عاطف سالم
عاطف سالم هو المخرج الذي قدَّم أكبر عدد من الأفلام في التاريخ الفني لعمر الشريف، والطريف أن الاثنَين قد بدآ العمل في نفس السنة، عام ١٩٥٣م، إلا أن لقاءهما الأول قد تأخَّر إلى ما بعد ذلك خمس سنوات، فقدَّمه في فيلم «شاطئ الأسرار» عام ١٩٥٨م، وفي العام التالي فقط أخرج له ثلاثة أفلام معًا، هي «إحنا التلامذة» و«موعد مع المجهول»، و«صراع في النيل» عام ١٩٥٩م، وهو الذي اختتم الرحلة الأولى للممثل في السينما المصرية بفيلم «المماليك» ١٩٦٥م، وهي الفترة التي كان عمر الشريف قد انطلَق فيها عالميًّا بشكلٍ مكثَّف، فرأيناه في نفس الملامح والوجوه للأدوار التي صارت تُمنَح له عالميًّا.
ترك المخرج بصمةً واضحة في الأدوار التي اختارها لممثله المفضَّل، كما هو واضح، وذلك قياسًا إلى الأدوار التي جسَّدها عمر الشريف في أفلامه مع مخرجين آخرين، ومنهم كمال الشيخ، لكن لعل الأقرب إليه هي الأدوار التي لعبها الممثل في الأفلام الثلاثة الأولى في حياته، مع يوسف شاهين.
هذه الأدوار، كما نرى، تدور أحداثُ أغلبها في خارج الديكورات الضيقة، والبيوت التقليدية، التي يتم تصويرها في الكثير من الأفلام المصرية، خاصةً التي كان يتم إنتاجها في تلك المرحلة من تاريخ البلاد، وهي أماكنُ متنوِّعة، غير متكرِّرة، من ميناء بورسعيد، إلى فوق سطح النهر، ومحاذاته من أعلى الصعيد إلى القاهرة، إلى أحد المصانع بالإسكندرية، وبيوتٍ عادية تم في أحدها جريمةُ إجهاضٍ غير شرعية، ثم الانتقال إلى زمن المماليك من خلال بيوت الحاكم.
وأغلب حكايات هذه الأفلام تدور في أجواءٍ غامضة، بعضها بوليسي، أو مطاردات وصراعات سياسية، ومحاولات متبادلة لتحقيق مكاسب، أو ارتكاب جرائم حيث تحدُث جرائمُ قتلٍ مختلطة بقصصٍ عائلية، وزواج، وحب، وشباب يبحثون عن هُوية وسط متاعبَ عائلية يعيشون فيها، وقد انتزع الممثل في فيلمَين الزي العصري للشباب، فصار الفتى الصعيدي الذي يتحمل المسئولية لأول مرة، ويبدو منبهرًا بتجاربه الأولى، كما صار الحداد البسيط الذي لا ينشُد سوى الزواج من حبيبته، إلى أن تتغير حياته بسبب هجوم رجال الحاكم المستبد على منزله، وإهانتهم المتعمَّدة لأمه، واختطاف حبيبته، فدخل إلى المعترَك رغمًا عن أنفه، وناهَض الحاكم حتى تمكَّن من إسقاطه.
وبشكلٍ عام، فإن هناك الأجواء البوليسية، والجرائم ماثلة أمامنا، من مقتل شقيق الزوج في «موعد مع المجهول»، واختفاء الزوجة في «شاطئ الأسرار» وزواج الأخت من رجل الشرطة، ثم مجابهة بين أصحاب المركب الذين يتجهون إلى العاصمة لشراء صندلٍ لزوم تحسين الأداء مع عصابات السرقة المنتشرة في الموالد، وعلى شاطئ النهر في «صراع النيل»، وهناك الشباب الذين يتورَّطون في جريمة قتل، فيُضطَرُّون للسرقة والقتل من أجل تدبير المال لإجهاض الفتاة التي أخطأَت مع أحدهم، فتبدأ وتنتهي أحداث فيلم «إحنا التلامذة» في المحكمة حيث يصدر الحكم عليهم وشركائهم. أما فيلم «المماليك» فيدور حول مجابهةٍ بين السلطة الغاشمة والثوَّار الذين يواجهون الحاكم وإسقاطه.
وفي هذه الأفلام قام عمر الشريف بدور البطل الفرد، غالبًا، محبَطًا أحيانًا، ومُنهزِمًا أحيانًا، وعاشقًا في أغلب الوقت. وهو الشخص الرئيسي في كل فيلم عدا «إحنا التلامذة»؛ حيث بدا وجهه معبِّرًا، مطلوبًا من النساء، طيبًا وساذجًا، أو مدفوعًا إلى الجريمة، رغمًا عن إرادته، يمارسها دون قصد. هو في أغلب الأحيان ميسورٌ قادر، مثلما في «موعد مع المجهول»، يمتلك المصنع، أو المركب الذي سيتم بيعُه لشراء صندل. وهو في «إحنا التلامذة» طالب الثانوي الذي يعاني من تعسُّف أبيه الذي يتعامل معه بقسوةٍ ملحوظة، يعنِّفه دائمًا، ثم يُعاقِبه بشدة، ويطردُه من المنزل، حين تأتي للأب شكوى مباشرة أن الفتى يتدخَّل في شئون الجيران، وأنه ينغِّص عليهم حياتهم.
