صلاح أبو سيف
عمل عمر الشريف في أربعة أفلام مع صلاح أبو سيف، وكان المفروض أن يقوم بدور الشقيق الأكبر في «لا تطفئ الشمس»، إلا أن الدور ذهب إلى شكري سرحان، بسبب انشغال عمر الشريف بعمله في أول أفلامه العالمية. ونسوق هذه المعلومة كي نؤكِّد أن أبو سيف الذي أسند إلى الممثل دور عم الفتاة، نادية لطفي، في فيلم «لا أنام» كان سيُسنِد إليه دور الشقيق الأكبر، كي يحطِّم الشكل المألوف للعاشقين في بقية الأفلام التي قاما ببطولتها معًا.
وقد أخرج أبو سيف أربعة أفلام للممثل؛ ثلاثة منها قبل ذهابه إلى هوليوود، وقدَّم الفيلم الرابع في عام ١٩٩١م، وبعد أن صارت أدواره مساندة في السينما العالمية، ألا وهو «المواطن مصري»، وهناك ثلاثة من هذه الأفلام مستوحاة من رواياتٍ أدبية مصرية، هي «لا أنام» ١٩٥٧م عن إحسان عبد القدوس، و«بداية ونهاية» عن نجيب محفوظ ١٩٦٠م، و«المواطن مصري» عن يوسف القعيد. أما الفيلم الرابع «لوعة الحب»، فإن المخرج قد ألمَح لي في أحد أحاديثه أنه مستوحًى عن رواية لإميل زولا، وأغلب الظن أنها رواية «الوحش الآدمي»؛ حيث إن الفيلم يتسم بأجواء روايات زولا التي تدور في أوساط العمال، ومنها بشكلٍ خاص «جرمينال». وكما سنرى فإن عمر الشريف قد تغيَّرَت وجوهه، من أحد أبناء الطبقة الراقية، إلى حسنين ابن الأسرة الفقيرة التي تسكن في الأقبية، إلى وجه سائق القطار العاشق في «لوعة الحب»، ووجه العمدة المسيطر على مقدَّرات القرية في «المواطن مصري». وفي هذه الأعمال تنوَّعَت الأجواء، والحواديت، والقصص، وبدا عمر الشريف متنوِّعًا، ملوَّنًا بألوانٍ متناقضة.
لا أنام (العم)
في مذكراته «الذِّكْر الخالد» التي رواها عمر الشريف للصحفية الفرنسية أشار إلى أن إحسان عبد القدوس، قد كتب رواية «صباح الخير أيتها الأحزان»، التي نُشرَت في فرنسا من تأليف فرانسواز ساجان عام ١٩٥٣م. وقد ذاعت شُهرة هذه الرواية في كل أنحاء العالم، وقد قام بإعادة كتابة القصة في «لا أنام». وقد أشرتُ في كتابٍ لي تحت عنوان «أفلام وأقلام ٢» أن إحسان قد تأثَّر بشكلٍ واضح برواية ساجان، ولم يُشِر إلى ذلك، لكن الشجاعة انتابت الممثل، وهو يحكي مذكِّراته، وأدلى بذلك في كتابٍ فرنسي، رغم أن النقاد الذين كانوا يتهامسون بهذه المعلومة لم يكتبوها في دراساتهم، سواء عن الرواية، والفيلم؛ حيث كان من المعروف أن هناك مصادرَ بعينها لروايات إحسان، منها القصص التي ترويها له سكرتيراته، وذلك مثلما حدَّثَتني بذلك السيدة نرمين القويسني؛ فإحسان لم يتعرَّف على بطلات روايته في الواقع، قَدْر تعرُّفه عليهن من خلال ما تحكيه السكرتيرات. ولا أعتقد أن إحسان كان قد قرأ رواية «صباح الخير أيتها الأحزان» المكتوبة قبل عامَين من نَشْر «لا أنام». والمرجَّح أنه قرأ ملخصًا عنها؛ فقد بدت الفتاتان المصرية والفرنسية متقاربتَين، ومختلفتَين في أشياءَ كثيرة.
