كيف كانت معيشة الناس قديمًا؟
جزء كبير من علم الآثار مكرَّس لدراسة «أنماط الحياة لدى أناس أصبحوا في عداد الموتى وأصحاب القبور»، إذ يحاول أن يخمِّن كيف كانت أحوال الناس، وكيف كانت أحوالهم الصحية، وماذا كان طعامهم، وما أسباب موتهم. ليس بالضرورة أن تكون ثَمة صلة بين الطعام وأسباب الموت، على الرغم من أن زوجة الماركيز داي السمينة — من القرن الثاني قبل الميلاد في الصين — ماتت فيما يبدو إثر أزمة قلبية بسبب ألم حاد في حصواتها الصفراوية بعد ساعة، أو نحو ذلك، من التهام كمية كبيرة من البطيخ (فقد عُثر على ١٣٨ بذرة بطيخ داخل معدتها وأمعائها في جثتها المحنطة). يبدو أن هذه السيدة أحبَّت الطعام؛ إذ احتوت مقبرتها على عدد كبير من الأطعمة المعبأة في أوعية، وعلى الأوعية ملصقات وقصاصات تصف مكونات هذه الأطعمة؛ وكأنها نوع من الوجبات السريعة الصينية لصاحبة القبر!
كسب العيش — السعي من أجل الطعام — أهم ضرورة من ضرورات الحفاظ على الحياة، وقد طور علم الآثار العديد من الطرق لدراسة مفاتيح الأدلة التي تبين أنواع الأطعمة لدى الشعوب القديمة. الغالبية العظمى من هذه المفاتيح تتخذ شكل بقايا الحيوانات والنباتات التي قد توجد في المواقع التي كان يقطنها الإنسان، والتي يدرسها علماء الآثار المهتمون بعلم الحيوان وعلم النبات على التوالي. وبالفعل تكون هذه البقايا «في بعض الأحيان» مما أكله الإنسان، ولكن ليس بالضرورة أن تكون كل البقايا كذلك. فالنباتات على سبيل المثال يمكن استخدامها في العديد من الأغراض، بدايةً من المادة الخام وحتى الأدوية، وكذلك الحيوانات تؤخذ منها مواد مفيدة، مثل العظام وقرون الوعل وقرون الحيوانات الأخرى والعاج والدهون والأوتار والجلود والفراء، وكذلك يؤخذ من الطيور العظام والريش. إضافة إلى ذلك، يُحتمل أن الحيوانات المفترسة الأخرى جلبت العديد من البقايا العضوية — لا سيما بقايا الحيوانات والطيور — إلى الموقع، أو ربما كانت حيوانات مستأنَسة (على الرغم من أن الكلاب والخنازير الغينية كانت تأكلها شعوب بعض الثقافات في الماضي، ولا تزال في بعض بقاع الأرض).
الدليل الوحيد الذي لا يقبل الشك على أن النبات أو الحيوان قد أُكل بالفعل هو وجوده في معدة الإنسان أو برازه المتحجر (الغائط القديم). ولكن نظرًا إلى ندرة هذه الاكتشافات، فلا مناص من افتراض أنها مأكولات، وينبغي التوصل إلى هذا الاستدلال من سياق الاكتشافات وظروفها، مثل الحبوب المتفحمة في الفرن، أو العظام المقطعة أو المحترقة، أو البقايا في الأوعية. على سبيل المثال، لا يقول اللبيب إن السكان في موقع من مواقع العصر الحجري القديم تنتشر فيه عظام أيلِ الرنَّة كانوا نباتيين، وصادف أنهم لم يحبوا لحم أيل الرنة! أو ربما احتاجوا إلى قدر كبير من العظام والقرون والجلود، وعافت أنفسُهم أكل اللحم، ولكن هذا المثال محتمل من الناحية النظرية.
