رامي إمام
حسن ومرقص (الشيخ)
هناك فرقٌ واضح بين التأليف، وبين تعمُّد التأليف.
فالتأليف يأتي بشكلٍ تلقائي، ينسِّق نفسه لدى الكاتب، ويجد المؤلف نفسه يعبِّر بسلاسةٍ واضحة عما في أعماقه. أما تعمُّد التأليف فإن الكاتب يبدو فيه أقربَ إلى مهندس، أو مُعِد برامجَ إلكترونية، يقوم بوضع المواقف في خاناتٍ محدَّدة لها، ويخرج العمل الفني متناسقًا بشكلٍ جيد، لكنه يخلو تقريبًا من الروح.
وهناك في عالم الأدب، كُتابٌ كثيرون لا يمكن أن تأخذ على أعمالهم أي هفوة، وتُحِس كأن الكاتب مهندسٌ متميز، لا يكاد يترك شيئًا إلا استوفاه. لكن جمال الحياة في تلقائيتها و«هرجَلتها» خاصةً في بلادنا.
ولا بد أن تنتابك مثل هذه المشاعر، وأنت ترى فيلم «حسن ومرقص»، فتُحِس كأن الكاتب يوسف معاطي، قد أتى بورقة رسمٍ ضخمة، وأخذ يضع المقاييس والمواقف، ينسِّق فيما بينها، ويصنع الأحداث بشكلٍ متوازٍ، ويملأ الخانات، ويضع المعادل المقابل في الكثير من الأحداث، كلًّا أمام بعضه؛ يعني أن تحدث الأشياء في الوقت نفسه، كأنما التنسيق الدقيق هو هُويَّة الحياة، وليست العشوائية؛ فما يحدث ليس من قبيل الصُّدف، وإنما هو تعمُّدٌ هندسي من الكاتب.
«حسن ومرقص» فانتازيا اجتماعية، بمعنى أن الأحداث لا تدور هكذا في الواقع، بالطريقة الهندسية، وليس أبدًا بالمبالغة نفسها. ولن يشفع للفيلم أنه تناول مسألةً حسَّاسة؛ فكم من أفكارٍ رائعة، ومهمة، أتلفَتْها الصياغة الشمعية التي رأيناها بها.
والشكل الفانتازي الاجتماعي هنا يتمثل في صورٍ عديدة، منها إخفاء الهوية الدينية لأسرتَين في نفس الوقت، وأن تسوق الصُّدف الأسرتَين أن تسكنا في البيت نفسه، في شقتَين متجاورتَين، حتى وإن تم ذلك بمساعدة الجهات الأمنية؛ فالأسرتان تقيمان في شقتَين مواجهتَين كأنما الشقتان توءم، تحدُث في كلٍّ منهما الأحداث في الوقت نفسه، حتى مشاعر الحب التي تنمو، ليس فقط الحب العاطفي الذي نما بين جرجس ومريم، ولكن الحب الرباني الذي ألَّف بين الأسرتَين، المسلمة والمسيحية. وكأن الفيلم اختار أن يكون عميدٌ لكل أسرة على رأس الوظائف الدينية؛ فهذا قس، بولس، وهذا إمام مسجد، محمود.
ولا شك أن مسألة تغيير الهُويَّة لكلٍّ من القس والشيخ، بحيث يتبادلان الأدوار، هي أقرب إلى الفانتازيا؛ فهي لا تحدُث في الواقع، وإن كان يمكن قبولها سينمائيًّا، في فيلم يقوم ببطولته كلٌّ من عادل إمام وعمر الشريف ..
لكن مجرَّد اللجوء إلى الفانتازيا يجعل ما جاء في النص محتمل الحدوث، أو غير محتمل؛ لذا فإن درجة تصديق ما جاء به، تتباين حسب ثقافة المتلقي، وحسب درجة الفانتازيا. وأكاد أشك أن المؤلف أراد للنص أن يكون فانتازيًّا، لكن حساسية الموضوع اضطَرَّته إلى ذلك سواء كان يقصد أم لا، فجعل مسألة التوازي في تصوير أحداثٍ متقابلة، هي الغالبة، في الفيلم، على طريقة شخصٍ يقوم بوزن بضاعتَين من نوعٍ واحد على طرفَي ميزان، مثلما فعلَت فيروز بالجبن في فيلم «ياسمين»؛ حيث تضع شيئًا مقابل شيءٍ آخر، ثم تأخذ من هنا قطعة، ومن تلك قطعة، وهكذا.
