طارق التلمساني
ضحك ولعب وجد وحب (رجل الاستخبارات)
عرفَت السينما المصرية ما يُسمى بأفلام ذاكرة المخرجين، أسوةً بكُتب السيرة الذاتية التي يكتبها العظماء في مجالاتٍ مختلفة، خاصة رجال الأدب. وقد ازدهرَت هذه الأفلام أولًا في السينما الإيطالية من خلال أفلام «إني أتذكر» لفيلِّيني، ثم زحفَت إلى السينما الأمريكية، والبريطانية في أكثر من فيلم أخرجها بوب فوس، مثل «كل هذا الجاز»، و«ليني». وكان يوسف شاهين من أبرز من قدَّموا هذه السيرة أربع مرات، في أواخر حياته، من خلال أفلام «إسكندرية ليه» و«حدوتة مصرية»، و«إسكندرية كمان وكمان»، ثم «إسكندرية نيويورك». وكان المخرج العالمي الأوحد الذي قدَّم وقائع سنوات الصبا، والشباب في أربعة أجزاء، وهذه الأفلام تصوِّر ما دار للفنان في هذه السنوات، وعن قصص الحب الأولى. وفي إيطاليا كانت هناك تجربة فيلم لجوزيبي تورنا توري، وقد رُويَت هذه السنوات بالنسبة لي في ثلاثيةٍ روائية تحمل عنوان «ثلاثية الحنين». وفي فيلمه «ضحك ولعب وجد وحب» عام ١٩٩٣م، روى طارق التلمساني في سيناريو كتبه مجدي أحمد علي ذكريات الصبا والشباب في مصر الجديدة.
أطرف ما في عنوان الفيلم أن عنوانه مأخوذ عن أغنيةٍ مشهورة كانت تتردَّد في تلك السنوات، الستينيات، أو قبل ذلك بقليل. لكن الأغنية الوطنية الرائعة التي بدأَت أحداث الفيلم وهي «عدَّى النهار»، لعبد الحليم حافظ، كانت تمثِّل حالةً وطنيةً خاصة سكنَت فينا جميعًا، وارتبطَت بالأحداث السياسية الكبرى التي شَهدَتها مصر في تلك الآونة. وقد تصوَّرنا بهذه الأغنية أننا أمام فيلمٍ سياسي وطني، خاصة أن عام ١٩٦٨م شهد الأحداث الشبابية الكبرى في كل أوروبا، ثم انتقل إلى بقعٍ عديدة من العالم ومنها مصر، وارتبطَت هذه الأحداث بالنكسة التي انعكسَت على كافة سلوك أبناء مصر في تلك السنة. ورغم ذلك فإن طارق التلمساني صنع فيلمه الأوحد، الخاص، عن ذكرياته في مصر الجديدة، حين استطاعت مجموعة من الطلاب أن تتحدى طاقم العاملين في المدرسة، ولم تُروِّضهم سوى عاهرةٍ حسناء، يُطِل بيتها مباشرةً على فناء المدرسة. إنها «إش إش» (يسرا) التي تحوَّلَت إلى كوكبٍ دري جذَب أغلب الرجال والشباب في محيط الدائرة التي تعيش فيها. ولم يختَر المخرج في فيلمه هذا أن يتحدث عن نموذجٍ بعينه من شباب تلك السنوات، مثلما فعل خالد الحجر، أو يسري نصر الله، لكنه قدَّم لنا أربعةً من تلاميذ مدرسة ثانوي، من بينهم شاب بلغ الثامنة والعشرين، فَشِل طويلًا في الدراسة، ارتبط بهم من خلال علاقة كلٍّ منهم بالمرأة. نحن هنا أمام أربع قصصٍ صغيرة، رئيسية، بمعنى أن أبطالها صغار السن، وتتمثل قمة معاناة كلٍّ منهم في أنه يمارس تجربة حبه الأول على طريقته، أو أن يعاشر النساء بما يُرضي رجولته المبكرة. إنه سحر التجربة الأولى، ولكن المساحة الكبرى في أنه يُمارِس رجولته المتوقدة. الكابتن أدهم (عمرو دياب) وهو أيضًا أضخمهم جسمًا، وأكثر حظًّا في الحصول على ما يشاء من النساء بسبب فحولته، وفظاظته، وهو كما يردِّد «١٢ سنة خبرة في الثانوية العامة». وأبطال هذه الحكايات ليس لهم من همٍّ خاص أو عام، سوى الحب، أو المرور بتجربة الحب، حتى مَن أخطأ منهم، فإنه سرعان ما يجد حلًّا لمشكلته. حتى العلاقات التي بدأَت غير متكافئة بين أدهم وإش إش انتهت أيضًا نهايةً سعيدة، بلا مشاكل، بعد أن تصوَّرنا أن وجود الأب، ضابط الاستخبارات الكبير (عمر الشريف) يمكن أن يضع العراقيل في طريق هذا الحب.
