التكنولوجيا
وفروا لنا الأدوات وسنُنجز المهمة.
يعتمد علم الآثار اعتمادًا كبيرًا على الأدوات التي خلَّفها أسلافنا؛ وتشمل هذه الأدوات كل شيء بدايةً من رقاقة الحَجَر إلى السفينة الحربية، وعلى مدار فترة طويلة، كان تقدُّم البشرية يقاس إلى حدٍّ كبير استنادًا إلى تطور التكنولوجيا. وفي الحقيقة، اختار العلم أن يقسم ماضي الإنسان إلى «عصور» متعاقبة؛ مثل العصر الحجري والعصر البرونزي والعصر الحديدي، ويتخللها العديد من التقسيمات الفرعية اللاحقة، وقد اعتمد هذا التقسيم على التطور التكنولوجي. وعلى الرغم من مَنح الأنماط الأخرى للماضي قدرًا مساويًا أو أكبر من الاهتمام، كانت الأدوات، ولا تزال، عماد وجود الإنسان، كما أن كل الأدوات المتطورة في عصر الكمبيوتر انبثقت من الأدوات البسيطة التي خلَّفها أسلافنا. وعلى إثر ذلك، تمتلئ جعبة السجلات الأثرية بالمصنوعات اليدوية التي صنعها الإنسان.
يشمل «العصر الحجري القديم» ما يزيد على ٩٩ بالمائة من السجلات الأثرية، ويمتد هذا العصر من أول أداة يمكن تمييزها وعمرها ٢.٥ مليون سنة وحتى ١٠ آلاف سنة، وكانت الأدوات الحجرية هي السائدة في ذلك الزمان. وعلى الرغم من أن أجيالًا من العلماء كرَّسوا حياتهم لإجراء تحليلات وإعداد تصنيفات مفصَّلة لهذه الصخور، فليس لدينا أي فكرة عن مدى أهميتها أو عدم أهميتها لدى صانعيها. كذلك الأدوات الحجرية لا تتلف تقريبًا، في حين نجد المواد العضوية — مثل العظام والقرون والخشب والجلود والأوتار والحبال والسلاسل والريش وغيرها — تتحلل في معظم الظروف الطبيعية. ومن ثَم فقد فقدنا الجزء الأكبر من مجموعة أدوات العصر الحجري القديم إلى الأبد. ربما يكون الاسم الذي أطلقناه على تلك الفترة — «العصر الحجري» — مضلِّلًا، وربما كان الأَولى أن نطلق عليه اسم «العصر الخشبي القديم». وبالتأكيد تشير تحليلات التآكل في العديد من الأدوات الحجرية (انظر التالي) إلى أنها استُخدمت لمجرد شراء المواد العضوية أو لصناعة الأدوات منها. وهذا ما اعتمدت عليه تكنولوجيا العصور الأولى في الحقيقة.
بالطبع، كما هي الحال دومًا في علم الآثار، علينا أن نبذل قصارى جهدنا في مهمة مضنية، وبدلًا من أن ننهال باللعن على عدم اكتمال ما وصل إلينا (الصانع السيئ يلوم أدواته)، علينا أن نعمل وَفق ما يتوافر بين أيدينا. وفي الواقع، تعيش الآثار الباقية من العصر الحجري القديم في بعض الأحيان، مثل بعض الألواح الخشبية والرِّماح وقطعة حبل في كهف لاسكو بفرنسا، وآثار سِلال أو منسوجات على الطين الحراري في بافلوف، وهو موقع تشيكي يعود عمره إلى ٢٦ ألف سنة. وبالنسبة إلى العصر الحجري القديم الأعلى (أي منذ ٤٠ ألف سنة إلى ١٠ آلاف)، لا تزال الأدوات المصنوعة من العظام والقرون باقية بأعداد كبيرة.
