رحلة في البحيرة!
أبحر المركب يسابق الريح والأمواج كأنه يريد أن يصل إلى المجهول. أخرج «أحمد» الخريطة ووضعها بين أيدي الشياطين وهم ملتفُّون حولها، كأنها مائدة طعام، ثم قال: الآن أصبح كلُّ شيء واضحًا أمامنا نحن الآن فوق مياه البحيرة والجزر كلها في هذه الخريطة، وأرى أنه من المهم، وتوفيرًا للوقت، أن نبدأ بالجزر المشار إليها بالأسهم، ونضع خطة للنزول إليها.
قال «قيس»: أهي مزدحمة بالسكان؟
قال «أحمد»: ليس فيها سكان، هذه جزر لا يسكنها أحد، وإنما يأوي إليها الصيادون نهارًا لتجفيف شباكهم وإصلاحها، ثم يهجرونها مع قدوم الليل.
خالد: ولماذا لا يقيمون فيها؟
أحمد: من المنظر العام والمعلومات التي وصلَتنا فإنها لا تصلح للإقامة، بالإضافة إلى أن هذا البوص والغاب يُئوي كثيرًا من المجرمين والقتَلة والهاربين من العدالة، وكلهم مسلحون إلى جانب أننا معنا عمُّ «عثمان» الذي يعرف كل شبر في البحيرة.
ثم التفت «أحمد» إلى عم «عثمان» الذي يُمسك بالدفة في ثقة، وقال له: عم «عثمان» أريدك أن تحدد لنا كلَّ جزء في هذه البحيرة وتصفه لنا، وأين يتركز السكان؟
أشار عم «عثمان» بيده إلى الغرب، وقال: أول منطقة مسكونة سنقابلها هي «الشيخة».
فنظر الشياطين إلى بعضهم، ثم قال «أحمد»: «الشيخة»؟
قال عم «عثمان»: نعم، والمنطقة التي تليها هي «مسطروة» ثم «المقصبة».
فقال «أحمد»: والجزر يا عم «عثمان»؟
فاستمر عمُّ «عثمان» في مواصلة حديثه كأنه ينتظر هذه السؤال، وقال: أول جزيرة هي «الزاوية»، وهي صغيرة، ولا يذهب إليها إلا الشباب والطلبة لقضاء يوم؛ لأنها قريبة من البلد ومكشوفة وبالقرب منها جزيرة «سنجار» ثم جزيرة «المقطوعة» ثم جزيرة «أبساك».
قال «أحمد»: وكم نستغرق من الوقت حتى نصل إلى جزيرة «المقطوعة»؟
قال عمُّ «عثمان»: وهو يقلب يده كأنه يقرب الوقت: ساعتان أو ساعتان ونصف.
فقال «أحمد»: أعرف جزيرة «المقطوعة» لا بد أن نضع الخطة قبل حلول الظلام.
مرت ساعتان والمركب يتهادى فوق صفحة الماء والشياطين يأخذون أوضاعًا مختلفة؛ فمنهم من يضع يده تحت رأسه راقدًا، ومنهم من شبَّك أصابعه خلف رقبته وأسند ظهره إلى جانب المركبة، ومنهم مَن استلقى ووضع ساقًا فوق ساق كأنهم فعلًا في رحلة استجمام وترفيه.
ولم يقطع هذا السكونَ طويلًا إلا صوتُ «مصباح» وهو ينادي «أحمد»: «أحمد»، ها نحن قد اقتربنا جدًّا من الجزيرة، أليست هي يا عم «عثمان»؟
عم «عثمان»: بلى … إنها هي!
نظر «أحمد» إلى الجزيرة ثم أخرج النظارة المكبرة، ووضعها على عينَيه، وأدار نظرةً في أطرافها، ثم قال: إنها تبدو كبيرة يا عم «عثمان» والبوص والغاب يحيط بها بكثافة، كيف سننزل إليها؟
عم «عثمان»: لا تقلق. هناك طرق صغيرة داخل هذا الغاب والبوص يدخل الصيادون منها إلى الجزيرة.
أحمد: إنها تبدو خالية.
عم «عثمان»: نعم هي خالية من الحيات الضخمة والفئران التي تُشبه القطط، وهذا البوص يمتلئ ليلًا بأولاد الليل من القتلة والمجرمين واللصوص الخطرين.
