ها أنا ذا لا أجد بين مشاعري الدقيقة ما يقابل ما يسميه الكاملون حبًّا. وإذا كان مثل هذا الشعور البليد عندهم له كل هذه الأهمية، فمن المؤكد أن ما يقابله لدي من شعور سيكون رائعًا وفظيعًا.»
وقرر أن يقع في حب باميلا. تميل باميلا إلى السمنة، تسير حافية القدمين وترتدي رداءً بسيطًا ورديًّا، وكانت، وهي تنعس، مستلقية على بطنها فوق الحشائش تتحدث إلى الماعز وتستنشق رائحة الزهور.
ولكن الأفكار التي كونها هو ببرود يجب ألا تخدعنا. فبمجرد أن رأى باميلا، شعر مداردو بحركة غامضة في دمائه، بشيء لم يختبره منذ وقت طويل، فلجأ لتلك المبررات بنوع من السرعة المخيفة.
في منتصف النهار رأت باميلا في طريق عودتها، أن جميع أزهار المارجريت في المروج ليس لها سوى نصف البتلات بينما نُزعت بتلات النصف الآخر.
وقالت لنفسها: يا لتعاستي! أمن بين جميع فتيات الوادي يحدث هذا لي أنا؟!
فقد فهمت على الفور أن الفسكونت وقع في حبها، فجمعت كل أنصاف المارجريت وأخذتها إلى منزلها ووضعتها بين صفحات كتاب صلاة القداس.
وبعد الظهيرة ذهبت إلى مرج الراهبات لترعى البط وتجعله يسبح في البركة. والمرعى مغطًّى بأزهار السيسارون البيضاء، ونالت هذه الأزهار كذلك نفس مصير المارجريت كما لو أن جزءًا من كلٍّ قُطِع بضربة مقص، وقالت لنفسها: يا لتعاستي، إنه يريدني أنا بالذات. وجمعت باقة من السيسارون المشطور لتضعها في إطار مرآة الكومودينو.
ثم توقفت عن التفكير في هذا، وربطت ضفيرتها حول رأسها وخلعت رداءها ونزلت لتستحم في البحيرة مع بطها.
وفي المساء وعند عودتها إلى المنزل عبر المروج المليئة بالهندباء البرية والتي يقال عنها «الطرخشقون». ورأت باميلا أن تلك النباتات فقدت ريشها من اتجاهٍ واحد فقط، كما لو أن أحدًا استلقى على الأرض واخذ ينفخ فيها من اتجاهٍ واحد، أو بنصف فمٍ فقط.
فجمعت باميلا بعضًا من تلك الأنصاف البيضاء، ونفخت فيها فطار ريشها الناعم بعيدًا.
وقالت لنفسها: يا لتعاستي، إنه يريدني أنا. كيف سينتهي الأمر؟!
كوخ باميلا صغير جدًّا إلى حد أنه بمجرد إدخال الماعز في الدور الأول والبط في الدور الأرضي لا يعود هناك موطئ لقدم. والكوخ محاط بالنحل، لأنه لديهم خلايا نحل أيضًا. وباطن الأرض مليء بجحور النمل، فيكفي أن يضع المرء يده في أي مكان ويرفعها بعد ذلك ليجدها سوداء مغطاة بالنمل. ولما كان الحال هكذا، أصبحت أم باميلا تنام في مخزن التبن وأبوها ينام داخل برميل فارغ، وأما هي فتنام في سرير معلق بين شجرة تين وشجرة زيتون.
وعلى عتبة الكوخ توقفت باميلا. فهناك فراشة ميتة، أحد أجنحتها ونصف جسدها قد سُحِقا بحجر.
فصرخت باميلا واستدعت والديها … وسألتهما: من كان هنا؟
فأجابها أبواها: إنه الفسكونت! فقد مر من هنا منذ قليل، قال إنه يطارد فراشة قرصته.
فقالت باميلا: منذ متى تقرص الفراشات أحدًا؟
– ونحن أيضًا نتساءل عن هذا.
قالت باميلا: إن الحقيقة هي أن الفسكونت وقع في حبي ويجب أن نستعد لما هو أسوأ.
فأجابها العجوزان، كما اعتاد المسنون أن يجيبوا عندما يتحدث الصغار هكذا: ها ها، لا تختالي وتتعالي، ولا تبالغي.
وفي اليوم التالي عندما وصلت إلى الصخرة حيث اعتادت الجلوس لترعى الماعز، أطلقت باميلا صرخة. فقد وجدت بقايا بشعة تغطي الصخرة: نصف وطواط ونصف قنديل بحر، الأول ينزف دماءً سوداء والآخر تخرج منه مادة لزجة، الأول مفرود الجناح والآخر أطرافه طرية جيلاتينية. وفهمت الراعية أنها رسالة معناها: موعدنا هذا المساء على شاطئ البحر. واستجمعت باميلا شجاعتها وذهبت.
وعلى شاطئ البحر جلست على الحصى وأخذت تستمع إلى هدير الأمواج البيضاء. ثم سمعت وطأً على الحصى وكان مداردو يقفز بحصانه على الشاطئ. توقف وحل الحزام ونزل من فوق السرج.
وقال لها: باميلا لقد قررت أن أهيم بك حبًّا.
فقفزَت واقفة وقالت: ألهذا تمزق كل مخلوقات الطبيعة؟
فتنهد الفسكونت وقال: باميلا، ليست لدينا لغة أخرى نتحدث بها سوى هذه. فكل لقاء بين مخلوقين في العالم ليس إلا تمزق. تعالي معي، فأنا على معرفة بهذا الشر، وستكونين آمنةً معي أكثر من أي إنسان آخر، لأني أصنع الشر كما يصنعه الآخرون جميعًا، ولكن يدي، بخلاف الآخرين، أكثر ثباتًا.
– أو ستمزقني أنا أيضًا كما فعلت مع زهور المارجريت وقنديل البحر؟
– أنا لا أعرف ما سأفعله معك. ولكن من المؤكد أن حصولي عليك سيمكنني من القيام بأمور لم أكن أتخيلها. سآخذك إلى القصر وأضعك هناك ولن يراك أي إنسان آخر. وستكون أمامنا أيام وشهور لنعرف ماذا يجب أن نفعل، ولنبدع دائمًا طرقًا جديدة لنبقى بها معًا.
كانت باميلا مستلقية على الحصى ومداردو راكع بجانبها؛ وكان أثناء حديثه يحرك ذراعه فيمر بيده حول جسدها، ولكن دون أن يمسها.
– حسنًا! أريد أن أعرف أولًا ماذا ستفعل لي ويمكن أن تذيقني إياه الآن، وعندئذ سأقرر إذا كنت سأذهب معك إلى القصر أم لا.
وببطء قرب الفسكونت يده الرفيعة المقوسة من وجنة باميلا. أخذت يده ترتعش دون أن يتضح إذا كانت تمتد لتربت عليها أم لتخدشها.
ولكنه قبل أن يلمسها سحب يده فجأة وقام منتصبًا وقال وهو يثبت نفسه فوق الجواد: إنني أريدك في القصر، سأذهب لأعد البرج الذي ستسكنين فيه. سأترك لك يومًا آخر لتفكري في الأمر، وبعد ذلك يجب أن تحددي موقفك.
قال هذا وهو يضرب جواده بالمهماز لينطلق من تلك الشواطئ.
وفي اليوم التالي صعدت باميلا كالعادة فوق الشجرة لتجمع التوت، وسمعت أنينًا وصوت جسم يترنح بين الفروع. وكادت تسقط خوفًا. كان هناك ديك مقيد من جناحيه بأحد الفروع وديدان كبيرة زرقاء اللون ومليئة بالشعر تلتهمه: وهي حشرات شريرة تعيش على شجر الصنوبر، وكان عشها موضوعًا فوق العرف.
وكانت هذه رسالة رهيبة أخرى من رسائل الفسكونت. وفسرت باميلا الرسالة: «غدًا في الفجر سنتقابل في الغابة.»
وذهبت باميلا إلى الغابة بحجة أنها ذاهبة لتملأ كيسًا من الصنوبر، وظهر مداردو من خلف جذع شجرة مستندًا على عكازه.
وسأل باميلا: إذن هل قررت المجيء للقصر؟
كانت باميلا مستلقية على أشواك الصنوبر، وقالت وهي تلتفت له بالكاد: قررت ألا أذهب، إذا أردتني، فلتأتِ لمقابلتي في الغابة.
– ستأتين إلى القصر؛ فالبرج الذي يجب أن تسكني فيه قد تم إعداده وستكونين سيدة القصر الوحيدة.
– أنت تريد أن تحتفظ بي سجينة هناك، وربما تقوم بحرقي بعد ذلك أو تعطيني طعامًا تقرضه الفئران. لا، لا! لقد قلتها لك، سأكون لك إذا أردت هذا، ولكن هنا فوق أشواك الصنوبر.
فجلس الفسكونت القرفصاء بجوار رأسها، وهو يمسك إبرة من إبر الصنوبر في يده. قربها من عنقها وأدارها حوله، شعرت باميلا بالقشعريرة خوفًا، ولكنها ظلت ساكنة. تنظر إلى وجه الفسكونت المنحني فوقها، هذا «البروفيل» الذي يظل «بروفيلًا» حتى وهي تنظر لوجهه من الأمام، ونصف الأسنان تلك التي تكتسي بابتسامة على هيئة المقص.
وضغط مداردو على إبرة الصنوبر في قبضته وحطمها. ثم قام وقال: حبيسة القصر! أريدك حبيسة القصر!
عندئذ أدركت باميلا أنه يمكنها أن تجازف وحركت قدميها الحافيتين في الهواء قائلة: هنا في الغابة لن أقول لا؛ أما أي مكان مغلق فلن أذهب ولو دفعت حياتي ثمنًا لهذا.
قام مداردو وهو يضع يده على كتف جواده الذي كان قد اقترب وكأنه يمر هنالك بالصدفة، وصعد على السرج وجرى مبتعدًا في مدقات الغابة.
في تلك الليلة نامت باميلا في سريرها المعلق بين شجرتي الزيتون والتين؛ وفي الصباح أصابها الرعب؛ إذ وجدت جيفةً صغيرةً تنزف الدماء في حجرها؛ كانت عبارة عن نصف سنجاب، مقطوع كالعادة بالطول، ولكن ذيله الأصفر المحمر سليم لم يُصِبه أذًى.
قالت لوالديها: آه يا لي من شقية! هذا الفسكونت لن يتركني أعيش.
وأخذ الأب والأم يتبادلان بين أيديهما جيفة السنجاب.
وقال الأب: لكنه ترك الذيل سليمًا. ربما كانت هذه علامة طيبة.
ثم قالت الأم: ربما بدأ يصبح طيبًا.
قال الأب: إنه يقطع دائمًا كل شيء نصفين، ولكنه يحترم أجمل ما في السنجاب؛ ذيله.
وقالت الأم: ربما تريد تلك الرسالة أن تقول إنه سيحترم كل ما بك من طيب وجميل.
وضعت باميلا يديها في شعرها يأسًا وقالت: ما الذي أسمعه منكما يا أبي وأمي! إن هناك شيئًا وراء هذا، إن الفسكونت قد تحدث معكما.
قال الأب: لا لم يتحدث معنا، ولكنه أرسل يقول لنا إنه يريد أن يزورنا، وإنه سيهتم بأحوالنا البائسة.
– يا أبتِ، إذا جاء ليتحدث معك انزع غطاء خلايا النحل، أرسل النحل نحوه.
فقالت العجوز: يا بنيتي ربما يكون السيد مداردو في طريقه للتحسن.
– يا أمي إذا جاء ليتحدث معكما، قيداه فوق أعشاش النمل واتركاه هناك.
في تلك الليلة اشتعل مخزن التبن حيث تنام الأم، وتحطم البرميل حيث ينام فيه الأب. وفي الصباح بينما العجوزان يتأملان بقايا الكارثة، ظهر الفسكونت.