في الماضي، كانت الأدوات الحجرية توصف وتصنَّف طبقًا لأشكالها أو تقنية تصنيعها أو وظيفتها المفترضة. أما في العصر الحاضر، فإننا نعرف المزيد عن هذه الأنماط. يعود جزء كبير من الفضل في دراسات «التآكل المجهري» (أي الآثار الدقيقة الباقية على الأدوات بسبب وظائفها) إلى العمل الرائد الذي أنجزه سيرجي سيمينوف من الاتحاد السوفيتي في خمسينيات القرن العشرين، وقد اعتمد على ميكروسكوب عادي كي يدرس حالات الصقل المتنوعة والتصدُّعات في الأدوات الحجرية. ولكن هذه الدراسات دخلت مرحلة جديدة حينما ظهر الفحص بالميكروسكوب الإلكتروني؛ إذ إنه يتيح فحص التآكل المجهري عن قرب أكبر وبتفاصيل أكثر.
في بعض الحالات، يمكن تتبع عملية الإنتاج الأصلية عبر الملاحظة البسيطة للبقايا الأثرية؛ على سبيل المثال، يوجد في محجر التماثيل في جزيرة الفصح مئات التماثيل غير المكتملة أو المهملة التي توضح كل مرحلة من مراحل التصنيع، وفي موقع كاستيلبرج بجنوب أفريقيا الذي يعود تاريخه إلى نحو عام ٩٥٠ ميلادية، توجد منطقة تصنيع؛ حيث تُرى كل خطوة في عملية تصنيع أدوات عظمية معينة، وأيضًا بإمكان المختصين «تحليل» العينات الباقية من المنتجات المخيطة في العصور الأولى — من أمريكا الجنوبية على سبيل المثال — حيث إنهم قادرون على فهم مراحل التصنيع المحددة. وبالمثل، فإن فحصًا بسيطًا للأوعية الفخارية يكشف ما إذا كانت شُكلت يدويًّا أم باستخدام عجلة صنع الأواني الفخارية. كذلك توفر المنتجات الثانوية للمصنوعات المعدنية — السبائك ونُفايات الصَّهر والقوالب والمساكب والمصبوبات غير المكتملة والنُّفايات المعدِنية، وما إلى ذلك — أدلةً على طرق التعدين؛ فقد أنتج مسبك برونزي عمره ٥٠٠ سنة قبل الميلاد في الصين ما يزيد على ٣٠ ألف قطعة من هذا النوع.
نُفِّذت كذلك العديد من الإجراءات التجريبية المستخدَمة في دراسة الأدوات الحجرية عند دراسة تكنولوجيا المواد الأخرى والأدوات الخاصة بالعصور اللاحقة؛ مثل الأدوات الخشبية والألياف والمنسوجات والأدوات الفخارية والزجاجية ومختلف الأنواع من الأدوات المعدنية. على سبيل المثال، نفَّذ الباحث الإيطالي فرانشيسكو ديريكو تجارب لوضع المعايير المجهرية الخاصة بالتعرف على الآثار المتبقية على الأدوات المصنوعة من العظام والقرون والعاج، عن طريق الاستخدام الطويل الأجل، ونقلها واتخاذها باعتبارها معلقات. وأيضًا، نُفذ عدد لا يُحصى من التجارِب التَّكرارية التي تنطوي على صناعة الفخار والمعادن، ومن دونها ستكون معرفتنا بمثل هذه التكنولوجيا بدائية في أحسن الأحوال.
في الحقيقة، أصبح هذا النوع من «علم الآثار التجريبي» فرعًا رئيسيًّا في المجال؛ فقد أُنشئت «قُرًى» كاملة في العديد من البلدان — لا سيما في شمال غرب أوروبا — لدراسة التقنيات المتنوعة، مثل بناء المنازل والزراعة والجزارة والتخزين، وصناعة الفخار أو الأدوات الحجرية أو الأدوات المعدنية.
بطبيعة الحال، حتى وإن ظلت هذه التجارب تنفَّذ على مدار عقود، فإنها ستبقى قصيرة الديمومة حين تقارَن بالمهارات والبراعة المتراكمة التي ظلت تُتَوارث على مدار قرون وآلاف السنين في الماضي السحيق؛ ولا يسعُ أي تجربة رصدية في الوقت الحاضر أن تبرهن على شيء من الماضي على وجه اليقين. وعلى الرغم من ذلك، فإن الأفكار المحدودة التي توفرها هذه التجارب لا تزال مهمة ومفيدة، كما أن العديد منها يمكن أن يُتَّخذ على سبيل الاستمتاع. فحين يُسمح للإنسان بإحراق منزل، أو مهاجمة زميل بسيف برونزي، أو الرجم بحجر، أو تلويث جدار أو تنُّور بروث ماشية، يمكن أن يُطلق العنان لكل الشر الذي بداخله ويسمي ذلك «عِلمًا».