وأبرزُ ما في هذه الأفلام أن عاطف سالم لم يرجع إلى نصوصٍ أدبية، لا مصرية، ولا إلى أفلامٍ عالمية، بل اعتمد على كُتاب سيناريو متبايني الأهمية؛ فيوسف عيسى هو الذي كتب السيناريو والحوار ﻟ «شاطئ الأسرار» ١٩٥٨م، و«موعد مع المجهول». وقد أُخذَت أحداث فيلم «إحنا التلامذة» عن أحداثٍ حقيقية جرت في منطقة العطارين بالإسكندرية عام ١٩٥٣م، وكان من بين مرتكبي الحادث شابٌّ صار مشهورًا فيما بعدُ. وقد كتب توفيق صالح مع كامل يوسف فكرة الفيلم التي كتب لها نجيب محفوظ السيناريو، وكتب الحوار محمد أبو يوسف، بينما كتب علي الزرقاني فيلم «صراع في النيل» كاملًا، دون أي شريك معه. أما فيلم المماليك، فهو أقرب في حكايته إلى «لاشين». وقد كتب القصة نيروز عبد الملك، وكتب السيناريو عبد الحي أديب، وكتب الحوار محمد مصطفى سامي. كما أن المخرج في هذه الأفلام تعامل مع نجماتٍ شهيرات عدا فاتن حمامة، ومنهن ماجدة وسامية جمال وتحية كاريوكا.
يمكن أن نقرأ هذه الأفلام معًا، باعتبارها تعاونًا بين المخرج والممثل، ولا يمكن أن نقول إن هناك خيطًا يربط بينها، إلا من خلال السمات التي ذكرناها؛ ففيلم «شاطئ الأسرار» تدور أحداثه في بورسعيد، في فتراتٍ بدأَت أنظار المصريين تتجه إلى تلك المنطقة، عقب العدوان الثلاثي، وكان على السينما أن تنظر بكل اهتمامٍ إلى أن الناس في المدينة يعيشون مثل بقية المدن، خاصة الساحلية؛ فهناك قصصُ مؤامرات، وغموض، وقصص حب، وفتاة وحيدة تذهب إلى بورسعيد للبحث عن أخيها الذي تأخَّرت أخباره.
ثم: مفتاح يفتح بابًا، ممدوح الذي أطلَق النار على زميله يدخل منزل القتيل متحسِّسًا، صورة القتيل، إنه بيته، يتأمل ممدوح الصورة، ثم يقوم بالتفتيش، ثم: الأخت علية في مقصورة القطار المتجه إلى بورسعيد، يجلس أمامها التقيُّ الورع منصور أفندي تاجر الأسماك الذي يتحدث إليها، ويُبلغُها أنها مثل ابنته.
الحارس يتكلم باللهجة البورسعيدية يستقبل علية عند المحطة، تبدو قناة السويس وشوارع من عدة زوايا.
ما زال ممدوح في البيت يحرق الوثائق، وما إن تصل علية حتى تستقبلها الجارة وتتحدث معها، وما إن يعرف الحارس أنها أخت عادل شاكر حتى يُهروِل هاربًا، بينما ممدوح في الداخل بالغ الحذَر، والحماس.
هذه هي المشاهد الأولى من الفيلم، تتحرك بسرعة، وتبعث على التساؤل، وفي هذه الأفلام، فإن حقيقة الشخصيات تتضح مع أحداث الفيلم؛ فممدوح الذي يبدو لنا واحدًا من أفلام عصابة تهريب، وقتل، لن يلبث أن نعرف أنه ضابط استخبارات يعمل في الأمن، مدسوس من قِبل مؤسَّسة لكشف أسرارها، وأن عملية القتل التي شاهدناها في البداية، ليست سوى عملية تمويه من أجل أن يتقن ممدوح دوره كواحدٍ مدسوس في أفراد العصابة، على طريقة فيلم «سمارة»، وممدوح هنا الذي يهمنا في المقام الأول؛ هو شخصٌ جذَّاب، قوي البنيان، يُجيد القتال، ويتمكَّن من مقاتلة العملاق الذي يجسِّده محمود فرج، وسوف يُقاتِله هنا بشراسة، مثلما سيحدُث أيضًا في نهاية فيلم «موعد مع المجهول»، ونحن لا نعرف اسمه بسهولة، ولحُسْن الحظ سيظل اسمه دومًا هو ممدوح، وهو جذَّاب بالنسبة للنساء، تقع في غرامه سنية الراقصة التي تجسِّدها تحية كاريوكا، التي لعبَت دورًا مشابها أمام الممثل في «إحنا التلامذة»؛ لذا فإن لممدوح عدة وجوه؛ الشرير، العاشق، الطيب، والمخادع، دون أن نعرف، لوقتٍ طويل، أي الوجوه هو؛ فهو يرمي بشباكه حول عليَّة، ويُرسِل إليها البلطجي كي يعترضها، فيقوم بسد الطريق عليه، وينقذها، ويُحاوِل أن يكسب ثقتها.