قال: يؤسفني أنني أخفتكما هذه الليلة، ولكن لا أعرف كيف أتطرق إلى الموضوع. في الواقع، أنا معجب بابنتكما باميلا وأريد أن آخذها معي إلى القصر. ولذلك فإنني أطلب منكما بصفة رسمية أن تزوجاني إياها. فإن حياتها ستتغير وحياتكما أنتما أيضًا.
فقال العجوز: هل تعتقد يا سيدي أننا لن نكون مسرورين؟ ولكن ليتك تعرف طابع ابنتي! لقد قالت لي أن أهيج ضدك نحل الخلايا، أتتخيل هذا؟
وقالت الأم: أتعرف يا سيدي ولقد طلبت أن نقيدك فوق جحور النمل.
ومن حسن الحظ عادت باميلا إلى منزلها مبكرًا في ذلك اليوم.
فوجدت أباها وأمها مقيدَين ومكممَين؛ أحدهما فوق خلية النحل، والآخر فوق جحور النمل.
ومن حسن الحظ أيضًا أن النحل يعرف العجوز، والنمل لديه ما يفعله فلم يقرص المسن. وهكذا استطاعت أن تنقذ الاثنين معًا.
قالت باميلا: هل رأيتما كيف أصبح الفسكونت طيبًا؟
لكن العجوزان كانا ينويان عمل شيء … وفي اليوم التالي ربطا باميلا وحبساها في الكوخ مع الحيوانات، وذهبا إلى القصر ليبلغا الفسكونت أنه إذا أراد ابنتهما فعليه أن يرسل أحدًا لإحضارها، فهُما على استعداد لتسليمها له.
ولكن باميلا كانت لها القدرة على مخاطبة حيواناتها. فقام البط بتحريرها من قيودها بمناقيره، وفتحت الماعز الباب بقرونها. وهربت باميلا مبتعدة مصطحبة معها عنزتها وبطتها المفضلتين وذهبت لتعيش في الغابة. وسكنت مغارة لم يكن يعرفها سواها وغلام يحضر الطعام وينقل الأخبار إليها. وكنت أنا هذا الغلام. في الغابة مع باميلا كانت الحياة جميلة. أحضر لها الفاكهة، والجبن والأسماك المقلية وهي في المقابل تعطيني كوبًا من لبن عنزتها وبعضًا من بيض بطتها. وعندما تستحم في البركة وفي جداول المياه، أحرسها حتى لا يراها أحد.
وأحيانًا يمر خالي بالغابة، ولكنه يظل مبتعدًا بالرغم من أنه يعلن عن وجوده بطرقه الكئيبة المعتادة. ففي بعض المرات يسقط سيل من الحجارة بالقرب من باميلا وحيواناتها، وفي أحيان أخرى ينهار جذع شجرة صنوبر تستند عليه، وذلك نتيجة ضربات فأس، وأحيانًا ثالثة نجد أحد عيون المياه ملوثًا ببقايا حيوانات مقتولة.
وكان خالي قد بدأ يذهب للصيد بسهم يحركه بذراعه الواحدة. ولكنه صار أكثر تعاسة وازدادت نحافته، وكأن آلامًا جديدة تنخر فيما تبقى من جسده.
في أحد الأيام أثناء سير الطبيب تريلاوني في الحقول معي قابلنا خالي على حصانه وكان على وشك أن يصطدم به، وتسبب في سقوطه أرضًا. وتوقف الجواد وحافره فوق صدر الإنجليزي. وقال خالي: فسِّر لي أنت يا دكتور: أشعر وكأن الساق التي ليس لها وجود متعبة بسبب كثرة المشي. ماذا يمكن أن يكون هذا؟
ارتبك تريلاوني وبرطم كالعادة، وركض الفسكونت مبتعدًا. ولكن لا بد أن السؤال قد أثر في الطبيب، الذي أخذ يفكر فيه، وهو يمسك رأسه بيديه.
ولم أكن قد رأيته من قبل مهتمًّا هكذا بمشكلة متعلقة بالطب البشري.
٧
حول براتوفونجو تنمو نباتات النعناع وسياج من حصى اللبان، ولم يكن معروفًا إذا كانت هذه هي الطبيعة البرية أم أنها بستان نباتات عطرية. أتجول وصدري مليء بأنفاس عطره أبحث عن الطريق المؤدي إلى المربية العجوز سيباستيانا.
فمنذ أن اختفت سيباستيانا في الدرب المؤدي إلى قرية الجذام، ازداد شعوري بأنني يتيم. كنت بائسًا لأنني لم أعرف عنها شيئًا. كنت أسأل جالاتيو عنها صارخًا وأنا فوق قمة إحدى الأشجار عندما يمر، ولكن جالاتيو عدو الأطفال الذين كانوا يقذفونه أحيانًا بالسحالي الحية من فوق الأشجار، يرد بإجابات ساخرة وغير مفهومة، بصوته المعسول الرنان. والآن إلى جانب فضولي لدخول براتوفونجو ازدادت رغبتي في أن أجد المربية العجوز، فأخذت أتجول بلا هوادة بين النباتات العطرية.
فجأة برز شخص يرتدي السواد وقبعة من القش من بين نباتات الزعتر، وأخذ يسير تجاه القرية. كان عجوزًا مجذومًا، وأردت أن أسأله عن المربية، وعندما اقتربت لمسافة كافية تجعله يسمع صوتي قلت دون أن أصرخ: يا … يا سيدي المجذوم.
ولكن في تلك اللحظة عينها، استيقظ شخص آخر بالقرب مني، ربما بسبب صوتي، وجلس وأدار وجهه نحوي. كان وجهه كله مليئًا بالتجاعيد، كقشرة جافة، ولحية صوفية خفيفة بيضاء.
وأخذ مزمارًا من جيبه وأطلق صفيرًا تجاهي، كأنه يسخر مني. وعندئذ أدركت أن بعد الظهيرة المشمسة مليئة بمرضى الجذام المستلقين والمختبئين بين النباتات، الذين أخذوا ينهضون رويدًا رويدًا في ملابسهم الصوفية زاهية الألوان، ويسيرون ضد الضوء نحو براتوفونجو بينما يحملون في أيديهم آلات موسيقية أو زراعية، ويحدثون بها جلبة. تقهقرتُ للوراء لأبتعد عن ذلك الرجل الملتحي، ولكنني كدت أسقط على سيدة مصابة بالجذام لا أنف لها. تمشط السيدة شعرها وسط أغصان شجرة الغار، وكلما قفزت في أنحاء البستان أجد نفسي دائمًا أمام مرضى الجذام. وعندئذ أدركت أن كل خطوة أخطوها ستؤدي بي فقط تجاه براتوفونجو التي صارت أسقفها المصنوعة من القش المزدانة بشرائط الطائرات الورقية، قريبة أسفل تلك الهضبة.
يلتفت إلي مرضى الجذام من فترة لأخرى، وذلك بغمزات العيون ونغمات الأرغون الصغير، ولكنني شعرت أنني الهدف الوحيد لمسيرتهم هذه، وأنهم يقومون باصطحابي إلى براتوفونجو حيوانًا أسيرًا. وفي القرية كانت أسوار المنازل ملونة باللون البنفسجي، ومن إحدى النوافذ أطلت سيدة نصف عارية تعزف القيثارة وعلى وجهها وصدرها بقع بنفسجية وصرخت: لقد عاد المزارعون. ثم عزفت قيثارتها. وأطلت سيدات أخريات من النوافذ ومن الأسطح وأخذن يحركن الأجراس مغنيات وقائلات: حمدًا لله على سلامتكم أيها المزارعون.
كنت حريصًا على أن أظل وسط ذلك الزقاق وألا ألمس أحدًا، ولكنني وجدت نفسي فيما يشبه تقاطع الأزقة، محاطًا بالمجذومين من كل جانب. يجلسون رجالًا ونساءً فوق أعتاب منازلهم وهم يرتدون أرديتهم الممزقة، باهتة الألوان والتي منها تظهر أثداؤهن وعوراتهم، وتضع النساء في شعرهن أزهار زعرور الوديان وشقائق النعمان.
أقام المجذومون حفلة موسيقية صغيرة، أعتقد أنها كانت للترحيب بي. فأخذ بعضهم يشيح بالكمان تجاهي بحركات مبالغ فيها من قوسه، وآخرون يقلدون نقيق الضفادع بمجرد أن أنظر إليهم، وآخرون يعرضون أمامي عرائس غريبة تصعد على أحد الأسلاك وتنزل عليه.
المعزوفة الموسيقية مكونة تقريبًا من هذه الحركات والأصوات غير المتناغمة، ولكن أخذوا يرددون قرارًا ثابتًا من حين لآخر: الكتكوت غير المبقع، ذهب يجمع التوت فتبقع.
فقلت بصوت مرتفع: إنني أبحث عن مربيتي، سيباستيانا العجوز أتعرفون أين هي؟
فانفجروا في الضحك بطريقتهم المميزة والخبيثة.
فصرختُ: سيباستيانا، سيباستيانا، أين أنت؟
فقال أحد المجذومين: ها هي يا غلام! اهدأ يا غلام! وأشار إلى أحد الأبواب.
ففتح الباب وخرجت منه سيدة زيتونية اللون كالعرب، نصف عارية وموشومة بوشم على هيئة أذيال نسور، وأخذت ترقص بطريقة إباحية. ولم أفهم ماذا حدث بعد ذلك؛ أخذ الرجال والنساء يقفزون أحدهم فوق الآخر، وبدءوا ما عرفت بعد ذلك أنه فسق جماعي.
انكمشت وانكمشت، وفجأة ظهرت العجوز الضخمة سيباستيانا وسط تلك الدائرة وقالت: أيها الأقذار الأشرار على الأقل احترموا تلك النفس البريئة.
وأخذتني من يدي وجذبتني بعيدًا، بينما أخذوا يغنون: الكتكوت غير المبقع، ذهب يجمع التوت فتبقع.
ترتدي سيباستيانا رداءً بنفسجيًّا فاتح اللون مثل زي الرهبان، وتوجد بالفعل بعض البقع التي تغطي وجنتيها غير المجعدتين. شعرت بالسعادة بأنني وجدت المربية لكن حزنت لأنها أمسكتني من يدي ولا بد أنها نقلت إلي الجذام. فقلت لها هذا. فأجابتني سيباستيانا: لا تخشَ شيئًا! لقد كان أبي قرصانًا، وجدي ناسكًا. إنني أعرف فوائد كل الأعشاب ضد الأمراض، سواء أمراضنا أم أمراض الموريسكيين. فهم يعالجون أنفسهم بالحبق ونبات الخبيز. أما أنا ففي السر أصنع بعض الأدوية المغلية من العشبة والرعراع فلا يصيبني الجذام ما حييت.
وسألتها بعد أن ارتحت كثيرًا في غير اقتناعٍ تام: ولكن ما تلك البقع الموجودة على وجهك يا مربيتي؟
– إنها صبغة القلفونة. أضعها ليعتقدوا أنني أنا أيضًا مريضة بالجذام مثلهم. تعالَ هنا معي لنشرب أحد أنواع الأعشاب الطبية الساخنة جدًّا، لأنه على من يريد التجول في تلك الأماكن توخي الحذر.