حتى إن وُضع افتراض مقبول بأن البقايا بقايا طعام، فثَمة تحديات أخرى ينبغي مواجهتها. على سبيل المثال، يجب على المرء أن يحاول ويكتشف العلاقة النسبية للأطعمة المختلفة؛ فعادةً ما تكون النباتات منقوصة التمثيل؛ لأن بقاياها غالبًا ما تُحفظ بحالة سيئة، هذا إن تحللت بالكامل. وينطبق الأمر نفسه على عظام الأسماك. وأيًّا ما كانت بقايا الطعام، فعلى المرء أن يقرر هل هي بقايا حيوانات برية أم مستأنَسة، وهل تمثل حقًّا النظام الغذائي لقاطني المكان أم لا، وقد ينطوي هذا على تخمين وظيفة الموقع، ومدة البقاء فيه (سواء أكانت قصيرة أم طويلة الأجل)، وهل كان موطنًا غير منتظم أم موسميًّا أم دائمًا؛ فالمسكن طويل الأجل من المرجَّح أن توجد فيه بقايا طعام تمثيلية أكثر من موقع الذبح أو المعسكر المتخصِّص.
في السنوات الأخيرة، طُورت تقنيات حديثة معقدة بإمكانها أن تكتشف بقايا الطعام، وغالبًا ما تحددها على الأدوات والأوعية من الداخل. على سبيل المثال، في جُزر سليمان بميلانيزيا، عُثر على بقايا نشا على أدوات حجرية يعود تاريخها إلى ٢٨٧٠٠ سنة، وهذا الاكتشاف يمثل أقدم دليل في العالم على استهلاك النباتات الجذرية (القلقاس). وأثبت التحليل الكيميائي للبقايا في الأمفورات (جرار تخزين كبيرة من العصر الروماني) أن العديد منها احتوى على نبيذ وزيت زيتون — طبقًا لما افتُرض — ولكن بعضها احتوى على دقيق القمح. ظهرت أدلة من العصور الأولى على وجود النبيذ — وهذا الموضوع يروق كثيرًا لعلماء الآثار — من تحليل بقايا مائلة إلى اللون الأصفر داخل جرة فخارية من أحد مواقع العصر الحجري الحديث في حاجي فيروز تيبي بإيران، يعود تاريخها إلى ٥٤٠٠ إلى ٥٠٠٠ سنة قبل الميلاد. وقد تحددت هذه البقايا بأنها حمض الطرطريك، ويكاد يكون موجودًا بشكل طبيعي وحصري في العِنب؛ ولذا اعتُبر هذا دليلًا على تصنيع النبيذ المعالج بالراتنج، وهو الأقدم في العالم؛ إذ إنه أقدم بمقدار ٢٠٠٠ سنة مما كان يُعتقد سابقًا. إضافة إلى ذلك، عُثر على آثار نبيذ في جرة سومرية بسعة ٣٠ لترًا في موقع يُسمى جودين ديبي في غرب إيران، يعود تاريخها إلى نحو ٣٥٠٠ سنة قبل الميلاد، وفي الوقت نفسه حوت قطع فخارية في الموقع نفسه آثار إنتاج بيرة الشعير، وهذا دليل واضح على أن قدماء الإيرانيين عرفوا كيف يقضون أوقاتًا مرحة، ولم يقتصر الأمر على الإيرانيين؛ فقد عُثر على مقبرة لأحد ملوك مصر الأوائل في أبيدوس يعود تاريخها إلى نحو سنة ١٥٠ قبل الميلاد، وهذه المقبرة فيها ثلاث غُرف معبَّأة بعدد ٧٠٠ جرة، وأكَّد التحليل الكيميائي للقشور الصفراء الباقية فيها أنها كانت تحتوي على النبيذ، وقد بلغ إجمالي سعة الجرار ١٢٠٠ جالون!
كشفت التحليلات الكيميائية للمواد العضوية القديمة الممتصَّة في الجِرار الفخارية من العصر الحجري الحديث التي عُثر عليها في قرية جياهو بالصين أن صناعة شراب الأرز والعسل وبعض الفاكهة (ربما العنب) تعود إلى ٩٠٠٠ سنة؛ ومن ثَم فإن «نبيذ الأرز» الصيني أقدم نبيذ عُرف حتى الآن!