يوجد نهج مشابه لهذه التجارب، غير أنه ليس عمليًّا بقدرها، ويطلق عليه اسم «علم الآثار الإثنوجرافي». على مدار فترة طويلة، أصاب الإحباط علماء الآثار بسبب قلة المعلومات المفيدة التي يُمدهم بها علماء الأنثروبولوجيا عن الشعوب «البدائية» الموجودة في وقتنا الحاضر. فقد أصاب هؤلاء العمال الميدانيين الهوس بأنظمة القرابة والنَّسب وأعمال السحر وما شابهها؛ لدرجة أنهم لم يهتموا كثيرًا بالجوانب التي تمثل أهميةً كبرى لدى علماء الآثار؛ أي لم يهتموا كيف أنتجت هذه الشعوب ما من شأنه أن يصبح سجلًّا أثريًّا. وقد برهنت صناعة الفخار على أنها ذات شهرة خاصة في دراسات علم الآثار الإثنوجرافي، ولكن يريد علماء الآثار أن يعرفوا عن كل الأشياء؛ أي يريدون معرفة كيف صُنعت هذه الأدوات، ومتى ولماذا، ومَن صانعُها، وما مقدار الوقت والجهد المبذول في الاستثمار فيها، ولماذا زُينت بطرق معينة، وكم مرة كُسرت وما ظروف الكسر، وكيف وأين تخلصوا منها؛ يريدون معرفة الأنشطة اليومية الرتيبة التي عادةً ما تمرُّ دون أن تُلحظ إلا أن تصبح محط اهتمام على وجه التحديد، حتى في مجتمعنا. يهتم علم الآثار إلى أقصى حد بالأمور التافهة، مثل توزيع القمامة، والنمط على وعاءٍ ما، وشكل بلاطات السقف.
هذا الاهتمام الزائد بالتفاصيل التي تبدو غير مهمة يعزز لدى غير المختصين في علم الآثار انطباعًا أنه علمٌ لا أهمية له ورفاهية عديمة الفائدة. وفي عالمٍ تحكمه قوى السوق، لا بد لعلم الآثار أن يبرر وجوده؛ لا بد أن يثبت قيمته كي يلقى الدعم اللازم. وفي بعض المناطق، يجد علم الآثار قيمته في الأهمية الكبرى للسياحة (الفصل التاسع). وفي أماكن أخرى، قد يكون لعلم الآثار مِيزة كبرى في بعض التطبيقات العملية؛ على سبيل المثال، يُعتبر «علم الآثار الزلزالي» ذا أهمية في الصين؛ إذ تسجل النقوش القديمة والوثائق الزلازل في الماضي، وكذلك الأمر في الشرق الأدنى؛ إذ تعود الأدلة التاريخية والكتابية والأثرية على الزلازل القديمة إلى ١٠ آلاف سنة. وأيضًا يمكن أن يعطي رفات الإنسان معلومات مفيدة عن تاريخ بعض الأمراض وعن علوم الأمراض.
على الرغم من ذلك، تكمن أبرز الإسهامات العملية في مجال تكنولوجيا الزراعة. وفي بعض الأحيان، يكون لعلماء الآثار فضل كبير في ري الصحاري القاحلة أو في زيادة غلة المحاصيل زيادةً هائلة. لكنهم لا يفعلون ذلك من منطلق براعتهم، بل من منطلق إحياء الحكمة المنسية التي تمتَّع بها أسلافنا. على سبيل المثال، سكن شعب الأنباط الذي قطن صحراء النَّقب الإسرائيلية قبل ٢٠٠٠ عام في المدن، وزرع العنب والقمح والزيتون. وتضافر التصوير الجوي مع علم الآثار وكشفا أنهم تمكَّنوا من ذلك عبر نظام بارع لتوجيه مياه الأمطار التي تهطل من العواصف الممطرة النادرة في المنطقة إلى قنوات الري وخزانات المياه. ومن ثَم تمكَّن العلماء من استخدام الطرق نفسها لإعادة إعمار المزارع القديمة في المنطقة وقد أصبحت تنتج محاصيل وافرة حتى في سنوات الجفاف.