وأخذتني إلى منزلها. كان كوخًا بعيدًا بعض الشيء، نظيفًا والأشياء مبعثرة فيه. أخذنا نتحدث وأخذت هي تسألني: ومداردو؟ مداردو؟ وكلما هممت بالحديث تقاطعني وتقول: آه يا له من خسيس، يا له من نذل! وقع في الحب، يا لها من فتاة مسكينة، وهنا … وهنا أنتم لا تتخيلون ما يحدث؛ أتعرف الأشياء التي يبددونها؟ كل الذي ننزعه من أفواهنا ليأخذه جالاتيو، هل تعرف ما يفعلون به هنا؟ جالاتيو هذا إنسان شرير. أتعرف؟ إنه مخلوق شرير، وليس هو فقط! يا للأمور الفظيعة التي يرتكبونها ليلًا. وفي النهار أيضًا … وتلك النساء، لم أرَ في حياتي قط عاهرات مثل أولئك، على الأقل يمكنهن معرفة رتق ملابسهن، ولكن حتى هذا لا يعرفنه … فهن مهملات وعاهرات. آه لقد قلت لهن هذا وواجهتهن به … وهن … هل تعرف بماذا أجبنني؟
ومن فرط سروري بزيارتي تلك للمربية سيباستيانا ذهبت في اليوم التالي لأصطاد ثعابين الماء. ووضعت خيط الشص في بحيرة صغيرة عند منبع النهر، وأثناء انتظاري غفوت. لا أعلم إلى متى استمر نومي، ولكن ضوضاء أيقظتني. ففتحت عينَي ورأيت يدًا مرفوعة فوق رأسي، وعليها عنكبوت أحمر سام. فالتفتتُّ ووجدتُ خالي بعباءته السوداء.
نهضت وأنا ممتلئ خوفًا، ولكن، في تلك اللحظة عض العنكبوت يد خالي واختفى بسرعة شديدة.
فقرب خالي يده من شفتيه، وامتص الجرح بهدوء وقال: كنت نائمًا ورأيت هذا العنكبوت السام ينسج شباكه وهو يهبط من هذا الفرع متجهًا نحو عنقك، فوضعت يدي أمامه وها هو قد قرصني.
لم أصدق كلمة واحدة مما قاله؛ فلقد حاول ثلاث مرات على الأقل من قبلُ اغتيالي بنفس الطرق. ولكن الشيء المؤكد الآن أن العنكبوت قد قرصه وأن يده بدأت تتورم.
قال مداردو: أنت ابن أختي؟
أجبته وأنا مذهول لأنها المرة الأولى التي يشير فيها إلى أنه قد تعرف علي: نعم.
فقال: لقد عرفتك على الفور. وأضاف: آه أيها العنكبوت إن لدي يدًا واحدةً وأنت تريد أن تصيبها بالتسمم. ولكن من المؤكد أنه من الأفضل أن يحدث هذا ليدي عن أن يحدث لعنق هذا الطفل.
وعلى حد علمي فإن خالي لم يتحدث قط بهذه الطريقة. ومر بخاطري الشك في أنه ربما يقول الحقيقة وأنه أصبح فجأةً طيبًا، ولكنني طردت هذا الشك على الفور فهو معتاد على نصب الحيل والفخاخ. من المؤكد أنه يبدو مختلفًا جدًّا، ولم يكن تعبير وجهه ذلك التعبير المشدود القاسي، بل تعبير عاطفي شاجن، ربما تسبب في هذا الخوف وألم عضة العنكبوت. ولكن رداءه المليء بالتراب وهيئته كانا أيضًا مختلفين عن المعتاد، وهذا ما أعطاني ذلك الانطباع؛ فعباءته السوداء ممزقة بعض الشيء، وعليها أوراق أشجار يابسة وأشواك شجر كستناء معلقة على أطرافها. حتى الرداء ليس من القطيفة السوداء كالمعتاد، بل من الشبيكة منتوف باهت اللون. ولم تَعُد قدمه مغروسة في ذلك الحذاء من الجلد، بل في شراب من الصوف به خطوط زرقاء وبيضاء.
ورغبةً مني في التظاهر بعدم الاهتمام به، ذهبتُ لأنظر إذا كان شصي قد اصطاد أيًّا من ثعابين البحر. ولكنني لم أجد أيًّا من ثعابين البحر، ولكنني رأيت خاتمًا ذهبيًّا به فص من الماس معلقًا على الشص، فجذبته إلى أعلى وعلى الحجر الثمين يوجد شعار تيرالبا.
تابعني الفسكونت بنظره وقال: لا تندهش! فبينما أنا مارٌّ من هنا رأيت أحد ثعابين البحر يحاول أن يخلص نفسه من الشص. وقد شعرت بالألم الشديد فأطلقت سراحه، ثم بعد أن فكرت في الخسارة التي سببتها للصياد بما فعلته، عوضته بخاتمي، وهو آخر شيء ذو قيمة تبقَّى معي. وأكمل مداردو وأنا أستمع إليه فاغرًا فمي من الدهشة: ولم أكن أعلم وقتها أنك أنت الصياد. ثم وجدتك نائمًا بين الحشائش ولكن سعادتي برؤيتك تحولت إلى جزع عندما رأيت ذلك العنكبوت الذي كان متجهًا نحوك، وأنت تعلم الباقي.
وبينما يقول هذا أخذ ينظر بحزن إلى يده المتورمة البنفسجية.
ربما ليس كل هذا إلا مجموعة من الخدع القاسية، ولكنني فكرت كم سيكون هذا التحول المفاجئ في مشاعره رائعًا، وكم من السعادة سيحملها هذا التحول أيضًا لسيباستيانا وباميلا، ولكل الأشخاص الذين يعانون من قسوته.
قلت لمداردو: خالي، انتظرني هنا … سأذهب سريعًا للمربية سيباستيانا التي تعرف جميع الأعشاب وسأجعلها تعطيني العشب الذي يشفي من عضة العنكبوت.
قال الفسكونت، الذي استلقى ويده فوق صدره: المربية سيباستيانا! وكيف حالها؟
لم تواتني الثقة أن أقول له إن سيباستيانا لم تكن قد أُصيبت بالجذام، فاكتفيت بأن أقول: لا بأس! سأذهب الآن. وجريت مبتعدًا، وأنا أتمنى أكثر من أي شيء أن أسأل سيباستيانا عن رأيها في تلك الظواهر الغريبة.
ووجدت المربية في كوخها. وقصصتُ عليها قصة مرتبكة بينما نفَسي متهدج بسبب الجري واللهفة، ولكن المربية اهتمت بعضة العنكبوت أكثر من أعمال مداردو الخيرة.
– هل قلت عنكبوت أحمر؟ نعم، نعم! إنني أعرف العشب الذي يلزم. لقد أصيب حطَّاب بنفس هذا الورم في ذراعه ذات مرة. هل تقول إنه أصبح طيبًا؟ ولكن ماذا تنتظر أن أقول لك؟ لقد كان دائمًا غلامًا طيبًا، يجب أن تعرف كيف تتعامل معه أيضًا. ولكن أين وضعت تلك الأعشاب؟ يكفي أن تصنع له كمادات. إن مداردو شقي منذ طفولته. ها هو العشب، لقد قمت بالاحتفاظ به في كيس صغير … عمومًا هذا ما جُبل عليه، عندما يؤذي نفسه يأتي ويبكي لدى مربيته. هل العضة عميقة؟
قلت: إن يده اليسرى منتفخة هكذا.
فضحكت المربية: ها ها ها … يا غلام، اليُسرى؟ ومن أين حصل السيد مداردو على اليد اليسرى؟ لقد تركها هناك في بوهيميا لدى أولئك الأتراك … ليسحقهم الشيطان، لقد تركها هناك، ترك نصف جسمه الأيسر.
فقلتُ: حقًّا … ولكن … لقد كان هو هناك وأنا هنا، ويده تدور هكذا … كيف يمكن هذا؟
فقالت المربية: ألم تعد تعرف اليمين من الشمال الآن؟ رغم أنك تعلمت هذا منذ أن كان عمرك خمس سنوات.
لم أعد أدرك شيئًا، من المؤكد أن سيباستيانا على حق، ولكنني أتذكر كل شيء بالعكس.
فقالت لي المربية: خذ له هذه الأعشاب وكن ولدًا طيبًا.
وجريت أنا مبتعدًا. ووصلت مقطوع الأنفاس إلى منبع المياه، ولكنني لم أجد خالي.
عندئذ نظرت حولي في كل مكان وجدته قد اختفى بيده المتورمة المسممة.
كان المساء يرخي سدوله وما زلت أتجول بين أشجار الزيتون. وأخيرًا ظهر أمامي وهو ملتحف بعباءته السوداء، على الشاطئ يستند على جذع شجرة. ظهره أمامي وينظر تجاه البحر، شعرت بالخوف يتملكني، ولكنني بصعوبة وبصوت منخفض نجحت في أن أقول: خالي، ها هو العشب للعقرة.
فالتفت نصف الوجه على الفور، وصرخ (متقلصًا في تكشيرة متوحشة): أي عشب؟ أية عقرة؟
فقلت: ولكنه العشب لعلاج …
وها هو التعبير الرقيق الذي رأيته على وجهه قبلًا قد اختفى، وكأنه مجرد لحظةٍ عابرة، والآن ربما عاد له، ولكن ببطء، في ابتسامة متوترة، ولكن من الواضح أنها مجرد خدعة.
قال: نعم … أحسنت … ضعه في تجويف ذلك الجذع … سآخذه فيما بعد.
أطعته ووضعت يدي في التجويف. وكان عش دبابير، فإذا بالدبابير قد طارت جميعها نحوي. أخذت أجري والسرب في أعقابي فألقيت بنفسي في الماء. وأخذت أسبح حتى نجحت في أن أهرب من الدبابير. وعندما رفعت رأسي سمعت ضحكة الفسكونت الكئيبة وهو يبتعد.
ها هو قد نجح في خداعنا مرة أخرى. ولما لم أفهم أشياء كثيرة، ذهبت إلى الطبيب تريلاوني لأتحدث معه في ذلك. وكان الإنجليزي في منزله، منزل الحانوتي، منكبًّا على كتاب تشريح على ضوء مصباح صغير، وهو شيء نادر الحدوث. سألته: دكتور، هل حدث من قبل أن خرج إنسان من قرصة العنكبوت الأحمر دون أن يصاب بأذًى.
قفز الطبيب في الهواء وقال: هل تقول عنكبوت أحمر؟ من أيضًا قرصه عنكبوت أحمر؟
قلت: إنه خالي الفسكونت، وقد أحضرت له توًّا العشب من المربية عندما بدا طيبًا ثم تحول مرة أخرى إلى شرير ورفض مساعدتي إياه.
قال تريلاوني: لقد عالجت لتوي الفسكونت من قرصة عنكبوت أحمر في يده.
– قُل لي يا دكتور: هل بدا لك طيبًا أم شريرًا؟
عندئذ قص الطبيب عليَّ ما حدث.
بعد أن تركت الفسكونت مستلقيًا على الأعشاب ويده متورمة، مر الطبيب تريلاوني هناك. ولاحظ وجود الفسكونت وأصيب كعادته بالرعب، فحاول أن يختبئ بين الأشجار. ولكن مداردو سمع الخطوات فقام وهتف: «إيه … من هناك؟» ففكر الإنجليزي: «إذا اكتشف أني أنا وأنني أختبئ، من يدري ماذا يمكن أن يخطط ضدي!» وأخذ يهرب حتى لا يتعرف عليه، ولكنه تعثر ووقع في البحيرة. وعلى الرغم من أن الطبيب تريلاوني قد عاش حياته على السفن إلا أنه لم يكن يعرف السباحة، وكاد يغرق وسط البحيرة وأخذ يصرخ طالبًا النجدة. عندئذ قال له الفسكونت: انتظرني.
وذهب إلى الشاطئ ونزل إلى المياه وهو يتعلق بجذر شجرة بارز بيده المتألمة، ومد قدمه حتى يمسك بها الطبيب … ولما كان طويلًا ونحيلًا فإنه كان بمثابة حبل تمكن من خلاله الوصول إلى الشاطئ.
وعندما صارا في أمان بدأ الطبيب في التلعثم: آه آه يا سيدي، أشكرك … حقًّا لا أعرف كيف … ثم سعل في وجهه لأنه أُصيب بالبرد.
فقال مداردو: يرحمكم الله.
ثم وضع عباءته على كتفيه وهو يقول: أرجوك غطِّ جسدك.
فتدثر الطبيب مرتبكًا أكثر من أي وقتٍ مضى.
وقال له الفسكونت: تفضل، إنه لك.
عندئذ أدرك تريلاوني بأن يد مداردو متورمة.