الفتاة نادية لطفي تعيش مع أبيها الذي يُحب النساء، وتشعُر بالغَيرة الشديدة من زوجة أبيها الحالية التي تأخذ كل أوقاته. وهي تلميذة ثانوي، تروي الأحداث على لسانها مثلما تفعل سيبيل الفرنسية في رواية ساجان. وقد أضاف المؤلف المصري الكثير من الأحداث لعمل روايةٍ كثيرة الصفحات، قياسًا إلى عدد صفحات رواية «صباح الخير أيتها الأحزان»، فكثُرَت الشخصيات؛ منها العم «عمر الشريف» الذي يعيش في نفس المنزل البالغ الفخامة. وهناك شخصياتٌ أخرى حول نادية؛ منها حبيبها مصطفى الذي يكبرها سنًّا، وأيضًا صفية زوجة أبيها، التي ستتزوج فيما بعدُ من مصطفى. الفيلم المصري مزدحم بالشخصيات، أسوةً بما تفعل السينما عندما تحوِّل بعض الروايات القصيرة إلى أفلام. لكن الذي فعل ذلك هو إحسان عبد القدوس نفسه؛ فهو الذي رسَم شخصيات العم والزوجة، الشابة، اللعوب التي يتزوَّجها الأب بعد أن طلق زوجته. وقد لعب عمر الشريف دور العم في هذا البيت الثري، ورأيناه لأول مرة في فيلم بالألوان، شابٌّ صغير يكبر ابنة أخيه بسنواتٍ قليلة. ولا تتورع نادية في أن تُوهِم أباها أن هناك علاقةً ما بين عزيز وصفية. وقد التزم السيناريو الذي كتبه السيد بدير بالرواية. أما الفيلم البريطاني الذي أخرجه أوتو بريمنجر عام ١٩٥٧م، فقد التزم بالرواية الفرنسية التي تحكي قصة سيبيل ابنة السابعة عشرة، التي تروي ذكرياتها؛ حيث تقضي إجازة الصيف في فيلا على الساحل اللازَوَرْدي مع أبيها، وامرأتَين بالغتَي الأهمية. الأب ريمون، رجلٌ بالغ الجاذبية، له سطوتُه على النساء اللائي يقعن في غرامه. لقد ماتت زوجته السابقة في سن الخامسة والعشرين، وكانت سيبيل في العام الثاني من عمرها، ومن بين هؤلاء النساء تُوجَد امرأة تتفق مع سيبيل، لقد جاءت لقضاء الصيف مع عشيقها. ترى الفتاة أن إلسا سوف تترك أباها بعد فترةٍ قصيرة، تحاول سيبيل أن تتصرف كفتاةٍ بالغة، لجذب أنظار الرجال الذين في سن أبيها، إلا أن سيريل الذي يبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا هو الذي تقع في غرامه. من ناحيةٍ أخرى فهناك ريمون الذي يقضي مع عشيقته آن صيفًا هادئًا، تصل إلى أن يتحول قلب الأب إلى أن يقرِّر أن يتزوَّجها، وتسيطر على صديقتها وعلى البيت؛ لذا، فإن سيبيل تدبِّر خطَّتها لقتل آن في حادث سيارة بعد أن رأَتها في أحضان عشيقها السابق وتُحس بالمسئولية. يستأنف الأب وابنته حياتَهما وقد أثَّرَت وفاة آن فيهما.
كما نرى، فإن الرواية المصرية أضافت المزيد من الأحداث والشخصيات، على رأسها العم عزيز الذي استُخدِم كأداةٍ للغَيرة والإيقاع بين الأب وزوجته صفية. وقد أدى عمر الشريف هنا دورًا غير مألوف؛ فالدور هو الوحيد غير الرئيسي، ولم يتكرَّر الأمر إلا بعد عدة عقود مع فيلم «ضحك ولعب وجد وحب»، وذلك بالمقارنة بدَور يحيى شاهين، وهو الشخص المحوري الذي تدور حوله الأحداث؛ وعليه فإن أغلب الشخصيات الأخرى التي أضيفَت إلى الرواية الفرنسية قد صارت هنا ثانوية. وكما نرى فإن أحداث رواية ساجان تدور في المصيف، وهو المكان الذي تعرَّفَت فيه نادية بزميلتها كوثر التي سعت لتزويجها من أبيها. وكما أشرنا، فإن النص الأدبي الفرنسي والعربي، ثم الفيلم المصري تدور كلها على لسان الراوية، الابنة التي بلغَت سن السادسة عشرة، وتشعُر بالغَيرة أن أباها قد استولت عليه امرأةٌ أخرى.
هذا العم الذي يعيش مع أخيه في نفس البيت الفخم، الذي يمتلكه أخوه، ولا نكاد نعرف شيئًا عن حياته الخاصة، لكن ابنة أخيه تدبِّر خطةً جهنمية كي تسرِّب الشك في قلب الأب كي يطرد العم، وعلاقتها به جيدة، من الدار، بعد أن أوهَمَته أن هناك قصةً آثمة تربط عزيز بصفية، وعزيز يتصرف بشكلٍ تلقائي. ونلاحظ أن وجود صفية قد غيَّر من سلوك عزيز؛ فهو ينتظم في تناول الطعام بالبيت، لما وفَّرَته المرأة من استقرار، ويعبِّر عن هذا حول المائدة، ونحن نراه في النادي، مع صديقةٍ له، ويحاول حماية نادية من معاكسات الشباب. وهما متفاهمان؛ ففي النادي، تدفع به كي تُسقِطه في حمَّام السباحة، كما أنه حاضر ضمن أفراد الأسرة حين يأتي عريس لخطبة نادية، ويرتدي بدلة زرقاء فاتحة؛ ما يعكس شعوره بشبابه، وفي حفلة الخطبة، فإن امرأة تقدِّمه باعتباره «الأستاذ عزيز أخو الأستاذ لطفي».
نادية تنسج خطتها الشريرة بدقةٍ شديدة، كي يظن أبوها أن زوجته على علاقةٍ آثمة بأخيه، وتترك الدلائل بشكلٍ متناثر، حتى يبدأ المنزل في التمزُّق، وتتشابك كل هذه الخطوط لدرجة أن أفراد الأسرة يكفُّون عن اللقاء حول مائدة الوجبات، لدرجة أن عزيز يشعر بالأسف لشك أخيه الدائم في صفية «عمره ما حيلاقي ضفرها.» وتنسج نادية مؤامرتها كي تدفع بعمها للذهاب عند الخيَّاطة التي ذهبَت إليها صفية، كي تُحكِم حلقات المؤامرة؛ أن هناك علاقة، وبكل براءةٍ يتقبل عزيز قسوة أخيه تجاهه، ويطردها من المنزل.
