السيد بدير
غلطة حبيبي (الخاطئ)
في فترةٍ ما من الخمسينيات في القرن العشرين دأَب كُتاب السيناريو والمخرجون في العزف على موضوع علاقة المحرَّمات. واتسمَت هذه القصص بجُرأةٍ ملحوظة في تبيان أن المجتمع مزحوم بمثل هذه العلاقات؛ حيث تقوم في الغالب علاقةٌ آثمة بين امرأةٍ لعوب، تتزوَّج من رجلٍ عجوز، قليل التجربة. وما تلبث أن تنمو علاقة بين الزوجة وبين ربيب زوجها، الذي يتعامل معه الفيلم كأنه أخطأ، وأن الربيب على حقٍّ حين عرف فِراش المرأة، وفي بعض الأحيان فإن الشاب لا يعرف قَط أن المرأة محرَّمة عليه. وقد شاهدنا ذلك مرارًا؛ منها محاولة إغواء زوجة الأب لابن زوجها في فيلم «رنة الخلخال» لمحمود ذو الفقار ١٩٥٥م، وعلاقةٌ بالغة السقوط في «نساء محرَّمات» لمحمود ذو الفقار أيضًا ١٩٥٩م، وأيضًا علاقاتٌ آثمة في أفلامٍ أخرى منها «فضيحة في الزمالك» و«ارحم حبي».
وكان حسين رياض هو الممثل الأمثل لعمل هذه الأدوار. وقد رأينا هذا الموضوع تدور حوله الفكرة الرئيسية في فيلم «غلطة حبيبي»؛ حيث هناك قصة حب تنتظر الاقتران بين صلاح وابنة الحاج الذي قام بتربيته، وعيَّنه رئيسًا للمصنع الذي يمتلكه. وهذا الشاب مليء بالحيوية والشباب، ويحتاج إلى الجنس، لكنه يقع في غرام الفتاة، ابنة الحاج، التي تُحبه، وينتظر الاثنان الزواج.
إلا أن هناك علاقةً تنمو بالتوازي بين امرأةٍ ناضجة، هي عزيزة، التي تسكن القلعة، في أحد البيوت القديمة التي يمتلكها الحاج؛ حيث يطلب الرجل من ربيبه الذهاب إلى بيت القلعة وتصليح الشروخ في البيت، وعمل الترميمات. هناك يجد الشاب نفسه أمام امرأةٍ شهوانية لن تلبث أن تُوقِعه بين أحضانها في زيارته الثانية. هي امرأةٌ فجَّة تعيش مع أخيها الذي يبتزُّها، وهي مليئة بالشهوة. والعلاقة التي تربط بينها وبين صلاح تختلف تمامًا عن قصة الحب الرقيقة التي بين صلاح وابنة الحاج. وأبطال الفيلم لا ينقسمون إلى أشرار وأطياب، بل إلى أوغاد من الطبقات الفقيرة يسكنون الحي الشعبي، وإلى أشخاصٍ يتسمون بالرقي؛ فالحاج نما في هذه المنطقة الشعبية، وتغيَّرت أحواله الاجتماعية، فارتقى بابنته، وصار صاحب أعمالٍ إنتاجية. وهذا الجانب من البشر يسقط ضحيةً للأوغاد، بدايةً من صلاح الذي يَهْوي بين ذراعَي عزيزة. وهي حين تتعرف على الحاج وتتزوَّجه، فإنها سوف تنسب إليه كزوجٍ أبوَّة السِّفَاح الذي حملَت به من صلاح؛ ولذا فإن التلظِّي يُلهِب مشاعر أبناء هذه العائلة، ابتداءً من سعاد التي تُلاحِظ أن خطيبها قد دخل في علاقةٍ جديدة، وتظل تترقب الأمور حتى تسمع بنفسها أن الوليد هو سِفاح، وأن صلاح هو الأب الحقيقي.
عمر الشريف في هذا الفيلم، مثلما هو في أغلب أفلامه المصرية، شابٌّ عصري، أنيقٌ جذاب، له وجهٌ واحد، لا يحتاج إلى إضافاتٍ أو مكياج، يبدو بلا جذور مثل أغلب أبطال السينما. قد يكون له صديق، يبوح له بتفاصيل الخطيئة التي ارتكَبها مع عزيزة، لكننا لا نعرف شيئًا عن جذوره سوى أن الحاج تولى تربيته، ومنحه ثقته، فعيَّنه في وظيفة المسئول العام، وعاملَه بليونةٍ شديدة وإعجاب، وخطب له ابنتَه الوحيدة سعاد. وفي المقابل فإن الشاب يمارس الخطيئة مع عزيزة، بالطبع قبل أن يقع العجوز في أَسْرها، فتتزوَّجه، وتكون قد حملَت من الشاب، فتضغَط عليه كي يبقى معها، وتعترض على زواجه من سعاد، وتفرض على زوجها أن يعيِّن أخاها في وظيفةٍ مرموقة بالشركة.