– أي حشرة قرصتك؟
– عنكبوت أحمر.
– دعني أعالجك يا سيدي.
وأخذه معه إلى كوخ الحانوتي الخاص به، حيث ضمد يده بالعقاقير والأربطة. وفي هذه الأثناء تحدث الفسكونت معه حديثًا مليئًا بالود والإنسانية. وتركا بعضهما على وعد أن يلتقيا في أقرب وقت ليقويا صداقتهما.
قلت بعد أن استمعت إلى قصته: دكتور، إن الفسكونت الذي عالجته قد عاد بعد قليل فريسة لجنونه المريض ودفع تجاهي عش دبابير.
قال الطبيب وهو يغمز بعينه: إنه ليس الذي عالجته أنا.
– ما معنى هذا يادكتور؟
– ستعرف فيما بعد. والآن لا تتحدث عن ذلك مع أحد. واتركني لدراساتي، لأننا الآن أمام فترة مليئة بالمتناقضات.
ولم يُعِرني الطبيب اهتمامًا بعد ذلك؛ وعاد لينهمك في تلك القراءة غير المعتادة في تشريح جسم الإنسان. لا بد وأن لديه خطة في ذهنه، واستمر كل الأيام التالية كتومًا ومفكرًا.
بدأت الأخبار تتدفق من أكثر من جهة حول طبيعة مداردو المزدوجة: أطفال تائهون في الصحراء يصل إليهم — وسط خوفهم الرهيب — نصف رجل بعكاز يأخذهم من يدهم ليقتادهم إلى منازلهم، ويُهديهم ثمار التين والحلوى المقلية. أرامل فقيرات كان يقوم بمساعدتهن في نقل حزم صغيرة من الحطب، وكلاب لدغتها الأفاعي يعالجها … عطايا غامضة يجدها الفقراء فوق أرفف النوافذ وعلى الأعتاب، وأشجار الفاكهة التي تقتلعها الرياح يتم رفعها وتثبيتها في تربتها قبل أن يطل أصحابها من أبواب منازلهم.
وفي نفس الوقت، كان ظهور الفسكونت المغطَّى نصفه بالعباءة السوداء ينذر بأحداثٍ حزينة مأساوية: أطفال يُختَطفون ويُعثر عليهم فيما بعد محبوسين في كهوف مغلقة بالحجارة؛ جذوع أشجار، وصخور تلقى فوق رءوس نساء مسنات، وثمار قرع على وشك النضج يتم تحطيمها حبًّا في الشر.
ومنذ فترة كان سهم الفسكونت لا يصيب سوى العصافير بطريقة لا تتسبب في قتلها، ولكن في جرحها فقط وإصابتها بعجز. أما الآن تظهر في السماء العصافير وقد رُبِطت أرجلها بجبيرة، ولُصقت أجنحتها ورُبِطت بالأربطة، كان هناك سرب من العصافير على هذا الشكل فكانت تطير في حذر متجاورة، وكأنها في فترة نقاهة في مستشفى للطيور، ويُقال ما لا يصدق: إن مداردو نفسه هو الطبيب المعالج.
وذات مرة فاجأت عاصفة باميلا في مكان ناء لا زرع فيه، ومعها عنزتها وبطتها. وكانت تعلم أنه في مكان قريب يوجد كهف، وبالرغم من صغر مساحته، فهو مجرد فتحة تكاد تظهر من الصخرة. فاتجهت إلى هناك. ورأت حذاء فارس (مستهلكًا ومرقعًا) يظهر من الكهف وفي الداخل رأت نصف الجسد منكمشًا في العباءة السوداء. كادت أن تهرب، ولكن الفسكونت لاحظ وجودها بالفعل، فخرج تحت الأمطار الغزيرة وقال لها: تعالي يا فتاة اختبئي هنا.
قالت باميلا: لا لن أحتمي بالكهف … لأنه يكاد يسع شخصًا واحدًا، وأنت تريد أن تسحقني في الداخل.
قال لها الفسكونت: لا تخافي، سأمكث في الخارج ويمكنك أن تمكثي على راحتك في المخبأ مع عنزتك وبطتك.
– العنزة والبطة يمكن أن يتحملا الأمطار.
– سترين أننا سنحميهما هما أيضًا.
أما باميلا التي استمعت عن قصص أعمال الخير التي يقوم بها الفسكونت قالت في نفسها: لنرَ قليلًا … ودخلت إلى المغارة، وهي تحتضن حيوانيها، بينما وقف الفسكونت أمامهم ممسكًا بمعطفه كخيمة حتى لا تبتل العنزة والبطة أيضًا.
ونظرت باميلا إلى اليد الممسكة بالمعطف، وراحت للحظات في تفكير عميق، وأخذت تنظر إلى يديها، وتقارن الواحدة بالأخرى، ثم انفجرت في الضحك.
قال الفسكونت: يسعدني أنك مسرورة يا فتاة، ولكن هل يمكنني أن أسأل علامَ تضحكين؟
– إنني أضحك لأنني فهمت ما يتسبب في جنون أهل بلدتي.
– وما هو؟
– أنك تكون أحيانًا طيبًا وأحيانًا أخرى شريرًا، والآن ظهر أن الأمر طبيعي جدًّا.
– لماذا؟
– لأنني أدركت أنك النصف الآخر. إن الفسكونت الشرير الذي يعيش في القصر هو نصف، وأنت النصف الآخر الذي اعتقد الجميع أنه فُقد في المعركة، ولكنه عاد الآن، وهو نصف طيب.
– أشكرك، إن هذا أمر ظريف منك.
– أوه … إنه الواقع، ولا أقول هذا مجاملةً.
وها هي قصة مداردو كما عرفتها باميلا في ذلك المساء: لم يكن حقيقيًّا أن طلقة المدفع قد مزقت جزءًا من جسده؛ بل إنه انقسم نصفين، أحدهما عثر عليه جامعو جرحى الجيش، والجزء الآخر ظل مدفونًا تحت كوم من بقايا أجساد المسيحيين والأتراك. ولم يره أحد.
وفي قلب الليل يتجول ناسكان متوحدان، ليس معروفًا إذا كانا مؤمنَين يتبعان الإيمان المستقيم أم منجمَين من أولئك الذين — كما يحدث في بعضٍ من تلك المعارك — يتحولون ليعيشوا في الأراضي المهجورة بين المعسكرين، ويحاولون — كما يقال الآن — أن يعتنفوا الثالوث المسيحي وإله محمد معًا.
وعندما وجد هذان الناسكان المتوحدان جسد مداردو المشطور، حملاه بمحبتهما العجيبة إلى مغارتهما، وهناك عالجاه وأنقذاه بالبلسم والمراهم التي أعدَّاها. وبمجرد أن استعاد قوته، ودع الجريح من قاما بعلاجه وهو مستند إلى عكازه، وعلى مدى الشهور والسنين أخذ يعبر الأمم المسيحية ليعود إلى قصره وهو يثير دهشة الجميع طوال الطريق بأعماله الخيرة.
وبعد أن قص نصف الفسكونت الصالح قصته على باميلا، أراد أن تقص عليه الراعية قصتها. فشرحت له كيف يطاردها مداردو الشرير، وكيف هربت من منزلها وتشردت في الغابات. وتأثر مداردو بقصتها وتشتت تأثره بين حال الراعية المطاردة، وبين تعاسة مداردو الشرير الذي لا يجد عزاء، وبين وحدة والدَي باميلا المسكينين.
قالت باميلا: إن والدَي هذين ليسا سوى عجوزين شريرين، ولا يستحقان أي شفقة منك.
– آه يا باميلا فكري فيهما كيف يشعران بالحزن في هذه الساعة في منزلهما القديم، دون أن يرعاهما أحد ويقوم بأعمال الحقل والحظيرة.
قالت باميلا: فلتتحطم الحظيرة فوق رأسيهما، لقد بدأت أدرك أنك عاطفي بصورة زائدة، وبدلًا من أن تتضايق من نصفك الآخر لكل الحماقات التي يرتكبها، يبدو أنك تشعر بالشفقة عليه هو أيضًا.
– وكيف لا أشعر بها؟ وأنا الذي يعرف معنى أن يكون المرء نصف إنسان، لا يمكنني إلا أن أشعر بالأسى عليه.
– ولكنك مختلف، فيك مسٌّ من الجنون أنت أيضًا، ولكنك طيب.
عندئذ قال مداردو الطيب: آه يا باميلا، هذه هي ميزة أن يكون الإنسان مشطورًا؛ أن يدرك ألم كل إنسان وكل شيء في العالم، الألم الذي يمكن أن يشعر به كل منهم لعدم كماله. لقد كنت كاملًا، ولكنني لم أفهم، كنت أتحرك أصم لا أتواصل ولا أشعر بالآلام بين الجروح المنتشرة في كل مكان، التي لا يمكن أن يصدقها الشخص الكامل، لست وحدي هكذا يا باميلا، فأنا كائن مشطور ومنقسم، ولكن هذا حالك أنت أيضًا وحال الجميع. ها أنا الآن أشعر بأخوة لم أدرك وجودها من قبل عندما كنت كاملًا، أخوتي لجميع تمزقات ونقائص العالم. إذا جئتِ معي يا باميلا ستتعلمين أن تتألمي لمعاناة كل إنسان، ستعالجين آلامك وأنت تعالجين جراحهم.
قالت باميلا: هذا شيء رائع … ولكنني أعاني كارثة كبيرة مع نصفك الآخر الذي وقع في حبي ولا أعرف ماذا يريد أن يفعل بي.
ترك خالي العباءة تسقط لأن الأمطار انتهت وقال: أنا أيضًا قد وقعت في حبك يا باميلا.
خرجت باميلا من المغارة وهي تقول: يا للسعادة. إن قوس قزح في السماء وأنا وجدت عاشقًا جديدًا. هو أيضًا مشطور، ولكنه طيب القلب.
وسارا معًا تحت أغصان تتساقط منها نقط المياه في مدقات مليئة بالوحل، بينما نصف فم الفسكونت مقوَّس في ابتسامةٍ رقيقة غير كاملة.
قالت باميلا: والآن ماذا نفعل؟
– من رأيي أن نذهب إلى والديك المسكينين لمساعدتهما قليلًا في أمورهما.
قالت باميلا: اذهب أنت إذا أردت.
قال الفسكونت: نعم يا عزيزتي أرغب في هذا.
قالت باميلا: وسأبقى أنا هنا. وتوقفت مع عنزتها وبطتها.
– أن نقوم سويًّا بأعمال الخير هي الطريقة الوحيدة لنحب بعضنا.
– يا للأسف، اعتقدت في وجود طرق أخرى.
– وداعًا يا عزيزتي! سأحضر لك معي فطيرة تفاح.
وابتعد في الدرب وهو يضرب بعكازه.
وقالت باميلا وقد صارت وحدها مع حيوانيها: ما رأيك يا عنزة؟ ما رأيك يا بطتي الصغيرة؟ هل يجب أن يكون نصيبي مع هذه النوعيات؟
٨
منذ أن عرف الجميع أن نصف الفسكونت الآخر والذي يتميز بطيبته بقدر ما يتميز الأول بشره قد عاد، أصبحت حياة تيرالبا مختلفة تمامًا.
في الصباح أصطحب الطبيب تريلاوني في جولته لعيادة المرضى، لأن الطبيب بدأ رويدًا رويدًا في العودة لممارسة الطب وأدرك مدى معاناة أهلنا الذين أضعفتهم المجاعات الطويلة التي حدثت فيما مضى، وهي آلام تكوينهم الجسدي التي لم يهتم بها قط من قبل.
نذهب في الطرق القروية ونرى الإشارات التي تدل على أن خالي سبقنا إلى هناك. أقصد خالي الطيب الذي يقوم هو الآخر بجولة كل صباح، ليس فقط لزيارة المرضى وإنما لزيارة الفقراء والمسنين وكل إنسان محتاج للمساعدة.
