مستقبل الماضي
سيظل المؤرخون يلاحقون ظلالًا أبد الدهر، والمؤلم أنهم يدركون عدم استطاعتهم إحياء عالم الموتى بصورته الكاملة.
على الرغم من أن علم الآثار «شيء من الماضي»، فإنه لا يزال تخصصًا حديث العهد، والعديد من تقنياته ونظرياته حديثة التطور، وسيستمر في الازدهار والتغير مع نموه ونضجه. ويرجع هذا النضج جزئيًّا إلى الاكتشافات الجديدة والمهمة؛ ولا يقتصر الأمر على الاكتشافات المذهلة التي تجذب الصحف الشعبية، بل يشمل الاكتشافات ذات المساهمات المتواضعة في رؤيتنا للماضي، مثل معرفة تاريخ أسبق لحدث أو ظاهرة ثقافية في العصور الأولى. تنبع بهجة علم الآثار ولذته من هذه الاكتشافات الجديدة، ومن ثروة الكنوز والمعلومات المتراكِمة بالفعل، وكذلك من معرفتنا أن الصورة التي أخذناها عن الماضي ستظل تتغير ولن تكتمل مطلقًا. على سبيل المثال، نُشرت ثلاثة إصدارات في مدة ١٢ عامًا فقط لأفضل كتاب يحتوي على معلومات عن حقبة ما قبل التاريخ في أستراليا، وهو كتاب «علم الآثار في الزمن الأسطوري» لجوزفين فلاد، ولا يكاد الإصدار الأخير يشبه الإصدار الأول، ومن هنا يتبين مقدار التغيير وسرعته في معرفتنا بحقبة ما قبل التاريخ الخاصة بهذا البلد. كذلك لا تبرح الموضوعات الأخرى — مثل أصل الإنسان، أو حتى الإنسان المتحضر — تتغير بسرعة؛ لدرجة أن المعلومات التي تحملها الكتب تَقدُم من قبل أن تُنشر.
الأرجح أنه ستخرج معظم الاكتشافات الكبرى في المستقبل إلى النور عن طريق الصدفة، مثل رجل الثلج أو كهف شوفيه؛ لأنه سيكون هناك بالتأكيد انخفاض مطرد في عمليات التنقيب البحثي (وهذا على عكس عمليات التنقيب «الإنقاذية» التي ستستمر في الزيادة مع تزايد وتيرة التعمير والتطوير الحضري). ومن أسباب هذا الانخفاض أن التقنيات الحديثة، التي لم تُتصور بعد ستزيد، قدرتنا على «رؤية» ما في باطن الأرض من دون الحاجة إلى حفرها (وهذه مفيدة لنا؛ إذ إن حفر الأرض عن طريق التنقيب الحذِر والمضني عمليةٌ مكلفة من حيث الوقت والمال)؛ وسبب آخر وهو ضرورة دراسة المواد الأثرية والبقايا الهائلة التي لم تُحلل ولم تُنشر على مستوى العالم، ما أدى إلى اكتظاظ مخازن المتاحف بها، أو ضرورة طرح أسئلة جديدة عن المواد التي دُرست بالفعل؛ وسبب ثالث وهو الحاجة المتزايدة والمُلحَّة للحفاظ على المواد المكتشفة بالفعل، بدلًا من التنقيب عن مواقع جديدة في حين أن بقاءها في باطن الأرض أمان لها.
