عذاب … ولكن!
كانت هذه هي المرة الأولى في حياة الشياطين التي ينزلون فيها إلى بلدة كهذه بتلك الأوصاف المجهولة والغامضة للبحث عن رجل اختفى في بحيرة من أكبر بحيرات مصر. فيها عشرات الجزر التي تحوطها النباتات العشوائية الكثيفة والبوص والغاب والحطب.
إنهم مثل جيش يحارب في صحراء مكشوفة، وحالهم كمن يفتِّش عن إبرة في كومة قش.
وصل الشياطين إلى «القاهرة» في الساعة العاشرة صباحًا، وانتقلوا إلى ميدان «رمسيس» ليأخذوا سيارة إلى بلطيم ثم إلى قرية برج البرلس … جلس الشياطين الثمانية على مقهى في الميدان يأكلون ويشربون الشاي حتى يحينَ وقتُ تحرُّكِ السيارة.
ركب الشياطين سيارة الأتوبيس وتحركت السيارة في الساعة الثانية عشرة، وأخذ كلُّ واحد منهم يُشغل نفسه بشيء حتى يقطع الملل ويقضي على هذا الفراغ الطويل، فأخذ «أحمد» يقلِّب صفحات مجلة، بينما أخذ «فهد» يشاهد الزرع والمباني على جانب الطريق، بينما استغرق بقية الشياطين في التفكير أو الاستسلام للنوم. مرَّت ثلاث ساعات، وبدأ الملل يتسرَّب إلى النفوس، وبدأت ملامح الكآبة تظهر على الوجوه مختلطة ببعض غبار الطريق فبدَت الوجوه قاتمة.
أدرك «أحمد» هذا الشعور وهو ينظر من خلف كرسيه إلى باقي الشياطين، وقال: أعرف أن صبركم قد نفد، ولكن فات الكثير ولم يبقَ إلا القليل.
نظر إليه «مصباح» بنصف عين وقال: أخشى أن نكون قد ضلَلْنا الطريق؛ فلم أذهب في رحلة أطول من هذه في حياتي … أكاد أصرخ من الملل، دَعْني أواصل النوم.
وجاء صوت «خالد» من الخلف في حزن: كأننا ذاهبون إلى الدائرة القطبية الشمالية. قاطعَه «أحمد»: لمَ كلُّ هذا اليأس؟ أنا واثق أنها ستكون رحلة عظيمة بعيدًا عن الزحام والضجيج، وهي فرصة للتعرف على قطعة من أرض وطننا العربي، لقد قرأت في بعض كتب التاريخ أن بحيرة البرلس هي مهبط آدم وفي جزرها كثير من المعالم الأثرية من أيام قدماء المصريين، وبعض أسماء هذه الجزر غريب مما يدل على أنها قديمة جدًّا، مثل جزيرة «سنجار» وجزيرة «الزنقة» وبركة «أبساك» وجزيرة «الزاوية» حتى قرية برج البرلس نفسها لها تاريخ قديم جدًّا. يقال إنه كان يسكنها راهب قبل ظهور الإسلام اسمه «بارلوس» يتعبَّد في صومعة، وسُميت البلدة باسمه «برج بارلوس» ثم حُرِّفت إلى «برج البرلس».
كان بقية الشياطين يتابعون الحديث باهتمام فلم يكونوا يعرفون أن «أحمد» عنده كل هذه المعلومات ولديه كل هذه الثقافة عن هذه المنطقة النائية التي لم يكونوا يسمعون عنها إلا منذ لحظات قليلة فقط.
كانت الشمس تميل إلى الغروب، والسيارة تسرع تجاه الشمس كأنها تريد أن تلحقها، وفي تلك اللحظة وقعَت أنظارهم على لوحة مكتوب عليها «بلطيم» ١٦ كم، فأحسُّوا بالراحة، وبدأ كلٌّ منهم يتنفَّس نفَسًا عميقًا.
مرَّت دقائق، والسيارة تقطع المسافات وتطوي الأرض ثم تعبر جسرًا يمرُّ فوق مصرف مائي وبالقرب منه بعض البيوت والمحلات … وسأله «رشيد»: هل هذه هي «بلطيم»؟
أجاب «أحمد»: لا، ليست «بلطيم». إن «بلطيم» مدينة كبيرة.
وفجأة ظهرت لوحة معدنية كبيرة على جانب الطريق مكتوب عليها: «الخاشعة».
فضحك «أحمد»، وقال: ها هي قد أخبرت عن نفسها، إنها بلدة «الخاشعة»، ولحُسن حظِّنا أننا سنصل «بلطيم» مع حلول الظلام.