في بستان باشيتشا وجدنا كل ثمرة من ثمار شجرة الرمان الناضجة ملفوفة بمنديل به عقدة. وفهمنا بذلك أن باشيتشا يعاني من آلام في أسنانه، وقد لف خالي الرمان حتى لا ينفتح وينفرط الآن؛ حيث إن الألم يمنع صاحب المزرعة من أن يخرج ليجمعه، ولكنها أيضًا إشارة للدكتور تريلاوني المار أن يزور المريض وأن يأخذ معه أدوات خلع الأسنان.
ولرئيس الدير تشيكو شجرة عباد شمس فوق السطح معتلة لا تزهر أبدًا. وفي ذلك الصباح وجدنا ثلاث دجاجات مربوطة هناك، فوق السياج تأكل الزوان وتضع بقاياها البيضاء سمادًا في أصيص عباد الشمس. ففهمنا أن رئيس الدير مصاب بالإسهال. وربط خالي الدجاجات الثلاث لتسمد عباد الشمس ولتنبه الطبيب تريلاوني إلى هذه الحالة العاجلة.
وعلى سلم جيرمينا العجوز رأينا صفًّا من القواقع يصعد نحو الباب؛ وهي من القواقع الكبيرة التي تؤكل بعد طهيها. هدية حملها خالي من الغابة لجيرمينا، كما أنها إشارة إلى أن إصابة القلب التي تعاني منها العجوز قد ساءت وعلى الطبيب أن يدخل بهدوء حتى لا يصيبها الخوف.
كل هذه العلامات يستخدمها مداردو الطيب حتى لا يزعج المرضى بطلبه رعاية الطبيب لهم بطريقة فجة، وكذلك حتى يدرك تريلاوني مغزى المرض قبل أن يدخل فيتغلب على تردده في دخول بيوت الآخرين والاقتراب من مرضى لا يعرف نوع مرضهم.
وفجأةً يدوي الإنذار في الوادي: الأعرج. الأعرج!
وكان هذا هو النصف الآخر لخالي والذي شُوهد يمتطي جواده في مكان قريب. فكان كل فرد يجري ليختفي، وقبل الجميع الدكتور تريلاوني وأنا خلفه.
نمر أمام بيت جيرمينا وعلى سلم دارها نجد صفًّا من القواقع المسحوقة، وقد تحولت إلى سائل وبقايا أصداف.
– لقد مر من هنا! أطلق ساقيك للريح!
وفوق شرفة رئيس الدير تشيكو كانت الدجاجات مربوطة بالشبكة التي وضعت فوقها ثمار الطماطم لتجف، لتفسد الدجاجات كل تلك الخيرات.
– أطلقوا سيقانكم للريح.
– وفي حقل باشيتشا تحطم الرمان كله على الأرض وعلى الأغصان تتدلى أطراف المناديل الفارغة.
هكذا نقضي حياتنا بين أعمال الخير والرعب. فالجزء الأيسر من خالي الذي يسمى «الطيب» يُعتبر في عداد القديسين، على النقيض من «الشرير» وهو الجزء الآخر. والمقعدون والمساكين والسيدات اللاتي تعرضن للخيانة، وكل من يشعر بالألم يلجئون إليه. وكان يمكنه الاستفادة من ذلك ليصبح هو الفسكونت. ولكنه استمر يعيش مُشردًا، يسير نصفه مغطًّى بعباءته السوداء الممزقة، مستندًا على العكاز مرتديًا جوربه الأبيض والأزرق المليء بالرتق، يصنع خيرًا سواءٌ لمن يطلب أم لمن يطرده بقسوة. ولا توجد شاة تنكسر ساقها بعد أن تسقط في الهاوية، أو سكير يرفع سكينه في الحانة، أو زوجة زانية تذهب لعشيقها ليلًا، إلا ويرونه هناك كأنه هبط من السماء، أسودَ نحيلًا بابتسامته الرقيقة، ليقدم المساعدة، وليبدي النصائح المفيدة وليمنع العنف والخطيئة.
لم تعنِ القراءة شيئًا بالنسبة لباميلا فكانت تستلقي على ظهرها فوق الحشائش وهي تنظف نفسها من الحشرات (لأنها بسبب حياتها في الغابة التقطت بعض الحشرات الصغيرة)، وتحك نفسها بنباتٍ يسمى الحكَّاك، وتتثاءب وترفع الحصى في الهواء بقدميها الحافيتين وتنظر إلى ساقيها المتوردتين والسمينتين بشكل مقبول. ويستمر الطيب في قراءة قصائد ثمانية الواحدة تلو الآخر دون أن يرفع عينه عن الكتاب، وذلك رغبة منه في تهذيب عادات تلك الفتاة البدائية.
أما هي — ولأنها لم تكن تتابع قراءاته، وتشعر بالملل — فقامت وبهدوء شديد بتحريض عنزتها كي تلعق نصف وجه الطيب والبطة كي تجلس فوق الكتاب. فقفز الطيب للوراء، ورفع الكتاب إلى أعلى فانغلق، وفي هذه اللحظة عينِها ظهر الشرير من بين الأشجار ممتطيًا حصانه، وأطلق سهمًا كبيرًا في اتجاه الطيب.
وصلت بعض أنصاف تلك الأوراق إلى الدرب وقت مرورنا أنا والطبيب تريلاوني. والتقط الطبيب إحداها وقلَّبها بين يدَيه، وحاول أن يفك رموز تلك الأبيات الشعرية التي لا بداية ولا نهاية لها، وهز رأسه وقال: ولكن، لا يوجد شيء مفهوم … تسيء … تسيء … تسيء.
وصلت شهرة الطيب حتى إلى الهوغونيين، وكثيرًا ما يظهر العجوز حزقيال واقفًا على أعلى درج في الكرم الأصغر وهو ينظر إلى الدرب الصخري الصاعد من الوادي. فسأله أحد أبنائه: أبي، أراك تنظر إلى الوادي وكأنك تنتظر وصول شخص.
فأجاب حزقيال: على الإنسان أن ينتظر، على الإنسان العادل أن ينتظر بإيمانٍ، أما الظالم فينتظر بخوف.
– هل تنتظر الأعرج ذا الرِّجل الأخرى يا أبي؟
– هل سمعت عنه؟
– إنهم في الوادي لا يتحدثون عن شيء آخر سوى المشطور الأعسر. ولكن هل تعتقد أنه سيأتي إلينا هنا؟
– إذا كانت أرضنا أرض أناس يعيشون للخير، وهو يعيش للخير، فما من سبب يمنع مجيئه.
– إن الدرب وعر، خاصة لمن يجب أن يقطعه على عكاز.
حدث هذا بالفعل، فقد عثر شخص بقدمٍ واحدة على جواد ليستخدمه ليصعد الدرب.
بمجرد أن رأى الهوغونيون الآخرون الأب حزقيال يتحدث حتى خرجوا من بين خطوط الكرم والتفُّوا حوله. وما إن سمعوه يذكر الفسكونت حتى أصابتهم رعدة وهم صامتون. قالوا: أبانا حزقيال، عندما أتى النحيف، في تلك الليلة، وأحرقت الصاعقة نصف شجرة البلوط، قلت إنه ربما يزورنا عابر أفضل من ذلك يومًا ما.
أومأ حزقيال موافقًا بإيماءة وصلت فيها لحيته إلى صدره.
– إن مَن كنتما تتحدثان عنه الآن هو مشطور مشابه ومضاد للآخر، سواء في جسده أو في روحه؛ فهو رحيم بقدر قسوة الآخر. هل يمكن أن يكون هو الزائر الذي أعلنتَ عنه في كلماتك؟
قال حزقيال: أي عابر من أي طريق يمكن أن يكون هذا الزائر.
عندئذ قال الهوغونيون: إذن نتمنى جميعًا أن يكون هو.
تتقدم زوجة حزقيال للأمام وهي تحدق بعينيها للأمام وهي تدفع عربة أغصان كرم رفيعة وقالت: نحن نتمنى دائمًا أي شيء فيه خير، ولذلك فإذا كان من يعرج على تلالنا ليس سوى ضحية حرب معوق، سواء كان شريرًا أم طيبًا، فعلينا أن نستمر في العمل بالعدل وأن نزرع حقولنا.
أجابها الهوغونيون: هذا مفهوم، وهل قلنا شيئًا يعني العكس؟
قالت المرأة: حسنًا، إذا كنا جميعًا موافقين، يمكننا أن نعود جميعًا للفئوس والمحاريث.
عندئذ انفجر حزقيال وقال: فليحل بكم الطاعون والمجاعة! مَن أمركم بالتوقف عن العزق.
فتفرق الهوغونيون بين صفوف الأشجار للوصول إلى آلاتهم المتروكة في الخطوط، وفي تلك اللحظة صرخ عيسو الذي — في غفلة من أبيه — تسلق شجرة تين ليأكل ثمارها غير الناضجة قائلًا: هناك! مَن القادم على ذلك البغل؟!
كان هناك بالفعل بغل يصعد الطريق حاملًا نصف رجل مربوطًا فوق سرجه. كان هو الطيب، الذي اشترى هذا الحيوان العجوز المسكين بينما كانوا على وشك إغراقه في مجرى المياه لأن حالته تدهورت، حتى إنه لم يصلح حتى للذبح.
وقال في نفسه: عمومًا أنا أزن نصف رجل فقط، ويستطيع البغل العجوز أن يتحملني. وبما أنه سيكون لدي أنا ما أمتطيه يمكنني الذهاب لمسافة أبعد لأصنع الخير. وهكذا ذهب في أولى رحلاته ليزور الهوغونيين.
تجمهر الهوغونيون لاستقباله، ووقفوا بثبات حوله يرتلون مزمورًا. ثم اقترب منه العجوز وصافحه كأخ. وعندما نزل الطيب من فوق بغله، رد بكل مودة على تلك التحيات، وقبَّل يد زوجة حزقيال التي بقيت جامدة متجهمة الوجه، وسأل عن صحة الجميع، ومد يده ليربت على رأس عيسو خشن الشعر فتقهقر للوراء، واهتم بمتاعب كل منهم، واستمع إلى قصة اضطهاداتهم، وهو يتعاطف معهم ويدين الآخرين. ومن الطبيعي أنهم كانوا يتحدثون عن هذا الموضوع دون التركيز على الخلاف الديني، وإنما على مجموعة من المآسي التي ترجع إلى الشر البشري عامة.
وتغاضى مداردو عن أن الاضطهادات جاءت من قِبل الكنيسة التي ينتمي إليها، ولم يتبحر الهوغونيون بدَورهم في تأكيدات إيمانية، خوفًا كذلك من أن يقولوا شيئًا خطأً لاهوتيًّا. وهكذا انتهى بهم الأمر إلى أحاديث مختلفة عن المحبة ورفض كل ألوان العنف والتطرف. كان الجميع متفقين، ولكن الموقف أصبح في مجمله باردًا إلى حد ما.
ثم زار الطيب حقولهم، وتأثر بسبب ضآلة المحاصيل، ولكنه عبَّر عن سروره لأنهم رغم ذلك قد جمعوا محصول شعير جيد.
وسألهم: بكم تبيعونه؟
– ثلاث سكودات؟! ولكن يا أصدقائي إن فقراء تيرالبا يتضورون جوعًا ولا يستطيعون شراء مجرد حفنة شعير. ألا تعلمون أن الأمطار الغزيرة دمرت محاصيل الشعير في الوادي وأنكم وحدكم يمكنكم تخفيف وطأة الجوع عن عائلات كثيرة؟
قال حزقيال: نعلم ذلك، ولهذا السبب بالذات يمكننا البيع جيدًا.
– ولكن فكروا في الشفقة بأولئك الفقراء إذا خفضتم سعر الشعير. فكروا في الخير الذي يمكنكم عمله.
فوقف العجوز حزقيال أمام الطيب وهو يعقد ذراعيه وخلفه جميع الهوغونيين يقلدونه.
وقال: إن عمل الخير يا أخي لا يعني أن نخسر بخفض الأسعار.