لوعة الحب (سائق القطار)
تبدو ملامح الحياة الفرنسية كما وصفها إميل زولا حول القرن التاسع عشر بالغة الوضوح في فيلم «لوعة الحب»، وهي الأجواء التي قدَّمها صلاح أبو سيف في فيلمَيه «لك يوم يا ظالم» ١٩٥١م، ثم «المجرم» ١٩٧٧م؛ فنحن في عالم عمال السكة الحديد، من خلال عملٍ رومانسي، توافَق كثيرًا مع ما كان يقدِّمه أبو سيف في أواخر الخمسينيات؛ فنحن أمام طبقةٍ اجتماعية محدودة الأهداف، والطموح، لا يطمعون في شيءٍ أكثر من الترقية، والسكن في بنايات السكك الحديدية المطلة مباشرةً على طريق القطارات، فتختلط الحياة الخاصة لكل منهم؛ فقد اعتادوا سماع صفير القطارات بكافة أنواعها، يعرفونها جيدًا، ويرتِّبون مواعيدهم على عبورها، ويستخدمونها أحيانًا في التهنئة، أو العزاء، باعتبار أن للقطار قلبًا، يشارك أصحابهم الحياة. وبشكلٍ عام فمن الصعب عليهم مغادرة المكان، والوظيفة، يأتون بزوجاتهم، ويرتادون المقاهي أو الحانات القريبة، يدورون في نفس الفلَك، مثلما تتحرَّك القطارات فوق القضبان في الذهاب والإياب.
والأجواء هنا أهم بكثير من قصص الحب التي ربطَت بين سائقي القطار؛ فأجواء السكة الحديد تُضْفي بنفسها على الأبطال. والموضوع هنا متكرِّر، لكنه مُصاغٌ بأسلوبٍ لطيف، خاصة أن أبو سيف مشارك في كتابة السيناريو مع جليل البنداري، الذي قيل إنه صاحب القصة. وتبدأ الأحداث بليلة عرس كلٍّ من سائق القطار محمود، وعروسه التي اقترن بها بأسلوبٍ تقليدي، كلٌّ منهما لا يعرف كيف يتصرف مع الطرف الآخر في ليلة العمر. ويستقي الرجل معلوماته من زملائه في العمل الذين انفردوا به في البار، أما البنات فيختلين بالعروس ويقمن بنصحها. الزوج، غليظ، فَظ، يتصور أن طاعة الزوجة لبعلها هي الحياة الزوجية الأفضل، ويطلب منها نزع ملابسها بأسلوبٍ يثير النفور، ويقوم بتقبيلها بقسوة لكنها لا تملك الرفض.
هذه الصفات الغليظة في محمود، سوف نرى ما يعكسها تمامًا في مساعد السائق، حسن، الذي سيقع في حب الزوجة فيما بعدُ، ويطالبها بالانفصال عنه. لكن الفيلم بمثابة رحلة تطهُّر يمُر بها الزوج، وتحوُّل تعيشه الزوجة التي تتغير تمامًا عقب أن تعرف أنها حامل من زوجها.
هي قصة الصديقَين وبينهما امرأة، كم عانت من زوجها، لا تملك الشكوى، لكنها تتغيَّر ببطء، إلى أن يتحوَّل زوجها الجلنف، ويصير أكثر إحساسًا بالمرأة، وقطَّتها التي طالما تعامَل معها بخشونةٍ واضحة.
والمشكلة، هي الصلة القوية بين محمود ومساعده؛ فهو ليس خجولًا مثله، لكنه يثق فيه، ويأتمنه على بيته أثناء غيابه فترة ثلاثة أشهرٍ تكون كافية أن يصحب حسن الزوجة إلى الطبيب أكثر من مرة، ثم يتسع الخروج إلى شاطئ النيل، وتبادُل البوح بالحب. ويتواجد حسن في البيت عندما يكون الزوج في طريقه إلى الدار، لكنه يعطف أولًا على البار، على طريقة الفرنسيين، كي ينتشي قبل أن يدخل بيته. والحقيقة أن آمال تقبَّلَت التجربة عن رضًا، دون أي مراجعة، بينما انتاب الندمُ حسن، لكنه كان يعود عنه ليستمتع بالحب، حتى اللحظة التي عرف فيها بتحوُّل آمال.
وحسن ليس انتهازيًّا؛ فقد ظلت العلاقة رومانسية بشكلٍ ملحوظ، وهو يُكِن المشاعر الطيبة تجاه رئيسه، فيخبر آمال إلى أن محمود أفندي ماهر في عمله، لا يتأخر قطارٌ له، وهو رجلٌ محترم.
الندم الذي ينتاب حسن يأتي من خارجه؛ فأخته التي تُذاكِر تُبلغُه أن هناك قصة صديقٍ خان الأمانة، ورغم تأثُّر حسن بالحكاية، فإنه في المشهد التالي مباشرةً يخرج إلى نهر النيل ليتنزَّه مع حبيبته.
وهناك مَشاهِد بعينها تخلو تمامًا من الحوار، لكنها على خلفيةٍ موسيقية، تعبِّر عن قمة سعادة العاشقَين في غياب الزوج؛ فالحب ينمو بطيئًا، وبعض الحوادث تزيد من تعميقه. وقد استخدم المخرج أساليبَ كانت في أفلامٍ أخرى، مثل مشهد الوقوع في النهر، وتجفيف الملابس كأنما كلُّ واحد انفتح على الآخر. وفي أثناء هذه النزهة يكون محمود قد عاد إلى البيت على حين غفلة، ويبدو أقل قسوة، وهو يسمعها تكذب، يهدِّدها بعدم الخروج. وفي لحظة تعود إلى دور الخادمة، تخلع له حذاءه، وتجهِّز له الطعام، يبدو كأنه ضيفٌ في بيته؛ فلن يلبث أن يسافر مجدَّدًا.