ومن الواضح أن الميزان كان أقربَ إلى التعادل في السيناريو، وأن مساحةً ما قد زادت على حساب مساحةٍ أخرى في النُّسخ المعروضة. ولنقُل بصراحة إن كفَّة مساحة عادل إمام وليس بولس كانت هي الأرجح؛ ففي البداية لم نرَ الشيخ محمود سوى في مشاهدَ عابرة، قياسًا إلى مساحة الدَّور للقس بولس. وإن كانت الفقرات القصيرة التي تُذاع في المحطات الفضائية، تبيِّن لنا أن الشيخ محمود قد رفض بقوة أن يصبح قائدًا للجماعة الإسلامية أو أميرًا، وأنهم جاءوا إليه في البيت، لكنه أغلق الباب في وجوههم.
أي إن السيناريو منذ البداية، كان يقدِّم مشهدًا أمام مشهد، مرةً للأب بولس، وأخرى للشيخ محمود، لكننا فوجئنا أن الأب بولس ذهب في البداية إلى المنيا، وأن الناس هناك صنعَت منه شخصيةً مقدسة، لدرجة أن مباحث أمن الدولة اعتقلَته بتهمة التطرف الإسلامي، وهو مسيحي الهوية، بل هو قيادةٌ دينية.
وعندما قرَّر الأب بولس — الذي صار الشيخ حسن — العودة إلى القاهرة، بدأ الظهور المكثَّف للشيخ محمود الذي خلع العباءة، وحمل اسم مرقص، صار عليه أن يعيش بهُويةٍ جديدة على طريقة «تغيير الوجه».
الجدير بالذكر أن مسألة ارتداء شخصٍ مسيحي لملابس الجماعات الإسلامية، وإطلاق اللحية لم يكن بجديد؛ فقد رأيناه في فيلم «الكلام في الممنوع» لعمر عبد العزيز عام ١٩٩٩م، حين تخفَّى صيدليٌّ متهم في جريمةٍ لم يرتكبها، في رداءٍ أبيض وأطلَق لحيته، وهو مسيحي، وعاش أيضًا في منطقة شعبية، وأحبَّته نساءٌ مسلمات دون أن يعرفن أنه قبطي، ودون أن يُفصِح عن هُويته حتى لا يُكشف سره، فيضيع.
وكما أشرنا، فإن القسم الأول قد زادت مساحة الاهتمام بالأب بولس، في النسخة المعروضة، ذلك من خلال اللقاءات المكثَّفة مع ابنه جرجس، وحديثه عن رغبته في تزويجه فتاةً لا يرغبها الابن، وقد تم تقديم شخصية الأب بولس، كما أشرنا بشكلٍ تفصيلي.
تبدأ مسألة المقارنة، أو العرض، بالتوازي بعد ذلك، ابتداءً من المؤتمر رقم ٥١ للوحدة الوطنية؛ فهذا حوارٌ بين شيوخ حول ما يتمتع به الأقباط في الوطن، من ثراء، ومميزات، ثم قطع على رجالِ دينٍ مسيحي يَشْكون من ظروفٍ خاصة ببناءِ كنائس، أو إصلاح كنائسَ قديمة.
ثم تنقطع المقارنة بالتوازي لفترة، نتعرَّف فيها أكثر على العالم الجديد للقس الذي صار إمام مسجد؛ أي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ حيث يتوقف الفيلم لبعض الوقت عن التوازي، ليستعرض موضوعًا آخر، وإن كانت له علاقةٌ بالعقيدة، وهي محاولة بحث الناس عمن يتبرَّكون به، ومن يرجعون إليه، لمجرد الارتياح إليه. والحقيقة أنني كمشاهد، قد اندمجتُ داخل هذا الجزء من الفيلم، ونسيتُ تمامًا أن بالفيلم نجمًا حقيقيًّا هو عمر الشريف، الذي حاول أن يستفيد من أدائه المتميز في «السيد إبراهيم وزهور القرآن»، إلى أن تأتي مصادفة الفيلم، من أجل صنع المقابلة المتوازية؛ حيث نُفاجأ أن الجار الذي يسكُن في الشقة المقابلة للشيخ حسن (بولس) هو المواطن مرقص عبد الشهيد الذي له ظروفٌ مشابهة، بل متطابقة؛ فقد ارتدى الأول هُويَّة المسلم ظاهريًّا، باسم الشيخ حسن، وارتدَت الزوجة ماتيلدا الزي الإسلامي، وصار ابنه جرجس يحمل اسم عماد. أما الأسرة التي تسكن في المقابل فيسكنها مرقص عبد الشهيد (الشيخ محمود) وأسرته، التي جمعَت أسماءً مسيحية.
الذي لا أعرفه هو، هل هي صدفةٌ مقصودة، صنعها اللواء مختار، أم أنها مصادفةٌ سينمائية فانتازية علينا أن نتقبَّلها لنعيش القصة الهندسية؛ بمعنى أنه لا بد أن تقوم علاقة بين الأسرتَين، وأن تعيش الأسرتان ظروفًا مشابهة في نفس اللحظات، وكان أبرزها قيام رجال دينٍ إسلامي بزيارة بيت بولس من أجل مباركته كزائرٍ جديد وساكن للمنطقة، وأيضًا قيام رجل دينٍ مسيحي بزيارة بيت الشيخ محمود لقراءة التراتيل.