وسار الطيب بين الحقول وهناك رأى هوغونيين مسنين وضعفاء كالهياكل العظمية يعزقون الأرض تحت حرارة الشمس.
قال لعجوزٍ لحيته طويلة جدًّا حتى إنه يضرب بفأسه فوقها: إن لون بشرتك سيء هل تشعر بالمرض؟
– وكيف يمكن أن يشعر شخص عمره سبعون عامًا ويعزق الأرض لعشر ساعات وليس في جوفه سوى حساء اللفت؟!
قال حزقيال: إنه ابن عمي آدم، عامل لا مثيل له.
وفي حين يقول الطيب: ولكن عليك أن تستريح وتتغذى في سنك المتقدم هذا. جذبه حزقيال بعيدًا بحزم وقال بلهجة لا تسمح بأي تعليق: إننا جميعنا هنا نكسب خبزنا بطريقة قاسية جدًّا يا أخي.
في البداية، عندما ترجَّل عن بغلِه، أراد الطيب أن يربط بغلتَه بنفسه وطلب كيس علف لتعويض البغل عن تعبه في الصعود. وقتها نظر حزقيال وزوجته أحدهما للآخر، حيث يكفي في رأيهما حزمة من الشيكوريا البرية لتغذية البغل، ولكنهما كانا في أكثر لحظات استقبال الضيف حرارةً، فأحضرا العلف.
ولكن العجوز حزقيال الآن، وبعد أن فكر في الأمر، لم يستطع أن يتحمل فكرة أن يأكل هذا البغل الهزيل العلف الباقي لديهم، ودون أن يستمع إلى ضيفه نادى على ابنه عيسو وقال له: عيسو، اذهب بهدوء إلى البغل، وخذ منه العلف، وأعطِه أي شيء آخر.
– دواء للربو؟
– أعطِه قلاحات ذرة، قشر حمص، أعطِه ما تريد.
ذهب عيسو، ونزع الكيس من أمام البغل، وأخذ رفسةً جعلته يعرج لفترة. فخبأ العلف المتبقي لينتقم لنفسه ببيعه لحسابه الخاص، وقال إن البغل أكله كله.
حل وقت الغروب، والطيب مع الهوغونيين وسط الحقول ولم يعرفوا ماذا يقول أكثر من هذا.
قالت زوجة حزقيال: أمامنا ساعة أخرى من العمل أيها الضيف.
– إذن لن أزعجكم أكثر من ذلك.
– حظًّا سعيدًا أيها الضيف.
فعاد مداردو الطيب فوق بغله.
وعندما انصرف قالت المرأة: إنه ضحية من ضحايا الحرب، كثيرون مثله في هذه المنطقة … مساكين.
وشاركها كل أفراد العائلة قائلين: مساكين بالفعل.
– فليحل بكم الطاعون والمجاعة!
هكذا أخذ العجوز حزقيال يصرخ وهو يتجول بين الحقول وقبضتاه في الهواء وهو يرى أن العمل لم يتم حسب الأصول ويرى أضرار الجفاف.
– فليحل بكم الطاعون والمجاعة.
٩
كثيرًا ما أذهب في الصباح لمحل بيتروكيودو لأرى الآلات التي ينفِّذها المعلم العبقري. وأصبحت آلام النجار وتأنيب ضميره في ازدياد مستمر منذ أن بدأ الطيب يذهب لزيارته ليلًا لتوبيخه على الهدف الشرير من اختراعاته، ويحفزه على تنفيذ آلات تخدم الخير، لا التعطش للتعذيب.
ويسأل بيتروكيودو: أي آلات يجب أن أقوم بصنعها يا سيد مداردو؟
– الآن سأشرح لك، يمكنك على سبيل المثال …
وهكذا يبدأ الطيب في وصف الآلة التي من الممكن أن يطلبها هو، لو كان هو الفسكونت بدلًا من نصفه الآخر، ويستعين في شرحه برسم تصميمات مضطربة. في البداية بدت تلك الآلة لبيتروكيودو كأنها آلة «أورج»، آلة «أورج» عملاقة تصدر مفاتيحها موسيقى بالغة العذوبة، وبدأ بالفعل في البحث عن الخشب المناسب للقصبات، عندما عادت أفكاره لتصبح أكثر ارتباكًا بعد حديثٍ له مع الطيب، فقد بدا أنه يريد أن يمرر من تلك القصبات دقيقًا وليس هواءً. إذن فالآلة ليست آلة موسيقية، بل مطحنة، تطحن القمح للفقراء، ومن الممكن أن تصبح أيضًا فرنًا يخبز الخبز.
وأخذ الطيب يزيد كل يوم من كمال فكرته ويملأ أوراقًا وأوراقًا بالتصميمات غير الدقيقة، ولكن بيتروكيودو لم يعد قادرًا على متابعته؛ لأن تلك الآلة الموسيقية، والمطحنة والفرن يجب أيضًا أن تسحب المياه من الآبار وذلك لإراحة الحمير، وأن تتحرك على عجلاتٍ لتخدم مختلف القرى، وعليها أيضًا في أيام الأعياد أن تعلَّق في الهواء فتصطاد الفراشات بشباك تحيط بها من كل جانب.
وشك النجار في أن صنع آلات خيرة شيء أبعد من إمكانيات البشر، بينما الآلات التي تعمل بصورة جيدة ودقيقة هي المشانق وآلات التعذيب.
وفي الحقيقة أنه بمجرد أن يعرض الشرير على بيتروكيودو فكرة آلة جديدة، حتى تخطر له طريقة تنفيذها فيبدأ العمل فورًا، وكل قطعة من قطع الآلة تبدو له كاملة لا بديل لها وتبدو الآلة له عند اكتمالها إحدى روائع التقنية والإبداع.
عندئذ يتضايق النجار في نفسه ويقول: ألعل الشر الكامن فيَّ هو الذي يجعلني أنجح في بناء آلات إجرامية فقط؟ ولكنه في نفس الوقت يستمر بحماس ومهارة في اختراع آلات تعذيب أخرى.
وفي يوم من الأيام رأيته يعمل في مشنقة غريبة، فيها مشنقة بيضاء تحيط بسطح خشبي أسود، والحبل الأبيض أيضًا يجري من خلال ثقبين في السطح، من نقطة بداية حبل عقدة المشنقة.
سألته: ما هذه الآلة يا معلم؟
قال: مشنقة لتشنق «البروفيل».
– ولمن صنعتَها؟
– لرجل واحد يُدين ويُدان. فهو بنصف رأسه يحكم على نفسه بالموت، وبالنصف الآخر يدخل إلى عقدة حبل المشنقة ويطلق النفَس الأخير. أتمنى أن يختلط الأمر بين الاثنين.
وفهمت أن الشرير عندما شعر بارتفاع شعبية النصف الطيب من نفسه، عقد العزم على القضاء عليه في أقرب وقت ممكن.
وبالفعل استدعى الحراس وقال لهم: إن هناك متمردًا طليقًا منذ وقت طويل يفسد أراضينا ويحرض الجميع، وقبل الغد يجب أن تقبضوا عليه وتقدموه للإعدام.
قال الحراس: تمامًا يا سيدي. وانصرفوا.
وبما أنه ذو عين واحدة لم يلحظ الشرير أنهم يتغامزون فيما بينهم وهم يجيبونه. فهناك مؤامرة قد دبرت في القصر في تلك الأيام، والحراس أيضًا مشاركون فيها. يتعلق الأمر بسجن نصف الفسكونت الحالي والقضاء عليه وتسليم القصر واللقب للنصف الآخر. ولم يكن هذا الأخير يعرف شيئًا.
وفي الليل، وفي مخزن التبن حيث يسكن، استيقظ فوجد الحراس يحاصرونه.
قال له قائد الحرس: لا تَخَف، إن الفسكونت قد أرسلنا لنغتالك، ولكننا قررنا أن نغتاله هو وأن نضعك مكانه بعد أن أتعبَنا طغيانه القاسي.
– ما هذا الذي أسمع؟ وهل فعلتم هذا بالفعل؟ أقصد: هل اغتلتم الفسكونت بالفعل؟
– لا، ولكننا سنقوم بذلك دون شكٍّ صباح باكر.
– آه، شكرًا لله. لا، لا تلطخوا أنفسكم بدماءٍ أخرى، لأن دماء كثيرة قد أُهرقت بالفعل. أي خير يمكن أن يجلبه حكم مبني على الجريمة؟
– لا بأس؛ فلنحبسه في البرج لنبقى في أمان.
– أستحلفكم بالله، لا ترفعوا أيديكم عليه ولا على أي إنسان آخر. أنا أيضًا يؤلمني طغيان الفسكونت، ولكن لا يوجد علاج آخر سوى إعطائه القدوة الصالحة، وأن نظهر له أخلاقنا الطيبة وفضائلنا.
– إذن، يجب أن نغتالك أنت يا سيدي.
– لا … قلت لكم يجب ألا تغتالوا أحدًا.
– وكيف هذا؟ إذا لم نقضِ على الفسكونت فيجب علينا طاعته.
– خذوا هذه القارورة، إنها تحتوي على بعض أوقيات من آخر ما تبقى لي من البلسم الذي عالجني به النساك المتوحدون في بوهيميا، والذي يفيدني حتى الآن عند تغير الجو وعندما تؤلمني خياطة الجرح البالغ. خذوه إلى الفسكونت وقولوا له فقط: هذه هدية شخص يعرف معنى انتهاء الأوردة بصمام.
ذهب الحراس إلى الفسكونت بالقارورة، فحكم عليهم بالشنق. ولإنقاذ الحراس قرر باقي المتآمرين أن يتمردوا. ولعدم خبرتهم كشفوا خطة الثورة التي أُخمدت بهَراق الدماء. وحمل الطيب الزهور إلى قبورهم وواسى الأرامل والأيتام.
كانت المربية سيباستيانا هي الوحيدة التي لم تتأثر بطيبة الطيب. فعندما يذهب الطيب للقيام بأعماله الشهمة يتوقف كثيرًا في كوخ المربية ليزورها، وكان دائمًا مهذبًا مهتمًّا بها. أما هي فتلومه كل مرة. ربما بسبب حبها الأموي الذى لا يعرف التمييز، وربما لأن تقدمها في السن يشوش أفكارها، لم تكن المربية تضع في حسبانها انفصال مداردو إلى نصفين؛ فكانت تلوم نصفًا على أعمال النصف الآخر السيئة، وكانت تُسدي لأحدهما النصائح التي لم يكن لينفذها سوى الجزء الآخر … وهكذا.
– ولماذا قطعتَ رأس ديك الجدة بيجين المسكينة وليس لها سواه؟ شخص كبير مثلك، يقوم بعمل كهذا؟!
– ولكن لماذا تقولين لي هذا يا مربية؟ أنت تعرفين أنه لم أكن أنا.
– حسنًا … لنستمع قليلًا من كان إذن؟
– أنا. ولكن …
– آه، أترى؟
– ولكن لست أنا الموجود هنا.
– إيه … هل تعتقد أنني بسبب تقدمي في السن قد أصبحت مُخرفة أيضًا؟ إنني بمجرد أن أسمع بحدوث أي شيء همجي أُدرك على الفور أنه من عمل يديك. وأقول لنفسي: أقسم إن هذا من فعل مداردو!
– ولكنك مخطئة!
– أخطئ! … أنتم الشباب تقولون إننا نحن المسنين نخطئ … وأنتم؟ أنت قد أهديت عكازك إلى إزيدورو العجوز.
– نعم، هذا ما قمت به أنا.
– أتفتخر بهذا؟ لقد استخدمه في ضرب زوجته المسكينة.
– لقد قال لي إنه لا يستطيع السير بسبب آلام مفاصله.
– لقد خدعك … وأنت تعطيه على الفور عكازك … وها هو قد كسره على ظهر زوجته. بينما تتجول أنت مستندًا على فرع شجرة ضعيف … إنك بلا عقل … أتعلم هذا؟ نعم أنت هكذا دائمًا. وعندما سقيت ثور برناردو نبيذ الجرابا حتى الثمالة؟
– هذا لم أفعله أنا.