حدث التغيُّر بشكلٍ واضح، عندما تموت زوجة أحد زملائه في البار، يعبِّر الأرمل أنه لم يكن يُحس بقيمة زوجته طوال حياتها، وأنه الآن فقط عقب الرحيل، شعر بقيمتها، وراح يبكي أمام زملائه. ويكون هذا سببًا في تغيُّرٍ سريع من طرف محمود، الذي كان عليه أن ينتظر من صديقه الاعتراف أنه يُحب زوجته. وهنا يتغيَّر سلوكه، فيدعو زوجته إلى كأس خمر، وفي هذه اللحظة تعبِّر آمال أنها لم تعُد تتحمل رائحة الخمر، وأنها تُعاني من أعراضٍ نكتشف أنها حمل؛ ما يقلب تمامًا كافة الأحداث.
ومثلما بدأ الفيلم بتفاصيلَ واضحة، حول غلظة الزوج، فإن الفيلم ينتهي بتفصيلاتٍ أخرى عن تحوُّل محمود ليكون الزوج المنشود، وتتوجَّه آمال بكامل مشاعرها دون تردُّد إلى زوجها، وهي تراه يعامل القطَّة بشكلٍ مختلف، وتردِّد له كلامًا يستخدمه عادةً المخرج في أفلامه، تحمل رمزًا، فتتحدَّث آمال عن قطتها وكأنها بالطبع تعني نفسها:
وفي مشهدٍ أليم، يركب حسن القطار المتجه به إلى مكان عمله الجديد، آسفًا بالطبع على تفاصيل قصة حب عانى من لوعته بشكلٍ ملحوظ.
بداية ونهاية (الوصولي)
هذه روايةُ أسرة، أكثر منها رواية مكان، كعادة روايات نجيب محفوظ التي كتبها في الأربعينيات، رغم وجود المكان الضيق الذي تعيش فيه الأسرة. والمكان هو الذي يحبس أبطاله بداخله، ويكون جزاء من يتمرَّد على المكان أن يدفع الثمن غاليًا، بالموت في المقام الأول مثلما فعل حسنين، من خلال أخته التي دُفعَت للانتحار، نفيسة.
يبدو أبطال الرواية في الفصول الأولى أصغر سنًّا من الممثِّلين الذين جسَّدوا هذه الأدوار، خاصةً حسنين كامل علي وأخيه حسين، اللذين جُسِّدا من خلال عمر الشريف (مولود عام ١٩٣٢م)، وكمال حسين (مولود عام ١٩٢٥م)؛ فالمفروض أن الأول في الصف الثاني، والثاني في الصف الرابع الثانوي؛ أي إن عمر الأول يتراوح بين الرابعة عشرة على الأكثر، لكن الفيلم الذي بدأ بعد وفاة الأب بفترة، أقَرَّ أن يكون أبطاله في سن الطلاب، باعتبار أن حسنين سيتقدم إلى إحدى الكليات العسكرية عقب حصوله على التوجيهية. أما الفصل الأول من رواية «بداية ونهاية» فيدور داخل المدرسة؛ حيث سيتم إخبار الشقيقَين أن أباهما قد رحل.
في الرواية هناك إشارةٌ إلى أن الأسرة تسكن شبرا، وليس هناك منطقةٌ بعينها حسب أحداث الفيلم. وفي الفصل الثاني هناك وقائعُ وصول الولدَين إلى البيت، وبعض مراسيم الجنازة والعزاء، وقد استمرت هذه الأجواء الكئيبة طوال الفصول الخمسة «كان رحمة الله عليه رحمةً واسعة رجلًا عظيمًا، فلا عجب أن تكون جنازتُه عظيمةً مثله.» ولقد امتلأَ ت عطفة نصر الله بالمشيِّعين من البيت إلى شبرا.
إذن فصفحات الرواية تصف الكثير من الأجواء الحزينة المرتبطة بموت موظَّفٍ محترم لديه زوجة وأربعة أبناء، ومراسيم العزاء، ثم صرف المعاش الصغير جدًّا، ونزول الأسرة من حالٍ إلى أسوأ، ثم عودة الولدَين للمدرسة لأول مرة عقب رحيل الأب، إلى أن نصل إلى الفصل العاشر حيث سيتم نقل الإقامة إلى الدور التحتاني؛ شقة أرضية بمستوى الفِناء، لا شُرفة لها، ونوافذها مطلَّة على عطفةٍ جانبية تكاد تبدو منها رءوس المارة، وطبعًا محرومة من الشمس والهواء.
الفيلم الذي أخرجه صلاح أبو سيف، عام ١٩٦١م، كأول عملٍ مأخوذ للسينما عن رواية لنجيب محفوظ، يبدأ تقريبًا في هذا الفصل؛ حيث يعود حسنين من المدرسة، والمشهد الأول في الفيلم يكشف أننا في عام ١٩٣٦م، وهذا هو حسنين يلتقي به أحد الجيران، ويوقفه كي يعزِّيه في وفاة أبيه معتذرًا أنه على سفر طوال شهرَين، مما يعني أن بداية الفيلم قد بدأَت بعد وفاة الأب؛ أي بعد عشرة فصول من الرواية. وعندما يدخل الطالب فإنه يصعَد السلم كالمعتاد، ثم يتوقف، ويتذكَّر أن مسكنه الجديد في البدروم، فينزل في غضب، وينزل إلى المسكن؛ حيث تستقبله أخته نفيسة ساخرة. ويُوجز السيناريو بعض ما فاتنا من فصول في الحديث عن سبب السكن في البدروم، وكيف وصل الحال إلى منتهى الانهيار بالأسرة بعد رحيل عائلها بشهرَين كاملَين.