والمفروض أن يكون عنوان الفيلم هو «خطيئة حبيبي»؛ فلم تكن العلاقة بين الطرفَين مجرد بوسةٍ عابرة، بل إن هذه الحية، تعرف كيف تقرص، كما تعرف متى تزحَف عليك ببشرتها الناعمة. وأظرف ما في الأمر أن الرجل العجوز لن يكون فقط هو آخر من يعلم، بل هو لن يعلم الحقيقة قط. وبكل ما بالعجوز من أخلاق وكرم، فإنه يشاهد ابنته تُقبِّل حبيبها في الغرفة، وبكل ما لديه من سماحة يسأل الاثنَين: أهي القبلة الأولى أم الثانية؟ وسرعان ما يسمح لهما بالتقبيل مجدَّدًا.
والشخص الوحيد الذي يعاني في هذه المجموعة هي سعاد، التي تعرف كل شيء وتصبر على حبيبها المليء بالخطيئة. والغريب في القانون السينمائي الشرقي عدم عقاب الخاطئ وأن تُقبل منه التوبة، أما المرأة فلا رحمة، ولا غفران؛ ولذا فإن عزيزة سوف تموت في نهاية الأحداث. أما صلاح، وهذا هو اسمه، فإنه سيفوز بفعلته عدة أنواع من الفوز؛ أولها أنه سوف يتزوَّج من سعاد، ويحتفظ بمكانته المهنية، وسيعيش زوجًا لامرأةٍ يُحبها، وسيضمن تربية طفله من خطيئته تربيةً جيدة، فما ذنبُ عقاب أمثال هؤلاء الأبرياء؟
الحاج عبد الله هو صورةٌ متكررة في أفلامٍ عديدة تنتمي إلى تلك السنوات، وليست هناك إشارةٌ واضحة إلى أن صلاح هو من دمه، حتى لا يصبح زنا المحارم أحد الأسباب لوقوف الرقابة ضد الفيلم، وزيادة الإحساس بجسامة الجريمة؛ فهو ليس زنًا وحملًا، بل إن الأمر يمس واحدًا من الأهل. وقد كانت شخصية صلاح ذو الفقار في فيلم «نساء محرَّمات» مشابهة تمامًا لصلاح. ويمكن أن تفهم من بعض القراءات أن صلاح هو ابن أخٍ للحاج عبد الله، لكن لم تَرِد في أيٍّ من حوارات الفيلم مثل هذه المعلومة، وسيكون هذا العجوز هو الخاسر الأول في اللعبة. وكأنما هذه الأفلام تحذِّر الرجال في مثل هذا السن من الزواج بنساءٍ يصغُرنهم في العمر بشكلٍ ملحوظ، وفي مرحلةِ ما يُسمى بمنتصف العمر. وقد كان سيناريو فيلم «نساء محرَّمات» أكثر إتقانًا؛ فالتاجر العجوز يسأل امرأتَه التي تزوَّجها منذ سنواتٍ بعيدة أن يقترن بزوجةٍ شابة تُنجِب له الولد، وما إن تُوافِق حتى يصبغ شَعَره، ويُغيِّر من ملامحه، لكنه يبدو غير قادرٍ على أن يقاسم الزوجة الفِراش، فتذهب إلى شابٍّ آخر، وتحمل منه سفاحًا.
في هذا الفيلم وقف عمر الشريف أمام مطربة، مثلما سيحدُث في «لوعة الحب»، عليه أن يحوم حولها، ويتحرَّك وهي تبُثُّه كلام الحب. والشخصية التي يجسِّدها في الأفلام تتماشى مع هذا الأداء، كما أن تلك ظاهرةٌ نادرة في أفلام عمر الشريف العربية؛ فليست هناك مطربةٌ أخرى وقفَت أمامه في أدوار بطولة؛ وبالتالي فقد بدا وجه عمر الشريف هنا مختلفًا عن الممثل الذي كان يقوم بالتمثيل أمام فاتن حمامة، وماجدة، ولبنى عبد العزيز، وسعاد حسني. مع التذكرة أنه لم يُغنِّ قَط في كل الأفلام المصرية، وإن كان قد فعَل ذلك بشكلٍ ملحوظ في العديد من الأفلام الأمريكية.