اكتشف علماء الكيمياء كذلك على آثار أفيون في زهرية من قبرص عمرها ٣٥٠٠ سنة، ما يوحي إلى بعض العلماء أن تجارة المخدِّرات كانت موجودة في دول شرق البحر الأبيض المتوسط حينذاك. أما في بريطانيا على الجانب الآخر، فعُثر على أوعية فخارية قديمة، ويُرجَّح أنها كانت تحوي موادَّ أقل تحفيزًا، مثل بقايا الكرنب الملفوف.
فيما يتعلق ببقايا الحيوانات، فإنها أيضًا لا تمثل إلا جزءًا صغيرًا لما كان موجودًا في الأصل؛ فالعظام ربما أُزيلت من الموقع أو استُخدمت في صناعة الأدوات أو غُليت للتخزين أو أكلتها الكلاب أو الخنازير. لكن لم تترك الأطعمة المهمة الأخرى، مثل اليرقات أو الدم، أي أثر؛ وعلى الرغم من أننا نميل إلى افتراض أن النظام الغذائي عادةً ما اعتمد على الحيوانات آكلة العشب والأسماك، فربما في بعض الثقافات أُكلت الحشرات؛ فقد عُثر على الجراد في فرن خاص في ملجأ صخري بالجزائر يبلغ عمره ٦٢٠٠ سنة.
من المجالات الشائكة حتى الآن أكل لحوم البشر؛ والطريقة الوحيدة لإثبات أنها وُجدت في الماضي بالفعل هي العثور على قطع من أنسجة بشرية في معدة إنسان أو برازه المتحجِّر، ولكن لم يعثر أحد على شيء من هذا حتى الآن. أظهرت عمليات إعادة التقييم الأخيرة للأدلة الأثرية والأنثروبولوجية على أكل لحوم البشر أن كل المزاعم مفتوحة لتفسيرات أخرى، مثل العنف أو الطقوس الجنائزية المعقدة، ولكن يُصِرُّ بعض العلماء على تفسير عظام الإنسان المفسوخة أو المصابة بكدمات أو التي عليها علامات جروح — كتلك التي في بعض مواقع شعب الأناسازي في جنوب غرب أمريكا ويبلغ عمرها تقريبًا ١١٠٠ سنة قبل الميلاد — بأنها أدلة على أكل لحوم البشر. التفسير يحتمل الصحة، ولكن لا سبيل بالفعل إلى معرفة ذلك؛ فكثير من الاكتشافات في علم الآثار تتأثر بمسألة الإيمان والتفضيلات الشخصية. ولا نعلم على وجه اليقين، إلا من الحالات الأخيرة، أن أكل لحوم البشر يمكن أن ينشأ بالتأكيد بين أناس فقدوا الأمل في العثور على طعام ويريدون الحفاظ على حياتهم (مثل ما حدث على إثر تحطم طائرة الإنديز، أو في معسكرات الاعتقال النازية) وبين المصابين باضطراب في العقل، ولكن وجود «عادة أكل لحوم البشر» — حيث تكون جزءًا مألوفًا أو شعائريًّا من حياة الناس — أصبح موضع شك كبير على مدار السنوات القليلة الماضية؛ فالحالات ذات التوثيق المحكم القائمة على الرصد المباشر بدلًا من الشائعات أو الدعايات نادرة للغاية في الحقب التاريخية، ومن ثَم يشق علينا تقدير مدى شيوع هذه العادة في زمن ما قبل التاريخ، فضلًا عن شيوعها في الماضي السحيق.
وكما هي الحال مع النباتات، فإن بقايا الحيوانات تطرح أفكارًا بالغة الأهمية، رغم استمرار احتدام الجدال حول موضوع الأدوات الحجرية الدموية، وكذلك لا يزال الخلاف قائمًا حول الادِّعاءات بأن بُقَع الدم يمكن أن تبقى على المصنوعات اليدوية لآلاف السنين، ويمكن تحديد الكائن الذي تنتمي إليه. وقد كشف التحليل الكيميائي للبقايا في الأوعية على وجود مواد مثل الحليب والجبن والدهن.
