النورس الغريب!
في الصباح الباكر، جمع الشياطين أمتعتهم وبحثوا عن سيارة تنقلهم إلى «بلطيم»، فلم يجدوا إلا سيارة نصف نقل تحمل بعض أقفاص الطماطم، فاضطروا أمام الحاجة أن يركبوها.
نظر «أحمد» إليهم، وقال: إنها فرصة جميلة نستمتع فيها بهذه المناظر الطبيعية والكثبان الرملية وأشجار النخيل والتين، انظروا هناك إنه «فنار بلطيم»، وهذا جبل النرجس. إننا في حاجة إلى قضاء إجازة في هذا المصيف الهادئ.
وصلت السيارة إلى «بلطيم» وهناك اشتروا بعض الساندويتشات، وركبوا سيارة قديمة وتكدَّسوا فيها كأنهم «علبة سردين». في تمام الساعة العاشرة كان الشياطين الثمانية في منطقة «بوغاز البرلس»، وكانت مظاهر الحياة بدائية؛ مراكب الصيد الشراعية، والقوارب الصغيرة ذات المجاديف.
الشاطئ الغربي للبوغاز يبدو موحشًا لا يظهر للحياة أثرٌ فيه؛ أشجار الحطب والبوص والغاب تبدو من بعيد كالظلال، تحجب رؤية أجزاء كبيرة من البحيرة.
استدارَت أعين الشياطين تفحص المكان ثم التقَت كلها مع بعضها في لحظة فيها شيء من القنوط أو اليأس … وأدرك «أحمد» الموقف، فقال: لا بأس نحن نحتاج فقط إلى بعض الإيضاحات، ويا حبذا لو كانت هناك خريطة للبحيرة.
رد «قيس»: وهل توجد لمثل هذه الغابات خريطة؟
رد «أحمد» بسرعة: لا بد أن يكون لها خريطة، ألم أقل لكم في الطريق إنها بحيرة تاريخية، ثم فكَّر لحظة، وقال: الخريطة في التليفون.
فقطب «رشيد» جبينه مستفهمًا: الخريطة في التليفون. ماذا تعني؟
قال «أحمد»: التليفون الذي أمرنا رقم «صفر» أن نتصل به عند الضرورة.
فقال «قيس»: وهل سنجد في هذا المكان تليفونًا؟
قال «أحمد»: سأتصرف، وسنعرف حالًا، لا تتحركوا من هنا حتى آتيَكم.
اتجه «أحمد» إلى القرية لا يدري إلى أين سيذهب، ولكن ما إن لمح أحد الأهالي حتى سأله: من فضلك ألَا تعرف مكان تليفون قريب؟
رد الرجل: لا توجد تليفونات إلا في السنترال.
قال «أحمد»: ومن أين أذهب إلى السنترال؟
رد الرجل: ليس بعيدًا، اتْبَعني وسأوصلك إليه. سار «أحمد» مع الرجل داخل القرية؛ فالشوارع ضيقة، والبيوت منخفضة جدًّا ومتواضعة، لا مظاهر للمدينة فيها.
حاول «أحمد» أن يعرف بعض المعلومات من الرجل، فبدأ يتحاور معه، وسأله: ما هي آخر أخبار السفينة الغارقة؟
الرجل: لقد حطَّمها البحر، وخرجت بعض أجزائها إلى الشاطئ.
أحمد: ألم يخرج من البحر شيء آخر؟
الرجل: مثل ماذا؟
أحمد: أي شيء، لا أقصد شيئًا معينًا.
الرجل: لا شيء … غير الورق والأكياس وكثير من التفاح والزيتون والأقلام.
أحمد: وهل كل البحارة خرجوا؟
الرجل: نعم إلا القبطان.
أحمد: ألم يعرف أحدٌ شيئًا عنه؟
الرجل: لقد سمعنا في الليلة التالية لغرق السفينة، أن امرأة كانت تجلس على باب بيتها، فرأت رجلًا يسير بخُطًى مسرعة، ثيابه مبللة ويحمل في يده حقيبة سوداء، فصرخت حين رأَته يعدو بهذا المنظر، لكن حين اجتمع الناس لم يجدوا شيئًا.
وقال بعض الناس إنه ربما يكون هو القبطان، لكني لا أصدِّق هذا الكلام.
أحمد: ولماذا؟
الرجل: لأنه لا يعقل أن يخرج القبطان حيًّا ويمشي في شوارع القرية، ألم يكن يستطيع أن يستدل ويستعين ببعض الناس؟ إذا كان قد ظهر أو عرف الناس أنه خرج … إنها امرأة كبيرة في السن واهمة.