وعقب ذلك تبدو الرواية والفيلم كأنهما يمشيان على الخط نفسه، دون تغييرٍ ملحوظ في النصَّين باعتبار أن لكل واحدٍ من الأبناء قصته، وحياته، فتتناثر المَشَاهد عَبْر أربع قصص، تخُص كلًّا من حسنين، وحسن ونفيسة، ثم حسين، حسب قوة تأثير كلٍّ منهم في الحياة، وقدرته على تحريك الأحداث من حوله؛ فبَعد عشرة فصول من الرواية، ها نحن إذن نرى «حسن» يخرج من البيت، وقد تأنَّق ببدلة جعلَتْه أقرب إلى الأفندية، فجلس عند المقهى، ولعب مع شركاء الجلسة، ونعرف أن حسن كان يُغنِّي مع زملائه في المحطات الإذاعية الأصلية؛ لذا غنَّى في المقهى.
وقد قلَّص الفيلم دور الأم، فخلَت من أي حكايةٍ خاصة بها، باعتبار أن الأبناء الأربعة هم خصوصيتها، وأنها تستمد قصتها مما يحدث لكلٍّ منهم. أما الرواية فقد توقَّفَت عندها، وهي تنتقل من عدم العوَز إلى الحاجة، فتبيع الأثاث. لكن هناك دائمًا تواجُد للأبناء في الفصول التي تتحدَّث عنها. وقد حدث نفس الشيء في الفيلم، باعتبار، كما أشرنا، أن كاتب السيناريو هنا، صلاح عز الدين، لم يشأ أن يخرُج أبدًا عن وقائع النص الذي كتَبه المؤلف.
الفيلم دخل مباشرةً في تفاصيل علاقة نفيسة بسلمان، ابن البقال، والتعرُّف على حالة الغاية والوسيلة التي يمتلكها حسنين؛ فهو لا يسأل أخته كيف دبَّرَت النقود التي يأخذها منها، أو التي تشتري بعضًا من الطعام المتميز.
وكما أشرنا، فإن الفصول التالية من الرواية، تتلازم مع السيناريو المأخوذ عنها، باعتبار أننا أمام أربع حالاتٍ إنسانية، لكلٍّ منهم حكاياته. وهم جميعًا يعملون لمصلحة الأسرة، ابتداءً من حسن البلطجي. ونفيسة التي ستصير عاهرةً برغبتها، أو بدافع العوَز. وحسنين الذي أراد أن يركب طبقةً اجتماعيةً أعلى منه، فانتبذ بهية التي كم لهث وراءها فوق السطوح، أو بطلبه أن يخطبها، والإهانات التي تحمَّلها من أمه، وسخرية إخوته منه.
في الرواية، مثلما حدث في الفيلم، كل فصلٍ يقوم بتتبُّع واحدٍ من الأبناء، وهناك فصولٌ تجمع بين أفراد الأسرة؛ فالفصل الثالث عشر مخصَّص كله لنفيسة، ثم جاءت الفصول التالية لتجمع بين الأخوَين حسنين وحسين، اللذَين سيعملان بالتدريس لابن فريد أفندي، الجار الموظف، الذي يعطف على العائلة التي سوف تُصاهره مرتين؛ الأولى حين يتقدَّم حسنين لبهية، والثانية حين سيحاول حسين إصلاح خطأ أخيه، فيتقدَّم لخطبة بهية.
ومن فصلٍ لآخر، يعود الكاتب إلى نفيسة، ليتتبَّع قصتها مع سلمان، الذي سوف يمنحها من البقالة مقابل القبلات، ثم هو الذي سوف يصحبها برغبتها إلى شقته، كي يُفقِدها عذريتها، تمهيدًا لها أن تصير ابنة ليل، لتكون الشخصية الروائية الأولى في الرواية، رغم أنها دائمًا في دائرة الظلام، لا تكاد تلفت أنظار أحد؛ فهي مجرد شيءٍ موجود في المنزل، لم تعرف لها صديقات. وقد صُدمَت في تجربتها العاطفية الوحيدة، بل إنها سيئة الحظ؛ فحين تعمل عاهرةً فإنه سرعان ما يتم القبض عليها، وهي تمارس هذه المهنة بشكلٍ فردي، وليس من خلال شبكة. ويكون سوء حظها الجديد أن أخاها ضابط الجيش، ويتم استدعاؤه ليشاهد فضيحة أخته، فيدفعها إلى الانتحار، ثم ينتحر هو مثلها.
هذه الشخصية الدرامية، المأساوية موجودةٌ بشكلٍ مكثَّف في السينما المصرية؛ ولذا كانت أولى نساء روايات نجيب محفوظ التي وجدَت طريقها إلى الشاشة. وصارت نفيسة أكثر شهرةً من شخصياتٍ حيوية في الفيلم، مثل حسن المليء بالتوقُّد، والذي جسَّده ممثل أعطى للشخصية توقدًا أكثر. لكن نفيسة ظلت هي الشخصية المحورية الرئيسية، رغم أن الممثلة سناء جميل لم يسبق لها أن مُنحَت فرصةً مماثلة، طوال السنوات العشر التي سبق عملها في السينما قبل عام ١٩٦١م.
لذا فإن كاتب السيناريو وجد في نفيسة مبتغاه، فالتزم بمساحة وجودها التي في الرواية، ولم يغيِّر من عالمها، ولم يختصر من حكاياتها، ولم يُضِف من عندياته أي حكاية، وجعل مصيرها السينمائي مشابهًا تمامًا لما كتبه مؤلِّف الرواية.