ورغم أننا أمام بطولة لعمر الشريف، فإن مساحة ظهور علية «ماجدة» تأتي أكبر بكثير من ممدوح، ثم تبدأ الفتاة في الوقوع في هواه، أثناء غياب أخيها، ثم العيش لوحدها في مدينةٍ غريبة. والسيناريو مكتوب بحيث يكون الترقُّب موجودًا، وممدوح يغير من ملابسه عدة مرات، يبدو واحدًا من العصابة، ونعرف في لحظةٍ ما أنه رجل مخابرات، وهو المنقذ بالنسبة لعلية التي تُوافِق على الزواج به، ثم تُصدَم حين تعرف أنه عضوٌ في عصابة قتل، وتهجُر البيت، دون أن يُحاوِل استعادتها، وفي هذا الفيلم تخلَّت الممثِّلة ماجدة عن تحفُّظاتها، أمام عمر الشريف، فقبِلَت أن يقبِّلها عند الشاطئ، مثلما سبق لفاتن حمامة أن فعلَت في «صراع في الوادي».
إذن، فعاطف سالم قد استخدم نفس الآليات مع عمر الشريف، في أفلامهما الخمسة، سواء في التمثيل، أو كتابة النص. وقد بدا المخرج مُعجَبًا بمدينة بورسعيد بعد الانتهاء من حرب ١٩٥٦م، كقناةٍ بالغة الاتساع، والشوارع ببيوتها الخشبية المعهودة، ومحمد قنديل يغني أغنيتَين فوق سطح القناة، وبدون أي إشارةٍ مقصودة، فإن الفيلم يشير إلى بورسعيد بدون مقاومة؛ مدينة تعيش هادئة بعد التأميم، تنطلق عابرات القارَّات فوق مياهها، وعلى الشواطئ تدور قصة الحب بين ممدوح وعلية، كما أن الكاميرا تنتقل إلى بورفؤاد، لتحلَّ الطبيعة والمشاهد الخارجية، مكان التوتُّر والترقُّب في نهاية الأحداث.
ممدوح هذا رجلٌ غامض «ملاوع»، زئبقي، لا نستطيع أن نعرف من يكون بالضبط. هل هو قاتل، أم رجل استخبارات، عاشق، أم مجرد «جيجولو» يتمتع بجاذبية؛ فهو المتزوج، يخرج في وسط الليل من أجل أداء عملياتٍ غامضة، قد تكون لصالح عصابة التهريب، أو لصالح الجهات الأمنية. وهنا يبدو وجهُه محايدًا في معظم المشاهد، وقد أتقن عمر الشريف أداء هذه الشخصية بقدراته؛ فنحن لا نعرف اسمه طَوال الأحداث الأولى من الفيلم، إلا أن ممدوح هو الاسم الذي يُنادَى به كشخصٍ له وجهان، بل أكثر من وجه، حتى نعرف في النهاية أن عملية قتل عادل، شقيق علية، هي تمويهية، وأن القاتل والقتيل يعملان معًا في أمن السواحل، أحيانًا يقولون إنه «استخبارات»، ومن الواضح أن رسائل عادل إلى أخته التي كانت تصلها عبر ممدوح كانت حقيقية؛ فهي تعرف خطه، وقد وافقَت بناءً على نصيحته في إحدى الرسائل أن تتزوَّج من ممدوح، ولن تلبث أن ترتاب في سلوكه، فتهجُر البيت، وتذهب للإبلاغ عنه، بينما هو يستكمل مهمته؛ ولذا فإن الأحداث تتكشَّف في المشهد الأخير، ونعرف أن رئيس العصابة هو تاجرُ السمك الذي يتظاهر دومًا بالورع، وأن ممدوح ضابط أمن، وفي هذا النوع من الأفلام، فإن «الحركة» تمتزج بالغموض، وهناك عصابة تُحاوِل السيطرة على الميناء، تستخدم أفرادًا ذوي بنْياتٍ قوية، كما أن هناك أجواءَ الضحك، في إطارٍ محدود تخفِّف من حدة العنف بشكلٍ ملحوظ، دون أن نرى الدماء، رغم المشاجرة التي دارت بين ممدوح والبدين في نهاية الفيلم، والتي ستتكرر بطريقةٍ أخرى في الفيلم التالي.
موعد مع المجهول (الجذَّاب)
تنتهي أحداث هذا الفيلم بعد أن تنتهي المعركة الكبرى، بين مجدي والشرير القوي في منطقة الملاحات. لقد تم اختطاف الزوجة، وسيقت مع ابنتها إلى منطقة الملاحات، وذهبَت الراقصة نانا (سامية جمال) لإنقاذ الزوجة ومساعدتها في الهرب، هذه الشخصية أقرب إلى ممدوح في الفيلم السابق. هي زئبقية، مُلاوِعة، غامضة، لم تفُكَّ لغزها إلا في مشهد النهاية، ونعرف أنها عميل شرطة، وبعد أن تكشف عن هُويتها إلى مجدي صاحب المصنع العائد من الخارج، وقد كشف في النهاية، من قَتل أخاه، وبكل ثقةٍ تتجه ناحية سيارتها، تستودعها عينا مجدي، وبإشارة منه، ثم تنطلق العربة؛ حيث نرى في طرفَي الكادر السيارة تنطلق وسط الملاحات، وهو يلوِّح لها.