في الحقيقة، سيصبح الحفاظ على هذه الآثار من المحاور الأساسية في علم الآثار كليًّا؛ إذ إننا نحاول الحفاظ على الكميات الهائلة من المواقع والهياكل والمصنوعات اليدوية، وملايين الصور المعروفة للفن الصخري على مستوى العالم. تتعرض العديد من المواقع الأكثر شهرة بالفعل لتهديد هائل؛ تمثال أبو الهول بسبب التقلبات المناخية وكذلك تسرب مياه الصرف الصحي من الأحياء الفقيرة القريبة، ومقبرة توت عنخ آمون من التصدُّع والأضرار الناجمة عن فيضانات عام ١٩٩٤، وموهينجودارو في باكستان من عوامل التعرية والتآكل المِلحي، وأكروبوليس في أثينا من التلوث والتغير المناخي الذي تسبب في نمو فُطرٍ أسود عميق داخل الرخام، والقناة الرومانية في سيجوفيا بإسبانيا من تلوث السيارات والطقس القاسي وحتى فضلات الطيور! ففي عام ٢٠١٠ وحده، في إيطاليا، انهارت أجزاء من سقف قصر نيرون الذهبي، والجص من سقف الكولوسيوم، وجزء كبير من بيت المصارعين في بومبي، بسبب الأمطار الغزيرة على ما يبدو. تبذل فرق مخصصة من معهد جيتي للحفاظ على الآثار بكاليفورنيا، أو الصندوق العالمي للآثار، جهودًا هائلة للحفاظ على المواقع والآثار من جميع العصور وجميع أنحاء العالم وتعزيزها، ولكن حتى موارد جيتي، التي لا حدود لها على ما يبدو، لا تعدو كونها قطرة في محيط عندما يفكر المرء في المبلغ الهائل من المال المطلوب لإنقاذ كل شيء. ومن ثَم سنُضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة (ليس في اختيار الاكتشافات التي ينبغي الحفاظ عليها فحسب، بل في تقرير بذل الأموال من أجل علم الآثار من عدمه، بدلًا من بذلها في سبيل قضايا قد تكون في نظر البعض أكثر استحقاقًا وإلحاحًا)، وكذلك لا تزال الجهود الكبيرة مستمرة في تسجيل العناصر الأكثر عرضة للتهديدات، مثل الفن الصخري والنقوش، وما إلى ذلك.
وفي الوقت نفسه، سيكون للتكنولوجيا الحديثة دور ذو أهمية متزايدة؛ على سبيل المثال، في تسجيل الفنون الصخرية، يسهِّل نظام تحديد المواقع العالمي تحديد المواقع التي كان من الصعب جدًّا العثور عليها حتى الآن في الصحاري أو مناطق الغابات. إضافة إلى ذلك، توافرت تقنيات جديدة غير تدخلية لتسجيل النقوش المحفورة في الصخر والنقوش الموجودة في نماذج ثلاثية الأبعاد؛ والتقنية الأكثر تكلفة هي المسح الليزري، الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى اكتشافات جديدة؛ على سبيل المثال، في عام ٢٠٠٣، وبعد ٥٠ عامًا من رصد نقوش منحوتة على خنجر وبعض الفئوس للمرة الأولى على بعض الحجارة القائمة في ستونهنج، كشف المسح الليزري عن نقوش صخرية شديدة التآكل لم تُكتشف من قبل ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. ثَمة طريقة بديلة أرخص، وتتسم أيضًا بالكفاءة وتستخدم جهازًا محمولًا، وهي طريقة النَّمذجة الثلاثية الأبعاد من الصور الفوتوغرافية؛ إذ إنها تستخدم برنامجًا تِجاريًّا مثل برنامج «فوتومودِلر».
في العديد من الجوانب الأخرى للدراسات الأثرية، طوَّر نظام تحديد المواقع قدرتنا على العثور على المواقع وتسجيلها، كما أحدث الازدياد السريع في استخدام التصوير بالأقمار الصناعية (بدلًا من التصوير الجوي) — ولا سيما الأدوات مثل «جوجل إيرث» — ثورة في اكتشاف العديد من أنواع المواقع. فقد اكتُشف الكهف الذي عُثر فيه على بقايا أُحفورية لأشباه الإنسان «جنس القرد الجنوبي سيديبا» عام ٢٠٠٨ باستخدام برنامج «جوجل إيرث»؛ ما يشير إلى أبرز الطبقات الأحفورية الواعدة في المنطقة، وفي الوقت نفسه يستخدمه العلماء لاكتشاف عدد لا يُحصى من المواقع، لا سيما في المناطق التي لا يستطيعون الوصول إليها بسبب الصراعات أو السياسات.
ومع ذلك، فإن التهديدات الرئيسية للمواقع والمواد الأثرية لا تأتي كثيرًا من التدهور الطبيعي أو الإهمال، بل من الأضرار التي يسببها البشر بطُرق متنوعة. وكما رأينا بالفعل (الفصل التاسع)، فإن الزيادة المطردة لشهرة علم الآثار لها نتائج سلبية، والسياحة الجماعية تحمل معها مخاطر «حب علم الآثار حتى الهلاك» بسبب الأضرار المتزايدة التي تلحق بالمواقع؛ لأنه تطأ عليها ملايين الأقدام وتتنفس فيها ملايين الرئات، فضلًا عن الأضرار (ولحسن الحظ أنها نادرة) التي يسببها المخربون عمدًا، أو الحروب أو المناورات ولكن بشكل أقل عمدًا؛ على سبيل المثال، أحدث الجيش أضرارًا جسيمة في أثناء التدريبات في سهل ساليسبري وفي جنوب فرنسا. ومع تراجُع خطر الحرب الباردة، أُطلق العنان للدبابات والبارود على تلال الدفن الخاصة بحقبة ما قبل التاريخ.