كان «أحمد» يستمع إلى عم «عثمان» بانتباهٍ شديدٍ ويدُه في وسطه، ثم ترك يده تسترسل … ونظر إلى الشياطين، وقال: أيها الرفاق، لنبدأ الخطة الآن والكل سيشترك في وضعها، فمَن كان عنده اقتراح محدد فليتقدم به.
رفع «بو عمير» يدَه وابتدأ الكلام وقال: أعتقد أننا لن نستطيع أن ننزل الجزيرة ليلًا، وأقترح أن نبدأ من الآن النزول إليها لكي نتعرف على معالمها وينطلق كلٌّ منَّا في اتجاه ويبقى عم «عثمان» في المركب يحرسه.
استأذن «خالد» في الكلام، وقال: المسألة ليست بهذه السهولة، إننا هنا بين فكَّي الأسد؛ عصابة تُخفي القبطان وعصابة أخرى تبحث عنه، ولا يمكن لهم أن ينزلوا الجزيرة أثناء النهار بهذه السذاجة، ربما يكونون الآن داخل هذه الكتل الضخمة من الغاب والبوص، وربما يكونون في مكان آخر يبعد عن هنا لكنْ لهم عيون هنا وهناك، إن البحث بالنهار والنزول إلى الجزيرة سيكشفنا للجميع، وربما نقع في مصيدة مُحكمة فتكون نهايتنا في بحيرة البرلس.
قال «مصباح»: وماذا ترى؟ وفيمَ تفكر؟
فاستمر «خالد» قائلًا، وكأنه كان يرتب كلَّ شيء في رأسه: أرى أن ننشغل الآن بصيد الطيور حتى نلفت الأنظار إلى أننا جئنا لصيد الطيور فنعطي للجميع الأمانَ ثم أثناء الليل ننزل إلى الجزيرة في حذر ونواصل المهمة.
نظر «أحمد» إلى الجميع وهو يتأمَّل وجوههم بنظرة شاملة: ما رأيكم في وجهة نظر «خالد»؟
هزَّ الجميع رءوسهم بالموافقة.
فقال «أحمد»: إذن فلنأكل أولًا ثم نبحث عن الطيور المهاجرة.
تناول الشياطين طعامهم، وظل «أحمد» يتسلَّى بكِسَر الخبز اليابس وبعض الجبن وهو يتطلع إلى الأفق حيث الشمس تتأهب للرحيل وتُلقي بثوبها الذهبي على صفحة المغيب، وطيور النورس البيضاء تحوم فوق مياه البحيرة تلتقط الأسماك الصغيرة.
في تلك الأثناء كان «باسم» يقف في الناحية الأخرى يتطلع إلى الوجه القائم من البحيرة والأفق الممتد حتى كأنه يلامس ماء البحيرة، ثم قال في شبه غيبوبة: تذكِّرني هذه المشاهد وما نحن فيه بالقرصان الذي أكل الحوتُ الأبيضُ ساقَه، وظل يفتش عنه في البحار والمحيطات حتى عثر عليه … لكنهما انتقمَا من بعضهما في النهاية.
وفجأة تنبَّه «أحمد» من غفوته ونادى عمَّ «عثمان» قائلًا: عادة متى يبدأ الصيد؟
عم «عثمان»: أول الليل وآخره.
أحمد: وما هي أنواع الطيور الموجودة هنا؟
عم «عثمان»: أنواع كثيرة، منها: البط، والشرشير، والغر، والحمران.
أحمد: إذن فلنجهز بنادق الصيد ونحشوها بالطلقات … سيكون صيدًا ممتعًا وطعامًا لذيذًا نصطاد أول الليل ثم ننزل بالصيد إلى الجزيرة نوقد النيران لنشويَه.
رشيد: أراك قد نسيت ما جئنا من أجله، وتخيلت أنك فعلًا في رحلة صيد.
أحمد: لا لم أنسَ ولكن هذه هي الخطة، سننزل فعلًا إلى الجزيرة نبحث عن حطبٍ جافٍّ لنشويَ به الطيور … تُرى هل يشك أحد في هذا؟
خالد: نرجو ذلك!
باسم: أودُّ ألَّا نكونَ صيدًا ثمينًا قبل أن نصطاد شيئًا.
