الاستيطان وبناء المجتمعات
ما برح البشر يسكنون صنوفًا متنوعة من المواقع، بدايةً من العيش بين أكوام النُّفايات وحتى العيش في القصور، ومن الجوانب المهمة في علم الآثار أن يُحدد نوع المستوطنة التي سكنها الإنسان. وما إن تُكتشف هذه المعلومة الأساسية، حتى ينتقل المرء إلى أسئلة أكثر تعقيدًا تتضمن نوع المجتمع الذي عاش فيه الإنسان.
لكن ما الذي تعنيه كلمة «موقع» من وجهة نظر علماء الآثار؟ من حيث المبدأ، هي تعني أي بقعة على وجه الأرض تحوي آثارًا يمكن اكتشافها وتدل على ممارسة نشاطٍ بشري، أو تدل على ما يعتقده عالم الآثار نشاطًا بشريًّا. لذا، إن عثرت على أدوات صوانية في حقل محروث أو فئوس حجرية في الصحراء، فتلقائيًّا ستُعتبر هذه البقعة موقعًا أثريًّا. بالطبع ليست كل المواقع أماكن للسُّكنى؛ فعلى سبيل المثال، ربما تكون أماكن للذبح أو محاجر للمواد الخام أو مقابر أو معالم أثرية أو مواقع للفن الصخري أو أماكن مقدسة كانت تُقام فيها الشعائر الدينية بين الفينة والأخرى. أما المساكن، حتى التي سُكنت لفترات قصيرة، فعادةً ما تحوي مجموعةً مميزة من الآثار؛ ولا تشتمل هذه المجموعة على المصنوعات اليدوية وحدها، بل تشتمل على «سمات» (أي العناصر غير المنقولة) وهياكل ومجموعة من البقايا العضوية والبيئية. وعلى وجه الخصوص، عادةً ما يتوقع عالم الآثار العثور على موقِد، فلا يخلو منزل من موقد على أي حال.
تتراوح مواقع الاستيطان بدايةً من الأماكن التي تتناثر فيها المصنوعات اليدوية الصغيرة، ما يدل على سكنى الموقع لمدة قصيرة تبلغ بضع ساعات، وحتى «التلال» الهائلة في الشرق الأدنى، حيث تراكمت البقايا بعضها فوق بعض بسبب تعاقب بناء المدن في الموقع الواحد وامتدت على مدار آلاف السنين. ولطرح الأسئلة الصحيحة الخاصة بالمادة الأثرية واستنباط وسائل الإجابة عليها، يجب تقييم حجم المجتمع أو نطاقه، وكيف كان تنظيمه الداخلي. وأيضًا، لا جدوى من البحث عن علامات تدل على تنظيمٍ مركزي معقَّد في مواقع الصيد وجمع الثمار في العصور الأولى! لذا، فإن أول خطوة تتطلب دراسة فرادى المواقع، ودراسة العلاقة بين بعضها وبعض؛ أي «نمط الاستيطان».
يحب علماء الآثار أن يقسموا البيانات إلى فئات مختلفة من أجل التبسيط ومن أجل تطويع الكم الهائل من المعلومات. وفيما يتعلق بالتسلسل الزمني (الفصل الثاني)، فإنهم يفضلون تقسيمه إلى أنظمة ثلاثية المراحل مثل «الأول/الأوسط/المتأخر» أو «الأدنى/الأوسط/الأعلى». أما فيما يتعلق بالمجتمعات، فعادةً ما يُستخدم التصنيف رباعي الفئات، وكل فئة ترتبط بأنواع معينة من المواقع وأنماط الاستيطان. وبالنسبة إلى كل المصطلحات الأثرية — مثل الفأس اليدوية أو العصر الحجري القديم الأعلى، أو إنسان النياندرتال، أو المزهرية الإغريقية، أو حضارة القدور الجرسية، أو أي مصطلح آخر — فإن الأسماء وصفية وافتراضية واصطناعية بالكامل، ولا ترتكز على الواقع إلا بقدر ضئيل، ولكنها بمثابة اختزالٍ ملائم حتى يعرف علماء الآثار إلى أي فترة أو نوع من الاكتشافات الأثرية أو نمط من المجتمعات تشير أنت.