كثيرًا ما صُورت المأكولات النباتية والحيوانية في الفن والأدب، مثل النماذج الخشبية الموجودة في المقابر المصرية وتصور الخبيز والتخمير، والنصوص التي تصف طعام الجيش الروماني، والنصوص الهيروغليفية المصرية التي تتحدث عن حِصَص العمال من الذُّرة، وأقدم كتاب طهي في التاريخ، وهو عبارة عن ثلاثة ألواح بابلية من الطين يبلغ عمرها ٣٧٥٠ سنة، ويحتوي على ٣٥ وصفة لمختلف الطواجن الغنية باللحوم. ولكن بغضِّ النظر عن وفرة الأدلة من الفنون والنصوص، فإنها تعطي لمحات خاطفة عن عيش الكفاف. لكن حتى هذه اللمحات الخاطفة تنبثق من اكتشافات عرضية لأكلات حقيقية، مثل الأكلات التي عُثر عليها في مدينة بومبي الرومانية؛ إذ إنه لما طُمرت المدينة تحت الأرض بفعل انفجار بركاني في عام ٧٩ ميلادية، عُثر على أكلات السمك والبيض والخبز والمكسرات سليمة على الطاولات بالإضافة إلى الأطعمة في المتاجر؛ ولكن هذه ليست سوى عينة صغيرة من مأكولات يوم واحد. ينطبق الأمر نفسه على الأدلة (لدى أصحاب البِنية القوية والأمعاء القوية) التي اكتُسبت من القنوات الهضمية في الأجسام المحفوظة أو من الغائط البشري. فقد عُثر على مومياء رجل تولوند من العصر الحديدي في مستنقَع دِنماركي، واكتُشف أنه تناول عصيدة قبل الوفاة (وحاول السِّير مورتيمر ويلر، في عملٍ رائد من علم الآثار التجريبي، أن يعيد صناعة هذا الطعام، ووجد أن مذاقه كريه)، وكذلك اكتُشف أن رجل ليندو البريطاني أكل فطيرة الرقاق المحلاة، وهي نوع من الخبز الخشِن. وكشف تحليلٌ لعينات براز متحجِّر من كهف لافلوك بولاية نيفادا يبلغ عُمر بعضها ٢٥٠٠ إلى ١٥٠ عامًا عن وجود بذور وقطع صغيرة من ريش الطيور وقشور الأسماك؛ وواحد من هذا البراز عمره ألف سنة احتوى على حسَك من ١٠١ سمكة صغيرة من أسماك الشوب، وهذه تمثل إجمالي وزن ٢٠٨ جرامات (٧٫٣ أونصات) للسمكة الحية، وهذه كمية سمك في وجبة فرد واحد.
الوجبات بكل أشكالها لها قيمة، ولكن دائمًا ما يحبذ علم الآثار النظرات طويلة المدى (وهذا صلب تخصصه على كل حال) التي تتطلب تقييمات للنظام الغذائي. ومن سُبل تحقيق هذه الغاية دراسة تراكمات بقايا الطعام على مدار فترة من الزمن — في تعاقب الطبقات المتراصَّة في الموقع — ولكن توجد طرق مباشرة أكثر للمعرفة عن النظام الغذائي، وهي دراسة تآكل الأسنان وكيمياء العظام. والسبب في ذلك أن «أجسامنا تتكون مما نأكله»، بمعنى أن النظام الغذائي له تأثير جذري في الأسنان؛ نعم، والدتك على حق، كما يترك النظام الغذائي بصمات كيميائية مميزة في العظام.