فجاراه «أحمد» في الحديث، وقال: معك حق … ما الذي يجعله يختفي إذا كان هو القبطان حقًّا؟
نظر الرجل إليه وقال: أليس كذلك؟
كان الرجل قد وقف أمام أحد البيوت، وقال ﻟ «أحمد»: هنا.
قال «أحمد»: ما هذا؟
قال الرجل: إنه السنترال.
تردَّد «أحمد» قليلًا، وتأمَّل المكان قبل أن يدخل، ربما يكون شرَكًا أو فخًّا نُصب له، ولكنه رأى بعض الأسلاك فوق السطح، وبعض الناس يخرجون، فاطمأن ثم دخل وأعطى للموظف رقم التليفون.
لحظات ثم ناداه الموظف: كابينة رقم ١ يا أستاذ.
شكره «أحمد» ثم دخل «الكابينة» وأغلق الباب خلفه.
كان الجرس على الطرف الآخر ما زال «يرن» ثم رفع السماعة «أحمد» وقال: ألو.
الصوت الآخر: نعم.
أحمد: النورس الغريب.
الصوت الآخر: أهلًا بكم، متى وصلتم؟
أحمد: لقد وصلنا بالأمس ونحن الآن في منطقة البوغاز، نريد بعض الإيضاحات وخريطة للبحيرة حتى نستطيع الاستمرار في المهمة.
الصوت الآخر: سيكون عندكم كل شيء بعد ساعة سيأتيكم رسول ومعه مظروف أصفر فيه كل شيء وحقيبة بها بعض الأشياء الضرورية.
أحمد: كيف سنعرفه؟
الصوت الآخر: إنه متوسط بين الطول والقِصَر، له شارب طويل، يرتدي جلبابًا أزرق وعمامة بيضاء، وسيردد كلمة السر. المهم أين أنتم بالتحديد؟
أحمد: بالقرب من «عوامة» حرس الحدود.
الصوت الآخر: وهو كذلك. سنكون قريبين منكم، انطلقوا بحذر.
أحمد: هل من الأفضل أن نبدأ من داخل القرية؟
الصوت الآخر: لا داعي لذلك ليس في القرية أيُّ شيء. إن عيوننا أكَّدت أن القبطان لم يمكث في القرية أكثر من ساعة ثم اختفى القبطان ربما تجده في البر الغربي في جزيرة من هذه الجزر، سيكون بالتأكيد في قبضة إحدى العصابتَين عن طريق عملائهم في هذه المنطقة، المهم أن نصل إليه قبل أن يعرفوا مكان «البضاعة» وقبل أن تتسرَّب إلى داخل الدولة وتتسبب في تدمير الشباب، والآن هيا إلى العمل. واحذروا الجزر؛ ففيها ينتشر أفراد العصابتَين.
وضع الطرف الآخر سماعة التليفون، وعندما اطمأن «أحمد» إلى أن الخط التليفوني مغلق وضع السماعة وخرج. ودفع ثمن المكالمة، وحين خرج إلى الشارع رأى أمواج البحر تبدو من شارع ضيق، فقصدها، وسرعان ما كان أمام البحر مباشرة … فسار يمينًا ثم يسارًا تجاه الشاطئ البعيد، ثم تمتم بينه وبين نفسه: إنها حقًّا مهمة صعبة.
وصل «أحمد» إلى حيث كان بقية الشياطين، وأعلمهم بما حدث وبكل ما عرفه من الرجل الذي دلَّه على «السنترال» … وأصبح واضحًا أن القبطان خرج حيًّا وأنه خرج من البحر ودخل القرية حيث لا يبعد البحر كثيرًا عن البيوت … فلا حواجز بين البحر وبين البيوت، لكن الشيء الذي ظل غامضًا … أين أمضى هذه الساعة؟ وماذا كان في تلك الحقيبة؟ وكيف اختفى؟ هل بإرادته أم بغير إرادته؟ هل كان ينتظره أحد؟ أم أنه خُطف بمعرفة إحدى العصابتَين؟
لم تبقَ إلا دقائق على وصول الرسول، كان المكان واضحًا فسيحًا بمنطقة البوغاز، وكفيلًا بأن يكشف للأعين كلَّ شخص قادم من ناحية القرية … وفجأة ظهر شخص من بين البيوت الصغيرة يرتدي جلبابًا أزرقَ وعمامة بيضاء، في إحدى يديه حقيبة والأخرى تُواري شيئًا تحت كُمِّه الواسع الكبير، وواصل السير حتى اقترب من الشياطين، وبدأ «أحمد» يخطو خطوات قليلة وبطيئة وهو يقترب منه. ويقترب الرجل أكثر وهو ينظر إليه، فتلتقي الأعين فيقول الرجل في صوت خفيض: «النورس الغريب».