الفئات الأربعة العامة هي: العصابات، والمجتمعات القطاعية (وتُسمى أحيانًا «القبائل»)، والمشيخات، والدول. وكما هي الحال مع تقسيمات التسلسل الزمني في علم الآثار، فإن هذه الفئات ليست سوى نقاط مُنتقاة من سلسلة متَّصلة، وغالبًا ما يصعب تعيين ثقافة لفئة دون التي تليها؛ إذ إن بعض السمات تظهر قبل غيرها. مثلما لم يقل أحد من العصر الجليدي مثلًا: «لقد سئمت العصر الحجري القديم الأوسط، أمَا آن الأوان كي يبدأ العصر الحجري القديم الأعلى؟» فإنه لا يُتصور أن يعلن مزارع من العصور الأولى لجيرانه قائلًا: «أود أن أنذركم بأنني بدايةً من الشهر التالي سأتقلَّد سلطات الحاكم وسأحول مجتمعنا القطاعي الصغير الهادئ إلى مجتمع حديث، بحيث يصبح مشيخةً تمضي قُدمًا لتكون في طليعة التقدم.»
-
(١)
تشير فئة العصابات إلى مجتمعات صغيرة تقتات على صيد الحيوانات وجمع الثمار وصيد الأسماك، وعادةً ما يكون عددهم أقل من ١٠٠ فرد. وغالبًا ما ينتقلون حسب المواسم، وقوام معيشتهم الأساسي أو الحصري الموارد الطبيعية، ولذا عادةً ما تكون مواقعهم معسكراتٍ موسمية، ويلحق بها مناطق أصغر وأكثر تخصصًا للعمل، مثل الذبح والنحر، أو مواقع العمل لصنع الأدوات التي غالبًا ما تكون من الحجارة.
وبناءً على الظروف المحيطة بهم، فإنهم يسكنون إما داخل الكهوف وإما الملاجئ الصخرية، أو يبنون ملاجئ مؤقتة من المواد العضوية، مثل الخشب أو العظام أو الجلود. وبوجهٍ عام، فإن معسكرات القواعد أهم من المواقع المؤقتة أو المتخصصة. يرتبط هذا النوع من الاستيطان بحقبة العصر الحجري القديم في العالم القديم وبحقبة الهنود القدماء في العالم الجديد.
-
(٢)
القبائل أكبر من العصابات؛ إذ قد يصل عدد أفرادها إلى بضعة آلاف، وعادةً ما يستقرون ويشتغلون بالزراعة، غير أن بعضهم قد يمتهن الرعي وتقوم حياته على الترحال. وعلى أي حال، فإن معيشتهم تعتمد في المقام الأول على الموارد المستأنسة والنباتات والحيوانات. إنهم يسكنون منازل أو قرًى زراعية، وتشكل جميعها نمطًا استيطانيًّا تفصل بين مساكنه مسافات متساوية إلى حدٍّ ما؛ بعبارة أخرى، لا توجد مستوطنة توحي بأنها المهيمنة. وهذا النظام مرتبط بالمزارعين الأوائل في كلٍّ من العالمَين القديم والجديد.
-
(٣)
المشيخات — التي يتراوح عدد أفرادها ما بين ٥ آلاف إلى ٢٠ ألف فرد — هي أول علامات حقيقية يظهر فيها تنوع الأوضاع الاجتماعية، على الرغم من أن المقابر الثرية معروفة حتى من العصر الجليدي المتأخر. تعتمد هذه الفئة على نظام الطبقات، ويتحدد مقام الفرد بناءً على مدى قرابته من كبير المشيخة أو زعيمها؛ ومن ثَم لا توجد بنية طبقية فعلية حتى الآن. وزعيم المشيخة هو محور النظام بأكمله؛ إذ إنه يوظِّف أصحاب الحِرَف، ويوزع على أتباعه ورعاياه الأدوات التي تنتجها هذه الحرف، والأطعمة التي تدفع إليه على نحوٍ دوري (وعادةً ما يكون الزعيم رجلًا). وبطبيعة الحال، عادة ما يُدفن مع زعماء المشيخات وأقاربهم أو أصدقائهم مرفقات جنائزية باهظة الثمن.
بوجه عام، تمتلك المشيخات مركزًا للقوة، وبها معابد ومساكن أساسية وأصحاب حِرف. وهذا «المركز الشعائري» الدائم — المصمَّم لإقامة الشعائر الدينية — هو محور اهتمام السكان، ولكنه ليس مدينة ذات بيروقراطية؛ فهذه السمات مرتبطة بالفئة الرابعة والأخيرة.