وفي الفصول العشرة الثانية من الرواية، هناك ربطٌ دائم بين الأخوَين حسنين وحسين، كأنهما كائنٌ واحد؛ فهما يدرِّسان معًا لابن فريد أفندي، ويقوم الثاني بمراقبة الأول ويراجعه في نزقه تجاه بهية، وسيظلان هكذا، إلى أن ضحَّى أحدهما من أجل الآخر، فاكتفى حسين بأن يتوقف عن التعليم، من أجل أن يلتحق أخوه بالكلية الحربية، وهنا بدأ الانفصال الجسدي والروحي قبل أن يذهب كلٌّ منهما إلى عالمه؛ حسين إلى وظيفته في طنطا، وعلاقته بالأسرة التي أرادت أن تزوِّجه من ابنتها الصغيرة، وآخر من تبقَّى للزواج. أما حسنين فقد التحق بالكلية الحربية، وارتقى اجتماعيًّا، فدفعَتْه بطموحاته أن ينفصل عن بهية، من أجل ركوب طبقةٍ اجتماعية أعلى، فيتقدم لخطبة ابنة اللواء، وكلما ارتفع، بدأَت علاقتُه الحميمة بأخيه تنفصل بشكلٍ ملموس.
إذن فإذا كان نجيب محفوظ قد أعلن دومًا أنه لن يتدخل في النصوص السينمائية التي تتحوَّل عن أفلامه، فالسبب أن أستاذه صلاح أبو سيف الذي علَّمه فن كتابة السيناريو، هو أول من أخرج له إحدى هذه الروايات فيلمًا، بدا متقاربًا إلى حدٍّ كبير مع النص الأدبي. وهل كان لمثل هذا الكاتب الذي كتَب للسينما طوال ١٤ عامًا قبل عرض «بداية ونهاية» سوى أن يبتهج، وهو يرى نصه الأدبي مُلتزَمًا به إلى حدٍّ أقرب إلى الكمال في فيلم أخرجه أستاذه؛ حيث بدا صلاح عز الدين كما أشرنا بالغَ الإخلاص للنص، حتى الفصل الخاص بعيد الأضحى، ونزول أسرة فريد أفندي بسلة اللحم وهدايا العيد، فإن السيناريو كُتب بشكلٍ مبهج، مليء بالحيوية، وتمَّت الاستعانة بحوار محفوظ المتدفق، بعد تحويله إلى العامية.
إذن، فالفيلم أقرب في مشاهدته إلى قراءة النص، مع احتفاظ صلاح أبو سيف بالتفاصيل الخاصة به التي لم تأتِ لا في الرواية، ولا في السيناريو، ويبدو ذلك واضحًا في الرمز الديني الموجود على حوائط المنزل، وأيضًا فوق جدران البيت المقابل في الحارة، وأيضًا في لافتات الاحتفال بالأعياد، مما يؤكد أن هذا الرمز، أو الدلالات، قد استخدمها المخرج، دون الكاتب، ليعبِّر أكثر عن حالة أبطاله. وعلى سبيل المثال، فإن هناك لوحةً خطيةً مكتوبًا عليها «الصبر مفتاح الفرج»، موجودة في غرفة بهية، حتى إذا دخلَت الغرفة في أشد حالات اليأس، انقسم الكادر بشكلٍ غير محدَّد، ورأينا اللوحة، كأنها تخفِّف من عبء الفتاة، وذلك كدلالةٍ على استخدام الرمز بشكلٍ عام عند المخرج. وهناك أيضًا عبارة «اتَّقِ شر من أحسنتَ إليه»، في محل البقالة، حين يأتي حسن لمساومة صاحب المحل، مقابل إحياء حفل زفاف ابنه سلمان. أما بيت المأذون في طرَف الشارع، فهناك مكتوبٌ بخطٍّ كبير «الله. محمد. منزل المأذون» ومثل هذا النسيج قام المخرج بنسجه ولم يُذكر قَط في الرواية، وهذا هو الفارق بين الكلمة والصورة، أو الأدب والسينما.
أما الفيلم فقد أشار لنا إلى عيد الأضحى من خلال لافتةٍ عليها إشارةٌ حول العيد، بشارع شبرا، ثم بدأ المشهد الخاص بالعيد في البيت. وقد كان صلاح أبو سيف دومًا مغرمًا بعيد الأضحى، سيقدِّم شعائره في أفلام مثل «لك يوم يا ظالم» عام ١٩٥١م، وفيما بعدُ في «المجرم» عام ١٩٧٧م، لكنه هنا لم يتوقَّف عند العيد إلا من خلال ما كتَبه محفوظ في المشهد.
إذن، مشاهدة الفيلم، هي قراءةٌ أمينة للغاية للرواية، مع استبعاد ما أشرنا إليه. كما أن قراءة الرواية بمثابة مشاهدةٍ جيدة للفيلم، مع اختلاف إيقاع السينما، مثل المشاهد المتلاحقة التي عرفَت فيها نفيسة من أخيها أن سلمان سوف يتزوج؛ فهي تستغرق قرابة سبع دقائق حتى يبدأ الفرح. أما هذه المشاهد التي تبدو سريعة الإيقاع قياسًا للرواية؛ فقد استغرقَت قرابة عشرين صفحة، في طبعة الرواية الصادرة عن سلسلة الكتاب الذهبي لعام ١٩٥٦م، ما يعني أن الفيلم المتماسك الإيقاع، كان بمثابة اختصارٍ ملحوظ.