أقول لا أعرف هل تم ذلك باتفاق مع اللواء، أن تسكن الأسرتان في المكان نفسه، هل هي عمارة يمتلكها مسيحيون، أم تمتلكها مباحث أمن الدولة. لكن من ملابسات الأحداث، فلا أحد يعرف، حتى صاحب البيت المسيحي أي هُويةٍ للساكنين الجدد؛ فبقدرة قادرٍ سينمائي تم تدبير شقتَين للأسرتَين، واحدة أمام الأخرى. ألم نقل إنها فانتازيا السينما؟!
الآن صار الطرفان في المواجهة، على طريقة «تبادُل الوجه»، وتبدأ العلاقات والاحتكاكات، أول شيء أن تحب مريم المسلمة الشاب جرجس، دون أن تعرف هُويَّته الدينية. ومن خلال هذا التقابل يبدأ الفيلم في كشف مشاعر الطرفَين، المسلم والمسيحي، تجاه نفسه وتجاه الآخر، فيما يُعتبَر نقدًا اجتماعيًّا. وهو أشبه بكلمات رجال الدين في مؤتمر الوحدة الوطنية رقم ٥١.
نحن نتوقف هنا فقط عند مسألة التوازي في الأحداث، التي أكسبَت الفيلم جوًّا فانتازيًّا. لعل أبرز هذه المشاهد وأطوالها، هو المباركة المتوازية، التي يفعلها رجال الدين بالبطلَين، كلٌّ في بيته؛ فلا شك أن هذا القطع والتوازي لا يحدُث سوى في أفلام من هذا النوع، لدرجة ارتفاع التراتيل والأدعية، وخروج الأبخرة المباركة من النوافذ مما يلفتُ أنظار الناس في الشارع.
تتوالى مثل هذه المشاهد المتوازية، من أبرزها أيضًا قيام الرجلَين، ببيع الذهب الذي تمتلكه كل أسرة، عند نفس الجواهرجي. والعجيب أنهما يلتقيان في نفس الوقت لدى الجواهرجي، يحمل كلٌّ منهما علبة الذهب، وهما متشابهتان. كما يبدو ذلك واضحًا حين يذهب الرجلان في ساعة الفجر للصلاة؛ الشيخ حسن عليه أن يدخل الكنيسة، وفي اللحظة نفسها يخرج مرقص عبد الشهيد للصلاة في المسجد. والخروج عن المألوف هنا، حسب معلوماتي، أن الصلاة في الكنائس لا تتم في مثل هذه الساعات المبكرة قبل النهار؛ أي في نفس توقيت صلاة الفجر. لكن الفيلم وجدها مادةً فيلمية للإضحاك، ولكشف هُويَّة الطرفَين؛ فالمسجد في الفيلم بابه أمام الكنيسة مباشرة، إذا خرج كلٌّ منهما أمام الآخر، يدخل بولس للمسجد، ويصلي على طريقة المسلمين، ويفعل ذلك الشيخ محمود، كأنما الفيلم يقول إن الشعائر متقاربة.
وعندما يتم اكتشاف الأمر، يخرج كلٌّ منهما في اللحظة نفسها، تحمل كل أسرة حقائب، أشبه بمن كان يقيم في فندق، أو شقةٍ مفروشة، ويقفان في المواجهة أمام الباب، ثم تنزل الأسرتان معًا، وتذهبان إلى الإسكندرية، وتسكنان في شقةٍ واحدة، بعد أن عرف كل طرفٍ بحقيقة الآخر.
أما المواجهة المتوازية، الجماعية، فهي تتمثل في مشهد النهاية؛ حيث تخرج الجموع من الطرفَين، بشكلٍ آلي، كأنما يحرِّكها ريموت كنترول، كي تواجه بعضها، وكأنما كل شيء ومعه سلطان المؤلف الذي تعامل مع الموضوع بشكلٍ هندسي فأفقده الحيوية.
الفيلم يحتاج إلى الكثير من الموثِّقات، وهو فيلمٌ جدلي، سوف يثير الجدل لفترةٍ طويلة. ولا أعتقد أن إيراداته الضخمة، بسبب جودته، أو لحساسية الموضوع، لكنه يذكِّرني بصديقٍ لي نشر كتابًا يومًا ما عن «السادات والبابا» طبعَه عدة طبعات؛ لأن اسم البابا على الكتاب يدفع الكثير من الأقباط لشراء الكتاب، وإن كان الفيلم صار مجرد حالة لكثرة عروضه الآن في القنوات الفضائية.