الأكثر إبهارًا هو الأحداث التي وقعت في منطقة الهضاب العالية في بيرو وبوليفيا. فقد كشف التصوير الجوي والتنقيب عن أنه في سنة ١٠٠٠ قبل الميلاد تقريبًا، فإن المنطقة المحيطة ببحيرة تيتيكاكا خُصص فيها ما لا يقل عن ٢٠٠ ألف فدان لنظامٍ زراعي يقوم على «الحقول المرتفعة»، وهو عبارة عن أسطح زراعية مرتفعة تتكون من التربة المحفورة من القنوات التي بينها. وقد برع أهل المنطقة في تهيئة المنطقة بحيث تتوافق مع ظروف الارتفاع بمقدار ٤ آلاف متر، ومع الظروف المحلية والمحاصيل الجذرية التقليدية. وعلى الرغم من ذلك، فقد هُجرت هذه المنطقة بعد غزو الإنكا منذ ٥٠٠ سنة، وقد أثبتت الميكَنة الزراعية الثقيلة والمخصبات الكيميائية والري والمحاصيل المستوردة فشلًا ذريعًا في هذا المناخ. ولذا طهَّر علماء الآثار بعض الحقول القديمة المرتفعة وأحيَوها، ولم يستخدموا غير الأدوات التقليدية وزرعوا فيها البطاطس وغيرها من المحاصيل الجذرية التقليدية. لم تتأثر الحقول بالجفاف الشديد ولا بالصقيع ولا بالفيضانات الجارفة، كما أثمرت المحاصيل سبعة أضعاف محاصيل الحقول ذات الزراعة الجافة. والآن، تتبع عشرات المجتمعات وآلاف الناس أساليب الزراعة التي ابتكرها أسلافهم، وذلك بفضل علماء الآثار.
وعلى الجانب الآخر، بإمكان علم الآثار أن يَلفت الانتباه إلى الكوارث البيئية في الماضي والتي كان للإنسان دخل كبير في حدوثها، مثل الانهيار المفاجئ الذي وقع عام ٩٠٠ بعد الميلاد لمدينة البتراء البيزنطية، بعد قرون من إزالة الغابات بطريقة مجحِفة، أو مثل الحالة الأكثر تخريبًا لإزالة الغابات في جزيرة الفصح، التي طمرت، تقريبًا، ثقافة العصر الحجري الفريدة في تلك الجزيرة الصغيرة (أشير إلى هذه القصة — بحبكتها مع قصة روميو وجولييت — في فيلم «رابا نوي» الذي أُنتج عام ١٩٩٤، وقد تبين أنها واقعة كارثية على حدٍّ سواء).
تتوارد الأمثلة الأخرى من شعب الأناسازي الذي عاش في جنوب غرب أمريكا. فقد كانت مستوطنات منطقة تشاكو كانيون متقدمة للغاية، واحتوت على أكبر وأعلى المباني في أمريكا؛ إذ إنها تضاهي ناطحات السحاب. بدأ تشييد هذه المباني في القرن العاشر بعد الميلاد، وقد استُخدم فيها ما يزيد على ٢٠٠ ألف شجرة صنوبر وتنوب. وقد أعطت بقايا النباتات المتصلبة في البول المتبلور في أكوام القاذورات التي خلفتها حيوانات جرذان الغابة نظرة عن التغيرات التي طرأت على الغطاء النباتي للمنطقة بمرور الوقت، وبات واضحًا أن عمليات قطع الأشجار المجحفة استمرت على مدار قرون، ولم تكن من أجل الحصول على مواد البناء فحسب، بل لتلبية متطلبات الوقود الناجمة عن زيادة السكان. ولم تكن ثَمة حيلة لإيقاف الأضرار البيئية الواسعة والناجمة عن ذلك، وقد كانت من العوامل الرئيسية لهَجر الموقع. بعبارة أخرى، بمقدور علم الآثار أن يوصل رسائل قوية من الماضي، ولكن للأسف، وكما قالوا قديمًا، الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم من التاريخ أبدًا.