وإذا كنا قد بدأنا بمشهد النهاية، فإن المشاهد الأولى مصنوعةٌ بطريقةٍ أقرب إلى الفيلم السابق، ما يعني أن عاطف سالم أحب هذا النوع من الأسلوب في تلك المرحلة؛ فهناك شخصٌ غامض يكتب رسالةً مجهولة، وقد ارتدى القفَّاز؛ حيث استخدم المخرج هنا أسلوبًا لجأ إليه من قبل، أقرب إلى الحكي في الأدب؛ حيث يعلِّق الشخص المحوري على الأحداث، وكأنه يرويها، وعالم بها، حدث ذلك في «جعلوني مجرمًا» وعاد إلى الأسلوب نفسه في «موعد مع المجهول»؛ فهو يروي عن رسائل التهديد التي تصل إلى أخيه أمين، الذي لعله عرف شيئًا غامضًا يجري في المصنع، ومن أشخاصٍ مرموقين، وهو الأمر الذي سوف يتكشَّف في النهاية، ويظل التوتُّر والغموض، طوال المشاهد الأولى؛ تريلَّا في مصنعٍ كبير، أذرع حديدية، والإشارة إلى اختلاسات وتهديدات، وحارس ضخم الجثمان، وغليظ، وهو الذي يُلقي بالاتهام بالقتل على رشاد عقب مصرع أمين.
سوف يظهر مجدي بعد فترة من الأحداث التمهيدية؛ حيث نعرف أن رشاد هو شقيق الممرضة نادية التي سيقع مجدي في غرامها، وسيتزوَّجها، وستُنجب منه قبل أن يعرف أنها أخت لرشاد، وبدلًا من سطح القناة في بورسعيد، فإن أغلب التصوير هنا يتم في مؤسسةٍ صناعية ضخمة، بعنابرها، وأتربتها، وحافلاتها، ولن يظهر مجدي، العائد من الخارج إلا بعد أن تتبلور الأحداث؛ فرشاد قد هرب إلى السودان بعد اتهامه بالقتل، وهو شابٌّ وسيم يناسب وجه عمر الشريف، الذي يتعرَّف على الراقصة نانا، ويلتقي أيضًا بنادية على الشاطئ، وتنمو قصة حب. المدينة هنا ساحلية أيضًا؛ حيث تدور الأحداث بين شواطئها، ومستشفى المواساة، ومصنع الصلب، ونادى الصيد، والملاحات، ونحن هنا في أجواء عصاباتٍ بكل ما يُرتكَب من مؤامرات، وقتل وتهريب. وبشكلٍ عام فإن الشخصيات قليلة، ونمطية للغاية، وهي موجودة داخل مصائرها، كما أن هناك عالَمًا ضيقًا؛ فمجدي سوف يتزوج من نادية، شقيقة المتهم بالقتل، ونحن هنا أمام رجلٍ في حالة عشق، تقول له نانا بعد أن يقوم بتقبيلها: «البوسة حلوة قوي، طعمة قوي، بس باردة قوي.» إنه الذكر الجذَّاب لكل من حوله، ولا شك أن سامية جمال هي البديل للراقصة تحية كاريوكا في «شاطئ الأسرار» و«إحنا التلامذة».
ومثلما اهتم المخرج بتصوير تفاصيل من بورسعيد، والقناة، فإنه هنا يذهب إلى أماكنَ متفرقة، من الثغر، شاطئ المنتزه، مستشفى المواساة، والمبنى الفرعوني الفخم لكلية الهندسة، أما الشخصيات فهي قليلة؛ مجدي، نانا، نادية، مصطفى ضابط الشرطة، ثم مدير المصنع الذي يرأس العصابة، وشخصيات ثانوية تمثِّل العصابة، التي تتساقط أوراقها، حتى يتم اكتشافُ أن الفاعل بعيدٌ تمامًا عن الشبهات، وهو أقرب إلى أصحاب المصنع.
من الناحية الجغرافية فإن الفيلم قد انتقل بأبطاله إلى أبرز معالم الإسكندرية، خاصةً منطقة الملاحات، التي كانت ساحة للمطاردات في أفلامٍ عديدة في تلك المرحلة، أما مجدي الذي يمثِّل بؤرة الأشخاص، فقد ظل متواجدًا في الكادر طوال الأحداث حتى المشهد الأخير، لقد أحب نادية، وتزوَّجها، وأنجب منها. وقد تعامَل معها بقسوة، عندما أتَتْه الأخبار أنها شقيقة قاتل أخيه، لكنَّ هناك شيئًا ما من العاطفة ربطته مع الراقصة نانا التي تُصاب بطلقٍ ناري ويزورها في المستشفى، هناك مشاعرُ بينهما؛ فهي تخبره ما إن تتكشف الأحداث: «في وقت من الأوقات حبيتك بصحيح، مع السلامة، حاول تنساني وإلا حاعمل لك محضر.»
إنها نفسها التنويعة بمعالجاتٍ مختلفة، تتكرر فيها الشخصيات «حبيبة، راقصة، قتيل، قاتل، حارس قوي البنيان، ومعركة يائسة بين شاب متعلم وهذا الحارس، ثم هناك ضابط الشرطة في صورة راقصة، وتكرار لظهور محمود فرج، وإن خلا الفيلم هنا من شخصيةٍ فكاهية لكنها ستظهر في أفلامٍ أخرى، ومنها «صراع في النيل».