مدَّ «أحمد» يده ليُسلِّم عليه ويقدم له نفسه، وسأله عن اسمه، فقال: «عثمان خضر»، ثم وضع الرجل الحقيبة بجوار قدم «أحمد»، ثم سلَّمه المظروف الأصفر.
كان الرجل قويَّ البنية، رغم أنه يبدو في الستين من عمره، وقد بدَا الشيبُ واضحًا في عارضَيه وشاربه. انتحى «أحمد» جانبًا بجوار الشياطين، وفتح المظروف وسحب ورقة كبيرة مطوية فيه ثم فتحها برفق، فوجدها خريطة لبحيرة البرلس محددًا عليها كل الجزر وعدة أسهم تُشير إلى الأماكن والجزر المهمة فيها … وبعض الورق المدوَّن به بعض الإيضاحات. قرأ «أحمد» الورق في سرعة وبتركيز، ثم ابتسم ونظر إلى رفاقه، وقال: الآن نبدأ العمل، ليس هناك وقتٌ نضيعه.
قال «رشيد»: وكيف سنبدأ؟ ومن أين سننطلق؟
قال «أحمد»: أمامنا طريقان؛ طريق البحر وهو صعب ووعر، ولن يوصلنا إلى شيء، وهو محفوف بالمخاطر، وطريق البحيرة وهو أكثر أمانًا، وأكثر حرية رغم بطئه؛ لأننا سنضطر إلى استخدام «المراكب الشراعية»؛ فليس هناك مراكب آلية تعمل في البحيرة، وليس هناك سوى زوارق المسطحات المائية، وهذه ليس لنا إليها سبيل.
ثم التفت إلى عم «عثمان»، وقال: ومعنا عم «عثمان» سيكون مرشدَنا في هذه الرحلة، والآن يا عم «عثمان» نريدك أن تؤجِّر لنا مركبًا نتجول فيه بالبحيرة فورًا.
ثم أخرج «أحمد» لفافة من الأوراق المالية، وأعطى لعم «عثمان» مائة جنيه، وقال: اشترِ لنا طعامًا يكفي لأربعة أيام، وادفع لصاحب المركب أُجرتَه مقدمًا.
نظر عم «عثمان» إلى النقود في دهشة واستغراب وكأنه لأول مرة يملك بين يديه مائة جنيه، وأدرك «أحمد» هذا، فقال له: تحرَّك يا عم «عثمان» لقد انتصف النهار.
وسار عم «عثمان» لينجز المهمة، ووقف «أحمد» يتبادل الحديث مع بقية الشياطين.
قال «قيس»: أريد أن أعرف كيف سنبدأ؟ إذا كان أمامنا كل هذه الجزر.
ثم أكمل «رشيد»: المهمة بهذه الصورة ستأخذ وقتًا طويلًا، والواضح كما نرى أن الإمكانات بسيطة جدًّا وبدائية ومحدودة.
بو عمير: نريد أن نتَّفق على بداية معينة ننطلق منها.
أحمد: أيها الرفاق، لا داعي لكثرة الكلام الآن قد نكون مراقَبين، وحين ننزل البحيرة ونبتعد نتفق على خطة. المهم الآن أننا في رحلة لصيد الطيور، فهذا موسم صيد الطيور في بحيرة البرلس. وهذا وقتُ هجرتِها من شمال أوروبا، وقد أرسل لنا صاحب التليفون هذه الحقيبة وفيها بعضُ بنادق الصيد ورخصها وبعض علب الذخيرة.
مرت ثلاثة أرباع الساعة، وأقبل عم «عثمان» في مركب شراعي يُشبه مراكب قدماء المصريين يتهادى فوق أمواج البحيرة، ويدفعه عمُّ «عثمان» بمهارة، واقترب من الشياطين ثم دفع المركب إلى الشاطئ، ثم نزل ينقل الأمتعة والأشياء. وهبط الشياطين إلى باطن المركب وجلسوا، ومرة ثانية دفع عمُّ «عثمان» بالمركب، ثم فرد شراعه، فاندفع يتراقص فوق أمواج البحيرة.
كان عمُّ «عثمان» قد جهَّز كلَّ شيء، وأحضر جوالًا من الخبز اليابس، وموقد كيروسين لطبخ الطعام وبعض أواني الطهي، ووعاء فيه «جبن قريش».
ابتسم «فهد» ثم قال: كأننا في العصور الوسطى.
فضحك «باسم»، وقال: لا، كأننا في مجاهل أفريقيا.