تتكون الأسنان من أصلب نسيجين في الجسم؛ ولذا فإنها عادةً ما تبقى بحالة جيدة. ويُظهر الفحص المجهري لأسطح الأسنان عن وجود تآكلات وكشوط يمكن أن يكون لها علاقة باللحوم والنباتات في النظام الغذائي. وكما هي الحال مع دراسات التآكل المجهري في الأدوات (الفصل الثالث)، فإننا نعرف من عينات حاضرة في زماننا — وهنا لا تكون هذه العينات نُسخًا بل أناس أحياء، مثل شعب الإسكيمو آكل اللحوم أو شعب ميلانيزيا النباتي — ما أنواع البقايا التي تتركها الأنظمة الغذائية المختلفة؛ ومن ثَم يمكننا التحلِّي بقدرٍ من الثقة في مطابقة الأمثلة الأثرية بهذه العينات. وبذلك، يتبين أن الإنسان القديم بدأ يقلل كميات اللحوم بمرور الوقت، ويُدخل نظامًا غذائيًّا أكثر تنوعًا. وقد ينطوي تحلُّل الأسنان على معلومات وفيرة؛ إذ إنه يدل على تناول كميات كبيرة من النشويات والسكريات.
قد تكشف الأسنان عن موطن نشأة الإنسان؛ ومن ثَم تُبين هِجراته في حياته لاحقًا. تتكون طبقة المينا على الأسنان في مرحلة الطفولة؛ ومن ثَم بإمكان بنيتها الكيميائية أن تلقي الضوء على الفترة الزمنية التي تكونت فيها، وذلك عبر نظائر الأكسجين والسترونتيوم التي تحتوي عليها. يُكتسب الأكسجين من شرب المياه، وفي المناخ الحار تزيد نسبة أكسجين-١٨ على نسبة أكسجين-١٦، وتقل نسبته في المناخ البارد. أما السترونتيوم فيأتي من جيولوجيا المنطقة، ومن ثَم فإن نسبة السترونتيوم-٨٧ إلى نسبة السترونتيوم-٨٦ تختلف حسب المنطقة الجغرافية؛ فهذا العنصر ينتقل من الصخور التي تعرضت للتجوية إلى التربة ثم إلى السلسلة الغذائية، ثم ينتهي بها المآل إلى عظام الإنسان وأسنانه. وبالجمع بين النظيرين، ربما يُستدل على المكان الذي قضى فيه الإنسان طفولته. على سبيل المثال، كشفت أسنان «نبَّال أميسبوري» — وهو هيكل عظمي لرجل عاش في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وقد عُثر عليه مدفونًا بالقرب من ستونهِنج عام ٢٠٠٢ — أنه نشأ في مناخ أشد بردًا من مناخ إنجلترا، وفي الوقت نفسه نسبة السترونتيوم استبعدت معظم المناطق الشمالية؛ ومن ثَم يُعتقد أنه ربما وُلد في منطقة عند سفح جبال الألب ثم انتقل إلى إنجلترا في مرحلة لاحقة من حياته.
لكن الإنجاز الأعظم تحقَّق لما أدركنا أن التحليل الكيميائي للكولاجين في عظم الإنسان يمكن أن يكشف لنا الكثير عن النظام الغذائي ذي المدى الطويل. تحتوي مختلف أصناف النباتات على نِسَب مختلفة من نظائر معينة من الكربون أو النيتروجين، وبما أن النباتات تأكلها الحيوانات، فهذه النسب تكون ثابتة في الأنسجة العظمية لدى الحيوان والإنسان. ومن ثَم فإن تحليل الكولاجين يمكن أن يُبين أي النباتات البحرية أو البرية التي كانت سائدة في النظام الغذائي؛ ومن ثَم الموارد البرية أو البحرية من الأنواع الأخرى. وتفيد هذه التقنية في اكتشاف التغير على مدار الزمن إذا توافرت عظام بشرية من فترات مختلفة. على سبيل المثال، كشفت عظام من سهول أورينوكو الفيضية في فنزويلا عن تحول جذري؛ من نظام غذائي غني بصنف من النباتات (يشتمل على نباتات المنيهوت) في عام ٨٠٠ قبل الميلاد، إلى نظام غذائي قائم على النباتات، مثل الذرة، بحلول عام ٤٠٠ بعد الميلاد.