-
(٤)
يصعب التمييز بين الدول في العصور الأولى والمشيخات، ولكن الحاكم (بعد أن صار اسمه الملك أو الملكة، ويرتفع إلى منزلة الإله في بعض الأحيان) أصبحت لديه السلطة لسَنِّ القوانين وإنفاذها بفضل الجيش الذي لديه. وهنا، ينقسم المجتمع إلى طبقات؛ إذ يشكِّل المزارعون وساكنو الأحياء الفقيرة الطبقة الدنيا، ويشكل أصحاب الحرف الطبقة الوسطى، ويشكل الكهنة وأقارب الحكام الطبقة العليا. وبطبيعة الحال، فُرضت الضرائب (تُثقلنا الديون في خِضم الحياة)؛ ولذا أصبحت البيروقراطية ضرورية في العاصمة المركزية من أجل إدارة هذه الشئون؛ كما أن نظام التوزيع المعقد للخَرَاج والإيرادات على الحكومة والجيش وأصحاب الحِرف من السمات البالغة الأهمية.
من منظور علم الآثار، بإمكان المرء أن يتعرف على نمط الاستيطان الحضري؛ إذ إن المدن يكون لها دور بارز؛ وعادةً ما تكون مركزًا كبيرًا للسكان؛ حيث يسكنها ما يزيد على ٥ آلاف نسمة، وتضم معابد وأبنية عامة ضخمة. وغالبًا ما يستطيع المرء أن يُدرك التسلسل الطبقي للمساكن، حيث تشغل العاصمة قلب شبكة من المراكز التابعة والقرى الصغيرة.
عادةً ما يستمد علماء الآثار معلوماتهم عن نمط الاستيطان من الدراسات الشاملة لما عُثر عليه بالفعل في المنطقة على مدار سنوات. لكن في «الأراضي غير المكتشفة»، أو المناطق التي تحتاج إلى فهم شامل بالفعل، يكمن الحل في عمل زيارة تفقُّدية؛ بمعنى أن يجوب الفريق (وعادةً ما يكون من الطلاب أو المتطوعين الصَّبورين) المنطقة (أو جزءًا يمثلها في حالة اتساع المساحة، أو عدم كفاية الوقت والأموال) بطريقة منهجية من أجل تسجيل كل القطع الأثرية الظاهرة على سطح الأرض. وتركيزات القطع الأثرية وأنواعها تعطي دلالات على نوعية المواقع ومساحتها والفترة الزمنية التي سُكنت فيها، وعدد المستوطنات وفي بعض الأحيان تسلسلها الهرمي. ومن ثَم يمكن وسمُها بأسماء مؤقتة، مثل مركز إقليمي، أو مركز محلي، أو قرية، أو نجع، أو مسكن، أو معسكر قاعدة، أو منطقة أنشطة متخصصة.
توسَّع بعض علماء الآثار في هذا النهج بحيث شمل كل أوجه الأرض. ففي رأيهم، لم يعد كافيًا تحديد مكان موقع واحد أو حتى سلسلة من المواقع، لا سيما حين يتعلَّق الأمر بالجماعات الرُّحَّل. إنهم يتعمقون أيضًا فيما أصبح معروفًا باسم علم الآثار «خارج الموقع» أو «غير المرتبط بالموقع» (تشير إليه بعض الألسنة القاسية باسم علم الآثار «التسلُّلي» أو «عديم القيمة»)؛ إذ إنهم يبحثون عن القطع الأثرية المتناثرة — وربما لا توجد سوى قطعة أو قطعتين في مساحة ١٠ أمتار مربَّعة — التي توجد بين المواقع المعروفة، وهم يسعون من وراء ذلك إلى التأكيد على الحقيقة الواضحة بأن من اقتاتوا على الصيد وجمع الثمار كانوا يرتحِلون ويسكنون في أي مكان من الأرض، وربما استخدموا المصنوعات اليدوية وتركوها من ورائهم في كل ربوع المكان.