إذن؛ فالفيلم سار مع الرواية، يتحرك مع الزمن، يكبَر الأولاد، ويحصُل حسين على البكالوريا؛ حيث يقوم بالتضحية، ويعمل موظفًا بمدرسة طنطا الثانوية، وتصير غرفة الإخوة من الآن حجرة حسنين وحده. وقد اهتمت الرواية بالحياة الجديدة لحسين في طنطا، إلا أن السيناريو اختصر الكثير من هذه الوقائع، دون أي إخلالٍ بها، مثلًا، لقد تجاهل الفيلم زيارة الأم لابنها حسين في طنطا ذات يوم خميس. ولقد صار حسين في الفصول من (٤٤) إلى (٥٦) بمثابة الشخصية المحورية في الرواية، وهي صفحات كثيرة، اختصرها السيناريو، باعتبار أن الشخصيات التي زاد الاهتمام بها في الفيلم هي حسنين، وحسن، ونفيسة، ويعني هذا أن نفيسة، في الفيلم والرواية، كانت تمارس البغاء. وقد بدا نجيب محفوظ كأنه يهتم بشخصيتها، ومسيرتها، فيركِّز عليها، ويُلقي الضوء على كل ما تفعله لمرحلة. حتى إذا حصل حسنين على البكالوريا، وطمع في الالتحاق بالكلية الحربية، أولاه محفوظ عنايةً خاصة؛ فها هو في الفصل (٥٨) يذهب لمقابلة حسن، ويطلب منه المال. وقد خصَّص الكاتب فصولًا متتابعة للتعرُّف على ما فعله الابن الأصغر عقب حصوله على البكالوريا؛ أي إن المؤلف أعطى اهتمامًا كبيرًا لحسنين الذي التحق بالكلية الحربية، وتخرج بعد سنةٍ واحدة من الالتحاق بها. وقد زار أخاه حسن في هذه الفترة مرتَين؛ الأولى كي يطلب منه النقود للالتحاق بالكلية، والثانية كي يطلب منه الابتعاد عن سلوكه الإجرامي. وقد تعمَّد محفوظ أن يُبعِد شخصياته الرئيسية الأخرى في هذه الفصول المذكورة، سواء حسن، الذي لم نعُد نعرف عنه شيئًا إلا من خلال أخبار تأتي عنه، حتى تأتي النهاية المعروفة، التي لم تتغير قيد أنمُلة بين الفيلم والرواية؛ حيث وجد كاتب السيناريو أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فالتزم بأن يقتل بطلَيه مثلما فعل المؤلف؛ حيث جاء على لسان المؤلِّف: «وبلَغ الوضع نفسه من الجسر فارتفق السور، وألقى ببصره إلى الماء تتدافع أمواجه في هياج واصطخاب، وأحنى رأسه من الفكر: «إذا أردت هلام. لن أصرخ. فلأكن شجاعًا ولو مرةً واحدة، ليرحمنا الله.»
المواطن مصري (العمدة)
صلاح أبو سيف هو المخرج الوحيد الذي عمل مع عمر الشريف في المرحلتَين اللتَين عمل بهما في السينما المصرية. وبعد عودة الممثل إلى السينما المصرية بشكلٍ متقطع، قدَّمه في «المواطن مصري»، المأخوذ عن رواية «الحرب في بر مصر» للكاتب يوسف القعيد، وهي روايةٌ ريفية شهد المؤلف وقائعها وحوَّلها إلى روايةٍ ضخمة. وقد عاد المخرج مرةً أخرى إلى الريف بعد «الزوجة الثانية»، لكن الأحداث والكتابة هنا كانت أقرب إلى المدينة؛ فالحوار هنا يختلف تمامًا عن اللهجة التي يتكلم بها أهل محافظة البحيرة.
وقد بدت شخصية العمدة ملائمة تمامًا لعمر الشريف، في تلك المرحلة، وهو الذي أثبت أنه قادر على تقمُّص العديد من الوجوه؛ فنحن هنا أمام عمدةٍ عصري من جيل السبعينيات يغيِّر من الملابس التي يرتديها حسب الموقف، والحدث. هذا العمدة ربض الجسد، قوي، رغم تقدُّمه في السن، أنجب الكثير من الأبناء، ولديه ابنٌ في العشرين من زوجته الثانية، الأشد أنوثة. وتبدو وسامته في المشهد الذي تقوم زوجته الثانية بتدليك ظهره وبطنه، ولكن الحوار بينهما يكشف أنه لم يعُد بقادرٍ على مجامعتها منذ تسع سنوات. لقد أنجب الرجل ثلاثة شبابٍ من زوجته الأولى التي تقيم معه في دوار العمدة؛ أي إنه رغم قوَّته الجسمانية فإنه في الفِراش شخصٌ ضعيف، تُعايره زوجتُه بما فيه، وتبدو صارمةً فيما تطلُب منه، خاصةً أن يفعل أي شيءٍ مقابل عدم ذهاب ابنها إلى الجيش.
لا أعرف لماذا لم ينطق أبطال الفيلم بلهجة سكان البحيرة، لكن بشكلٍ عام، نحن أمام فيلمٍ اشتراكي يُدين التوزيع غير العادل للثروة، ويتحدث عمَّا فعله جمال عبد الناصر من أجل الفلاحين حين أصدَر قانون الإصلاح الزراعي؛ فالعمدة في بداية الفيلم يأتيه خبرٌ مُفرِح من محاميه أنه قد كسب القضايا التي رفعَها ضد الإصلاح الزراعي، والفلاحين، وأنه استردَّ مائة وسبعين فدانًا، من كافة الفلاحين الذين وُزِّعَت عليهم الأراضي؛ وعليه فبينما الفرح يسود بيت العمدة وأولاده وذويه، وبينما يقرِّر العمدة ألا ينام شخصٌ جائعًا في القرية، ويتم ذبح عِجلٍ تُوزَّع لحومه على أهل القرية، فإن كافة أبناء المكان يُصدَمون بقوة في حكم المحكمة، حدث هذا حسب الفيلم في أوائل السبعينيات. ووسط فوز العمدة عبد الرازق وفرحته، يأتيه الخبر المزعج بأن ابنه الأصغر توفيق، من زوجته الشابة سعاد، مطلوب للجيش. ويُسبِّب هذا صدمةً للأم؛ فهي لا تريد لابنها أن يتم تجنيده، وهو وحيدها، لتضغط على زوجها، بكل ما له من آلية ومكانة أن يحول ضد تجنيد الشاب.