يحظى موضوع دراسة رُفات الإنسان بشعبية جارفة بين العامة الذين يعشقون الأشياء المروعة والمخيفة؛ فدائمًا ما تكون المومياوات عوامل جذب كبرى في المتاحف. لكن الكتب القصيرة التي تتحدث عن علم الآثار بوجه عام تذكر النَّزر اليسير أو لا تتعرض إلى الحديث عن الناس أنفسهم، بل إنها تصب تركيزها على أدواتهم ومساكنهم وفنونهم وسلوكياتهم. وهذا موقف غريب؛ ففي نهاية الأمر، إذا كان علم الآثار يهدف إلى إعادة إحياء حياة الذين قدموا هذا السجل الأثري، فما الدليل المباشر أكثر من رُفات الممثلين في المسرحية التي نحاول أن نعيد عرضها؟
على الرغم من أن هذا الرفات نقَّب عنه عالم الآثار، فقد تُركت مهمة دراسته لعالم الأنثروبولوجيا. لكن بغضِّ النظر عن هُوية من أجرى التحليل، فإن البيانات الناتجة عنه ذات أهمية كبيرة. فرُفاتُ الإنسان من شأنه أن يُبين عمر المتوفى وجنسه ومظهره وحالته الصحية، وسبب موته في بعض الأحيان، وحتى أقارب العائلة في أحيان أخرى. وفي السنوات الأخيرة، بدأت التطورات الجديدة في علم الكيمياء الحيوية — لا سيما في علم الوراثة — أن يحل محل الاعتماد الكبير على العظام، كما أن دراسة الحمض النووي لأصحاب العصور الأولى — ولا يقتصر الأمر على البشر (بما في ذلك إنسان النياندرتال) بل يشمل العديد من أنواع الحيوانات والنباتات — بالفعل توفر العديد من الرؤى الجديدة الأساسية عن أصول البشر وانتشارهم، وعن الحيوانات التي استأنسوها، وعن غذائهم. وسيتوسع هذا المسار البحثي سريعًا مع تحسن قدرتنا على استخلاص وتكبير الأجزاء الصغيرة من الحمض النووي من العظام والبقايا العضوية الأخرى.
للأسف، إلى جانب الخُطا الكبيرة التي نحققها في العلم، فإننا نواجه ضغطًا مستمرًّا في وسائل الإعلام لاستخدام التكنولوجيا الحديثة في استنساخ (وبالتالي إحياء) الأنواع المنقرضة. وفي حين أن المرء قد يجد هذا المسعى مهمًّا وجديرًا بالاهتمام في المخلوقات التي انقرضت مؤخرًا، مثل طائر الدودو أو البَبْر التسماني (النمر أو الذئب التسماني)، فلا يوجد مسوغ لمحاولة إحياء الماموث، على الرغم من أن بعض العلماء اليابانيين يبدو أنهم مهووسون بهذا الاحتمال. فقد كان للحيوان حقبته، وقد اختفت مواطن العصر الجليدي منذ أمدٍ بعيد. إضافة إلى ذلك، أيُّ استنساخ سيتضمن أنثى الفيل، وربما لا يكون المتولد منها ماموثًا حقيقيًّا، وفي كل الحالات، سيكون هذا الحيوان غريبًا؛ إذ إن الفِيَلة حيوانات اجتماعية بامتياز، ومن ثَم سيحتاج الماموث إلى قطيعه. وقد أشير كثيرًا إلى أن التكلفة الضخمة لهذا المشروع من الأفضل أن توجَّه إلى حماية الفِيَلة الحية من اهتمامات الصيادين المخالفين والباحثين عن العاج، وبذلك يُضمن عدم انقراضها هي الأخرى. أما بالنسبة لاستنساخ إنسان النياندرتال — وهو مشروع آخر أشبه بمشروع فرانكنشتاين الذي يُذكَر كثيرًا — فإن المشكلات الأخلاقية المترتبة على ذلك سوف تكون هائلة.
الغالبية العظمى من الرفات البشري الباقي عبارة عن هياكل عظمية أو جثث محارق. لكن لدينا العديد من الجثث المحفوظة في ظروف أفضل، وسليمة إلى حد ما، فهي إما جُففت أو جُمدت أو تشبَّعت بالماء أو حُنِّطت عن عمد، وهذه الجثث يمكن أن تخضع لمجموعة كبيرة من الاختبارات، مثل فحوصات الطب الشرعي وعمليات المسح بالكمبيوتر والمناظير الداخلية التي تدخل من كل فتحة في الجسم.