إحنا التلامذة (الطالب)
في حوار بين الأب الذي يتعامل بقسوة مع ابنه الفاشل، الراسب غالبًا، وبين المحامي الشاب الذي جاء لخطبة ابنته، يقول الابن إنه في سن الثانية والعشرين، ما يعني أنه طالبٌ جامعي، وليس تلميذ مدرسة، بما يعني أنه في سن الرشد، والنضج، هذا الشاب نراه مع متهَمِين آخرِين في المحكمة في المشهد الأول، والأخير من الفيلم، ينتظرون الحكم عليهم لما اقترفوه من جريمة، أما حواشي الفيلم فهي تؤكِّد أن الطلبة الثلاثة عادل، حسنين، سمير، اندفعوا إلى ارتكاب جرائمهم دفعًا، وأنهم لم يكونوا قتلةً بالسليقة، بل إن المجتمع متمثلًا في كل أسرة هو الذي كان السبب وراء الجرائم؛ سرقة، وقتل، وإجهاض خادمةٍ بريئة ماتت أثناء العملية. حسنين يدفعه عمه إلى الأخذ بالثأر، وهو يرفض. أما سمير فإنه يعاني من انشغال والدَيه المنفصلَين، كلٌّ في حياته الجديدة، ولا يلقى أي رعاية. أما عادل فقد أخذ النصيب الأكبر من الحكاية، ورحنا نتعرف على المزيد من التفاصيل حول قصة حُب تربطه بجارته، وتعسُّف أبيه دومًا ضده، كما أن والد حبيبته، الجار في المنزل المقابل؛ فهو يدفع بابنته جمالات إلى أن تتزوج من رجلٍ عجوز، دون أي مراعاةٍ لمشاعر ابنته، وهو المتزمِّت الذي لا يراعي مشاعر ابنته، ولا الجار الذي لا يزال في مرحلة التعليم.
وجه الطالب الذي يجسِّده عمر الشريف هنا، هو لشخصٍ نقي، عاشق، لكنه ليس مثاليًّا تمامًا؛ فقد رسب في العام الأسبق، لكنه اشتغل أثناء الإجازة، كي يعوِّض فشله، ويتولى مسئولية نفسه، هو مثل الكثير من الشباب، يقع في قصة حُب، مستحيلة، مع جارته، قلبُه مفعم بالحب تجاه حبيبته التي تتكلم إليه أحيانًا عن طريق أخته عَبْر النافذتَين، كما أنهما تذهبان إلى نهر النيل في فلوكة صغيرة، وهو تبعًا للصحبة التي يرتبط بها، يتعاطى الخمور، خاصة عندما تشتد به أزمته العاطفية، وتبعًا لهذا فإنه يتجه إلى شقة سهام ويطرق الباب، ووسط غضب والد الفتاة، فإنه يثير المتاعب حول عادل، ويتكرَّر الأمر ثلاث مراتٍ بتفاصيلَ مختلفة، تدفع والده أن يطرده من المنزل، ويبدو الابن مطيعًا لأبيه، في بيتٍ يعيش فيه بلا حيثية، ويبدو ذلك واضحًا حين يأتي المحامي الشاب لخطبة أخته فاطمة، فيردِّد عادل أن الكلمة النهائية لدى الأب، هذا الرجل المتزمت الذي يعامل ابنه الوحيد بجفاءٍ ملحوظ في كل الأحوال، وفي كل المشاهد التي صوَّرها الفيلم؛ فهو لا يتورع عن توبيخه على فشله بشكلٍ ملحوظ، أمام خطيب أخته الذي يأتي لزيارتهم للمرة الأولى. وكما أشرنا فإن لعادل وقصته أكبر مساحة من القصص الثلاث التي يقدِّمها الفيلم؛ فهو ابن الطبقة المتوسطة، أبوه الموظف لديه أسرةٌ يتولى مسئوليتها، ومنهم ابنته فاطمة التي تتزوَّج، وهو فيما بعدُ يستعين بزوج ابنته كي يُصلِح ما بينه وبين ابنه، إلا أن الوقت يكون قد انفلَت من الزمام، كما أن زوج الابنة هذا هو الذي سيتولى الدفاع عن الشبان الثلاثة بعد القبض عليهم.
لم يكن عادل مُحرِّضًا على الجريمة، ولا المنادي بها، لكنه ينصاع وراءها، فعندما يهرب من المنزل، فإنه يلجأ إلى بيت حسنين، ويفاجأ بأن عمَّه قد جاء إليه مجددًا، يطلب منه؛ أي من ابن أخيه حسنين، أن ينتقم لمقتل أبيه، وفي هذا المشهد يكون العم قد حسَم أمره، وأتى بشقيق حسنين كي يقوم بالثأر، وأمام هذا الموقف المرتبك، فإن عادل يطرُق باب الراقصة جمالات التي تسكُن في نفس المنزل، وهي أيضًا عشيقةٌ لحسنين، وتستقبله الراقصة (تحية كاريوكا) بذراعَين مفتوحتَين.
وفي القصص فإن الوحيد الذي لديه أهلٌ يسألون عنه، ويؤرِّقهم غيابُه عن الدار هو عادل؛ حيث تُصاب أمه بالهذيان، فيلجأ الأب إلى زوج ابنته كي يُعيدَه إلى البيت، إلا أن عادل يُبلغُ زوج الأخت أنه جاء بعد فوات الأوان.