لكن يوجد عامل آخر أشد تدميرًا بكثير، وقد ظل معنا لآلاف السنين (مثل سرقة المقابر في مصر القديمة، الفصل السابع)، ولكنه تفشَّى في السنوات الأخيرة؛ ألا وهو نهب المواقع الأثرية ممن يحفرون بحثًا عن المكاسب المالية؛ إذ إنهم لا يبحثون إلا عن القطع الأثرية التي يمكن بيعها ويدمرون أي شيء آخر بشكل عام. والحرب يمكن أن تساعد هؤلاء إلى حد بعيد، كما هي الحال في لبنان، على سبيل المثال، حيث أدت الأعمال العدائية إلى نهب آثار البلاد وشحن آلاف الأطنان من القِطَع الأثرية سرًّا على يد الميليشيات والتجار المعدومي الضمير. كذلك، سرعان ما تدهورت حالة التماثيل الضخمة في معبد أنجور وات بكمبوديا في فترة الصراعات التي شهدتها البلاد، ويرجع السبب إلى انقطاع الترميم فترة طويلة، وكذلك إلى عمليات النَّهب الواسعة النطاق في فترة حكم بول بوت.
بعد سقوط بغداد عام ٢٠٠٣، تعرَّض المتحف الوطني بالعراق إلى عمليات نهب بكثافة، وسُرقت العديد من القِطَع الأثرية، ولم يُستعَد منها إلا عدد قليل. وفي ثورات الربيع العربي عام ٢٠١١، وقعت حوادث سرقة من المتحف المصري بالقاهرة، ولكن لحسن الحظ أن الشعب المصري حمَى المبنى ضد المزيد من الهجمات. وبطبيعة الحال، تكرر تعرُّض المتحف الأثري الوطني الأفغاني، الواقع خارج كابول، للقصف والنهب في تسعينيات القرن العشرين عندما كانت الفصائل تتقاتل عليه في ذلك البلد. ويُعتقد أنه سُرق ٧٠ في المائة من أصل ١٠٠ ألف قطعة معروضة، وقد تعرَّض المبنى إلى تدمير بالغ بنيران الصواريخ. واضح أن الحرب والثقافة لا يجتمعان.
أكثر ما يبعث على الحزن في هذه السرقات هو فقدان المعلومات حين تُقتطع هذه الاكتشافات من سياقها الأصلي. قد تحلو القطع الأثرية في أعيننا، ولكن المعلومات التي كان من الممكن أن تقدمها لا تقدَّر بثمن. الأمر أشبه بالفرق بين رؤية صور فوتوغرافية لأشخاص مجهولين من القرن الماضي لا تحمل أي تعليق توضيحي، ورؤية صور تحمل نصوصًا توضيحية عن تاريخ الصورة وموضوعها، وما إلى ذلك. ربما تجذب الصورة الأولى العين في بعض الأحيان أو تراها العين جميلة أو ممتعة (مثل الأزياء التي يرتديها صاحب الصورة)، ولكن المرء يحصل على المزيد بلا حدود من الصور التي تحمل نصوصًا توضيحية. وهذا ما لا يفهمه جامعو القِطَع الأثرية؛ إنهم يعرفون سعر كل قطعة ولكنهم لا يعرفون قيمتها.