حتى في الحالات التي تختفي فيها الجثث، فإنه يمكن اكتشاف آثارها. من أشهر الأمثلة: التجاويف التي خلفتها جثث أهل بومبي حين تحللت بداخل الغلاف المتصلب من الرماد البركاني، فحين يصب الجص في هذه التجاويف، تكشف القوالب الناتجة عن المظهر الجسدي وتسريحة الشعر والملابس، وحتى التعبير الذي ارتسم على الوجه لحظة الوفاة (ويُشاع أن سجن المدينة احتوى على رفات العديد من عتاة المجرمين). كذلك احتوى هذا السجل الأثري على العديد من آثار الأقدام وبصمات الأصابع والرسومات المطبوعة على اليد.
أحد الأمثلة المذهلة على البقايا المختفية والقابلة للاكتشاف يتعلق بالسر الذي تطرحه العديد من الأواني السليمة والفارغة تمامًا في الوقت نفسه، التي عُثر عليها مدفونة في أقبية المنازل الألمانية التي يعود تاريخها إلى الفترة من القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر الميلادي. كشفت الاختبارات الكيميائية للبقايا التي وجدت داخل الأواني عن وجود كوليسترول (ما يشير إلى وجود أنسجة إنسان أو حيوان)، وعن وجود هرمونات استيرويدية مثل الأوسترون؛ لذا من شبه المؤكد أن الأواني استُخدمت لدفن المشيمة البشرية (بعد الولادة)، وهذه كانت عادة محلية حرصًا على النمو الصحي للطفل.
حيثما كانت الصحة موضع اهتمام، يمكن أن يكون الرفات البشري مَنجمًا من المعلومات. فعلى سبيل المثال، إصابات الإجهاد المتكررة ليست ظاهرة جديدة بأي حال من الأحوال، ويمكن ربط مظاهر العظام المختلفة بحالات الإجهاد الناجمة عن الانحناء أو حمل الأثقال أو طحن الحبوب. ومعظم الأمراض المميتة لا تترك أثرًا على العظام، ولكن إذا حُفظت الأنسجة الرخوة، يمكن أن يكشف علم الأمراض القديمة عن كم هائل من المعلومات. تكاد كل المومياوات المصرية تحتوي على طُفيليات تسبب الزُّحار الأميبي والبِلهارسيا، واحتوت المومياوات في العالم الجديد على بيض الدودة السوطية والدودة المستديرة. كذلك عُثر على طفيليات في البراز البشري المتحجر وبالوعات العصور الوسطى.
ربما تحوم المخاطر حول عالم الآثار غير الحذِر عند التعامل مع الأنسجة الرخوة البشرية؛ فقشور الجروح والفيروسات يمكن أن تظل على قيد الحياة، ولا أحد يعلم كم المدة التي تقبع فيها الميكروبات في حالة خمول. ومن ثَم قد تشكل الكائنات الدقيقة المعِدية مخاطر حقيقية، لا سيما أن مناعتنا ضد الأمراض الغائبة أو النادرة قد انخفضت بالتأكيد. ومن ثَم فإن الميكروبات المميتة هي التفسير المقبول لبعض حالات الوفاة الغامضة (والحمد لله أنها نادرة للغاية) التي تحصد أرواح علماء الآثار، وهذا التفسير أكثر رُجحانًا من أسطورة «لعنة المومياء» المنتشرة. ومن المفارقات أن يصاب عالم آثار بمرض من الماضي، وقد يكون هذا مآل المهتم بعلم الآثار التجريبي!
الأكثر أمانًا هو دراسة الصدمات والأضرار، كتلك التي تعرضت لها الجثث المحفوظة في المستنقعات في شمال غرب أوروبا؛ إذ إن العديد من أصحابها لقي مصرعه بطُرق وحشية؛ مثل الإعدام أو السطو أو القرابين الشعائرية. فرجل تولوند تعرض للشَّنق، ورجل جروبال نُحِر من رقبته، أما رجل ليندو البريطاني — الملقَّب باسم بيت مارش — فكان الأسوأ مصيرًا؛ إذ هُشمت جمجمته مرتين وقد خُنق وقُطعت أوداجه. ومن ثَم فهو إما أنه من المغمورين بين الناس، وإما أن أحدًا عزم على ألا يترك له أي فرصة في الحياة.