أحمد: أهذه أول مرة؟ إننا لن نصل إلى الصيد المنشود إلا بهذه الطريقة، والآن ليرتديَ كلٌّ منكم ملابس ثقيلة؛ لأن الجوَّ ستشتدُّ برودته ليلًا.
مرَّت الدقائق بطيئة، والليل يُلقي بستائره السوداء على الوجود والشياطين يتحركون بالقرب من الجزيرة يبحثون عن الطيور، ورياح خفيفة تحمل صوتَ طيور تتهادى إلى السمع من بعيد … لكن أين؟
«أحمد» بصوت خفيض: عم «عثمان» حدِّد لنا مكان هذه الطيور.
عم «عثمان»: إنها فوق الريح، أصواتها تأتي مع الريح، ولن تستطيع أن تذهب إليها بالشراع؛ لأجل هذا سنذهب إليها بالمدراة، وبدون إحداث صوت حتى لا تطير.
وبدأ المركب يسير ببطء تجاه صوت الطيور في هذا الظلام الخفيف، إنه ليس كثيفًا بدرجة شديدة، ونجوم الليل من بعيد تُرسل أنوارًا من أشعتها تجعل العين تحدد الأشياء.
لحظات والمركب يقترب شيئًا فشيئًا من الطيور التي تبدو كأنها قبعات سوداء تعوم فوق سطح البحيرة. عم «عثمان»: هل ترون شيئًا؟
باسم: إني أرى أشياء سوداء فوق سطح الماء.
رشيد: وكذلك أنا … ما هذا؟
عم «عثمان»: اخفض من صوتك حتى لا تطيرَ، إنها طيور الشرشير والغر!
أحمد: أنتم الآن لستم في حاجة إلى تحديد الأهداف. استعدوا لإطلاق بنادق الصيد. هيَّا واحد … اثنان … ثلاثة … وانطلقَت رصاصاتُ البنادق لتُحدث دويًّا هائلًا في سكون البحيرة، فأخذ يتردد صدى الصوت مع تلاطم أمواج البحيرة، وارتفع صوت الماء من ثورة الطيور وهياجها، فمنها ما يطير ومنها ما يسقط.
وأخذ عمُّ «عثمان» يدفع المركب تجاه موقع الطيور. ونظر الشياطين في الماء بحثًا عن الطيور التي أطلقوا عليها البنادق. وفجأة، صاح «خالد»: ها … لقد أصبناها … هذه واحدة.
وصاح «رشيد»: وهذه أخرى … وهناك ثالثة.
وقال «خالد»: وهذه واحدة أخرى تبدو في الماء تحاول الهرب … إنه لصيد ثمين.
وجمع الشياطين الطيور من الماء وهم في سعادة بالغة … والتفت «أحمد» إلى عم «عثمان» وهو يقول له: نريدها وليمة يا عم «عثمان».
فقال عم «عثمان»: لا تشغلوا بالكم بهذه المهمة … فهي مهمتي.
نظر «أحمد» في ساعته الفوسفورية، فوجدها تقترب من الثامنة، فنادى على بقية الشياطين: الآن جاء وقت جمع الحطب … هيَّا إلى الجزيرة.
انشغل عمُّ «عثمان» في ذبح الطيور وتنظيفها، واجتمع الشياطين في أسفل المركب، وأخرج «أحمد» بطارية إضاءة صغيرة من جيب الحقيبة، وبسط أمامهم الخريطة، وأضاء البطارية وسلَّطها على الخريطة، وأشار إلى الجزيرة، وقال: الآن نبدأ المهمة … سننزل الجزيرة من الجهة الشرقية وننطلق إلى الجهة الغربية من الشمال والجنوب؛ فالجزيرة تبدو في وسطها خالية تمامًا. لا أثرَ لشيء على أرضها إلا شُجيرات صغيرة؛ ولذا سيقتصر البحث والتفتيش في جوانبها التي يكثر بها الغاب والبوص.
«بو عمير»، و«مصباح»، و«فهد» من الشمال، و«خالد»، و«قيس»، و«باسم» من الجنوب، وأنا، و«رشيد» باتجاه الغرب … والإشارة نقيقُ الضفدع، البطاريات تُضاء إلى أسفل إلى محل الأقدام فقط. لكن احترسوا البوص والغاب كفيل بأن يواريَ دولة بأكملها … الرجوع بعد أربعين دقيقة. فلنبدأ التحرك الآن.