أحمد ماهر
المسافر (مسافر)
هناك بعض الأفلام، مهما كانت قيمتها الفنية، وأهميتها، فإنها تبدو وقد استعصت عليك؛ إما في فهمها، أو متابعتها، مهما تعدَّدَت مرات المشاهَدة، أو المحاولات؛ وبالتالي فإن الكتابة عنها تُعَد أمرًا عسيرًا للغاية، وتأتي على غير الوفاق مع النفس. وقد حدث هذا بالنسبة لي مع روايات وأفلام، دون أن أجد قط تفسيرًا، ومن بين هذه الأفلام «المسافر»، الذي التقيتُ مخرجه ذات يوم في رحلةٍ سينمائية خارج مصر، وتقاربنا، لكن ربما أن هناك أسبابًا خاصة بالفيلم، أو بما حدث حوله، ولا أعرف هل من حقي أن أتحدَّث عن ذلك في كتابٍ تكريمي عن عمر الشريف؛ فلا شك أن موقف الممثل من الفيلم عقب عرضه في مهرجان فينيسيا ٢٠٠٩م، قد أثار الدهشة. وهو أمرٌ لم يسبق أن يحدُث من نجمٍ كان دومًا الأعفَّ لسانًا في علاقته بالآخرين، سواء في مصر أو خارجها.
ولذا، فإنني أكتب عن الفيلم، كمن ينقُش على حجَر، وأحاول أن أكون محايدًا قَدْر الإمكان؛ فلا شك أن الفيلم يخُص المخرج لأنه مؤلِّفه. كما أنه استعان بخبراتٍ إيطالية، ومصرية، جعلَت الصورة مختلفة، ابتداءً من صوت رجلٍ عجوز يتحدث أن حياته الطويلة تنحصر في ثلاثة أيامٍ متناثرة من حياته، وأنه بمثابة فاقد الذاكرة، ولم يبقَ له سوى تلك الأيام بما لها من متعة بالنسبة له؛ اليوم الأول في خريف ١٩٤٨م حين عرف الحب لأول مرة، وهو يذهب إلى مدينة بورسعيد، كي يستلم وظيفته في التلجراف. كان شابًّا، اسمه حسن، ومع بداية وظيفته تسترعيه برقيةٌ ترسلها فتاة إلى حبيبها الشاب فؤاد، وسوف نعرف أن ملامح هذا الشاب أقرب إلى حسن. مرسلة الرسالة فتاةٌ اسمها نورا، ذات أصولٍ أجنبية، من اللاتي كن يملأن بورسعيد، كتبَت إلى حبيبها القادمة إليه أنها غير مصدِّقة أنها سوف تقابله بعد فراق دام خمسة عشر عامًا، بعد أن رحلَت عن مصر، وها هي عائدة حاملة «الشوق». يعرف حسن أن نورا بالغة الجمال، ويقرِّر الصعود إلى سطح السفينة من أجل أن يلتقي الفتاة، وأن يُخفي البرقية، وأن يدخل حياتها على أنه حبيبها العائدة من أجله. وبالفعل فإنه يقابلها، يبدو اللقاء بالغ الرومانسية والرقة، وتتعامل معه على أنه حبيبها القديم المنشود.
لا يتمكَّن حسن من الصعود إلى سطح المركب إلا عن طريق «العربي» أو «البمبوطي» الذي يمكِّنه من الوصول إلى هناك؛ حيث النساء جميلات. وفي السفينة يدخل الشاب الذي عرف الحب لأول مرة، إلى عالمٍ أقرب إلى الواقعية السحرية في السفينة، مثل الخمَّارة التي دخلها مع البمبوطي؛ حيث تُباع الخمور الرديئة. ويُفاجأ حسن أن صاحب المكان يعرض عليه الصعود إلى غرفةٍ سحرية؛ حيث يقوم فيها بعض الركَّاب بمشاهدة فعلٍ دنيء بين رجل بريطاني، وامرأة من بورسعيد، وذلك باعتبار أن ما يحدُث نوع من الترفيه للجنود الإنجليز.
يتصرَّف حسن فوق السفينة على أنه فؤاد؛ فهو يشبهه، ويماثله في العمر. ولأن نورا لم ترَه منذ سنوات، فإنها تُصدِّقه، وتُعجَب بما فعلَه من أجل الوصول إليها، بعد أن أخبرها أنه جاء عائمًا بملابسه. وراح الاثنان يتكلمان عن ذكرياتٍ جمعَت بينهما قديمًا، وسرعان ما يتقارب الحبيبان، بالنسبة لحسن فقد وقع الحب لأول مرة في حياته، أما نورا فإنها عادت إلى غرامها المفقود.