من المؤكد أن اللصوص الحقيقيين لهذه الآثار هم جامعوها في عصرنا الحاضر. لا يسعُ المرءَ أن يلوم الفقراء البؤساء في بلدان العالم الثالث على تنقيبهم عن الأشياء «الثمينة» في باطن الأرض؛ إذ إنهم يعلمون أنهم سيكسبون مزيدًا من المال من أجل إطعام عائلاتهم حين يبيعون قطعة أثرية قيِّمة واحدة أكثر مما يكسبون من العمل الشاق. لكن في البلدان الأخرى مثل بريطانيا وأمريكا، توجد عصابات لصوص احترافية وجيدة التنظيم، ولا تمتلك أدوات عالية التقنية فحسب، بل إنها جيدة التسليح. وإذا لم توجد أسواق مستعدة وأُغلقت الأبواب بفاعلية، كما حدث في تجارة العاج منذ بضع سنوات، ستنخفض الأسعار وتختفي الأسواق وربما تنهار هذه التجارة. لكن لا تزال هذه الأسواق مزدهرة على الرغم من القوانين الصارمة التي تطبقها بعض البلدان. في الصين على سبيل المثال، قد يُعدَم اللصوص بجريرة سرقة المقابر القديمة وتهريب القِطَع الأثرية إلى خارج البلاد، على الرغم من أن كميات كبيرة من هذه القطع تهرَّب إلى هونج كونج بوتيرة تزيد سرعتها بصورة كبيرة، ومنها إلى جامعي الآثار حول العالم؛ على سبيل المثال، نهب اللصوص ٤٠ ألف مقبرة قديمة في الصين في العامين ١٩٨٩ و١٩٩٠ وحدهما، وفي النصف الأول من عام ١٩٩٤، صادر مسئولو الجمارك ٥٫٥ ملايين دولار أمريكي عن قيمة قِطَع أثرية مهربة في هونج كونج، أي أربعة أضعاف إجمالي عام ١٩٩٣ بأكمله، ومع ذلك لم يصادَر سوى جزء صغير من المسروقات. وفي عام ١٩٩٧، صادرت الجمارك الصينية أكثر من ١١٢٠٠ قطعة أثرية مهرَّبة، ونحو ٦٠٠٠ قطعة في النصف الأول من عام ١٩٩٨؛ وعلى الجانب الآخر، استُردَّت ٣٠٠٠ قطعة أثرية في عام ١٩٩٨ من القطع التي اكتشفتها الجمارك البريطانية في عام ١٩٩٤.
قيل: «إن اللصوص الحقيقيين هم جامعو الآثار»، وهذه عبارة صحيحة تمامًا. يبرر العديد من جامعي الآثار أنشطتهم؛ إذ يزعمون أنه من دونهم لن تُحفظ هذه «القطع الفنية» الجميلة، والمتاحف لا تمتلك الموارد الكافية للعناية بهذه القطع على النحو اللازم. يحمل الرأيان كلاهما وجهًا من الحقيقة، ولكن تفوقهما حقيقةٌ بسيطة مُرة مفادُها أن السوق والأسعار الفلكية التي تُدفع في قطع أثرية لتزيين الشقق في سويسرا أو أرفف المواقد في مانهاتن هي التي تُشبع جشع النهب في النهاية، وهي التي تتسبب في نهب وتدمير عشرات الآلاف من المقابر القديمة والمواقع الأخرى كل عام. حتى المتاحف لا تسلم من النهب الآن، حيث تُسرق القطع الأثرية المعروضة (ولا يمكن عرضها للبيع العلني) ويبدو أنها تكون حسب الطلب، والأرجح أن من يطلبها شخص تعيس أناني معتوه ومصاب بجنون العظمة، من أجل أن يفرح مستأثرًا بها لنفسه، وهو قابع يربت على قطة صغيرة ويحلم بالسيطرة على العالم، أو ربما بتغيير حياته.
الجانب الأكثر إشراقًا وأكثر ديمقراطية في شهرة علم الآثار هو ازدهار مراكز التراث والمتاحف حول العالم التي تضم أجهزة حاسوبية تفاعلية، وشاشات العرض الفائقة الحداثة الرائعة والتعليمية والمُسلية، والأماكن التي يمكن أن يمارس فيها المرء بعض أنواع علم الآثار التجريبي، وحتى «مراكز الاكتشافات العملية» التي توفر فرصة اللقاء مع علماء الآثار (وإن كان هذا لا يجذب الناس جميعًا في آن واحد). كذلك تُعرض الصور المجسمة في المتاحف الأكثر ثراءً، كما تتطور تكنولوجيا الواقع الافتراضي بحيث تمكِّن الناس من زيارة المواقع التي اختفت من الوجود (مثل دير كلوني الفرنسي في العصور الوسطى) أو التي لا يمكن فتحها أمام السياحة الجماعية (مثل كهفَي لاسكو وكوسكير المزيَّنَين في العصر الجليدي). ولذا في نهاية المطاف، سيُمارَس قدر كبير من السياحة الأثرية في المنزل، من فوق كرسي بذراعين، وهذا سيخفف الضغط على المواقع، على الرغم من أن التوسُّع السياحي وآفاق السياح الآخذة في الاتساع لا تبرح تضغط على مناطق جديدة.