كان عادل قد ارتكب جريمتَه مع صديقَيه، حين قامت مشاجرةٌ في البار، وهذا هو الجزء الحقيقي من القصة، فقاموا بالتخلص من صاحب البار، واكتشفوا أن المبالغ التي سرقوها ليست سوى عملاتٍ ورقيةٍ بالغة الصغر، ورغم ذلك يتم تدبير الأمر لإحضار قابلةٍ كي تقوم بإجهاض الخادمة التي أغواها سمير.
وقد انتهى الفيلم بشكلٍ تقليدي، تربوي؛ حيث اختلق الكاتب راويًا يحذِّرنا من مثل هذه المصائر الاجتماعية، التي حدثَت لثلاثة شبابٍ وراقصة؛ حيث طالب وكيل النيابة بإعدام المتهمين.
وعلى طريقة عاطف سالم في تلك الفترة؛ فهو شغوف بمدينة القاهرة، ونهرها، وميادينها، ومقاهيها، خاصةً كازينو العتبة، رغم أن الكثير من الأحداث تدور في أماكنَ ذواتِ جدران، مثل شقة حسنين، وشقة الراقصة، وبيت عادل، وبيوتٍ أخرى عديدة.
صراع في النيل (ابن النهر)
لم يحدث أبدًا في تاريخ السينما المصرية أن رأينا نهر النيل بكامل طوله من مدينة الأقصر، حتى العاصمة القاهرة؛ فالنيل وسطح مياهه، هو البطل الرئيسي، ولم تَبتعِد عنه الكاميرا طَوال أحداث الفيلم، وهو فيلم يختلف في إيقاعه وشخوصه عن السينما المصرية، وفيه كشف المخرج عن شغَفه بسطح المياه الذي رأيناه حاضرًا بقوة في الأفلام الثلاثة السابقة مع نفس الممثل. ويبدو عمر الشريف (محسب) هنا شابًّا صغيرًا، من أبناء الأقصر، هو الابن الوحيد لأبيه الذي يودُّه أن يتعلم المسئولية، فيُقرِّر أن يرسله إلى القاهرة، فوق مركب، من أجل شراء صندلٍ لزومَ التطوُّر، لقد كبر الابن، وحان الوقت للاختبار.
وفي هذا الفيلم، عاد عاطف سالم للاستعانة بنفس الطاقم، الذي يظهر معه في أفلامٍ سابقة مع عمر الشريف، وعلى رأسهم محمد قنديل، ومحمود فرج، وأحمد الحداد، وتهاني راشد، لم يلجأ المخرج، أو بالطبع كاتب السيناريو علي الزرقاني، إلى طريقة الغموض في أفلامه السابقة، ولكن إلى أن نتعرف على التناقُض الملحوظ بين مجاهد (رشدي أباظة) ومحسب، فكلاهما قرويان، إلا أن مجاهد قويُّ البنيان، ماهرٌ في أشياءَ عديدة على رأسها التحطيب، والإبحار، وهو شابٌّ شهم، تبدو ملامحُ الرجولة واضحةً عليه. أما محسب فهو أرعنُ خفيف، قليلُ الخبرة، عاشق، وفي الوقت نفسه فإن لديه الرغبة أن يُصبِح أكثر نضجًا. وهما ليسا شقيقَين، كما كتب أحد النقَّاد الراحلين في مقال عن الفيلم، بل إن محسب هو ابن الريس جاد.
ومثلما يفعل المخرج عادة، فإنه في المشاهد الأولى من الفيلم يصوِّر لنا أجزاءً كثيرة من مدينة الأقصر، ابتداءً من ساحة معبد الأقصر؛ حيث تدور مباراة التحطيب، ومعالم عديدة، منها وادي الكباش، رأيناها أثناء انطلاق الأبكم (أحمد الحداد) بحثًا عن مجاهد، وفي هذه المشاهد نرى كيف يتصرَّف محسب كشابٍّ مدلَّل، لا يزال يضع قرطًا في أذنه. ويبدو هذا الوجه جديدًا على عمر الشريف، وقد أدَّاه بتلقائيةٍ ملحوظة، عليه أن يتحمل المسئولية؛ فأبوه باع بعض الأرض، وقد صار كهلًا يريد أن يبيع المركب القديم، وسيلة النقل الأساسية فوق النهر، وشراء صندل، وهو يطلب من مجاهد أن يأخذ المال وأن يبيع «عروس النيل» وشراء الصندل.
والفيلم بمثابة حالةٍ من التحوُّل التي يمر بها محسب أثناء الرحلة، التي يقوم بها عددٌ من الأشخاص فوق النهر. ويبدو محسب شخصًا مطيعًا، إزاء مجاهد في البداية، حتى تظهر الغازية نرجس، التي ستُحاول عرقلة الرحلة، وسرقة الأموال، وهي تلعب دَور الأنثى التي تفرق بين الرجال بقوة، وبدهاء المرأة.
ترك محسب وراءه حبيبتَه الريفية، وسرعان ما نسِيَها أمام دهشته لما يرى من متغيراتٍ جديدة عليه؛ فعلى الرغم من تحذيرات مجاهد، فإنه ينزل إلى المولد في إحدى محطات الرحلة، ويمارس ألعابه، وتتم سرقة النقود منه، ويكون الدرس الأول هو أن يكون حريصًا، وأنه بلا ثمن لو سُرقَت منه الأموال، وبكل رجولة، وخبث فإن مجاهد ينجح في استعادة النقود المسروقة، ويعود إلى المركب، وتلحَق به الراقصة، ويُصبِح المركب مرصدًا لهؤلاء اللصوص الذين دفعوا بالراقصة كي تسرق الأموال.