– آه لم تكن أنت! الجميع يقولون: إنه هو دائمًا، الفسكونت.
لم تكن زيارات الطيب إلى براتوفونجو سببها تعلقه البنوي هذا بمربيته فقط، ولكنه في ذلك الوقت كان قد كرَّس وقته لإسعاف مرضى الجذام المساكين. فبعد أن حصَّن نفسه من العدوى — ويبدو أن هذا بسبب علاج الناسكين الغامض — أخذ يتجول في القرية يسأل بدقة عن احتياجات كل منهم، ولا يتركهم إلا عندما يبذل كل ما يستطيع في سبيلهم بجميع الطرق. كثيرًا ما يقوم فوق ظهر بغله بجولة مكوكية بين براتوفونجو وكوخ الطبيب تريلاوني، ليسأله النصح والدواء.
ولا يعني هذا أن الطبيب قد واتته الشجاعة الآن ليقترب من مرضى الجذام، ولكن يبدو أنه بدأ يهتم بهم عن طريق وساطة مداردو الطيب.
ولكن نية خالي كانت أبعد من ذلك؛ لم يكن ينوي أن يعالج فقط أجساد مرضى الجذام، وإنما نفوسهم أيضًا. فيقف دائمًا وسطهم يتدخل في شئونهم الخاصة يحرجهم ويعظهم … ولم يعد في استطاعة مرضى الجذام تحمله.
فالأوقات السعيدة والإباحية في براتوفونجو قد ولَّت … فبظهور هذا الوجه البشوش الواقف على قدمٍ واحدة، والذي يرتدي السواد، ويصدر أحكامًا، لم يعد أحدهم يستطيع أن يقوم بما يرغب دون أن يواجه في الميدان مما يثير كل إساءة ونكاية … حتى الموسيقى، كان بمجرد سماع إدانته لها لأنها لا قيمة لها، وماجنة وليست نابعة من أحاسيس طيبة؛ تصيبهم الكآبة فيهملون آلاتهم الموسيقية التي غطاها التراب. أما النساء المريضات بالجذام فبِدُون تنفيسهن بأعمال العربدة وجَدْن أنفسهن وحيداتٍ فجأةً أمام المرض، وكن يقضين الليالي باكيات مُوَلوِلات.
وبدءوا في براتوفونجو يقولون: إن الطيب هو أسوأ النصفين.
ولم يقلَّ الإعجاب بالطيب في براتوفونجو فقط، بل كان الجميع يقولون: من حسن الحظ أن طلقة المدفع قسمته فقط إلى نصفين، من يعرف ماذا كنا سنرى لو أنه قد انقسم إلى ثلاثة.
وبدأ الهوغونيون في عمل دوريات حراسة ليحموا أنفسهم من الطيب أيضًا؛ إذ فقد كل احترامهم له، ويذهب في ساعات متفرقة ليتجسس عدد الأكياس الموجودة في مخازنهم ويعظهم بسبب أسعارهم المرتفعة جدًّا، وبعد ذلك يذهب ليتحدث عن هذا في كل مكان فيدمر بذلك تجارتهم.
هكذا تمر الأيام في تيرالبا، ومشاعرنا تزداد كآبة وضيقًا، لأننا شعرنا بالضياع بين شر وفضيلة كلاهما غير إنساني.
١٠
ما من ليلة قمرية إلا وتتشابك فيها الأفكار الدنيئة في الأرواح الشريرة كأنها جحر الثعابين، وإلا تتفتح فيها في الأرواح الطيبة أفكار التضحية والتفاني. وهكذا وبين منحدرَي تيرالبا سار شطرا مداردو تعذبهما فكرتان متضادَّتان.
فقد اتخذ كل منهما قراره، وفي الصباح تحرَّكا لتنفيذهما.
وأثناء ذهاب والدة باميلا لتحضر المياه سقطت في شرَك وغاصت في البئر. وأخذت تصرخ طلبًا للنجدة وهي تتعلق بحبل. وعندئذ رأت عند دائرة البئر هيئة الشرير تظهر في الأفق وهو يقول: كنت أريد فقط أن أتحدث معك. سأقول لك ما فكرت فيه. فبصحبة ابنتك باميلا يظهر كثيرًا متشرد مشطور يجب أن تجبريه على الزواج منها؛ لقد شوه سمعتها، فإذا كان إنسانًا مهذبًا فعليه أن يصلح غلطته. لقد فكرت في هذا ولا تسأليني أن أشرح لك شيئًا آخر.
وكان والد باميلا يحمل جوالًا من زيتون مزرعته إلى المعصرة، ولكن الجوال به ثقب وأخذ الزيتون يسقط طوال الدرب. وعندما شعر بأن حمله قد خف، أنزل الأب الجوال من فوق كتفه وأدرك أنه فارغ تقريبًا. ولكنه رأى الطيب قادمًا من خلفه؛ يجمع الزيتون حبة تلو الأخرى ويضعه في عباءته.
– أتبعك لأتحدث معك، وكان لي الحظ السعيد أن أنقذ لك زيتونك. إليك ما أحمله في قلبي؛ منذ وقت طويل وأنا أفكر أن تعاسة الآخر — الذي أقصد إنقاذه — ربما تكمن في وجودي. سأرحل من تيرالبا. ولكن فقط إذا كان رحيلي هذا سيعيد السلام لشخصين: لابنتك التي تنام في عرين بينما هي تستحق نصيبًا نبيلًا، وبين جزئي الأيمن التعس الذي لا يجب أن يبقى وحيدًا هكذا. إن باميلا والفسكونت يجب أن يجمعهما رباط الزواج.
كانت باميلا تدرب سنجابًا عندما قابلت والدتها التي تظاهرت بأنها تجمع ثمار الصنوبر.
قالت أمها: باميلا، لقد حان الوقت ليتزوجك ذلك المتشرد المدعو: الطيب.
قالت باميلا: من أين جاءتك هذه الفكرة؟
– لقد شوه سمعتك، فيجب أن يتزوجك، إنه مهذب إلى الحد الذي إذا قلت له هذا فلن يرفض.
– ولكن كيف نسجت في خيالك هذه القصة؟
– اخرسي؛ لو علمت من قالها لي فلن تسألي عن أي شيء آخر، إن الشرير شخصيًّا هو الذي قال لي هذا، الفسكونت المبجل.
– يا للمصيبة! — قالت باميلا هذا تاركةً السنجاب يسقط من فوق حجرها — من يدري ما هو الشرَك الذي يريد إعداده.
وبعد قليل، كانت تتعلم كيف تصفِّر بورقة شجر بين يديها عندما قابلها والدها الذي يتظاهر بجمع الحطب.
قال والدها: باميلا، حان الوقت أن توافقي على طلب الفسكونت بالزواج بشرط أن تتزوجا في الكنيسة.
– هل هي فكرتك أم قالها لك أحد؟
– ألا تعجبك فكرة أن تصبحي كونتيسة.
– أجب على سؤالي.
– حسنًا. تصوري أن من يقول هذا أسمى نفس في الوجود؛ إنه المتشرد الذي يطلقون عليه اسم «الطيب».
– آه، إن ذاك لم يعد لديه شيء آخر يفكر فيه … سترى ماذا سأفعل.
وأخذ الشرير يفكر في خطته وهو يمتطي جواده النحيف عبر الأدغال؛ إذا تزوجت باميلا من الطيب، فإنها أمام القانون ستكون زوجة مداردو دي تيرالبا، أي زوجته هو.
واستنادًا إلى هذا الحق، سيكون للشرير أن ينتزعها بسهولة من منافسه الذي يستسلم بسهولة ولا يناضل.
ولكنه يقابل باميلا التي تقول له: أيها الفسكونت، لقد قررت أن نتزوج إذا كنت موافقًا على هذا.
قال الفسكونت: أنت، ومن؟
– أنا وأنت، وسآتي إلى القصر وأصبح الكونتيسة.
لم يكن الشرير يتوقع هذا وفكر قائلًا: إذن لا فائدة من حَبْك تلك المسرحية ومن أن أجعلها تتزوج نصفي الآخر. لأتزوجْها أنا وبذلك يتم لي كل شيء.
وهكذا قال: موافق.
قالت له باميلا: اتفِق إذن مع أبي.
وبعد ذلك بقليل، قابلَت باميلا الطيب فوق بغله.
قالت له: مداردو، لقد فهمت أنني مغرمة بك، فإذا كنت تريد إسعادي يجب أن تطلب يدي للزواج.
أما المسكين الذي ضحى وتنازل من أجل إسعادها فقد شعر بالذهول.
وفكر: ولكن إذا كانت سعيدة بزواجها مني، لا يمكنني أن أزوجها للآخر، وقال: سأجري لإعداد كل شيء لمراسم الزفاف يا عزيزتي.
قالت له: أوصيك بأن تتفق على كل شيء مع والدتي.
انقلبت تيرالبا كلها رأسًا على عقب عندما انتشر خبر زواج باميلا.
هناك من يقول إنها ستتزوج الأول. ومن يقول إنها ستتزوج الآخر. وإن والديها على ما يبدو كانا يقصدان أن يبلبلا الأفكار. أما في القصر فكانوا يلمعون ويزينون كل شيء كأنهم يستعدون لحفل كبير. وأمر الفسكونت بإعداد رداء من القطيفة السوداء به كم منتفخ بالهواء وانتفاخ آخر في سرواله.
وقام المتشرد أيضًا بتمشيط بغله المسكين ورتق كوع ردائه وركبته. وعلى كل حال فقد تم تلميع كل الشمعدانات في الكنيسة. وقالت باميلا إنها لن تترك الغابة إلا إلى موكب العرس. وكنت أنا أقوم بشراء لوازم العروس. فحاكت باميلا رداءً أبيض بطرحة وبذيل طويل للغاية، وقامت بصنع إكليل وحزام من سنابل اللافندر الخزامى. ولما تبقى من قماش الطرحة بضعة أمتار فقد صنعت رداء عرس للعنزة ورداءً آخر للبطة، وأخذت تجري هكذا في الغابة يتبعها حيواناتها، حتى تمزقت الطرحة كلها بين الأغصان، وجمع ذيل الفستان جميع أشواك الصنوبر وأشواك الكستناء الجافة عبر المدقات.
ولكنها في الليلة السابقة للعرس كانت قلقة وخائفة شيئًا ما.
فقد كانت تجلس على قمة إحدى التلال الصغيرة الخالية من الأشجار، وذيل الفستان ملتف حول قدميها، والتاج المصنوع من لافندر الخزامى يميل على رأسها، وكانت تسند ذقنها بيدها وتنظر إلى الغابات حولها وهي تتنهد.
وكنت أنا معها دائمًا؛ لأنه كان علي أن أقوم بدور وصيف الشرف بالاشتراك مع عيسو الذي لم يحضر أبدًا.
سألتها: باميلا، من ستتزوجين؟
قالت: لا أعلم، لا أعلم ماذا سيحدث بالضبط. هل سينتهي كل شيء على ما يرام؟ أم ستكون النهاية سيئة؟
من الغابات كان يصل إلى أسماعنا نوع من الصرخات المدوية أحيانًا، ومن التنهد أحيانًا أخرى. كان مصدر الصوت هو العريسان المشطوران، واللذان كانا ساهرَين من فرط انفعالهما في ليلة عرسهما يتجولان بين المنحدرات الوعرة والغابة، متشحَين بعباءتيهما السوداوين. أحدهما يمتطي جواده النحيل، والآخر فوق بغله المتسلخ، وكانا يزأران ويتنهدان مأخوذَين بتخيلاتهما القلقة. وكان الجواد يقفز فوق الصخور والمساقط، والبغل يتسلق المطالع والمحاور دون أن يتلاقى الفارسان.