لا تزال كل هذه الأشياء في بدايتها، ولم يُسمع عنها إلا منذ عقد أو عقدين؛ ومن ثَم، في ظل هذا التسارع الهائل للتكنولوجيا الحديثة، لا يُتخيَّل ما يحمله المستقبل من أجل علم الآثار في هذا المجال أو في طرق التأريخ الحديثة أو الاستطلاع باستخدام الأقمار الصناعية أو في الأدلة الجِينية الخاصة بأصول وتطور الإنسان والنباتات التي يزرعها والحيوانات التي يربيها. وكذلك سيزيد الاعتماد على أصحاب الخبرة في المجال. وهنا يسعُنا أن نقول: إن توجه إنجاز المزيد بقليل من الموارد سيستمر (الفصل الأول)، وفي الوقت نفسه ربما يكون هناك تأكيد متزايد على علم الآثار التاريخي في البلدان التي تعترض مجتمعات سكانها الأصليين — أو تحتاج إلى التشاور معهم — على العمل الميداني الجديد من أجل الاكتشافات الخاصة بحقبة ما قبل التاريخ (وهذا ما يحدث بالفعل في أستراليا وبلدان أخرى).
بوُسعنا أن نقول بقدر من اليقين: إن علم الآثار سيقل ارتباطه في المستقبل بقامات العلماء، وسيستمر هذا الحيود عن تلك الشخصيات و«الأسماء الكبيرة» التي شهدناها في القرن الذي نعيش فيه. ولا شك أن التدقيق من داخل المجال سيستمر مع تزايد الوعي بنقاط الضعف في فرضياتنا الأساسية، وبحقيقة أن الشعوب الأخرى لديها مطالب بشأن بقايا ماضيها؛ ستنتشر الأعمال النضالية لبعض الأقليات (الفصل الثامن) بسرعة إلى الأجزاء الأخرى من العالم، مثل أمريكا الجنوبية وأفريقيا. وقد حدث هذا في عام ٢٠٠٧؛ إذ إن المتحف الأثري بسان بيدرو دي أتاكاما في تشيلي — وكانت أشهر معارضه بعنوان «ملكة جمال تشيلي»، وهي مومياء أصلية عمرها ٣٠٠٠ سنة — أزال كل الرفات البشري من العرض بناءً على طلب المجتمع المحلي. وقد وُضع الرفات الآن في منطقة خاصة مغلقة بعيدًا عن مكان العرض. ومن ثَم ربما لم تغادر ملكة جمال تشيلي المبنى، ولكنها احتجبت عن أنظار العامة.
وما دامت بساتين علم الآثار «مثمرة»، وما دامت تتلقى الدعم والتمويل من العامة، فستستمر في الازدهار؛ لأنه العلم «الوحيد» الذي يَدرس ٩٩ في المائة من ماضي الإنسان. فعلم الآثار هو الذي ينبئنا حقًّا عن الأحداث الأساسية التي وقعت في ماضينا؛ مثل: متى وأين وكيف نهضت البشرية في المقام الأول، واستعمار البشر للكوكب، وتطور الفن والتكنولوجيا والكتابة، وأصول وانتشار الزراعة والمجتمعات ذات الطبقات، والتوسع العمراني. وما تناولناه غيض من فيض المعلومات التي يجتهد الباحثون في دراستها في جميع أنحاء العالم، ولا يزال هناك كثير مما لم يُنجَز بعدُ في كل مجال، حتى نصل في النهاية إلى الصورة الكاملة من أُحجية الصور المقطعة التي تصور تاريخ الإنسان. ونظرًا إلى الرؤية الفريدة الطويلة المدى لعلم الآثار، فإنه الوسيلة الوحيدة كي نرى «الصورة الكاملة». وإذا أردنا أن نعرف إلى أين يسير بنا الطريق، فعلينا أن نرتدَّ على آثارنا قَصَصًا كي نعرف من أين أتينا. وهنا تكمن أهمية علم الآثار.