تغيَّرَت الحياة تمامًا فوق المركب، بعد صعود نرجس إلى هناك؛ فهي تُلقي بشباكها على الرجلَين، وتمُر بعددٍ من المراحل، تقع خلالها في حب مجاهد، وتدافع عن رفاق الرحلة لدرجة أنها تموت مقتولةً في نهاية الأحداث. أما محسب، فإنه يتصرف برعونةٍ شديدة؛ فالمرأة مثيرة بالفعل، وهي تميل إلى مجاهد الذي لا يعبِّر عن مشاعره بسهولة، وكل همِّه هو حماية المركب، يحنُّ عليها، وبالأموال الموجودة في دولابٍ خشبي، والتي حاولَت المرأة سرقتَها والهروبَ بها في إحدى المرات.
الصراع الذي يدور فوق النيل، هو الصراع الأزلي من أجل امرأة، وأيضًا من أجل حماية الأموال من السرقة، وهو يدور في بيئةٍ مفتوحة وسط رجالٍ لديهم أخلاقهم المتحفِّظة؛ فشتَّان بين القروية التي يُحبها محسب، وبين نرجس، الغازية التي تسعى إلى الإيقاع بين رجلَين، والهرب من القُساة الذين يُطارِدونها، وإغواء مجاهد، رغم أنها ذات ليلة تزوَّجَت من محسب الذي وقع في نيران أنوثتها، فصار على مجاهد أن يقبل على مضضٍ هذا الزواج، وهو فيما بعدُ سيتم طردُه من المركب، عقب أن قام الرجال بالهجوم عليه، وصار على الفتى الغِر أن يُدير المركب وحده، وأن يُخفي المال في أحد البلاليص التي يتم نقلها وقد صار حريصًا أكثر. لقد تعلَّم من التجربة، وتخلَّص من رخاوته، وقاتل اللصوص، حين هاجموا المركب، يأتي مجاهد في سفينة البوليس النهري. عمر الشريف هنا، هو ابن نهر النيل، الذي فوق صفحته يمُر بالتجربة، ويتغيَّر بشكلٍ ملحوظ إلى أن يعود إلى الأقصر، يقود الصندل، تحت إشراف مجاهد، فيبدو وجهه وقد اكتسَى بالجدية. وهذه هي حبيبته تنتظره في المكان نفسه الذي استودعَتْه فيه. وقد بدا النهر مُترفِّقًا به، يعلِّمه كيف يتصرَّف. وظل مجاهد بالغ الإخلاص كالعادة، مهما تعرض لمتاعب، أو غُبن.
لا شك أن الوجه هنا يختلف كثيرًا عن الوجه الصعيدي الذي أطل به عمر الشريف علينا لأول مرة في فيلم «صراع في الوادي». إنه هنا صعيديٌّ تلقَّى قَدْرًا من التعليم، كما أنه ابن لأسرةٍ عريقة، لكنها ليست صاحبة ثروة، وفي «صراع في النيل» هو الشاب الصعيدي، الذي عليه أيضًا أن يتعلم الكثير.
المماليك (الثائر)
لم يتغير الوجه السينمائي لعمر الشريف كثيرًا في الأفلام المصرية إلا بقَدْرٍ محدود للغاية، خاصةً فيما يخص الفيلم التاريخي، وأيضًا الصحراوي. وقد كان يوسف شاهين هو أول من قام بإسناد دورٍ تاريخي في فيلم «شيطان الصحراء» عام ١٩٥٤م، ثم جاءت التجربة الثانية والأخيرة في «المماليك» الذي بدأ تصويره بعد عام ١٩٦٢م؛ أي بعد عرض فيلمه البريطاني «لورانس العرب»، وأيضًا بعد اكتشاف نبيلة عبيد بفترةٍ ملحوظة. وفي الفترة بين عامَي ١٩٦٢م و١٩٦٥م، كان عمر الشريف منشغلًا تمامًا في العمل في أكثر من فيلم صوَّرها في مدنٍ أوروبية عديدة؛ لذا استغرق تصوير فيلم «المماليك» وقتًا طويلًا. وقد بدا فيه حسين رياض مثلًا في حالة لياقةٍ عالية، والفيلم قد عُرض قبل رحيل الممثل بفترة قبل مرضه.
الفيلم التاريخي يعني أن الممثل يرتدي ملابس تشير إلى حقبةٍ معيَّنة، وتبدو تسريحة شعره مناسبة، وكما نرى من العنوان فهو يدور في زمن المماليك؛ أي قبل احتلال تركيا لمصر عام ١٥١٧م، حين كان هناك الحاكم شركس، ورغم ذلك فإن أحمد الحداد صانع الأسلحة يرتدي ملابسَ أقرب إلى العصرية، ولا يضع غطاءَ رأسٍ مثلما رأينا المماليك في فيلم «وا إسلاماه».