أقدم جثة سليمة وصلت إلينا هي جثة رجل الثلج التي عُثر عليها في جبال الألب الإيطالية عام ١٩٩١. واكتشاف هذه الجثة جذب انتباه وسائل الإعلام على مستوى العالم، وسرعان ما نُسجت القصص الرائعة، وربما كان بعضها مختلَقًا. على سبيل المثال، ادَّعت امرأة أنه أبوها الذي اختفى في الجبال، وأنها تعرفت عليه من الصور التي نشرتها الصحافة! ولكن تحليل الكربون المشع حدد عُمر الجثة بأنه ٥٣٠٠ سنة، وبذلك فُنِّد هذا الادعاء. ولكن بمجرد أن استقر الأمر على أن الجثة قديمة بالفعل، يُزعم أن بعض النساء تطوَّعن للحمل بأي حيوانات منوية قد توجد في جثته. والقصة الأعجب أن مجلة للمثليين في النمسا ادعت أنه اكتُشفت حيوانات منوية في قناته الشَّرَجية، ولكن العلماء يتحرجون كثيرًا من نشر هذه «الحقيقة».
في الواقع، الحقائق الثابتة حول رجل الثلج مهمة بالقدر نفسه. فقد مات في أواسط أو أواخر العقد الرابع من عمره. واسودَّت رئتاه بسبب التعرض لحرائق مكشوفة، وتصلبت شرايينه وأوعيته الدموية، ويوجد آثار قضمة صقيع مُزمنة في إحدى أصابع قدميه، وكُسر له ثماني ضلوع، ولكن التأم بعضها، وبعضها الآخر كان في طريق الالتئام بعدما مات. وقد تكون مجموعات الوشوم الموجودة على جسده — معظمها خطوط زرقاء متوازية يبلغ طولها نصف بوصة — علاجية تهدف إلى تخفيف التهاب المفاصل في رقبته وظهره ووركه. ولكن المعلومات الأروع حصلنا عليها من ظفره الوحيد الباقي. فالخطوط العرضية تُبين أنه أصيب بنوبات مرض خطير (إذ انخفض نمو الظفر) قبل موته بأربعة أشهر وثلاثة أشهر وأخيرًا بشهرين. وحقيقة أنه كان عُرضة للإصابة بمرض الشلل الدوري تُظهر أنه كان في حالة ضعف. ومن ثَم، حتى في الجثة الكاملة، فظفر واحد غير ذي أهمية في ظاهره يمكن أن يُمدنا بقدر كبير من المعلومات عن حياة صاحبه؛ وهي استعارة مناسبة لعلم الآثار كليًّا. لكن رجل الثلج لا يزال يُتحفنا بالمفاجآت؛ فبعد عقد تقريبًا من العثور عليه، كشفت الأشعة المقطعية على كتفه اليسرى عن رأس سهم صغير من الصوان قطع شريانًا وتسبب في نزيف حاد أدى إلى وفاته. وكشف فحص أحدث عن جرح عميق في عينه اليمنى؛ وهذا الجرح ناجم إما عن سقوط وإما عن ضربة في الرأس، ما تسبب في نزيف حاد، وربما ساهم هو الآخر في موته. هذه الاكتشافات توضيح للقاعدة الأثرية الأساسية، وهي أن التحليلات الجديدة يمكن أن تؤدي في كثير من الأحيان إلى أدلة جديدة مذهلة. وينبغي للمرء ألا يَقنَع بالسيناريو الذي بين يديه؛ فالعلماء الحقيقيون لا يكُفُّون عن البحث والعودة إلى استنتاجاتهم الأولى للتحقق منها مرة أخرى. فلا تركن إلى أمجادك، فالأمجاد سرعان ما تذبل وتموت.