عندما وصلوا كانوا في حاجة شديدة إلى معلومات مهمة وكثيرة؛ لذلك وقف الشياطين الثمانية يسألون عن قرية البرج كيف سيصلون إليها؟ وهل بها فنادق أو أماكن للنوم؟ وما مدى إمكانية تأجير شقة؟
وكانت كل أسئلتهم يُجاب عنها بمنتهى الوضوح والصراحة، ورغم قلة المعلومات إلا أنها مفيدة؛ فقد أوضحت أمامهم الصورة حتى يستطيعوا التصرُّف بعد وصولهم إلى البرج.
كما عرفوا أن الفندق الوحيد يوجد في مصيف «بلطيم»، وهو شبه مغلق؛ لأن موسم الصيف قد انتهى حتى السيارة لا تصل إلى هناك. وقف الشياطين ينظرون إلى بعضهم، وقال «خالد»: أين سننام إذن؟
نظر «أحمد» تجاه الناحية الأخرى من الطريق، وقال: وجدتُها؟
فانتبه باقي الشياطين، وقالوا: وما هي؟
قال «أحمد»: انتظروا لحظات.
وسار «أحمد» تجاه سيارة أمام مقهى في أول تقاطع طريق برج البرلس مع مصيف «بلطيم»، ووضع يده على «كلاكس» السيارة ثم ضغط عليه، فخرج السائق من المقهى وفي يده كوب شاي، وقال: نعم يا أستاذ.
فقال «أحمد»: المصيف.
فقال السائق بسخرية: يقظٌ أنت أم نائم؟
فقال «أحمد»: لماذا؟
فقال السائق: المصيف يا أستاذ في الصيف فقط لا في الشتاء، ليس هناك مخلوق الآن إلا مَن يعملون في إدارة الفندق.
فقال «أحمد»: أرجوك أوصلنا وسأعطيك ما تطلب!
فقال السائق: سآخذ ذهابًا وإيابًا لأني سأرجع دون ركَّاب، وأشار «أحمد» إلى بقية الشياطين أن يتحركوا ليركبوا السيارة.
سارت السيارة في طريقٍ خالٍ تمامًا من السيارات ومن المارة؛ الهواء البارد يصفع الوجوه فتسري الرعشة في الأجساد، البيوت الصغيرة كأنها أشباح تظهر وتختفي بين أشجار النخيل.
والتفت السائق بوجهه قليلًا إلى «أحمد»، وسأله: ما الذي جاء بكم إلى المصيف في هذا الوقت؟
«أحمد»: نحن أقارب بعض البحَّارة الذين كانوا في السفينة الغارقة. هل خرجوا جميعًا؟
السائق: كلهم خرجوا، منهم خمسة غرقى. أما القبطان فلم يظهر حتى الآن لا حيًّا ولا ميتًا.
«أحمد»: ألَا يعرف البحَّارة شيئًا عنه حين غرقت السفينة؟
السائق: بعضهم يقول إنه نزل مع مساعده واثنين آخرين في قارب نجاة، وبعضهم يقول إنه نزل وحده ثم تبعه البحارة، لقد كان الظلام شديدًا، وكان البحر هائجًا والريح عاصفة.
«أحمد»: وهل لا زال مساعد القبطان حيًّا؟
السائق: لقد تعرَّف عليه البحارة ضمن الغرقى، ويقال إن في رأسه جروحًا، وربما يكون قد صدمَته الأمواج بالصخور، أو سقط على رأسه في الزورق، لكن القبطان هو الوحيد الذي لم يظهر حتى الآن.
«أحمد»: وكيف عرفت هذه المعلومات؟
السائق: إن الأخبار في بلادنا تنتشر بسرعة الريح؛ فبلادنا محدودة وكل شيء يُعرف بسرعة.
وصل الشياطين إلى الفندق في الساعة السادسة مساء. كان الفندق خاليًا من الروَّاد ولا يوجد به إلا العاملون بالإدارة، وعددهم قليل جدًّا، كان البحر يهدر قريبًا من الفندق وكأنه يتأهَّب للهجوم.
توجَّه «أحمد» إلى الاستعلامات، وحجز الغرف، وأخبرهم أنهم أقارب بعض البحارة في السفينة الغارقة، وسأل عن طعام فلم يجد إلا معلَّباتِ السردين وبعضَ الخبز غير الطازج.
وأمام الجوع الشديد لم يجد الشياطين إلا تناولَ المعلبات وشربَ الشاي، ثم أسلموا أجسادهم للراحة حتى يبدءوا العمل في نشاط في اليوم التالي.