بطبيعة الحال، تسهل مهمة تقييم الاستيطان وبناء المجتمع إلى حد كبير بالنسبة إلى الفترات والثقافات التي لها وثائق خطية أو حتى خرائط؛ فهذه الوثائق والخرائط تجيب عن أسئلة عديدة قد تدور في أذهاننا عن المجتمع والاستيطان. فعلى سبيل المثال، لدينا آلاف الألواح والوثائق من العصور الأولى من الشرق الأدنى ومصر والصين وبحر إيجة والعالم الكلاسيكي، وفيها تفصيل العلاقات بين المواقع والمناطق المختلفة، وكذلك أنماط الاقتصاد — الوظائف الحكومية، الصفقات التِّجارية — بالإضافة إلى القوانين والمراسيم الملكية والبيانات الإعلامية. فمن المجتمع السومري في بلاد ما بين النهرين، على سبيل المثال، نضع أيدينا على مئات الألواح من المعابد، وفيها قائمة بالحقول والمحاصيل المزروعة فيها، والصفقات الخاصة بالسلع، مثل الغلال والماشية. ما انفكَّ البيروقراطيون يتمسكون بحفظ السجلات.
على الطرف الآخر من المعادلة، في المواقع التي غادرتها العصابات الرحَّل، السجل الأثري هو السجل الوحيد المتاح. وفي مناطق المعيشة التي تحدها جدران الكهوف أو الملاجئ الصخرية، فإن الترسبات فوق المستوطنة قد تكون عميقة؛ إذ تراكمت على مدار قرون أو حتى عدة آلاف من السنين؛ ومن ثَم يحتاج التنقيب إلى التركيز في المقام الأول على النمط الرأسي؛ أي على الطبقات المتراكبة وكيف تغيرت محتوياتها بمرور الوقت. أما على الجانب الآخر، فغالبًا ما تكون المواقع المنفتحة التي تركها الصيادون أقل أهمية بكثير؛ إذ يقل فيها عمق الطبقات؛ لذا فإن النمط الأفقي هنا هو محور الاهتمام؛ إذ يُتتبع توزيع المواقد، والسمات الأخرى، ومجموعات المصنوعات اليدوية.
في حالات نادرة، حيث يمكن تمييز حالات الإقامة لمرةٍ واحدة ولمدة قصيرة في موقع ما، ربما تُكتسب بعض الأفكار عن الأنشطة المحددة ومكان ممارستها، ويعود الفضل في ذلك إلى الموقع الذي يُعثر فيه على المصنوعات اليدوية وحطام صناعة الأدوات وعظام الحيوانات وما إلى ذلك. لكن في معظم المواقع، لا يمكن تمييز حالات الإقامة لمرة واحدة ولمدة قصيرة، بل إن المنقِّبين يُخرجون الأدلة المتراكمة من تكرار الأنشطة في الموقع على مدار فترة من الزمن، سواء أكانت طويلة أم قصيرة، وربما أعانتهم الحيوانات الضارية في إخراجها. ورغم ذلك، فإن هذا لم يمنع علماء الآثار من أن تراودهم أفكار حالمة، حيث إنهم مشهورون بذلك، ومن أن يفسروا هذه المادة وكأنها جميعًا تعود إلى العصر نفسه وكأن الزمن قد توقف، مثل مدينة بومبي وتحطم السفن. وفي الحقيقة، ينطبق الأمر نفسه على المواقع من العصور المتأخرة؛ يروق لعلماء الآثار أن ينسجوا قصصًا تفسر وجود اكتشافاتهم الأثرية وتخطيطها بلُغة بسيطة للغاية، على الرغم من أنهم يعرفون أن العمليات التي أنشأت هذا السجل (المرقَّع وغير المكتمل على نحو مذهل) معقدة إلى أبعد حدٍّ، وعادةً ما تكون على مراحل.
في المجتمعات القطاعية، تُعد الزيارات التفقدية والتنقيب هما النهجين الأساسيين لتحديد المواقع والوقوف على تخطيطها ومساحتها. أما في القرى، فعادةً ما تنقَّب بعض الهياكل بالكامل، وتنقَّب عينات من هياكل أخرى لأخذِ فكرة عن نطاق التنوع. هل كلها مساكن متماثلة، أم توجد أبنية متخصصة أكثر؟ وبداخل المنازل، يَسهل التعرف على أماكن الطهي والنوم والأكل وما إلى ذلك، وربما يسهل التعرف على المناطق التي استخدمها الذكور وتلك التي استخدمتها الإناث.