وفي الفيلم رأينا شخصية الطاغية «شركس» في مساحةٍ درامية أكبر من شخصية صانع الأسلحة، الذي يظهر بعد فترة من التركيز على الحياة في القصر المملوكي؛ فشركس يتسم بجبروتٍ ملحوظ؛ فهو رجلٌ لامع العينَين، ثاقب البصيرة، كلمتُه لا تُرد، تؤذي، وهو الشغل الشاغل لكل من حوله، خاصةً إذا أصابَتْه وعكةٌ خفيفة في بطنه بسبب الأكل، فيأتي إليه أحد الأطباء، وهو يطلب حضور المهرِّج، ويهدِّده بقطع لسانه، لو لم تُضحِكه النكتة اليتيمة التي سيُلقيها عليه، ويتعمَّد ألا يضحك حتى ينفَّذ له ما يريد، كما أنه يبدو سعيدًا وشرهًا لشراء المزيد من الأطفال الذين سيكونون جيشًا قويًّا من المماليك. إنه رجلٌ قوي، يسعى إلى المزيد من السلطان، ويحضُر مساومةً بين اثنَين من مساعديه للحصول على مزيدٍ من السلاح من السوق، هذا السلاح يصنعُه حاج محمود وربيبه أحمد (عمر الشريف) الذي صار شابًّا وسيمًا، وصار وجودُه خطرًا على ابنته قمر.
أحمد هذا واحدٌ من العمال المهرة، حدَّاد يعمل في صناعة السلاح الأبيض، وبعد عدة أحداثٍ طويلة تعرَّفنا من خلالها على شركس، فإن المكان ينتقل إلى منطقة سوق السلاح بالقاهرة، وقد بدا عمر الشريف هنا وقد تغيَّر، وكأنه أشبه بالوجوه التاريخية التي جسَّدها في السينما العالمية؛ فهو رشيق الحركة، له عينان لامعتان، يبدو شابًّا وسط مجموعةٍ متهالكة من البشر؛ ولذا فمن السهل أن يصير قائدًا لهؤلاء الناس، وأحمد لم يكن ثوريًّا، مناضلًا بالسليقة، بل إن مقتل أمه على أيدي الجنود المماليك، هو الذي دفعَه للانتقام، وقرَّر الذهاب إلى القصر لينضم إلى جيش المماليك، وكي ينتقم على طريقته.
نحن هنا أمام شركس الطاغية، وأحمد ابن الشعب، القوة مقابل الشباب، ولا بد له أن يدخل القصر، ويحدُث ذلك عقب قيام جعفر، الوزير الأول، بزيارة بيت أحمد في سوق السلاح، الباحث عن رسالةٍ سرية، أرسلَها قائد الثوار نور الدين ووقعَت في يدَي أحمد، ووصلَت إلى شركس فدفع بها إلى من يحلُّ شفرتها. وقد جاء جعفر إلى سوق السلاح بحثًا عن الرسالة، وهناك يتعرَّف على أحمد، ونعرف أن جعفر من قوَّاد الثورة المرتقبة. إنه فيلم يتناسب مع السياسة السائدة في مصر في تلك الآونة، مساندة كل ثورة ضد الطاغية. وسرعان ما يذهب أحمد إلى القصر، من أجل إنقاذ الرهائن الذين ذهب بهم أيبك، وزير الداخلية لدى جعفر، ويرتدي أحمد ملابس المماليك، ويثير انتباه شركس ويدخل معه في تحدٍّ حول عملية النيشان. ويموت عم سيد السقا، أحد رجال أحمد بسهمٍ أطلقه شركس، فيصبح هناك سببٌ جديد للمقاومة لدى أحمد الذي يردِّد: «النهارده فتَّحت عيني على حاجات ما كنتش شايفها، الظلم.» كل شيء يتم في إطارٍ من القسوة؛ فموتُ سيد مرتبطٌ بسحله عقب وفاته. وتبدو المواقف متضاربةً من طرف شركس، الذي يعين خصمه الجديد رئيسًا للحرس الخصوصي لمولاه، وعلى طريقة الحاكم في فيلم «لاشين» الذي جسَّده حسين رياض أيضًا، نرى كيف يكون الحاكم لاهيًا، لا هم له إلا النساء في الحرملك، وهو يرمي بشباكه حول قمر التي تم خطفُها مع الكثير من السيدات، وإحضارُها إلى القصر، فصار هناك دافعٌ أقوى لقيام الثورة، وإثارة القلاقل. ونرى كيف لجأ عاطف سالم إلى تصوير الحفلات الراقصة ضمن مراتٍ قليلة في أفلامه. ويتحرَّك أحمد وحده، إلى جوار الوزير الأول جعفر، ولن يلبث أن يتم القبض عليهم قبل أن تحدُث المعركة الأخيرة؛ الحاسمة، فنحن لا نرى نور الدين، لكن أحمد الذي تمكَّن من الهرب من القلعة يعود على رأس قوة من الثوار. إنهم ليسوا جنودًا. وتحدُث المواجهة، فيتم تحطيم بوابة القصر، وتنتهي المعركة بشكلها التقليدي.
لا تُوجد فروقٌ كثيرة بين الفارس في «شيطان الصحراء» والثائر في «المماليك»؛ فقد تمكَّن الثائر من القضاء على الظلم الذي يسود، وانتقم أحمد لمقتل أمه، وزملائه الذين ساندوه من منطقة سوق السلاح. وقد بدا أن عاطف سالم قد تعامل مع نجمه المفضل باعتباره ممثلًا عالميًّا، ويبدو ذلك واضحًا في أفيش الفيلم الذي كان يملأ الشوارع، عمر الشريف وحده.