لكن سرعان ما تنكشف الحقيقة؛ فالحبيب الحقيقي فؤاد سرعان ما يأتي، وما تلبث الحقيقة أن تنكشف. وينسحب حسن خائبًا بعد أن انكشفَت كذبته، ويصير عليه أن يُلملِم أحزانه، فيجلس إلى جوار المقصورة التي ضمَّت العاشقَين الحقيقيَّين، ويُدخِّن بشراهة، ويرمي بأعقاب السجائر جانبًا دون أن يدري خطورة ذلك، فما تلبث الأدخنة أن تنتشر وتتسرَّب في دهاليز المركب، بين الغرف، والمقصورات، وتعُم الفوضى. وأمام كثافة الدخان فإن فؤاد يقرِّر الفِرار تاركًا حبيبته لمصيرٍ مجهول.
كل ما يحدُث أن نورا المصدومة في هروب حبيبها، أو زوجها الذي تزوَّجَته فوق المركب، يُساعِدها الربَّان في ركوب زورق نجاة يؤدي بها إلى بر الأمان بعيدًا عن السفينة المنكوبة، ويمنحها الرجل مفتاحًا لشقته في بورسعيد، وتجد نفسها أمام مصيرٍ مجهول.
اليوم التالي، في مدينة الإسكندرية في صيف عام ١٩٧٣م، لقد مر الزمن بحسن واقترب من نهاية العقد السادس. جاءته رسالةٌ من فتاةٍ جميلة. إنها نادية، ابنة حبيبته القديمة نورا، تشبهها (سيرين عبد النور أيضًا)، يلتقيان عند المشرحة، تطلب منه أن يدخل معها المشرحة؛ فقد مات أخوها التوءم «علي» غرقًا في البحر. كان شابًّا يهوى المراهنات المجنونة؛ فهو يتقدَّم نحو القطار القادم أمامه بسرعة وقبل أن يلمسه يرمي نفسه في المياه. كما أن حسن يتعرَّف أكثر على سلوك «علي» الغريب، ويعرف أنه كان أحد الشباب الذين يسبحون في النفق الخطير «بير مسعود بسيدي بشر»، لقد انتحر أيضًا في بير مسعود. يشعُر حسن بعواطف الأب تجاه نادية، ويجد نفسه مطلوبًا أن يوافق على قران ابنته من رجلٍ يُحبها منذ زمنٍ اسمه خالد. وأمام مراسيم الفرح، فإن أحداثًا غريبةً تدور، وينطلق الدخان أثناء عمل التنجيد. وتختفي نادية العروس وسط الأدخنة كي يبدأ اليوم الثالث في بداية القرن الحالي، في شتاء القاهرة، في أحد مكاتب البريد. هذا هو العجوز حسن قد تجاوَز الثمانين، جاء لاستلام المعاش، ويلتقي بالشاب «علي» ابن نادية، وهو يحمل اسم خاله علي الذي مات في بير مسعود، وهو ابن جابر، يعمل في المطافئ. ويتحدث الاثنان، يقول علي الصغير إنه عرف بأن حسن هو جده الحقيقي، ويقومان بجولةٍ عبثية في يومٍ رمضاني، يتناولان فيه الإفطار على مائدة الرحمن. ويلتقيان بالطبيبة راوية، متخصصة في التجميل، تأخذهما بسيارتها إلى عيادة أبيها، وتطلُب من عليٍّ أن تُجريَ له إحدى العمليات لتجميل أنفه، وتُبلغُه أنه سيكون أشبه بجَدِّه بعد إجراء العملية، حسن، كي تعرف أن الشاب حسن كان هو الأب الحقيقي لنادية. ومثلما انتهت الأيام السابقة بالأدخنة والنيران بسبب أعقاب السجائر، فإن حسن يقف إلى جوار أحد الأجهزة ويُدخِّن سيجارة، فتتصاعد الأصوات، ويسُود الاضطراب في المكان، ويتم إخراج عليٍّ مع أبيه المتوقَّع من المكان. ويُحاوِل حسن إقناع عليٍّ أن يعيش معه، دون جدوى؛ فقد اختفى الشاب من حياة جَدِّه الحقيقي تقريبًا، ثم يحدُث أن يُصاب حسن تمامًا بفقدان الذاكرة.
في الفيلم هناك مشهدٌ أخير، يدور يوم العيد، فوق سطح النيل، في أوتوبيسٍ نهري به ركَّاب، وفي الصف الأخير، يدور حوار بين امرأةٍ عجوز ورجل، تتحدث أن لديها تسعة أبناء، أو ربما أقل بقليل، وترتِّبهم حسب والد كلٍّ منهم؛ فقد أنجبَت الثلاثة الأوائل من أبٍ واحد، أما الباقون فمن زوجها الثاني. يسألها العجوز الذي أمامها، واسمه حسن، هل يمكن لامرأة أن تُنجِب مثلًا واحدًا من رجلَين معًا. ويدور بين الاثنَين حوارٌ مليء بالفوضوية، وعدم الوصول إلى معنًى محدَّد في هذا المعنى.