قبل أن نستكمل التعرُّف على الفيلم، فالرواية التي كتبها يوسف القعيد، قد تم اختيارها في أكثر من مرة من بين أهم مائة روايةٍ عربية؛ ما يعني أهميتها في عالم الأدب. وقد كان صلاح أبو سيف من أوائل من اكتشف الأجيال الروائية الجديدة؛ فهو الذي قدَّم إسماعيل ولي الدين، ثم يوسف القعيد. وكتب السيناريو محسن زايد، أبرز من حوَّلوا الروايات إلى أفلام. ولا يُرى أن هناك اختلافاتٍ واضحة بين الفيلم والرواية؛ فالقعيد يكتُب رواياته كأنها يمكن إعدادها لتكون أفلامًا أو مسلسلات، وهو أكثر أبناء جيله حظًّا في هذا الشأن، وقد صدرَت الرواية عام ١٩٧٨م.
في الرواية فإن العمدة مسئول عن تجنيد الشباب في القرية؛ لذا فإن الزوجة تعرف جيدًا أن زوجها سوف يُجيد التصرف؛ ولذا فإنه يقوم بالعملية بكفاءةٍ ملحوظة، لكن استشهاد الجندي في آخر أيام حرب أكتوبر غيَّر من إيقاع الحكاية، وكان يمكن أن تسبِّب كارثةً للعمدة.
ومثل هذه الصياغات لا تصلح قط للسينما، كل ما يهم كاتب السيناريو، هو صلب الحدوتة، قصة المواطن مصري، ابن العمدة. التلميذ المتفوق، في بيت ريفي فقير، الذي يبدو مُتشدِّدًا تجاه العمدة الذي سلَب أسرتَه ثروتها، هو وحيد والدَيه على بنات. ويتحوَّل موقفه المُتشدِّد إلى مرونةٍ ملحوظة، حين يعرف أن العمدة سيُعيد أملاكه إلى الأسرة، وسيُعيد تشغيل أبيه الحارس، الذي وصل إلى سن الاستيداع. وأمام شروطٍ محدَّدة، فإنه يقبَل المساومة، منها الحصول على ضماناتٍ مالية، ووظيفية. والحق أن العمدة سوف يُوفي بكل ما التزَم به؛ أي إنه الذي يمثِّل السلطة؛ فإنه لم يكن أبدًا جشعًا، ولم يحنث بوعده قَط. وفي المشهد الأخير من الفيلم، فإن العمدة يذهب إلى الأب المكلوم أسفل الشجرة، ويُعدِّد له التزاماتِه التي قام بها، ويُعطي له كل مستحقاته المالية.
الأب مصدومٌ لأن ابنه قد نُسب إلى رجلٍ آخر، إلى العمدة، بما حقَّقه من مجد؛ فقد مات الابن على اسم العمدة شهيدًا من أبطال حرب أكتوبر، ونُقش اسمه مع الشهداء، فوق نُصب شهداء أكتوبر. وهنا تأتي المأساة؛ لقد باع الأب ابنه، بسبب الفقر، وها هو يحصُد قرابة مائتَين وخمسين جنيهًا فقط مقابل كل هذه التضحيات.
العمدة هنا رجلٌ عصري، ليس شريرًا بالمرة، هو قوي تجاه الآخرين، تهدِّده امرأته الشابة بالطلاق لو التحق ابنها بالجيش. وهو يرتدي ملابس العمدة الريفية في الدار، لكنه حين يذهب إلى لقاءات فإنه يبدو بالبدلة السوداء، بالغ الأناقة، له شاربٌ كثيف، وصوتٌ مميز. وحين يأتيه خبر عودة الأفدنة إليه يفكِّر في سد جوع أهل القرية، ولو لليلةٍ واحدة. كما أن العمدة يعرض على عبد الموجود أن يتولى كافة النفقات الخاصة بابنه أثناء سنوات التجنيد الثلاثة، ويتحدَّث إلى مصري أن هناك بمثابة «خدمة لك وللغلبان أبوك»، ويمكنه بدهاءٍ إقناع الشاب الصغير أن يوافق على المغامرة، وينتهي المشهد بقراءة الفاتحة.
وعندما يُصاب مصري، يُبرِز بطاقته الحقيقية إلى زميله، وتكون المهمة هي توصيل الجثمان إلى البلد. إنه رسميًّا ابن العمدة، أما مَن يبكي عليه فهو عبد الموجود، وأسرته، «تسرقون الولد مني حيًّا وميتًا»، السلطات تتولى التحقيق، لكن الأمور تتم تسويتُها بشكلٍ ودي، ويخرج العمدة من الأمر بدون أي عقاب، ويذهب لتسليم عبد الموجود ما يستحق من أموالٍ اتفقا عليها بالمليم.
إنه فيلم ضد الفقر والفقراء؛ فكم باع المُعوِزون أبناءهم بسبب الحاجة، وقد ارتضَوا بهذا من أجل تربية بقية الأبناء. لكن الفيلم يؤكد، من ناحيةٍ أخرى، أن الأسماء التي كُتبَت على النصب التذكاري للجندي المجهول، قد حملَت وراء كلٍّ منها روايةً غامضة. ولعله لهذا السبب يُفضِّل أن يُسمَّوا ﺑ «الجندي المجهول».