يكشف تحليل المرفقات الجنائزية أو مستوى الغُلُو والتأنُّق في المقابر عن مقدار التمييز الأولي في الوضع الاجتماعي داخل المجتمعات القطاعية، على الرغم من أنه ليس من السهل دائمًا التفريق بين الوضع الاجتماعي المكتسَب والوضع الاجتماعي الموروث. لكن إذا دُفن الأطفال ودُفنت معهم ثروة عظيمة، فإن الافتراض المنطقي يقول إن الوضع موروث وليس مكتسَبًا.
من المصادر الأساسية الأخرى للحصول على المعلومات عن هذه المجتمعات معالمها الأثرية العامة؛ مثل الساحات المسوَّرة المرتفعة وتلال الدفن الترابية التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث في بريطانيا. وبالنسبة إلى المزارعين في هذه الحقبة المبكرة، فُقدت معظم المساكن بسبب عمليات الحرث والتعرية اللاحقة؛ وبوجه عام، لم يُكتشف سوى بضع مقالب للنفايات أو حُفر من الدعائم الخشبية، لكن لا يزال بمقدورنا التوصل إلى أفكار بشأن أنماط معينة عن المجتمع من تحليل نطاق المعالم الأثرية وتوزيعها. على سبيل المثال، تُقسِّم الخطوط المرسومة بين تلال الدفن الجماعية (تلال الدفن الطويلة) المسطح الأرضي إلى مناطق متساوية تقريبًا، ما يشير إلى أن كل مَعلم يمثل نقطة محورية للأنشطة الاجتماعية، ومكان دفن رئيسي للقرية التي قطنت المنطقة القريبة منه. ويُعتقد أن إنشاء تل واحد من هذه التلال الطويلة أنجزه ٢٠ فردًا في مدة بلغت ٥٠ يومًا، ويبدو أنها خدمت مجتمعات سادت فيها المساواة. على الجانب الآخر، تُوحي الساحات المسوَّرة (وهي معالم أثرية دائرية الشكل، وذات مساحة واسعة، وبها أخاديد متَّحدة المركز) أنها أماكن اجتماعات محورية ودورية، وقد أُنشئت لاستيعاب أعداد أكبر، ويُفترض أن هؤلاء الأفراد كانوا يتوافدون من القرى الصغيرة المختلفة؛ إذ إن بعض الأخاديد عُثر فيها على فئوس حجرية جُلبت من أماكن بعيدة. وإنشاء الساحة الواحدة تطلب نحو ١٠٠ ألف ساعة عمل، أو ٢٥٠ عاملًا لمدة ٤٠ يومًا. هؤلاء الناس صنعوا وسائل ترفيههم حينذاك. ببساطة، لم يكن ثَمة بُد من تقصير ليالي الشتاء الطويلة بشيء من …
وفي أوقات لاحقة، حلت «الدوائر الحجرية» محل هذه الساحات، وهي نوع جديد من الساحات المسوَّرة الشعائرية (معالم دائرية الشكل يحيط بها خندق له ضفة خارجية)، وقد تطلب إنجاز كل دائرة حجرية نحو مليون ساعة عمل. وهذا الاكتشاف يقترح أنه حُشدت أعداد كبيرة من الناس، ربما وصل عدد العمال إلى ٣٠٠ عامل بدوامٍ كامل لمدة سنة أو أكثر، وقد أُحضروا من منطقة أكبر. يمثل نطاق هذا الجهد ووجود هذه المراكز الشعائرية الرئيسية علامة على الانتقال من المجتمعات البسيطة التي تسود فيها المساواة بين المزارعين من العصور الأولى إلى مشيخات تظهر فيها الطبقية.
ثَمة دليل أكثر وضوحًا على قيام المشيخات، وهو امتلاء المناطق حول هذه الدوائر الحجرية في نهاية المطاف (بما في ذلك ستونهنج، وهي أم معالم الدوائر الحجرية الأثرية، وقد تطلب بناؤها ٣٠ مليون ساعة عمل) بتلال دفن دائرية تحتوي على مرفقات جنائزية باهظة الثمن، ما يبرز ثراء الأعيان في هذه المجتمعات.