واستمر الحال هكذا إلى أن زل حافرا الحصان عند الفجر إثر تعثره، لينتهي به الأمر في وادٍ سحيق. وهكذا لم يستطع الشرير الوصول إلى العرس في الوقت المناسب. أما البغل فعلى العكس من ذلك كان يسير رويدًا رويدًا، وهكذا وصل الطيب إلى الكنيسة في موعده تمامًا، في الوقت الذي وصلت فيه العروس، بينما أنا وعيسو نمسك لها ذيل الفستان وعيسو يتباطأ خلفها.
وأصيبت الجموع بإحباط عندما رأت أن العريس الذي وصل مستندًا على عكازه هو الطيب، وتم عقد مراسم الزواج، ووافق عليه العريسان وتبادلا الخاتمَين، وقال الكاهن: يا مداردو دي تيرالبا، باميلا ماركولفي، إنني أجمعكما برباط الزواج.
وفي تلك اللحظة ظهر الفسكونت من آخر الرواق، دخل يستند على عكازه بردائه الجديد القطيفة وقد ابتل وتمزق وقال: إن مداردو دي تيرالبا هو أنا وباميلا هي زوجتي.
فتقدم الطيب بصعوبة ليقف أمامه وقال: لا، إن مداردو الذي تزوج باميلا هو أنا.
ألقى الشرير بعكازه بعيدًا، وأمسك بسيفه، ولم يبقَ للطيب سوى أن يفعل نفس الشيء.
– إلى المبارزة.
بدأ الشرير الهجوم، ووقف الطيب موقف الدفاع، ولكن كلاهما تدحرج، وسقطا أرضًا.
واتفقا على أنه من المستحيل أن يتصارعا وكل منهما يقف على قدم واحدة فقط. وكان من الضروري تأجيل المبارزة ليتمكنا من إعدادها بصورة أفضل.
وقالت باميلا: وأنا، أتعلمان ماذا سأفعل؟ سأعود إلى الغابة. وجرت مبتعدة عن الكنيسة دون أي وصيف شرف يحمل لها ذيل الفستان. وفوق الجسر وجدت عنزتها وبطتها اللتين كانتا في انتظارها، ورافقتاها راكضتَين.
وتم تحديد ميعاد المبارزة في فجر اليوم التالي في مرج الراهبات.
واخترع السيد بيتروكيودو نوعًا من الأقدام التعويضية التي يثبتها في وسط كل من المشطورَين، بحيث تسمح لهما بأن يقفا ثابتَين وأن يتحركا أو ينحنيا للأمام وللخلف، وذلك بتثبيت طرفها في الأرض ليبقيا واقفين.
كان الحكم هو المجذوم جالاتيو الذي كان من النبلاء قبل مرضه، ومساعدا الشرير هما والد باميلا وقائد الحرس، أما مساعدا الطيب فكانا اثنين من الهوغونيين.
واستعد الطبيب تريلاوني الاستعداد الطبي، وذلك بأن حضر ومعه لفات من الضمادات ووعاء زجاجي كبير مملوء بالبلسم، وكأنه سيعالج في معركة كبيرة. ومن حسن حظي، كان علي مساعدته في حمل جميع تلك الأشياء، وهكذا استطعت أن أشهد القتال.
يميل الفجر للخضرة، وفوق المرج وقف الفارسان النحيفان المتبارزان في ملابسهما السوداء، وفي يديهما السيفان في وضع الاستعداد.
أطلق المجذوم نفيره، وكانت هذه هي الإشارة؛ واهتزت السماء كأنها غشاء مشدود، والفئران في جحورها غرست أظافرها في الأرض، وطيور اللقلق نزعت ريشة من إبطها تتألم دون أن ترفع رءوسها من تحت أجنحتها، وأفواه ديدان الأرض أكلت ذيولها، والأفعى لدغت نفسها بأسنانها، والدبور حطم إبرته فوق الصخور، وكان كل شيء ينقلب على نفسه: تحول صقيع الآبار إلى ثلج، والطحالب تحولت إلى صخور، والصخور إلى طحالب، والأوراق الجافة تحولت إلى تراب، وأخذ الصمغ السميك الشديد يقتل الأشجار، ولا مفر. هكذا الإنسان؛ كان يهاجم نفسه بيديه الممسكة كل منهما بسيف.
ومرة أخرى أثبت بيتروكيودو مهارته؛ فالأطراف الصناعية بَرجَلية الهيئة ترسم دوائر فوق المرج، وأخذ المتبارزان يندفعان في هجمات خشبية سريعة في الصد وفي المراوغة دون أن يمس أحدهما الآخر، وفي كل ضربة هجومية يبدو طرف السيف كأنه يتجه بثقة تجاه عباءة الخصم المتطايرة، ويبدو أن كلًّا منهما يصر على الهجوم على الجزء الفارغ، أي نحو الجزء الذي من المفروض أن يكون هو نفسه. من المؤكد، أنه لو كان بدلًا من النصفين المتبارزان هناك متبارزان كامِلان، لأصاب كلٌّ منهما الآخر إصابات لا حصر لها.
يهاجم الشرير بوحشية غاضبة، ولكنه لم يستطع أن يجعل هجماته تصل بالفعل إلى خصمه، أما الطيب فقد تمتع بمهارة المبارز الأعسر، ولكنه لم يحاول سوى أن يمزق عباءة الفسكونت.
وفي لحظة معينة تلاقى طرفا سيفيهما. وانغرس طرفا البرجل في التربة كأنهما محراثان.
تحرر الشرير بحركة عنيفة وكاد أن يفقد توازنه ويتدحرج على الأرض عندما نجح في توجيه ضربة قاطعة، ليست في وسط جسده، بل تكاد، كانت ضربة قاطعة توازي الخط الذي يقطع جسد الطيب، وقريبة منه إلى حد أنه لم يمكن تحديد إن كان القطع هنا أم هناك. ولكننا سرعان ما رأينا الدماء تتدفق من الجسد أسفل العباءة، بدءًا من الرأس حتى وصلة الساق، ولم يعد هناك أدنى شك. انحنى الطيب أرضًا، ولكنه أثناء سقوطه، وفي حركة متسعة، تكاد أن تكون رحيمة، ضرب بسيفه هو أيضًا قريبًا جدًّا من الخصم، من رأسه حتى بطنه بين الحد الذي لا يوجد فيه جسد الشرير والجزء الذي يبدأ منه. وتدفقت الدماء من جسد الشرير أيضًا في القطع القديم كله؛ فقطعت ضربة سيف كلٍّ منهما جميع الأوردة وفتحا من جديدٍ الجرح الذي شطرهما، من الجانبَين.
والآن ها هما قد انبطحا، وعادت الدماء التي كانت دمًا واحدًا لتختلط في المرج.
لم أهتم بتريلاوني؛ إذ أُخِذت بهذا المشهد، وعندما انتبهت أدركت أن الطبيب كان يقفز فرحًا بساقَيه الرفيعتين وهو يصفق بيديه ويصرخ: لقد نجا، لقد نجا … اتركوني أتصرف.
وبعد نصف ساعة أعدنا إلى القصر جريحًا واحدًا. فقد رُبِط كلٌّ من الشرير والطيب بالضمادات معًا بقوة، وقد اهتم الطبيب بأن يصل جميع الأمعاء والشرايين من ناحية لأخرى. وبعد ذلك — وبضمادات يصل طولها إلى كيلومتر — قام بضمِّهما بقوة، حتى بدا مداردو شخصًا محنطًا، لا مجرد جريح.
رقد خالي تحت الرعاية أيامًا وليالي بين الحياة والموت. وفي صباح أحد الأيام، وبينما تنظر المربية سيباستيانا إلى ذلك الوجه الذي يمر به شريط أحمر اللون من الجبهة ليصل إلى الذقن ويستمر بعدها ليصل إلى الرقبة، قالت: ها هو قد تحرك!
فقد أخذت مجموعة من الملامح تنبض لتظهر على وجه خالي، وبكى الطبيب فرحًا عندما رأى أن هذا قد انتقل من وجنة إلى الأخرى.
وفي النهاية فتح مداردو عينيه وشفتيه.
في البداية بدا تعبير وجهه مختلطًا؛ فإحدى عينيه مقطبة والأخرى مسترخية، وجبهته متجهمة من ناحية ورقيقة من الناحية الأخرى، وفمه يبتسم من ناحية ومن الأخرى يضغط على أسنانه. ثم عاد ليتسق رويدًا رويدًا.
وقال الطبيب تريلاوني: الآن قد تماثل للشفاء.
وهتفت باميلا: أخيرًا سيكون لي زوجٌ كامل!
وهكذا عاد خالي مداردو رجلًا كاملًا، لم يعد شريرًا أو طيبًا، بل خليطًا من الشر والخير. وهذا — في الظاهر — لا يختلف عمَّا كان عليه قبل أن يُشطَر. ولكن أصبحَت لديه خبرة كل نصف منهما مجتمعَين سويًّا، ولذلك صار حكيمًا جدًّا. وكانت حياته سعيدة، ورُزِق بأبناء كثيرين وأصبح حكمه عادلًا. وتغيرت حياتنا إلى الأفضل. وربما كان من المتوقع لنا أنه بعودة الفسكونت كاملًا سيبدأ عصر من السعادة الغامرة، إلا أنه من الواضح أن وجود فسكونت كامل لا يكفي حتى يكتمل العالم كله.
وفي الوقت نفسه لم يعد بتروكيودو يبني مشانق، بل طواحين هواء، وأهمل تريلاوني أضواء المقابر ليهتم بأمراض الحصبة والأمراض الجلدية. أما أنا، فوسط كل هذا الحماس للكمال، كنت أشعر دائمًا بمزيد من الحزن والنقص. فأحيانًا يعتقد الإنسان أنه غير كامل لمجرد أنه ما زال صغيرًا.
كنت قد وصلت إلى أعتاب سن المراهقة وما زلت أختبئ بين جذور الأشجار الضخمة لأقص على نفسي قصصًا. يمكن لشوك الصنوبر أن يمثل بالنسبة لي فارسًا، أو سيدة أو مهرجًا. وأنا أحركه أمامي وأندمج في قصصٍ لا تنتهي. وبعد ذلك يعتريني الخجل من تلك التخيلات فأفر هاربًا.
وجاء اليوم الذي هجرني فيه الطبيب تريلاوني أيضًا. ففي صباح أحد الأيام وصل إلى خليجنا أسطول من سفن تحمل العلَم البريطاني ورسا على الساحل.
وجاءت تيرالبا كلها إلى الشاطئ لتراه فيما عداي؛ لأنني لم أكن أعلم بالأمر.
وأمام حواجز الأسوار وعلى صواري السفن، وقف العديد من البحَّارة الذين يبيعون الأناناس والسلاحف ويفردون لوحاتٍ كُتب عليها أقوال مأثورة باللاتينية والإنجليزية.
وأمام الدفة، وأمام الضباط، يقف الكابتن كوك وهو يرتدي القبعة ثلاثية القرون، والشعر المستعار يتفحص الشاطئ بنظارته المعظمة، وما إن رأى الطبيب تريلاوني حتى أصدر أوامره أن ينقلوا له رسالة بالأعلام تقول: تعالَ إلى متن السفينة حالًا يا دكتور، يجب أن نكمل دور «لعبة الورق».
فصافح الطبيب الجميع في تيرالبا وتركنا.
وأخذ البحارة ينشدون نشيد «آه يا أستراليا» وصعد الطبيب إلى متن السفينة وامتطى ظهر برميل نبيذ «كنكروني» ثم رفعت السفن مراسيها.
لم أرَ شيئًا من كل هذا. فقد كنت مختبئًا في الغابة أقص على نفسي قصصًا. وعرفت ما حدث بعد فوات الأوان وأخذت أجري تجاه المرسى، وأنا أصرخ قائلًا: يا دكتور تريلاوني، خذني معك، لا تتركني هنا يا دكتور.
ولكن اختفت السفن عند الأفُق ومكثتُ أنا هنا، في هذا العالم المليء بالمسئولية وبأضواء المقابر.