هذا هو عمر الشريف يعود إلى السينما، في ذلك العام. كان قد وصل إلى سن الثمانية والستين، ملامحُ مختلفة، عويناتٌ سوداء، قاتمة، وشعرٌ داكن مليء بالغموض. هو رجل أمنٍ بالغ القلق على مصير ابنه الذي يرتبط بعاهرة، ويريد أن يتزوَّجها. لقد ظهر الرجل في الوقت المناسب بالنسبة له، ويطلب منها أن تبتعد عن ابنه، فإذا به يقتنع بعد قليل بأن غادة الكاميليا هذا الزمن، تحب ابنه، فيوافق على الزواج، ثم يحاول إثناءها عن ابنه بعد الزواج على طريقة الأب دوفال في الرواية نفسها، ولكن بلا جدوى. ووسط هذا العالم يعيش كلٌّ منا حنينه الخاص؛ فالشوارع لا تزال موجودة، ويجد كل شخصٍ نفسه، في جزء من هذه القصص، أو فيها جميعًا، ليس فقط في تلك الجمل، التي يردِّدها أبطال الفيلم، والتي تنتمي جميعًا إلى تلك المرحلة، وتم اختيارها من الذاكرة الخصبة، وإنما أيضًا في الجو العام الذي انتقلنا إليه لتلك الفترة. ومن الواضح أن هؤلاء الشباب تصرَّفوا بما أملَتْه عليهم تجاربهم الصغيرة، وانتماءاتهم الاجتماعية؛ فليس هناك همٌّ عام بمشاكل الوطن، ولا بالسياسة، ولا بما كان على حدود جبهة القتال، ولا بما لحق بالوطن من هزيمة، سوى مظاهرةٍ شبابية، خرجَت إلى الشوارع بدعم من المدرِّس الذي كان زميل فصلٍ سابقًا لأدهم، وما لبثَت أن أجهِضَت، حتى إن هذا المدرس لا يتحدث قط عن الهزيمة العسكرية، بقَدْر ما يتحدث من هزيمته النفسية.
وفيلم «ضحك ولعب وجد وحب» الذي يتعرض لهذه القصص الصغيرة، به القليل من الضحك، ولكن به الكثير من الصفاء، صفاء التجربة الأولى وبساطتها، فيتبين ذلك من موقف واحد من الأربعة تجاه البنات؛ فهو لا يجيد التعامل مع أيٍّ منهن؛ ولذا فهو يفقد القدرة على الاتصال وكأن هناك نحسًا يلازمه، خاصة حين يحاول ملامسة عاملة الهاتف، صديقة إش إش، فيُفاجأ بأنها ليست فتاةً محترمة، حين زلَّت معه حبيبتُه مها، فراح يبحث عن خلاصٍ بأي ثمَن؛ فهو يزور القس في الكنيسة كي يستمع منه إلى النصيحة. ومن هنا تأتي أهمية اشتباك القصص الأربع في ضفيرةٍ واحدة تجد لها إش إش حلًّا؛ فهي تتصل بأم مها كي تُطمئِنها على ابنتها التي نامت لليلةٍ خارج المنزل، ثم هي تقوم بإجهاض الفتاة، على يد طبيب، وسوف تدفع له الثمَن ليلةَ متعة. وإش إش هنا هي العشيقة والأم للجميع، بمن فيهم أدهم نفسه. وتنجح في كسب ثقة الأب أن يوافق أن يمنحها ابنه الوحيد؛ فهناك في ماضي أدهم علاقةٌ متوترة بين أمه الراقصة سابقًا، وبين أبيه الذي طلَّقها.
إذن يضُم الفيلم قليلًا من الضحك، بل هو ضحكٌ مفتعل، ويبدو ذلك في موقف التلاميذ، ومدرس العلوم، والناظر. وتحوَّل اللعب به إلى العزف على أوتار النساء، وأجسادهن، فشاهد كمًّا لا بأس به من لحوم النساء، خاصة إش إش، والفتيات اللاتي يذهبن للرقص في الملهى الليلي، وأيضًا اللاتي يتعرَّضن لغواية الرجل. وإذا كان هذا هو اللهو في منظور المخرج، فليكن؛ لأن اللهو قد اختفى تقريبًا من حياة هؤلاء جميعًا، وأصبح الجد هو المتواجد أكثر في أجواء الفيلم.