ثَمة نهج آخر لدراسة التحول من المجتمعات القطاعية إلى أنظمة أكثر تعقيدًا، وهذا النهج هو تخصُّص الحِرف؛ وبالطبع هذا التخصص موجود في مجتمعات العصابات، ويمكن رؤية هذا في العصر الجليدي؛ إذ إنه لم يكن بمقدور كل شخص أن يصنع أفضل أدوات من الحجارة أو العظام، أو أفضل منحوتات أو فن صخري. وفي المجتمعات القطاعية، كانت الأعمال الحرفية تنظَّم في المقام الأول على مستوى الأُسرة، وربما يُعثر في مواقع القرى على أفران فخَّار أو نفايات صهر الأدوات المعدنية. لكن في مجتمعات المشيخات والدول الأكثر مركزية، يمكن رؤية أحياء كاملة من المدن مخصصة بالكامل لحِرف متخصصة؛ مثل الأدوات الحجرية وصناعة الفَخَّار والمصنوعات الجلدية والنسيج والتخمير والأدوات المعدنية والزجاجية، وما إلى ذلك.
حيثما تُفقد النصوص الخطية (مثلما الحال في معظم المشيخات) أو تكون غير كافية (مثلما الحال في معظم الدول)، فلا سبيل إلى معرفة التسلسل الطبقي إلا عن طريق الاستنتاج باستخدام الوسائل الأثرية. فمثلًا، يمكن استنتاج العاصمة أو المركز الرئيسي من الحجم ومن علامات التنظيم المركزي، مثل وجود الأرشيف أو دار السَّكة أو القصور والأبنية الدينية الرئيسية أو التحصينات. بطبيعة الحال قد يصعب تحديد وظائف الأبنية الضخمة والعامة (افتراضًا) تحديدًا دقيقًا، وربما كانت تُستخدم في عدة وظائف؛ إذ إن المعابد على سبيل المثال يمكن أن تكون لها وظيفة اجتماعية ودينية على حد سواء. لكن الأسهل اكتشاف الجوانب الأخرى في المدينة، مثل المناطق المخصَّصة للحرفيين أو الفروقات بين منازل الأغنياء والأحياء الفقيرة. إنها تجربة مثيرة أن تتخيل المدينة التي تسكن فيها الآن وكأنها أطلالٌ مهجورة، وعلماء آثار من خارج الأرض يتجولون فيها، ويحاولون تخمين المعالم التي ينظرون إليها؛ هم أيضًا سيتمكنون من وضع بعض استنتاجات أساسية بأريحية كبيرة، على الرغم من أنه قد يقع في طريقهم معالم غريبة مثل استوديوهات التصوير الفوتوغرافي، ومجمَّع لدور السينما، ومغاسل الملابس، وكلها يوحي مظهرها بأنها بؤر شعائرية.
من السمات الأساسية المميزة في المجتمعات المركزية التفاوتُ بين الأغنياء والفقراء، ليس من حيث الثروة الأساسية فحسب، بل أيضًا من حيث الوصول إلى الموارد والمرافق والوضع الاجتماعي؛ بعبارة أخرى، التفاوت في الطبقات الاجتماعية. وكما ذكرنا آنفًا، يسهل اكتشاف الفروق في المساكن والثروة المادية. إضافةً إلى ذلك، عادةً ما يصوَّر أصحاب المكانة العالية في النقوش أو المنحوتات الرائعة، وكما ذكرنا سابقًا فإن المقابر المبهرَجة هي الرمز «النهائي» الذي يدل على الوضع الاجتماعي؛ وبوجهٍ عام، لن يُعثر على الأثرياء مدفونين في مقابر الفقراء. ولا يرجع هذا العرض الجلي للثراء الفاحش إلى الصور التي تعرضها مجلة «فوربس» أو مجلة «تاتلر»، بل تتجذَّر أصوله لتصل إلى عصر بناء الأهرامات وما قبله. وتذكَّر أن الملك توت عنخ آمون كان فرعونًا صغيرًا وقاصرًا، فما بالك بالكنوز التي يجب أن تُدفن مع الملوك الأعظم؟ شيء يحير العقل …
وفيما يتعلق بأحجار ستونهنج نفسها، كثرت النظريات وتغيَّرت على مر العقود. والفكرتان المتنافستان على التميز في وسائل الإعلام والمؤلفات البحثية في الوقت الحالي هما: إما أن المكان كان مخصصًا للموتى، وقد مورس فيه عدد كبير من عمليات الدفن وحرق الجثث، وإما أنه مكان يُشبه مزار لورد حيث يقصده الناس من أجل الشفاء. بالطبع قد تكون النظريتان صحيحتين، وكذلك بعض النظريات التي باتت في طي النسيان الآن، والتي لم تُتخيَّل بعد.